المادة    
شرع ابن عبد البر رحمه الله في بيان الحديث فقال: "وأما قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: {ينزل تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا} فقد أكثر الناس التنازع فيه، والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة أنهم يقولون: ينزل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصدقون بهذا الحديث ولا يكيفون" وهو في الحقيقة إجماع لكنه قال: "والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة"؛ احترازاً؛ لأنه سيذكر خلاف ذلك عن بعض من نسب إلى السنة.
والسلف لا يقولون: هل يخلو منه العرش أو لا؟ وكيف ينزل إلى سماء بلد فيه ليل والبلد الآخر فيه نهار؟
ثم قال ابن عبد البر: "والقول في كيفية النزول كالقول في كيفية الاستواء والمجيء، والحجة في ذلك واحدة" وهي أن نثبت ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، فالمورد واحد، والحجة واحدة، وفي الجميع لا نقول: كيف؟ ولا نمثل، ولا نعطل، ولا نؤول.
  1. ضعف الروايات في تأويل النزول

    قال ابن عبد البر رحمه الله: "وقد قال قوم من أهل الأثر أيضاً: أنه ينزل أمره وتنزل رحمته، وروي ذلك عن حبيب كاتب مالك وغيره، وأنكره منهم آخرون".
    وهنا يجب أن نقف وقفة:
    لو صح أن أحداً من السلف قال: إن معنى (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) : تنزل رحمته، فليس ذلك منه نفياً لصفة النزول.
    وقد ذكر الطبري رحمه الله وغيره من المفسرين قول بعض الصحابة؛ ابن مسعود أو ابن عباس في قوله: ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ))[القلم:42] قال: يوم يشتد الكرب ويشتد الهول؛ فهذا الكلام ليس فيه نفي للصفة.
    أما المؤولون فلو كانوا يكتفون بقولهم: (ينزل ربنا) أي: تنزل رحمته، قلنا: لعلهم يقصدون أنه إذا قال هذا القول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ أن رحمته عز وجل هي التي تنزل، أي: هو يقول ذلك ليرحم عباده؛ وذلك محتمل، لكنهم يقولون: لا ينزل بالكلية؛ فهم قد كذبوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردوا عليه كلامه في أنه لا ينزل أصلاً وإنما تنزل رحمته!
    ونتساءل أيضاً: هل رحمته لا تنزل إلا في الثلث الأخير؟! وأمره لا ينزل إلا في الثلث الأخير؟! فهذا لا يقول به أحد، ولو كانوا يقصدون أنه ينزل فتنزل رحمته -أي تكون رحمته أقرب إلى العباد- مع إثباتهم للصفة، لما ناقشناهم؛ لأنا نعرف أنه ما من آية من كتاب الله ولا حديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا والسلف -الصحابة والتابعون والعلماء والمفسرون- يختلفون في تفسيره على أقوال كثيرة، ولا يهمنا ذلك، لكن يهمنا ألا ينكر أحد صفة لله، فلو قال أحد: نثبت نزول الله، لكن المراد أن الرحمة تكون أقرب، لكان هذا من باب الخطأ والصواب، لا من باب السنة والبدعة، فالسنة والبدعة شيء، والخطأ والصواب شيء آخر، لكن من ينكر النزول هو الذي رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه.
    قال ابن عبد البر : "وقد روي عن حبيب كاتب مالك قال: تنزل رحمته أو ينزل أمره"، نقول:
    أولاً: ما منزلة حبيب في العلم وإن كان كاتب الإمام مالك ؟ قال فيه المحقق: "متروك كذبه أحمد وأبو داود وجماعة"، فمن قيل فيه ذلك، لا يؤخذ كلامه في العقيدة؛ بل لا تقبل روايته لحديث واحد، ولو كان في أدنى حكم من الأحكام؛ حتى في إماطة الأذى عن الطريق؛ فكيف فيما يتعلق بصفات الله؟!
    ثانياً: كلامه هذا ليس رواية حديث؛ بل هو من عنده؛ فهو يريد أن يصف الله سبحانه وتعالى، وهو كذاب؛ فلا يؤخذ كلامه.
  2. قاعدة عظيمة في صفات الله تعالى

    قال ابن عبد البر: "وأنكره منهم آخرون" أي: أنكر عليهم علماء آخرون، "وقالوا: هذا ليس بشيء؛ لأن أمره ورحمته لا يزالان ينزلان أبداً في الليل والنهار، وتعالى الملك الجبار الذي إذا أراد أمراً قال له: كن فيكون، في أي وقت شاء، ويختص برحمته من يشاء، متى شاء، لا إله إلا هو الكبير المتعال"... إلى أن يقول في رد وإبطال كلام من يتساءلون: كيف ينزل؟ وكيف يصعد؟ وكيف استوى؟ : "وما غاب عن العيون، فلا يصفه ذوو العقول إلا بخبر، ولا خبر في صفات الله إلا ما وصف نفسه به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا نتعدى ذلك إلى تشبيه أو قياس أو تمثيل أو تنظير فإنه: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))[الشورى:11].
    قال أبو عمر : أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة".