وردت آيات وأحاديث كثيرة في أن العمل لا ينفك عن الإيمان الباطن، وأن العمل الصالح هو مناط النجاة في الدنيا والآخرة، فهو الذي ينجي في الدنيا من سيف أهل الإيمان، وينجي يوم القيامة من عذاب النيران، ولم يعلق ذلك بأحد ركني الإيمان دون الآخر، إلا أن المنافق ينجو من السيف ما دام نفاقه سراً، فإذا أظهره فهو الزنديق الذي تكلم العلماء في أحكامه بما لا يسعه المقام، وهذا دليل على التلازم والتركيب.
وأنا أذكر بعض ما استدل به السلف في ذلك -فهم أعلم الناس بدلالات النصوص- فمن ذلك قوله تعالى: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ))[البينة:5] وبهذه الآية استدل عليهم التابعي المشهور عطاء بن أبي رباح، وتبعه الشافعي والحميدي والإمام أحمد.
ففي قصة سالم الأفطس المرجئ، التي نقلناها سابقاً ''يقول الراوي: فدخلت على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابي، قلت: إن لنا حاجة فأدخِلْنا، ففعل، فأخبرته أن قوماً قبلنا قد أحدثوا، وتكلموا وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين.
فقال: أوليس الله يقول:
((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)).
فالصلاة والزكاة من الدين.
وتبعه الشافعي، فقال للحميدي: ما يحتج عليهم -يعني: أهل الإرجاء- بآية أحج من قوله تعالى: (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ... )) الآية '' .
وتبعه الحميدي والإمام أحمد، فقد روى الخلال عن عبد الله بن حنبل عن ابن إسحاق بن حنبل قال: قال الحميدي : '' وأخبرت أن أقواماً يقولون: إن من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج، ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، ويظل مسنداً ظهره مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن -ما لم يكن جاحداً- إذا علم أن ترك ذلك فيه إيمانه، إذا كان مقراً بالفرض واستقبال القبلة.
فقلت: هذا الكفر بالله الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعل المسلمين، قال الله عز وجل: (( حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ))[البينة:5].
قال حنبل: قال أبو عبد الله ( يعني: الإمام ): من قال هذا فقد كفر بالله، ورد على الله أمره، وعلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما جاء به '' .
فانظر إلى هذا الحزم والوضوح، مع تصريحهم بأنه مقر غير جاحد، ومع أن الكلام ليس فيمن عرض على السيف فأصر على الترك!!
وقال الإمام الآجري رحمه الله: ''فالأعمال بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان، فمن لم يصدق الإيمان بعمله؛ مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه، ورضي لنفسه بالمعرفة والقول دون العمل لم يكون مؤمناً، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيباً منه لإيمانه، وكان العمل بما ذكرنا تصديقاً منه لإيمانه، فاعلم ذلك.
هذا مذهب علماء المسلمين قديماً وحديثاً، فمن قال غير هذا فهو مرجئ خبيث، احذره على دينك، والدليل على هذا قول الله عز وجل: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ))[البينة:5] '' .
2- ومما استدل به السلف عليهم قوله تعالى: ((لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ))[البقرة:177].
كما سبق في الاستدلال بها، وقد جعلها البخاري عنواناً لباب أمور الإيمان وقوله تعالى: (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ )) وذكر الآية.
3- ومما استدلوا به آيات سورة التوبة، ومعلوم أنها من آخر ما نزل، وهي قوله تعالى: ((فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ))[التوبة:5].
ثم قال بعدها: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ))[التوبة:11-12].
فجعل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع الإيمان بالله وترك الشرك شرطاً في تخلية السبيل، وعصمة الدم، واستحقاق الأخوة من المؤمنين، وجعل نقض ذلك موجباً للقتال على الكفر.
ولهذا قال أنس -رضي الله عنه- وهو ممن أدرك ظهور المرجئة: [[ هو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم، قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء؛ وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل الله، قال الله: (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ))...إلى أن قال: توبتهم خلع الأوثان وعبادة ربهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم قال في آية أخرى: (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ))[التوبة:11] ]]
قال الحافظ ابن كثير في تفسيرها: '' ولهذا اعتمد الصديق -رضي الله عنه- في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها؛ حيث حَرَّمت قتالهم بشرط هذه الأفعال، وهي الدخول في الإسلام والقيام بأداء واجباته، ونبه بأعلاها على أدناها، فإن أشرف الأركان بعد الشهادة الصلاة التي هي حق لله عز وجل، وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء أو المحاويج، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين، ولهذا كثيراً ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة.
وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة...} الحديث.
وقال أبو إسحاق: عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: [[ أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن لم يُزكِّ فلا صلاة له ]] .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: [[ أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه...]] .
إلى آخر ما ذكر -رحمه الله- من أحاديث وآثار؛ هي مستند الإجماع الذي انعقد بين الصحابة بعد المناظرة الوجيزة بين الفاروق والصديق، ثم ظل من أعظم آحاد الإجماع ثبوتاً، حتى لقد قال الصحابة: [[ لو أطاعنا أبو بكر كفرنا ]]
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم أجلّ وأفقه من أن يقولوا: نسألهم، فإن كانوا مقرين بوجوبها مع الامتناع عن أدائها بالكلية فهم مسلمون، وإن كانوا جاحدين لوجوبها فهم مرتدون، ولكل حالة أحكامها!!
فقد انعقد إجماعهم على أن الامتناع عن أدائها بالكلية -وهو الواقع من المرتدين- وليس عن دفعها للإمام هو ردة صريحة، تتضمن إسقاط حق الله في المال، والتفريق بين الصلاة والزكاة، وهم لم يخالف أحد منهم قط في تكفير تارك الصلاة- ولذا ألزمهم الصديق رضي الله عنه وعنهم، حتى انعقد إجماعهم على هذه، كما انعقد على تلك، وبناءً على ذلك سمو الممتنعين عن أداء الزكاة مرتدين في كل النصوص الواردة عنهم، وقاتلوهم قتال سائر المرتدين - أي: كمن ادعى نبوة مسيلمة وسجاح والأسود، دون تفريق بينهم في شيء من أحكام القتال، وشهد لهذا فقهاء السلف، كما قال الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلامّ رحمه الله:
'' والمصدق لهذا: جهاد أبي بكر الصديق -رحمه الله تعالى- بالمهاجرين والأنصار على منع الزكاة، كجهاد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل الشرك سواء، لا فرق بينهما في سفك الدماء وسبي النساء واغتنام المال، فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها '' .
قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: '' والصحابة لم يقولوا: أأنت مقر لوجوبها أو جاحد لها؟ هذا لم يعهد عن الخلفاء والصحابة، بل قد قال الصديق لـعمر رضي الله عنه: والله لو منعوني عقالاً أو عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقاتلتهم على منعها. فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب، وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعاً سيرة واحدة، وهي قتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم والشهادة على قتلاهم بالنار، وسموهم جميعاً أهل الردة '' .
وهذه المعاملة في القتال هي أشد أنواع معاملة المنتسبين للإسلام ممن يجب قتاله أو يجوز؛ لأنه قتال ردة، وكل قتال دونه فهو دون ذلك في المعاملة، حتى إن الخوارج الذين تواترت النصوص في قتالهم بأعيانهم وصفاتهم الجلية - كان حكم الصحابة فيهم ومعاملتهم لهم ألا يتبع من أدبر منهم، ولا يجهز على جريح، ولا تسبى نساؤهم، أو تخمس أموالهم.
قال شَيْخ الإِسْلامِ: ''وأما قتال مانعي -إذا كانوا مانعين عن أدائها بالكلية أو عن الإقرار بها- فهو أعظم من قتال الخوارج '' .
ومن الأدلة على فساد مذهب المرجئة في أن تارك العمل لا يكفر: أن من دخلت عليه شبهة الإرجاء من الفقهاء وشراح كتب السنة لما لم يجعلوا قتال الصديق والصحابة لهم قتال ردة وكفر، جعلوه من باب قتال البغاة، ومنهم من يسمي قتال أهل القبلة بكل أنواعه قتال بغاة، فكأن الصديق إنما قاتلهم لامتناعهم عن دفع الزكاة إليه، وهو إمام المسلمين وبيده بيت المال، والرد على هؤلاء واضح من وجوه:
1- أنه لم يثبت أن امتناعهم مخصوص بأدائها إلى الإمام، بل الثابت بالنصوص الصحيحة امتناعهم عن أدائها مطلقاً، أما ما ذكر من امتناع بعضهم هذا الامتناع المخصوص، فغايته إن ثبت أن تكون فئة منهم كذلك وليس عامتهم، والحكم إنما هو للأغلب والأعم.
2- أن وصفهم بالردة والكفر بإطلاق -كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة- يدل على الامتناع المطلق لا على ما ذكروا.
3- أن هذه المعاملة الشديدة لهم ومساواتهم بأصحاب مسيلمة والأسود ونحوهما لا تناسب إلا الامتناع المطلق.
4- أن هؤلاء الفقهاء والشراح لا يلتزمون الحكم على من لم يدفع الزكاة للإمام بالكفر والردة ووجوب قتاله ومساواته بمدعي النبوة إلى آخر ما فعل الصحابة، بل غاية حكمه عند بعضهم جواز مقاتلته قتال بغي لا قتال ردة، فهم إما أن يقروا بأن المناط مختلف -وهو الصحيح- وإما أن يلتزموا مخالفة إجماع الصحابة، وهو تناقض!!
قال شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله: '' فإن الصديق إنما قاتلهم على طاعة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا على طاعته، فإن الزكاة فرض عليهم، فقاتلهم على الإقرار بها وعلى أدائها، بخلاف من قاتل ليطاع هو، ولهذا قال الإمام أحمد وأبو حنيفة وغيرهما: من قال: أنا أؤدي الزكاة ولا أعطيها للإمام، لم يكن للإمام أن يقاتله، وهذا فيه نزاع بين الفقهاء؛ فمن يجوز القتال على ترك طاعة ولي الأمر جوز قتال هؤلاء، وهو قول طائفة من الفقهاء ويحكى هذا عن الشافعي -رحمه الله- ومن لم يجوز القتال إلا على ترك طاعة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا على ترك طاعة شخص معين؛ لم يجوّز قتال هؤلاء.
وفي الجملة، فالذين قاتلهم الصديق رضي الله عنه كانوا ممتنعين عن طاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإقرار بما جاء به، فلهذا كانوا مرتدين، بخلاف من أقر بذلك ولكن امتنع عن طاعة شخص معين'' أ هـ.
أقول: فإذا انعقد الإجماع على عدم التفريق بين الصلاة والزكاة، وهما عملان ظاهران يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر من وجوه عدة، وقال الصديق : [[ والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ]]، وأقره عليه الصحابة كلهم قولاً وعملاً، فما بالك بمن يفرق بين ركني الإيمان الظاهر والباطن، وجزئي الحقيقة الواحدة المركبة؛ فيفرق بين الإيمان القلبي والعمل الظاهر؟!
وسيأتي في شرح حديث جبريل -عليه السلام- ما يتعلق ببقية الأركان، ويزيد الأمر وضوحاً.
وبهذا يتبين لطالب الحق أن ترك الأركان الأربعة وسائر أعمال الجوارح كفر ظاهراً وباطناً؛ لأنه ترك لجنس العمل الذي هو ركن الحقيقة المركبة للإيمان، التي لا وجود لها إلا به، وهذا مما لا يجوز الخلاف فيه، ومن خالف فيه فقد دخلت عليه شبهة المرجئة شعر أو لم يشعر.
وتتميز الأركان الأربعة عن سائر الواجبات، بأن من لم يلتزم فعلها بقلبه ولم يعزم على ذلك لا يكون مؤمناً أبداً -أي: في الباطن- ؛ لأنه تارك لعمل القلب الذي هو ركن الإيمان، وعنه ينشأ العمل الظاهر، وأما من يضعف عزمه وينخرم التزامه، فهو على حرف الكفر وحافة النفاق.
وما ورد عن فقهاء الأمة من اختلاف بشأن تارك الصلاة -أو غيرها من الأركان- لا يؤثر على ما سبق، وذلك لأمور:
* الأول: أن ترك جنس العمل شيء وترك بعض آحاده شيء آخر، ولا سيما عند من لا يرى كفر تارك الصلاة؛ إذ هي عنده من جملة الواجبات، فيصح لديه أن يأتي العبد ببعض الواجبات وتنفعه عند الله مع تركه للصلاة، فلا يلزم من قولهم: إن تاركها لا يكفر أنه لا عمل صالحاً له، وهذا هو ما يهمنا هنا، وإن كان ثبوت كفره واستلزامه لإحباط سائر عمله هو الحق كما سنبين .
* الثاني: أنه من خالف في تكفير تارك أحد المباني الأربعة -ولا سيما الصلاة- لا ينبغي الاعتداد بخلافه بعد ثبوت الإجماع من الصحابة رضي الله عنهم في تكفير تارك الصلاة والزكاة، وما أشرنا إليه بالنسبة للصيام والحج، فمع كثرة المخالفين من المتأخرين لم يستطع أحد منهم الإتيان بنقل ثابت صريح عن صحابي أو تابعي يخالف ذلك؛ وذلك أن أول من قال به هم المرجئة، ثم تبعهم من تبعهم، ومتى عرف المرء ذلك تبين له أن هذا القول خارج عن أقوال أهل الاجتهاد إلى أهل البدع، وإن لم يكن كل من قال به من أهل البدع، وإيضاح ذلك في الفقرة التالية.
* الثالث: أن ما تنقله كتب الفقهاء المتأخرين عن بعض الأئمة من خلاف في هذا، لا يخلو من أحوال:
1- إما أن النقل عنه غير ثابت، وإن ثبت فهو إحدى الروايات عنه، والموافقة للإجماع هي الأولى بالأخذ.
2- وإما أن يكون كلامه في مسألة فرعية، كمن ترك فريضة واحدة وليس في التارك المطلق، وسنوضح أهمية التفريق بينهما في البند الرابع.
3- وإما أن يكون كلامه ليس صريحاً في الترك، بل في التساهل والتضييع وترك المحافظة، كما سنبين أيضاً.
4- وإما أن يكون كلامه في حالات مخصوصة، كقول حذيفة رضي الله عنه: [[ تنجيهم من النار ]] أي عند دروس الإسلام واضمحلاله، فجعله الناقل قولاً عاماً مطلقاً .
5- وإما أن يكون المخالف لم يبلغه الإجماع، أو قال بخلافه قبل أن يبلغه، أو لم يره إجماعاً ونظر إلى النصوص المطلقة؛ كحديث: {من قال لا إله إلا الله دخل الجنة} ونحو ذلك، وهذا لا يؤثر في ثبوت الإجماع وقوته.
6- وإما أن يكون المنسوب للإمام المتبوع - هو قول مجتهدي المذهب كلهم أو بعضهم لا قول الإمام نفسه، ولا سيما إذا اعتقد التابع أن القول بالتكفير هو مذهب الخوارج والمعتزلة، فينفي عن إمامه القول به، وهذا ما وقع فيه كثير من فقهاء المذهب، بل وقع فيه من يحارب المذهبية كالشيخ الألباني
7- وإما أن يكون الناظر في قول الإمام من الأتباع لم يره التزم لازم القول، فظن أن ذلك رجوع عنه أو تناقض ينبغي تبرئته منه، وربما استدل بعضهم بترك لازم اللازم وذلك مثل استدلال بعضهم بكون الصحابة وسائر المسلمين بعدهم لم يخصصوا مقبرة لتاركي الصلاة، وفاته أن تخصيص مقبرة لازم لإجراء الحكم الظاهر في الدنيا، وإجراء الحكم لازم للقول بالتكفير.
ولا يشترط التزام اللازم فضلاً عن لازمه؛ فإن العالم قد يقول بالتكفير لكن لا يجري الحكم الظاهر - حتى لو كان قاضياً أو إماماً لمانع من الموانع، وقد يجري الحكم الظاهر ولا يرى لازمه؛ كتخصيص مقبرة، فما أبعده من استدلال!!
* الرابع: أن الخلاف في ذلك ليس على إطلاقه وإجماله كما تنقل كتب الخلاف ونحوها، بل تحرير القول وتفصيله في مناط النزاع يظهر حقائق لا يجوز إغفالها، ومن ذلك:
1- أن المخالف ربما كان كلامه في الحكم الظاهر وكلام غيره في الحكم الباطن، وأكثر كلام السلف إنما هو في الحكم الباطن، بعكس كلام الفقهاء المتأخرين -كما سنبين- ولهذا كان الإجماع على تكفير تارك الصلاة أشهر وأظهر، والتمثيل بذلك في كتب العقيدة أكثر؛ لأن المسألة إذا كانت حكمية، فالصلاة هي الركن الوحيد الذي يمكن الحكم على تاركه بيقين؛ بما تختص به من الظهور والتكرار، وعموم وجوبها في سائر الأحوال والأوقات.
ولهذا يقولون: (تارك الصلاة) ولا يقولون (تارك الزكاة) غالباً، بل (الممتنع عن أدائها) لأنه لا يمكن معرفة ذلك إلا بالامتناع، والصيام أخفى من الزكاة، والحج إنما يجب في العمر مرة.
2- أن لفظ (الترك) وشبهه هو من الألفاظ التي وقع فيها الإجمال والالتباس. وكثير من الخلاف سببه إجمال الألفاظ وإطلاق الأحكام، كما بين شَيْخ الإِسْلامِ وغيره تبعاً للإمام أحمد، ومتى وجد التفصيل والتقييد ارتفع الخلاف، ومن ذلك أن كتب العقيدة التي صنفها أهل السنة تعني بالتارك تارك الالتزام بالأمر، أي: تارك عمل القلب التارك تبعاً لذلك عمل الجارحة، لأنها كلها تقرر أن الإيمان قول وعمل بالقلب والجوارح -كما أسلفنا- وعليه فالتارك عندهم هو من يستحق الاسم بإطلاق، ولذلك لم تختلف هذه الكتب في حكم تارك الصلاة مثل كتب الفروع، وذلك لأن مقصود مصنفيها بيان الحقائق الشرعية في ذاتها، وبيان ما يضادها من البدع، ودفع اللبس بينهما.
أما كتب الفروع فلكونها تبحث في أحكام أعيان المكلفين وتفصيل أحوالهم، ومقصودها غالباً إجراء الحكم الظاهر - كان التارك عند مصنفيها اسماً عاماً يتناول آحاداً كثيرة، فيتكلمون عن التارك الجاحد للوجوب، والتارك المتكاسل، والترك لفريضة واحدة فيشمل كلامهم من جهة الباطن تارك عمل القلب، وضعيفه، والمتردد بين ضعف الإيمان والنفاق المحض.
والآيات الواردة في ترك الصلاة إنما هي في الكفار، كقوله تعالى: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ))[المرسلات:48].
وقوله: ((فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى))[القيامة:31-32].
وقوله: ((مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ))[المدثر:42-44].
وفي هذا دليل على أن من تركها كافر لا حظ له في الإسلام وإن ادعاه، وأيضاً أن التارك هو من لا يصلي بإطلاق؛ لأن الكافر كذلك، فقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { من تركها فقد كفر } وغيره من الأحاديث؛ يفسر هذا.
فمن ترك الصلاة بالكلية فهو من جنس هؤلاء الكفار، ومن تركها في أكثر أحيانه فهو إليهم أقرب، وحاله بهم أشبه، ومن كان يصلي أحياناً ويدع أحياناً فهو متردد متذبذب بين الكفر والإيمان، والعبرة بالخاتمة.
وقد يلتبس على بعضهم ما جاء في ذلك من ألفاظ النصوص، مثل: ( الإضاعة ) و( ترك المحافظة ) بالترك الكلي، فالإضاعة كما في قوله تعالى: ((فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ))[مريم:59]، ولذلك نص ابن مسعود وغيره على أن الإضاعة هي التأخير، ولو تركوها لكانوا كفاراً.
وترك المحافظة - كما في حديث عبادة بن الصامت { من لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة}
وهو غير الترك الكلي الذي هو الكفر.
ومن ذلك لفظة ( الجحد )، فهي لا تعني أحياناً عند السلف إلا الترك - كما تقدم، فيخطئ بعض المتأخرين فيجعلها مقابل التارك ويفترض الخلاف، والواقع أن لا خلاف، وكل تفريق لم يرد في النصوص لا يصح اعتباره، والنصوص المطلقة لا يجوز حملها على أحد المعنيين دون الآخر، ولهذا قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله:
''وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها، فليس لهم حجة إلا وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم عند الجاحد كان جواباً لهم عن التارك، مع أن النصوص علقت الكفر بالتولي '' يعني: الآيات، والأحاديث أكثرها جاء بلفظ الترك، ولفظ الجحد لم يأتِ غالباً إلا في كلام السلف، ويقصدون به الترك والتولي لا عدم الإقرار بالوجوب.
وكذلك الكسل والتهاون والسهو عنها لا يعني الترك المطلق، ولهذا تعجب لمن يقول: " إذا تركها كسلاً وتهاوناً حتى يقتل " ونحوه، إذ يستحيل عقلاً وواقعاً أن يفضل السيف على الصلاة لمجرد الكسل ونحوه، فأي كسل يبقى والسيف على رأسه؟!
فإن هذا تارك للإقرار والالتزام بها، وليس متكاسلاً عن الأداء، والمتكاسل هو المتخاذل المهمل في العمل، الذي متى توفر الداعي للأداء عمل، وإذا ضعف الداعي فتر أو انقطع، كما قال تعالى: ((وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى))[النساء:142]، وقال: ((وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى))[التوبة:54] وهذا من ضعف الهمة في العمل، فإذا اشتد به ضعفها ترك العمل نفسه أو أخره عن وقته ونقرها نقر الغراب، والمقصود: أن هذا شيء وترك الالتزام بالأداء شيء آخر.
ومن ذلك لفظة (الامتناع) فإنها تطلق على من يعتذر أو يتخلف أو يتلكأ، بخلاف ما يقوله العلماء في الطائفة الممتنعة، وهي التي تجتمع على ترك واجب أو فعل محرم، فهذا الاجتماع والمقاتلة دليل على عدم الالتزام بالأمر، ومن هنا كان قتالها قتال ردة كما سبق.
* الخامس: أن حقيقة الخلاف هي بين من يرى قتل تارك الصلاة كفراً وبين من يرى قتله حداً؛ لأن القول بأنه يحبس ويضرب مهما أصر على الترك قول شاذ، وصلته بالإرجاء جلية؛ سواء من جهة القائلين به أو من جهة مضمونة.
وعليه إذا تأمل الفقيه وجد أن كل ما استدل به من يرى قتله حداً يصلح دليلاً لمن يرى قتله كفراً ولا عكس، فاجتمع للقائل بقتله كفراً أدلته وأدلة غيره، وإن شئت فقل: إن الأدلة في قتله والأدلة في تكفيره تجتمع بلا تعارض، فثبت أن قتله كفراً هو وحده الصحيح، لا سيما مع ما سبق من بيان استحالة أن يرضى مؤمن بأن يقتل ولا يصلي، فهذا لا يفعله إلا كافر معاند.
وعلى هذا يقاس غيرها من الأركان.
ومثل ما جاء من الوعيد في ترك المحافظة على الصلوات -كحديث عبادة- أو إضاعتها أو السهو عنها ما جاء من الوعيد في ترك الزكاة؛ كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تنطحه بقرنها وتطؤه بأظلافها، كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها، حتى يقضى بين الناس }.
وقد جاء في بعض الروايات: {حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار} فقد يستدل به مستدل على أن تارك الزكاة بإطلاق داخل تحت المشيئة، فلا يكون كافراً، أو على التفريق بين تارك الصلاة والزكاة، وليس الأمر كذلك لوجوه:
أولاً: أنه لا يدل على ترك الزكاة أو ترك حق المال بالكلية، ولا بد من جمع الأحاديث والروايات في هذه المسألة، وبمجموعها يتضح أن المقصود منه ليس تارك الالتزام، بل المفرط المتهاون أو المضيع كما في الصلاة.
ثانياً: أن هذه الرواية أشبه بالمختصر، ولفظ الرواية التامة: {ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها...ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم ورودها، ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها...}.
وقال في الخيل: {ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها} وفي هذه الرواية التامة قال: {حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار} وفي الرواية الأخرى قال في الإبل والبقر والغنم: {لا يفعل فيها حقا} ثم قال: {ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه} ولم يذكر: {حتى يقضى} إلى آخره.
وفي رواية أخرى في الصحيح: {من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثِّل له يوم القيامة شجاع أقرع...} الخ، وليس فيها {حتى يقضى} الخ، فهذا لا يعني أنه لا يدخل النار ولا يخلد فيها، بل هي على إطلاقها، فدل مجموع هذا على أن الوعيد وارد في ترك حق الله عامة لا في الزكاة المفروضة خاصة، وقوله: {ومن حقها حلبها يوم ورودها} وقوله في الخيل ما سبق- صريح في ذلك .
والمسلمون جميعاً متفقون على أن في المال حقاً سوى الزكاة لا يجوز تركه، كنفقة من تجب عليه نفقته، وإطعام الملهوف، وعابر السبيل، والضيف إذا تعين ذلك عليه، هذا هو المراد .
ويبين ذلك أن الوعيد ورد في حق المكتنـز المدخر، الذي يؤدي فعله إلى حبس المال وتعطيل منافعه - وإن لم يكن مما تجب فيه الزكاة، كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الرجل الذي اكتنز ديناراً أو دينارين: " كية أو كيتان "، وكقوله للمرأة ذات المسكتين {أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار} وما أشبهه، ومعلوم أن هذا دون النصاب المقدر للزكاة، فلا بد أن تكون العلة أمراً آخر سوى ترك الزكاة المفروضة.
وبهذا تجتمع الأحاديث التي كثر فيها الاختلاف منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم، ويوضح ذلك حال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكثير من أصحابه، فإنه لم يكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكنز المال وينتظر حتى يحول الحول فيؤدي القدر المعلوم من النصاب المعلوم؛ بل ثبت عنه أنه قال: {ما أحب أن لي مثل أحد ذهباً إلا أنفقته كله} فكان هو وكثير من أصحابه ينفقون بالليل والنهار سراً وعلانية في نوائب الحق، ويسارعون فيما لا يتعين عليهم، ويتنافسون فيه مثلما كانوا يبادرون إلى صلاة التطوع ويحرصون عليها سواء.
فمن تأمل حالهم ومجموع النصوص في الباب لم يرد منها حديثاً أو يصعب عليه توجيهه وفهمه، وأما من التزم طريقة أكثر الفقهاء المتأخرين، فلا بد أن يرد البعض، أو يخطئ في توجيهه، أو يتعسف في تخريجه، كقولهم: إن هذا مخالف للأصول، أو إنه منسوخ نزل قبل تحديد الأنصبة، ونحو ذلك مما هو إلى الظن أقرب، والله أعلم.
ولنعد إلى أصل موضوعنا عن الحقيقة المركبة، فنقول: في كتاب الإيمان الأوسط، الذي هو في الحقيقة شرح مستفيض لحديث جبريل عليه السلام فصل شَيْخ الإِسْلامِ القول في هذا، وأظهر -بما لا يدع ريبة ولا شكاً- حقيقة الإيمان المركبة، وكفر من ترك العمل الظاهر، بل كفر من ترك الالتزام بأحد الأركان الأربعة؛ الصلاة والزكاة والصوم والحج، وعزم على ألا يفعلها.
فإنه رحمه الله قال:
''وأما الفرائض الأربع -يعني: ما عدا الشهادتين- فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواترة تحريمها...''
قال: ''وأما مع الإقرار بالوجوب، إذا ترك شيئاً من هذه الأركان الأربعة ففي التكفير أقوال للعلماء '' .
ثم قال: ''وهذه المسألة لها طرفان:
أحدهما: في إثبات الكفر الظاهر.
والثاني: في إثبات الكفر الباطن.
فأما الطرف الثاني فهو مبني على مسألة كون الإيمان قولاً وعملاً كما تقدم، ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويعيش وهو لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح '' .
ثم ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على أن الامتناع عن الطاعة إنما هو من صفات الكفار لا المسلمين، وألزم المفرقين بين جاحد الوجوب والتارك بإلزام قوي وحجة برهانية؛ فقال: '' وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها، فليست لهم حجة إلا وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم عن الجاحد كان جواباً لهم عن التارك '' .
وذلك أن النصوص لم تفرق، والصحابة رضي الله عنهم لم يفرقوا كما فصلنا ذلك من قبل، وسنزيده وضوحاً إن شاء الله في الصفحات التالية.
والمقصود هنا: أن شَيْخ الإِسْلامِ -رحمه الله- نصر القول بكفره باطناً، وفند شبهات القائلين بخلافه في بقية كلامه.
وأوضح أن من '' عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب '' .
وأن إجراء الأحكام الظاهرة عليه أمر آخر- كما هو الشأن في المنافقين، وكذلك في المتأولين الذين يعتقدون عقيدة هي كفر، ولكن إجراء الحكم الظاهر عليهم له شروط -إقامة الحجة والاستتابة- وقال:
'' وبهذا تزول الشبهة في هذا الباب، فإن كثيراً من الناس، بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس، ولا هم تاركيها بالجملة، بل يصلون أحياناً ويدعون أحياناً، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة في المواريث ونحوها من الأحكام، فإن هذه الأحكام إذا جرت على المنافق المحض كـابن أُبيّ وأمثاله من المنافقين، فلأن تجري على هؤلاء أولى وأحرى '' .
وختم كلامه بقوله: '' وبالجملة، فأصل هذه المسائل أن تعلم أن الكفر نوعان:
كفر ظاهر وكفر نفاق، فإذا تكلم في أحكام الآخرة كان حكم المنافق حكم الكفار، وأما في أحكام الدنيا فقد تجري على المنافقين أحكام المسلمين.
وقد تبين أن الدين لا بد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه ولسانه ولم يؤدِ واجباً ظاهراً، ولا صلاة ولا زكاة ولا صياماً، ولا غير ذلك من الواجبات...''.
كما فصل القول في أن عمل القلب هو إرادة جازمة، والإرادة الجازمة يستحيل تخلف الفعل عنها.
فثبت أن تارك عمل القلب بالنسبة للأركان الأربعة أو أحدها، وهو تارك الالتزام بها والعقد الجازم على فعلها كافر على الحقيقة؛ لأنه إما أنه ليس لديه عمل القلب -الذي هو الإرادة الجازمة المستلزمة للفعل- ولا قوله -الذي هو الإقرار بالوجوب- فهذا لا شك في كفره.
وإما أن يكون لديه قول القلب، ولكنه إذ لم يستلزم فعل القلب لا يكفي في ثبوت الإيمان، فهو معرفة مجردة أو علم مجرد -كما تقدم إيضاحه- وهو من جنس إقرار أهل الكتاب بأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول واجب الاتباع ولكن لم يتبعوه، بل إقرار إبليس بأن الله أمره بالسجود ولكن لم يطعه.
وهكذا فإطلاق القول بتكفير تارك الصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج صحيح موافق لقاعدة أهل السنة في الإيمان كل الموافقة، وهو ليس من جنس تسمية بعض العصاة كفاراً وتسمية بعض المعاصي كفراً، والقول بأن المسألة خلافية هكذا بإطلاق غير صحيح، إلا أن يراد عموم الأمة لا خصوص السلف ومن اتبعهم، وسيأتي في شرح حديث جبريل عليه السلام وشرح حديث وفد عبد القيس- ما يزيد ذلك إيضاحاً .