إنه مع غض النظر مطلقاً عن جدل الفرق في النصوص، وتعارضها -في نظرهم- وخلافات الفقهاء المتأخرين في فهمها، يظل المعيار الحقيقي للحكم على أي حالة هو معيار الصدر الأول، وواقع
السلف الصالح قبل اختلاف الأمة، بل في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا المعيار -على وضوحه- هو أيسر المعايير وأصدقها، والفطرة الإيمانية تعرفه أكثر مما يعرف الذهن الجدل الكلامي والخلافات المتشعبة.
وذلك أن ينظر المؤمن إلى الحالة المراد معرفة حكمها، متصوراً أنها وقعت في الصدر الأول، ويفكر ويتدبر ماذا يمكن أن يحكم به عليها ذلك الجيل القدوة، أو ماذا يمكن أن يكون وضعها لو وجدت فيه وعاشت معه؟
وسيجد الجواب بإذن الله أيسر وأقرب مما يجده في عويص الخلافات ودقائق الترجيحات التي لا يستطيع أن يخوض غمارها كل أحد.
فما حكم ترك العمل في ضوء ذلك؟
أي: ما حكم رجل عاش في ذلك الجيل الحي العامل المجاهد منتسباً إليه بالاسم، مقراً بصدق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باللسان ولكنه مع ذلك لا يؤدي فريضة من فرائض الله، ولا يجتنب معصية من معاصيه، ولا يحكم بما أنزل الله، ولا يتبع ما أنزل الله فيما يأتي ويدع من أعمال، فلا يصلي، ولا يصوم، ولا يزكي، ولا يحج، ولا يوالي المؤمنين ولا يجاهد معهم، ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا يشارك بأي مشاركة إيمانية في ذلك المجتمع الأول، إلا أنه رأى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآيات صدق نبوته الباهرة، فأقر في قلبه، وزاد على ذلك بالتلفظ بالشهادتين بلسانه؟
الحق أنه لا يصح أن يُسأل عن موقع هذا الرجل في صفوف المؤمنين، بل الصحيح أن يُسأل أيمكن أن يوجد في صفوف المنافقين؟!
فالمنافقون -كما أشرنا سلفاً، وكما هو صريح القرآن- كانوا يجاهدون وينفقون ويصلون، ويشهدون مواقف الرعب والهول التي تكتنف الجماعة المسلمة الناشئة، فهل عاش أو يتصور أن يعيش بينهم هذا الذي لا صلاة له، ولا جهاد، ولا نفقة، ولا مشاركة للمؤمنين في عمل قط، ولو في الظاهر؟
بل نقول: إنه وجدت حالة أفضل من حالة هذا الرجل بكثير، وهي حالة رجل دافع عن الدعوة وحمى صاحبها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشاركه في مواقف الصبر والاضطهاد، معترفاً في قرارة نفسه بصدق نبوته وصحة ما جاء به في شعره، ومع ذلك مات كافراً، وهو من أهل النار بنص الخبر الصحيح -أعني:
أبا طالب عمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فإن قالت
المرجئة : إنما كفر
أبو طالب لامتناعه عن قول الشهادة عند الموت، وقوله: هو على ملة عبد المطلب.
قلنا: ما تزال الحجة قائمة عليكم، وذلك أنه لو كان مؤمناً من قبل، ناجياً عند الله في الآخرة -كما تقولون في حكم من لم ينطق الشهادة- لما احتاج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعرض عليه ذلك قائلاً: {
يا عم قل: لا إله إلا الله. كلمة أشهد لك بها عند الله}
فلما عرض عليه ذلك وألح عليه علمنا أنه لم يكن قبل ذلك مؤمناً ولا موعوداً بالنجاة قط، ولو كان كذلك لكان امتناعه عن الشهادة معصية فقط، كما قد صرح بعضكم
في حق الممتنع عنها!!
فإذا كان هذا حاله، فكيف حال من لم يعمل شيئاً قط إلا التصديق القلبي بصدق الرسول، أو أضاف إلى ذلك كلمة الشهادة مجردة عن أعمال القلب والجوارح؟!
وإن في أقسام الناس على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يدل على ما قررناه بجلاء؛ وذلك أنهم لم يكونوا سوى ثلاثة أقسام:
1- عامل بجوارحه مؤمن بقلبه وهم المؤمنون.
2- عامل بجوارحه كافر بقلبه وهم المنافقون.
3- كافر بجوارحه وبقلبه وهم الكافرون.
روى الإمام
أبو بكر بن أبي شيبة في كتاب
الإيمان بسند صحيح إلى
أبي قلابة التابعي أنه قال: [[
حدثني الرسول الذي سأل عبد الله بن مسعود فقال: أنشدك بالله أتعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ثلاثة أصناف:
مؤمن السريرة مؤمن العلانية.
وكافر السريرة كافر العلانية.
ومؤمن العلانية كافر السريرة.
فقال عبد الله: اللهم نعم ]]
فلم يكن في واقع الجيل الأول ولا في تصوره وجود لمؤمن السريرة كافر العلانية، أي التارك للإيمان بجوارحه المؤمن بقلبه -كما تزعم
المرجئة
وانطلاقاً من هذا يقول
الخطابي: ''قد يكون المرء مستسلماً في الظاهر غير منقاد في الباطن، ولا يكون صادق الباطن غير منقاد في الظاهر''
.
ولهذا ينقد شَيْخ الإِسْلامِ
ابن تيمية بقوة العبارة التي يستخدمها بعض الفقهاء في حق من صدرت منهم أعمال كفرية صريحة، وهي قولهم: " كافر ظاهراً مؤمن باطناً " مبيناً أنها لوثة من لوثات الإرجاء
.
وأما حقيقة النفس الإنسانية، فغني عن البيان والإعادة أن نقول: إن الإنسان لا يمكن أن ينفصل عمله عن همه وإرادته بحال؛ إذ الأعمال ما هي إلا الأثر الظاهر للهم والإرادة، ولا يتصور منافاتها لذلك مطلقاً.
غير أن من المهم هنا أن نعرج على الحالة المعاكسة - أي: حالة المنافق الذي يستسلم ظاهراً وهو غير منقاد باطناً؛ لنبين أن ذلك لا يتعارض مع هذه الحقيقة؛ وذلك أن أعمال المنافق هي بلا ريب أثر ما في قلبه؛ فقد يقال: لِمَ لَم يتلازم الظاهر والباطن في حقه، إذ نراه على ظاهر يخالف باطنه؟
والجواب: إن القاعدة صحيحة، وإن التلازم ثابت؛ فإن الالتواء أو التذبذب الخارجي هو أثر الالتواء والتذبذب الباطني المطابق له، والمنافق في الواقع ونفس الأمر ليس منقاداً لا ظاهراً ولا باطناً، فهذا هو حكمه عند الله الذي يعلم الأمور على حقائقها.
ومخالفة ظاهره لباطنه إنما هي في عملنا البشري القاصر، حيث يمكن أن يحجبنا بتصنعه وتكلفه أعمال الإيمان الظاهرة عما في قلبه من الكفر، ومع ذلك فليس الأمر على إطلاقه، فبصيرة المؤمن لها أثر في معرفة المنافق، ولحن القول لا ينفك ينبئ عن المنافقين بين الحين والحين، كما أن اعوجاج المظهر من لوازمهم المعلِمة عن حقيقة المخبر، ولولا وجود ضعاف الإيمان من غير المنافقين لكان أمرهم أجلى حداً، فأعمال المنافقين لا تشتبه وأعمال السابقين، وإنما تشتبه بأعمال هؤلاء.