إحداهما: تتعلق بتلك الأعمال عامة.
والأخرى: تختص بموضوع المرض الأكبر الذي يعتري القلوب وهو مرض النفاق.
فالأولى: هي أن من تأمل ما سبق شرحه من أعمال القلوب المعدودة شروطاً للشهادتين -أعني الرضا واليقين والمحبة والصدق والإخلاص- كما وردت في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطابق ذلك بأحوال المخلوقين وطرائق العابدين يجد أن كل شرط من هذه الشروط يخرج طائفة من طوائف الضلال بخصوصها عن الصراط المستقيم وإن كان قد يعم سائرها؛ إذ التلازم بينها لا يخفى وهذا يشمل أمم الكفر والشرك والطوائف الملحقة بها من هذه الأمة.
* فالرضا: يخرج المستكبرين عن أمر الله وشرعه ودينه، إما بسبب الحسد والمنافسة، كحسد
أبي جهل أن تكون النبوة في بني عبد مناف، وكحسد اليهود أن تكون النبوة في ذرية إسماعيل، وما حصل لـ
عبد الله بن أبي بن سلول حين أضاع قدوم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى
المدينة أحلامه في الملك ونحو ذلك، وأصل ذلك كله حسد إبليس لآدم عليه السلام.
وإما بسبب التمسك بما كان عليه الآباء والأجداد وما ورثوه من الشأن والأمجاد واستكبار النفوس أن تتركه لأجل أناس من البشر لا سلطان لهم ولا أبهة: ((
إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ *
ويَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ))[الصافات:35-36].
وإما الاعتداد بما هم عليه من الحضارة والرقي والعلم، الذي يحملهم على احتقار دين الله واستصغاره: ((
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ))[غافر:83].
وغير ذلك من الأسباب المانعة من الانقياد والاستسلام والقبول، الذي عبرنا عنه بالرضا كما عبر الشارع .
ومن أعظم مظاهر ذلك في المنتسبين للإسلام اتباع المناهج الفلسفية - والتحاكم إلى القوانين الوضعية والتماس الهدى والعدل من غير كتاب الله تعالى وسنة رسوله، ونحوها مما يعلن عن عدم الرضا بما أنزل الله والاكتفاء به.
* والمحبة: تخرج الكارهين لأمر الله وشرعه ودينه كله أو بعضه والمشركين في محبته المعظمين لغير الله وغير شرعه الذين اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله واتخذوا من غير الإسلام مناهج يعظمونها كتعظيمه - كما كان
الفلاسفة كـ
ابن سينا و
ابن رشد يعتقدون أنه ما طرق العالم ناموس أعظم من ناموس الإسلام، لكن ما عند الحكماء و
الفلاسفة القدماء من الناموس فيه خير عظيم وهدى مبين وأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أعظم الحكماء والمصلحين كـ
أرسطو و
أفلاطون وكما قال طاغوت التتار زمن شَيْخ الإِسْلامِ
ابن تيمية: رجلان عظيمان محمد و
جنكيزخان!!
وكما يعتقد كثير من المعاصرين ويرددونه -المنتسبين للإسلام وغيرهم- من أن الإسلام من أعظم العوامل في بناء الحضارة الإنسانية في القرون الوسطى وما يزال فيه كثير من الإيجابيات التي يمكن أن تسهم في الحضارة المعاصرة، أو أنه ميزة ما يسمونه العالم الثالث، الذي يمكن أن يصل بشعوبه إلى ما وصل إليه المعسكران الكبيران والالتحاق بركب الحضارة والتقدم.
والمتحذلقون منهم يقولون: إن ما في الإسلام من نظم ومبادئ تغني المسلمين عن الاقتباس من الشرق أو الغرب، لكن لا يغضون من قيمة ما عند الشرق والغرب من النظم والمبادئ ولا يرونهم في حاجة إلى الإسلام.
وأمثال ذلك كثير وخصوصاً على أفواه رجال الضرار ومنابره، ومن المظاهر العادية للتسوية في التعظيم -إن لم يكن تعظيم الكفر أعظم- أن هؤلاء الناس يتحرجون من تسمية الأمم المتحضرة كفاراً، وبل ربما نفروا ممن يطلق عليهم ذلك - حتى لقد قام بعض كتاب المدرسة العصرية بالسخرية العلنية ممن يزعمون أن المسلمين وحدهم سيدخلون الجنة وأن
أديسون، و
باستور وفلان وفلان من رواد الحضارة والعلم سيدخلون النار!!
* واليقين: يخرج
الفلاسفة و
الملاحدة والمتعمقين في الكلام وأصحاب النظريات عن الكون ونشأته والإنسان ومهمته ومن يلحق بهم من علماء ما يسمى علم الاجتماع أو علم النفس السائرة على غير هدى الله، فهؤلاء لا يصلون إلى اليقين ولا يستقر لهم قدم بحال في كل ما يبحثون فيه مما ليس داخلاً في نطاق العقل البشري، وحسبك أن الله تعالى قال فيهم: ((
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ ولا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ومَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً))[الكهف:51].
ولولا خشية التطويل لذهبنا في سرد اعترافاتٍ من اعترافات هؤلاء بالعجز والجهل والشك والحيرة، سواء الكفار منهم أو المشتغلون بذلك من المسلمين؛ كـ
الرازي و
الجويني و
الشهرستاني.
ويلحق بهؤلاء جهال الأرض وهم أكثر العالم الذين لا دين لديهم ولا هدى.
* والصدق: يخرج الكاذبين في دعوى الإيمان؛ وهم المنافقون وهم كثير في هذه الأمة ومرضهم وبيل، ولذا سنخصه بالحديث في الفقرة التالية.
* والإخلاص: يخرج المشركين العرب وأهل الكتاب وكل من يزعم أن دينه خير الأديان وهو لا يخلص التوحيد لله تعالى -إلا في حال الشدة والكرب- ويلحق بهم من المنتسبين للإسلام كل من تعلق بالأموات من الأنبياء والصالحين ودعاهم ورجاهم ونذر لهم معتقداً أنهم يقربونه إلى الله زلفى -كما كان المشركون يعتقدون في آلهتهم ومن يعتقد من
الشيعة و
الصوفية أن أئمتهم وأولياءهم يتصرفون في الكون ويعلمون الغيب ويسبغ عليهم ما هو من خصائص الألوهية.
كما يخرج به المشركون في الطاعة والاتباع، الخارجون على مقتضى قوله تعالى: ((
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُو وأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ))[الأنعام:106] من المتبعين للمناهج البشرية والقوانين الوضعية، فكل هؤلاء لم يخلصوا لله ولم يحققوا شهادة أن لا إله إلا الله.
كما يلحق بهم -من وجه- المشركون في الإرادة كأصحاب الأهواء والحظوظ العاجلة وهو الشرك الخفي الذي قل من ينجو منه.
فلا عجب إذن أن يكثر الحديث في الكتاب والسنة عن هذه الأعمال، منبهاً أصحاب الصراط المستقيم على أهميتها ومبيناً هلاك من ضل فيها أو أعرض عنها، ولا عجب أن يكون من أعظم عوامل انتشار الإرجاء بل عوامل تقهقر الأمة وانحطاطها وإخفاق الدعوات الإسلامية وفشلها، إهمالها في تحقيق هذه الأعمال وتفريطها فيها.
الفائدة الأخرى: وهي تنبيه ضروري يتعلق بأعظم مرض من أمراض القلوب وهو النفاق، فكما أخطأ كثير من الناس في مفهوم الكفر ومعناه وحصروه في صورة واحدة هي إنكار وجود الله، أو إنكار أنه الخالق الرازق المدبر ونحو ذلك -أخطأ كثير من الناس أيضاً- في مفهوم النفاق الأكبر وحصروه في صورة واحدة كذلك؛ هي أن يظهر الإسلام وهو يبطن اعتقاد كذب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل ما جاء به وعدم الإيمان بدين الإسلام كله وعدم الرضا بشيء منه.
وهذه -وإن كانت أجلى صورة وأكبرها- ليست الصورة الوحيدة، بل النفاق الأكبر كالكفر الأكبر له صور كثيرة جداً، فكما أن الإنسان قد يكون مؤمناً ويخرج من الإسلام بكلمة أو فعل، فكذلك قد يكون منافقاً النفاق الأكبر بسبب قول أو فعل من أقوال القلب وأعماله مع اعتقاده بقية الدين وإظهاره للشرائع والشعائر.
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر في كتابه للمنافقين أحوالاً متفاوتة في النفاق الأكبر؛ فمنها الصورة الكاملة - كحال المذكورين أول البقرة: ((
ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ومَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ *
يُخَادِعُونَ اللَّهَ والَّذِينَ آمَنُوا ومَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ومَا يَشْعُرُونَ))[البقرة:8-9].
أو أول المنافقون: ((
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ واللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ واللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ))[المنافقون:1].
ومنها صور دون ذلك، كحال المذكورين في سورة القتال (محمد): ((
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وأَمْلَى لَهُمْ *
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ))[محمد:25-26].
أو حال المستهزئين بقراء الصحابة يوم
تبوك، الذين أنزل الله فيهم: ((
ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وآيَاتِهِ ورَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *
لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ))[التوبة:65-66].
فلا شك أن بين من يبطن الكفر بالله واليوم الآخر جملة واحدة -المتضمن تكذيب الرسول وبطلان القرآن- وبين من يقول للكفار سنطيعكم في بعض الأمر أو يستهزئ بشيء مما عظمه الله فرقاً وإن اتحد الحكم عليهما بالردة والكفر، فإن بعض الكفر أغلظ من بعض، كما قال الله تعالى: ((
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ))[التوبة:37].
وقال: ((
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً ونِفَاقاً))[التوبة:97].
فجعل بعض الكفر والنفاق أشد من بعض.
والمقصود أن نعلم أن الرجل قد يكون في باطنه مؤمناً بالدين في الأصل والجملة ولكنه يكره شيئاً مما أنزل الله، أو لا يقر به في قلبه ولا يعتقد الالتزام به، فيكون حكمه حكم الكافر بالدين كله، وذلك كمن يكره بقلبه تحريم الربا ويرى ذلك مخالفاً للمصلحة وغير مستقيم مع العقل إذا كان الطرفان متراضيين عليه ونحو ذلك.
ومن يكره ما أنزل الله بشأن الحجاب وستر النساء عن الاختلاط بالرجال ويراه نوعاً من الظلم والامتهان للمرأة، أو يراه عائقاً عن التنمية مخالفاً لمصلحة المجتمع.
أو من يعتقد أن أحكام الجهاد ومقاتلة الكفار وسبي نسائهم وغنم أموالهم لا يليق بكرامة الإنسان وحريته ولا يتناسب مع المساواة الإنسانية.
ومن يكره أن يقول أو يعتقد أن هؤلاء الكفار العصريين، أو أصحاب الحضارات المنقرضة -ومنهم الحكماء والأدباء والمخترعون- يحاسبهم الله يوم القيامة ويعذبهم بالنار ولا يقبل منهم أي عمل أو إحسان.
ومن يعتقد أن من حق أتباع أي دين أن يدعوا إلى دينهم وأن ينشروه في كل مكان بتفاهم مع دعاة الإسلام ووئام بين جميع الأديان.
ومن يكره ما أنزل الله بشأن معاملة الكفار وأحكام العلاقة بهم ويعتقد أن الأوفق والأصلح هو مداهنتهم ومجاملتهم - بمقتضى الاتفاقيات الدبلوماسية والأعراف الدولية التي ارتضاها العالم المتحضر و
الأمم المتحدة.
ومن يكره ما شرعه الله من أحكام أهل الذمة ويرى أنه آن الأوان لإلغاء الجزية وتحقيق الأخوة الوطنية.
ومن يكره ما جاء في القرآن والسنة من أخبار الأمم الكافرة وذمها وهلاكها بسبب معاصيها، أو يرى أن تاريخ الحضارات يجب أن يدرس وفق المنهج الذي يسير عليه المنهج الغربي تحليلاً واستنتاجاً.
وصور كثيرة مشابهة كلها تفصح عما في قلب صاحبها من نفاق أكبر، وإن كان لا يكره بقية الأحكام ومظهراً لشعائر الإسلام.