1- المتكلمون:
وهؤلاء أهملوا أعمال القلب بالكلية جاعلين الإيمان قضية عقلية بحتة ولم يثبتوا من أعمال القلب سوى التصديق الخبري الذي هو في الحقيقة أشبه بالعمل الذهني الخالص -وإن نسبوه للقلب-.
وأصل هذا المذهب هو ذلك المبتدع الضال
الجهم بن صفوان والمؤسف جداً أن أكثرية متكلمي الأمة -وهم
الأشاعرة و
الماتريدية- اعتنقوا هذا المذهب مع إطباق أئمة
السلف المعاصرين لنشأته على تكفير
جهم وأصحابه واعتبار
الجهمية فرقة خارجة عن فرق أهل القبلة الثلاث والسبعين.
ومن أغرب التناقضات عند هؤلاء أن يكون ما نقله
أبو الحسن الأشعري نفسه في
المقالات عن
جهم و
الصالحي و
بشر المريسي اليهودي هو ذات عقيدتهم التي صرح بها
الباقلاني و
الجويني وسائر أئمتهم إلى
الإيجي ومن جاء بعده.
وليس هذا موضع المقارنة بين
الجهمية و
الأشاعرة وحسبنا أن ننقل مذهب
جهم كما سطره
الأشعري نفسه، ثم نقارنه بكلام أكبر أئمة
الأشاعرة المتقدمين وناشر مذهبهم
القاضي الباقلاني
يقول
الأشعري في أول حديثه عن فرق
المرجئة واختلافهم: ''فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن الإيمان بالله هو المعرفة بالله وبرسله، وبجميع ما جاء من عند الله فقط، وأن ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب والمحبة لله ولرسوله والتعظيم لهما والخوف منهما (كذا) والعمل بالجوارح فليس بإيمان...قال: وهذا قول يحكى عن
الجهم بن صفوان ''
ويقول
الباقلاني -في بيان ما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به-: ''وأن يعلم أن الإيمان بالله عز وجل هو التصديق بالقلب...والدليل على أن الإيمان هو الإقرار بالقلب والتصديق قوله عز وجل: ((
ومَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ولَوْ كُنَّا صَادِقِينَ))[يوسف:17]... وقد اتفق أهل اللغة قبل نزول القرآن وبعث الرسول عليه السلام على أن الإيمان في اللغة هو التصديق دون سائر أفعال الجوارح والقلوب''
.
فهذا اتفاق بينهما على أن أعمال القلب والجوارح غير داخلة في الإيمان.
صحيح أن
الجهمية تقول: إن الإيمان المعرفة و
الأشاعرة يقولون: الإيمان التصديق، ولكن ما تمحله
الأشاعرة وتكلفوه من التفريق بين المعرفة وبين التصديق المجرد أمر لا يقبله العقلاء، ولهذا رد عليهم شَيْخ الإِسْلامِ
ابن تيمية قائلاً: ''إن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالي عن الانقياد -الذي يُجعل قول القلب- أمر دقيق وأكثر العقلاء ينكرونه، وبتقدير صحته لا يجب على كل أحد أن يوجب شيئين لا يتصور الفرق بينهما، وأكثر الناس لا يتصورون الفرق بين معرفة القلب وتصديقه ويقولون: إن ما قاله
ابن كلاب و
الأشعري من الفرق كلام باطل لا حقيقة له وكثير من أصحابه اعترف بعدم الفرق...''.
إلى أن يقول: ''والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه عسر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صادق وبين تصديق قلبه تصديقاً مجرداً عن الانقياد وغيره من أعمال القلب بأنه صادق''
.
وأيضاً فلو أضاف المتكلمون إلى التصديق شيئاً آخر -من أعمال القلب- لا نَجْزم أصلهم وفسدت قاعدتهم التي هي: أن الإيمان شيء واحد لا يتركب ولا يزيد ولا ينقص، ولهذا ألزمهم الإمام
أحمد رحمه الله إلزاماً لا محيص لهم عنه حين قال في رسالته إلى
الجوزجاني: ''وأما من زعم أن الإيمان: الإقرار، فما يقول في المعرفة هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار؟
وهل يحتاج إلى أن يكون مصدقاً بما أقر؟
قال
محمد بن حاتم: وهل يحتاج أن يكون مصدقاً بما عرف؟
فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد زعم أنه من شيئين، وإن زعم أن يكون مقراً ومصدقاً بما عرف فهو من ثلاثة أشياء، فإن جحد وقال: لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق، فقد قال قولاً عظيماً ولا أحسب أحداً يدفع المعرفة.
قال
المروزي: ولا أحسب أحداً يدفع المعرفة والتصديق''
.
ففي هذه الأسطر الموجزة ألزم الإمام
أحمد إلزاماً مفحماً كل طوائف
المرجئة -المتكلمين منهم والفقهاء- الذين يشتركون جميعاً في أصل واحد هو: عدم إدخال أعمال القلب في الإيمان، واعتباره عملاً واحداً فقط؛ إما الإقرار ( الفقهاء ) وإما التصديق والمعرفة ( المتكلمون:
الجهمية و
الأشاعرة و
الماتريدية ) وهو أَلزم شيءٍ للمتكلمين
الأشاعرة و
الماتريدية الذين يفرقون بين مذهبهم ومذهب
جهم بالتفريق بين المعرفة -التي هي قول
جهم- وبين التصديق الذي هو مذهبهم.
فهذا التفريق نفسه يوقعهم في هذا الإلزام ولا مناص، فإما أن يلتزموا القول بأن الإيمان هو التصديق المجرد عن المعرفة -وهو ما لا يتصور أن أحداً يقوله- وإما أن يقولوا: إنه المعرفة مع التصديق، فيبطل أصلهم الثابت، وهو: أنه شيء واحد لا يتركب ولا يتعدد، وحينئذٍ يلزمهم إدخال سائر أعمال القلب كما أدخلوا المعرفة.
والحاصل أن هؤلاء لو تجردوا من لوثة التقيدات المنطقية والتكلفات النظرية التي نقلوها عن
الفلاسفة ونظروا لآيات الوحي المبين -التي عرضنا بعضها- لأثبتوا أعمال القلب جميعها أجزاء من الإيمان القلبي الذي هو أهم شَطْري الإيمان.
2-
المتصوفة:
كان ضَلال
المتصوفة في أعمال القلب من نوع آخر، فالقوم مع اهتمامهم الشديد بها
وتسميتها أحوالاً ومقامات وتفصيل دقائقها، أوقعهم الهوى والابتداع ومتابعة أسلافهم من
صوفية الوثنيين الهنود و
اليونان في تناقضات وتخبطات أخرجت طائفة منهم عن الدين كله.
فمن ذلك ضلالهم في الرضا -الجامع للانقياد والقبول- فقد خرجوا فيه عما كان عليه
السلف إلى معنى فلسفي وثني هو: الرضا المطلق بكل ما في الوجود لأنه من إرادة الله وقدره، حتى اعتقدوا وجوب الرضا بالكفر والفسوق والعصيان ووقعوا في الجبر المحض تحت ستار ما أسموه شهود الحقيقة الكونية!! والاستبصار بسر الله في القدر!!
وضلوا في الرجاء والمحبة؛ حيث افتعلوا بينهما تناقضاً؛ فاحتقروا الرجاء واعتبروه أضعف مقامات المريدين، وغلوا في المحبة حتى أسقطوا ما يقابلها من الخوف، وجعلوا همهم -بزعمهم- عبادة الله لذاته لا طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره وجعلوا ذورة المحبة: الفناء في المحبوب، ولهذا قال فيهم
السلف: ''من عَبَد الله بالحب وحده فهو زنديق'' وأفضى بهم هذا إلى احتقار الجنة والنار، واحتقار مقام الأنبياء، بل اعتقاد الحلول والوحدة عياذاً بالله!!
ومن الناحية العلمية وضعوا قاعدة: (المحبة نار في القلب تحرق ما سوى المحبوب) واتخذوها ذريعة للتنصل من التعبدات التي تشغلهم عن المحبوب -بزعمهم- كالاشتغال بجهاد أعدائه وتعلم دينه وتعليمه، ونشر دعوته بين العالمين.
وضلوا في التوكل؛ فجعلوه سلبية مطلقة، وتواكلاً رخيصاً، وتسولاً للمعطين، وتعمداً لإلحاق الضرر بالنفس، وتركاً للأسباب المشروعة، بل تركاً لأعظم التعبدات -كالدعاء مثلاً- فأسقطوا به وبالمحبة من أعمال القلوب الشيء الكثير، فضلاً عن أنهم غفلوا عن أعظم درجات التوكل وهو: التوكل على الله في إقامة دينه والجهاد في سبيله ومقاومة الكفر والفساد، كما هو توكل الأنبياء.
وضلوا في الزهد؛ فأخرجوه من عمل قلبي إيجابي إلى مظهر سلبي، حتى إنهم حَرَّموا به طلب العلم؛ لأن ذلك كما قالوا: يؤدي إلى تقدير الناس للعالم، وهذا -بزعمهم- ينافي الزهد، وعبّدوا الأمة للفقر، حتى سمُّوا أنفسهم الفقراء وسموا الله تعالى الفقر!!
وبالجملة فلا تكاد تجد شرطاً من شروط لا إله إلا الله، ولا عملاً من أعمال القلب، إلا ولهم فيه ضلال وانحراف، مما كان له أثره العميق في انتشار الظاهرة واقعياً، ولولا أن غرضنا هنا تتبع الظاهرة في الفكر وآراء الفرق لتوسعنا في تفصيل ذلك الذي هو أليق بالواقع والحياة.
3-
المرجئة الفقهاء:
.
وهؤلاء يثبتون أعمال القلب في ذاتها ولا ينكرون أهميتها، لكنهم يجعلونها شيئاً آخر سوى الإيمان، كما يخرجون منه أعمال الجوارح، فإذا سئلوا عن علاقتها بالإيمان قالوا: هي من لوازمه أو ثمراته.
وتأتي خطورة مذهبهم -لا سيما في العصور الأخيرة- من جهة أن الإخلال بشيء من أعمال القلوب -التي يعد الإخلال بها كفراً أو معصية في نظر الشارع- لا يكون -على مذهبهم- إخلالاً بالإيمان -الذي هو الإقرار والتصديق- إلا باللازم والتبع وحسبك بهذا ذريعة إلى التساهل في ذلك
- ولو بمرور الزمن وتطور الظاهرة، ولهذا ألزمهم
أهل السنة إلزاماً لا محيص لهم عنه كما سبق في كلام الإمام
أحمد.
وكذلك يقول شَيْخ الإِسْلامِ
ابن تيمية: ''و
المرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، والأعمال ليست منه، وكان منهم طائفة من فقهاء
الكوفة وعبادها، ولم يكن قولهم مثل قول
جهم، فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمناً إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه، وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم -أي: بخلاف قول
الأشاعرة في هاتين القضيتين-
، لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول
جهم وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضاً''
.
وهنا ينبغي التنبيه على أمر مهم وهو: أن ما ورد عن كثير من التابعين وتلامذتهم في ذم الإرجاء وأهله والتحذير من بدعتهم، إنما المقصود به هؤلاء
المرجئة الفقهاء؛ فإن
جهماً لم يكن قد ظهر بعد، وحتى بعد ظهوره كان بـ
خراسان ولم يعلم عن عقيدته بعض من ذم الإرجاء من علماء
العراق وغيره، الذين كانوا لا يعرفون إلا إرجاء فقهاء
الكوفة ومن اتبعهم،
حتى إن بعض علماء
المغرب كـ
ابن عبد البر لم يذكر إرجاء
الجهمية بالمرة.
ثم حصل في القرن الرابع فصاعداً ما يشبه الاندماج بينهم وبين
الأشاعرة ولم يبق لهم اليوم من وجود إلا بعض الحنفية ومن هؤلاء من يرى الخلاف بينهم وبين
السلف لفظياً فقط، اعتماداً على كلام شارح
الطحاوية وبعض مواضع من كلام شَيْخ الإِسْلامِ
ابن تيمية وقد تقدم بيان الحق في ذلك.
4- طائفة رابعة ليست كأحد من هذه الفرق البدعية:
ولكن خفي عليها مأخذ
السلف، فظهرت بمظهر العجز عن إثبات عقيدتها، ونسبت للتقليد المحض، وأعني بذلك كثيراً من متأخري
أهل السنة الذين لم يقوموا بعمل كافٍ لصد تيار الإرجاء العصري؛ بسبب عدم إدراكهم لبعض أسس العقيدة ومنطلقاتها، ومن ذلك موضوع أعمال القلوب، فقد أعياهم الجواب أمام مطالبة
المرجئة بدليل على شروط لا إله إلا الله من انقياد وقبول ويقين وصدق وإخلاص...إلخ وزعمهم أن هذا من ابتداع
ابن تيمية أو
محمد بن عبد الوهاب الذي لا أصل له في كلام
السلف وهذا ما يعيدنا إلى قضية أهمية أعمال القلوب وضرورة بعث الحديث عنها وبيان منزلتها من الإيمان، فلقد ترتب على إهمالها وإغفالها من الآثار المدمرة في حياة الأمة الشيء الكثير، ومن أعظم ذلك انحسار مفهوم العبادة وتضييقه وانتقاص توحيد الألوهية ووقوع الأمة في الشرك الأكبر، حتى أصبحت
المرجئة في القرون الأخيرة تجاهر بإنكار دخول هذه الأعمال في العبادة والتأله، فقالوا: إن الرجاء والخوف والمحبة والتعظيم والرضا والتسليم والانقياد والطاعة ونحوها من تعبدات القلب -بل الدعاء والاستغاثة بالمخلوقين- لا علاقة لها بالشرك ولا يسمى فاعلها لغير الله مشركاً ما دام يقول: لا إله إلا الله ويعتقد بقلبه صدق الرسول فيما جاء به!!
وإنما الشرك بزعمهم اعتقاد القلب أن هذا المخلوق إله أو رب معبود، والكفر أن يعتقد بقلبه أن ما يفعله من الأعمال كفر، أما إذا عمل أعمال الكفر
مع اعتقاده أن ذلك لا يخرجه من الملة فليس بكافر!!
وقد اصطدمت هذه الفكرة بالعقيدة
السلفية بطبيعة الحال، وجرى بين المنهجين جولات ومعارك، أبرزها المعركة التي دارت أيام شَيْخ الإِسْلامِ
ابن تيمية، ثم الجولة التي دارت بظهور دعوة الشيخ
محمد بن عبد الوهاب وما تزال المعركة قائمة على أشدها وما يزال مذهب
المرجئة هو الطاغي على أكثر بقاع العالم الإسلامي.
وهكذا ظلت هذه القضية هي جوهر كل الدعاوى التي أشهرها المؤلفون الإرجائيون على عقيدة
أهل السنة والجماعة باسم الرد على ما أسموه
الوهابية،
كما أنها ظلت كذلك بعد استفحال شرك التشريع، وظهور الدعاة الذين أعلنوا أن تحكيم غير شرع الله كفر أكبر ينافي شهادة أن لا إله إلا الله.