ولنوضح ذلك بمثالين: أحدهما من أعمال الجوارح والآخر من أعمال القلوب؛ يظهر في كل منهما حقيقة العلاقة التلازمية وحقيقة التفاوت:
1- الصلاة:
وهي من أعمال الجوارح وقد ورد تسميتها إيماناً في القرآن، قال تعالى: ((
ومَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ))[البقرة:143] أي: صلاتكم إلى
بيت المقدس وهي بلا ريب أعظم شعب الإيمان العملية الظاهرة بعد الشهادتين فلو تأملنا لوجدنا أنها تشمل أجزاء الإيمان الأربعة؛ وهي: قول القلب وهو: إقراره وتصديقه بوجوبها، وعمل القلب وهو: الانقياد والإذعان بالإرادة الجازمة، وتحريك الجوارح لفعلها والنية حال أدائها، وعمل اللسان وهو: القراءة والأذكار الواردة فيها، وعمل الجوارح وهو: القيام والركوع والسجود وغيرها.
2- الحياء:
وهو عمل قلبي، وقد صح تسميته إيماناً في حديث الشعب وغيره، ومع ذلك فلا يمكن تصور وجوده في القلب إلا بظهور أثره على اللسان والجوارح وبمقدار حياة الجوارح يقاس حياة القلب.
وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة منها في الأفعال: قصة الثلاثة الذين دخلوا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في الحلقة، فدخل أحدهم فيها، وأعرض الثالث وأما الأوسط فتردد ثم جلس خلفهم، فقال عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
وأما الآخر فاستحيا، فاستحيا الله منه} أي: إنما منعه من الذهاب حياؤه، فشهد له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحياء بناءً على فعله، فلو أنه ذهب لقال فيه ما قال فيمن ذهب.
وأما الحياء في القول، فمنه قول
علي رضي الله عنه: {
كنت رجلاً مذاء، فاستحييت أن أسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله ...}
فما في قلب
علي رضي الله عنه من الحياء منعه من السؤال بنفسه، وهذا مما يعلمه كل إنسان في نفسه؛ أي: متى يستحي وممن يستحي بحسب ما في قلبه.
ثم يأتي بعد هذا مسألة التفاوت في الصلاة والتفاوت في الحياء؛ فصلاة يقترن بها الخشوع وحضور القلب وحسن الأداء، لا تكون كأخرى منقورة نقر الغراب، وكذلك حياء مقرون به زيادة التقوى وحسن السمت وورع اللسان لا يكون كحياء رجل ليس لديه إلا ما يمسكه عما يفعله أو يقوله من لا حياء له.
ومثل هذا التفاوت هو الواقع في الإيمان كله، بحسب كمال الشعب جميعها أو كمال بعضها دون بعض، أو فقدان بعضها بالكلية.
هذا في الأفعال والحال في التروك كذلك، فلنمثل لها أيضاً بمثالين:
1- ترك الزنا:
وهو عمل الجارحة، وهو من الإيمان بدليل نفي الشارع الإيمان عمن فعله، وهو يشمل قول القلب؛ أي: الإقرار بحرمته وتصديق الشارع في ذلك، وعمل القلب وهو: الانقياد والإذعان بالكره والنفور، والإرادة الجازمة لإمساك الجوارح عنه، وعمل الجوارح؛ وهو: الكف عن فعله ومقدماته.
فمن ارتكب هذه الفاحشة بجوارحه فإن عمل قلبه مفقود بلا شك - خاصة حين الفعل لأن الإرادة الجازمة على الترك يستحيل معها وقوع الفعل، فمن هنا نفى الشارع عنه الإيمان تلك اللحظة: {
لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن } لكن وجود قول القلب عنده منع من الحكم بخروجه من الإيمان كله خلافاً
للخوارج، فلو أظهر ما يدل على انتفاء إيمان القلب واستحلاله له؛ لكان خارجاً من الملة عند
أهل السنة والجماعة، أما مجرد الفعل فإنما يدل على انتفاء عمل القلب لا قوله.
2- ترك الحسد:
وهو من أعمال القلب وقد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لا يجتمع والإيمان في قلب
فلا يتصور خلو القلب من الحسد مع وجود آثاره ودلائله على الجوارح، كما لا يستطيع أحد أن يدعي أن فلاناً حسود مع عجزه عن الإتيان بدليل ظاهر من عمله.
وقد أخبرنا الله تعالى عن إخوة يوسف وما صنعوا بأخيهم حسداً له على مكانته من أبيه، ومن المحال أن يصدر منهم هذا مع خلو قلوبهم من الحسد؛ إذ إن أعمال الجوارح إنما هي تنفيذ وتحقيق لإرادة القلب الجازمة، فوجودها في الحالة السوية -أي: حالة عدم الإكراه ونحوه- يقطع بوجود أصلها القلبي.
وهذا بخلاف اتهام المنافقين للصحابة رضي الله عنهم الذي أخبر الله عنه بقوله:
((
فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا))[الفتح:15].
لأن المنافقين ادعوا أن مانع المؤمنين من استصحابهم إياهم إلى المغانم هو الحسد، وهي تهمة لم يأتوا عليها بدليل إلا المنع نفسه، والله تعالى أمر المؤمنين أن يقولوا لهم:
((
لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ))[الفتح:15].
فهذا سبب المنع، فإذا اتهمهم أولئك بعد هذا بالحسد لم يكن لهذا الاتهام موقع.
والمقصود: أنه مع عدم حصول أي دليل أو إشارة للحسد في أعمال أي إنسان لا يصح ولا يقبل من أحد أن يدعي أن قلبه مملوء حسداً، وهذا يعرفه الناس جميعاً -
المرجئة وغيرهم- في سائر أعمال القلوب، لكن
المرجئة تناقض هذا فيما هو أعظم وأهم، فتزعم أنه يمكن أن يكون القلب مملوءاً بالإيمان ولا يظهر من ذلك على الجوارح شيء! بل تزعم وجوده في القلب مع أن أعمال الجوارح كلها بخلافه، في حين أنها لا تصدق أن إنساناً سليم القلب من الحسد إذا كانت أعماله كلها دالة عليه.
نعم، أعمال القلوب هي الأصل، وإيمان القلب هو الأصل، وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
التقوى هاهنا } وقال: {
إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب } ونحو ذلك مما سبق أو سيأتي من النصوص.
ولهذا تحصل حالة شاذة خفية؛ وهي: أن يضعف إيمان القلب ضعفاً لا يبقى معه قدرة على تحريك الجوارح لعمل خير، مثله مثل المريض الفاقد الحركة والإحساس، إلا أن في قلبه نبضاً لا يستطيع الأطباء معه الحكم بوفاته -مع أنه ميئوس من شفائه- فهو ظاهراً في حكم الميت وباطناً لديه هذا القدر الضئيل من الحياة الذي لا حركة معه، وهذه هي حالة الجهنميين الذين يخرجهم الله من النار، مع أنهم لم يعملوا خيراً قط، وسيأتي تفصيل الحديث عن هذه الحالة
وإنما أشرت إليها هنا ليسلم لنا تصور الأصل، حتى إذا تم إيضاحه عرجنا على الحالات الشاذة.
ولقد وصل الشذوذ بـ
المرجئة الغالية -كـ
الأشاعرة ومن حذا حذوهم- إلى حد القول بأن لا إله إلا الله باللسان ليس شرطاً في الإيمان عندهم، بل قالوا: يكفي حصول الإيمان في القلب لنجاة صاحبه عند الله، وأما أحكام الدنيا فإنما جعلت الشهادتان أمارة على ما في القلب لنحكم على قائلها بالإيمان، وهذا هو الغاية من الشهادتين عندهم، وليس لهم على هذا من شبهة إلا شبهة أن الإيمان محله كله القلب وأن ما يظهر على الجوارح مجرد أمارات وثمرات -على ما سبق تفصيله في بابه- وافترضوا تبعاً لذلك من المسائل التي تحيلها العقول الشيء الكثير.
فالقوم لما خفيت عليهم حقيقة الإيمان الجامعة وترابط أجزائه المحكم، وقعوا في هذه الغلطة الكبرى، التي كان لانتشارها من الآثار المدمرة في الأمة الإسلامية ما تنوء بشرحه المجلدات، وحسبك ما وقعت فيه الأمة من شرك أكبر -قديماً وحديثاً- وهي تحسب أنها في ذروة الإيمان؛ لأن القلب مصدق للرسول واللسان ناطق بأن لا إله إلا الله!!
ومن هنا كان لزاماً علينا إيضاح الدلائل القاطعة لـ
أهل السنة والجماعة على أن للقلب أعمالاً سوى التصديق ينخرم الإيمان بانخرامها، وقبل ذلك نبين أهمية قول: لا إله إلا الله، وعلاقة سائر الأقوال المتعبد بها بإيمان القلب؛ تلك العلاقة التي هي علاقة امتزاج وتركيب، ولهذا لم يوجد في مذهب
أهل السنة أبداً استخدام عبارة (مؤمن باطناً، وكافر ظاهراً) ولا إمكان وجود ذلك.