حقيقة الترابط بين أجزاء الإيمان
وأساس فهم هذه القضية أن نعلم حقيقة الترابط بين أجزاء الإيمان على ضوء مذهب السلف.
فقد قررنا أن الإيمان قول وعمل، وأن ذلك يشمل القلب والجوارح معاً، وتفصيل ذلك يتضح بهذا الشكل المبسط:
1- القول :
أ- إقرار القلب وتصديقه :- الإيمان المجمل.
ب- إقرار اللسان وتصديقه:- شهادة أن لا إله إلا الله.
2- العمل :
أ- انقياد القلب وإذعانه :- بتحقيق أعمال القلوب.
ب- انقياد الجوارح وامتثالها :- بفعل الأوامر وترك النواهي.
فهذان الركنان -القول والعمل- أو الأربعة الأجزاء -قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح- يتركب منهما هيئة مجتمعة أو حقيقة جامعة لأمور وهذه الهيئة والحقيقة هي: الإيمان الشرعي، كما أن حقيقة الإنسان مركبة من الجسد والروح أو العقل والوجدان، وكما أن الشجرة تتركب من الجذور الضاربة في الأرض والساق والأغصان الظاهرة.
ومما يوضح ذلك تشبيه تركيب الإيمان بالتركيب الكيميائي؛ مثلما يتركب الملح مثلاً من الكلور والصوديوم، أو يتركب جزيء الماء من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين، بحيث لو انتفى التركيب لانتفت الحقيقة مطلقاً، وتحولت الأجزاء إلى أشياء مختلفة تماماً.
ولكن لا يقف التركيب عند هذا الحد بل يجب أن نضيف إليه أن هذه الأجزاء أو الهيئة المركبة تتكون تفصيلاً من بضع وسبعين شعبة، وكل شعبة منها قابلة للتفاوت، بين أعلى درجات الكمال وأدنى درجات النقص، أو الاضمحلال والعدم.
وبهذا نفهم اندراج كل الأعمال والطاعات فرضاً أو نفلاً في مسمى الإيمان المطلق ودخولها في حقيقته الجامعة، وكما يظهر تفاوت الناس في الإيمان ودرجاته، ومن أظهر الأدلة على هذا التركيب والامتزاج، أنه قد وردت النصوص بتسمية الإيمان عملاً وتسمية العمل إيماناً: فأما تسمية الأعمال إيماناً فنصوص كثيرة جداً، حتى إن البخاري رحمه الله عقد في كتاب الإيمان من الصحيح تراجم كثيرة لذلك؛ مثل '' باب الجهاد من الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان، باب صوم رمضان من الإيمان، باب الصلاة من الإيمان، باب اتباع الجنائز من الإيمان...'' ونحو ذلك، وأورد في ذلك الأحاديث الصحيحة التي شاركه في إخراجها كتب السنة الأخرى.
وأما تسمية الإيمان عملاً فقد عقد أيضاً له '' باب من قال: إن الإيمان هو العمل لقوله تعالى:
((وتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ))[الزخرف:72].
وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى:
((فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ))[الحجر:92-93]. عن قول لا إله إلا الله.
وقال: ((لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ))[الصافات:61] '' .
ثم روى البخاري بسنده عن أبي هريرة {أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئل: أي العمل أفضل؟
فقال: إيمان بالله ورسوله، وقيل: ثم ماذا؟
قال: الجهاد في سبيل الله، وقيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور}
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد عن عبيد الله بن أسلم مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن عبد الله بن حبشي الخثعمي ورواه أبو داود الطيالسي عن أبي هريرة أيضاً، ورواه غيرهم عن أبي ذر
ومن ذلك قوله تعالى: ((ومَا أَمْوَالُكُمْ ولا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ))[سبأ:37]
فقوله: (بما عملوا) يشمل إيمانهم بقلوبهم وأعمالهم الصالحة بجوارحهم المذكورين قبل .
وهذا ما فهمه السلف الصالح وأجمعوا على معناه -كما سبق في فصل حقيقة الإيمان الشرعية- وقال الوليد بن مسلم: ''سمعت الأوزاعي ومالك بن أنس وسعيد بن عبد العزيز ينكرون قول من يقول: إن الإيمان قول بلا عمل. ويقولون: لا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بإيمان'' .
وقد سبق إيراد قول الإمام الأوزاعي رحمه الله: ''كان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، العمل من الإيمان، والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم يجمع كما يجمع هذه الأديان اسمها ويصدقه العمل'' وقول الشافعي رحمه الله: ''وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ أحد الثلاثة إلا بالآخر'' .