وبهذا يظهر للقارئ في كلامه وجوه من التناقض يطول شرحها وتفصيلها.
وإن مما يظهر هذا التناقض وينفي احتمال الخطأ في فهم كلامه ما شرحه به المحقق محمد محيي الدين عبد الحميد، وها هي ذي نصوص منه:
قال في بداية كلامه، بعد أن ذكر المذاهب في الإيمان ومنها مذهب السلف:
'' والذي تطمئن إليه النفس من هذه المذاهب: أن الإيمان هو التصديق وحده، كما ذهب إليه محققو الأشاعرة والماتريدية، ويؤيد هذا المذهب وجوه:
أحدها: وقد أشار إليه الشارع - أن استعمال القرآن الكريم في عدة آيات واستعمال الحديث أيضاً، جرياً على أن محل الإيمان هو القلب.
قال الله تعالى: ((أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ))[المجادلة:22].
وقال سبحانه: (( وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ))[الحجرات:14].
وقال جل ذكره: ((إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ))[النحل:106].
وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اللهم ثبت قلبي على دينك} فدلت هذه النصوص ونظائرها على أن الإيمان فعل القلب، وليس فعل القلب إلا التصديق.
ولا يجوز لقائل أن يقول: إن المراد في هذه النصوص بالإيمان هو الإيمان اللغوي، ويسلم أن الإيمان اللغوي هو التصديق وحده ومحله القلب، فلا ينافي أن الإيمان الشرعي يشتمل على الإقرار أو غيره على أنه جزء من حقيقته؛ لأنا نقول: إن الإيمان من الألفاظ التي نقلت في عرف الشرع إلى معنى، فيجب أن يحمل لفظه على هذا المعنى في خطاب الشرع.
* الوجه الثاني: أنه سبحانه جعل الإيمان شرطاً لصحة الأعمال في نحو قوله جل ذكره: ((وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ))[طه:112].
ونحن نقطع أن الشرط شيء غير المشروط، وهذا يصلح للرد على من جعل الإيمان هو الطاعات وحدها أو مع التصديق والإقرار.
* الوجه الثالث: أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أثبت الإيمان لمن ترك بعض الأعمال، في نحو قوله سبحانه:
((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا...))[الحجرات:9] الآية.
ولو كانت الأعمال جزءاً من حقيقة الإيمان لانتفت الحقيقة بانتفاء جزء منها.
* الوجه الرابع: أنه سبحانه قد عطف الأعمال على الإيمان في كثير من الآيات، منها قوله تعالى:
((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً))[الكهف:107].
ولا شك أن الأصل أن يكون المعطوف غير المعطوف عليه، فلا يعطف أحد المتساويين على الآخر، ولا يعطف جزء الشيء على كله؟! ''
قال: '' وقد أورد القائلون بأن الطاعات من الإيمان وجوهاً استدلوا بها، نرى أن نذكرها لك أيضاً ونبين ما في الاستدلال بها من خلل لتكون على بصيرة تامة في هذه المسألة.
قالوا: لو كان الإيمان عبارة عن التصديق الذي هو الإذعان والقبول والاعتراف لما اختلف في بعض المكلفين عنه في بعضهم الآخر، مع أنا نعتقد أن إيمان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس مثله إيمان أحد من العامة، بل ولا من الخاصة.
ويجاب عن هذا بأحد جوابين:
* الأول: أن ندعي أنه لا اختلاف بين إيمان أحد وأحد، وليس لنا إلا إيمان أو كفر، فإن بلغ ما عند المكلف إلى حد الجزم الذي لا يعتريه شك ولا تردد فهو مؤمن، وإن نقص عن ذلك فهو كافر.
* والثاني: أن نسلم الاختلاف بين إيمان بعض المكلفين وبعضهم الآخر، لكن لا نسلم أن هذا الاختلاف بسبب أن أعمال بعض المكلفين أكثر أو أشد إخلاصاً أو نحو ذلك، بل سبب الاختلاف راجع إلى التصديق لا باعتبار ذاته، بل باعتبار متعلقه؛ فقد يعلم بعض المكلفين تفصيل شيء مما يجب الإيمان به أكثر مما يعلمه آخر، أو سبب الاختلاف هو أن بعض المكلفين تعتريه الغفلة أحياناً وبعضهم لا تعتريه الغفلة أصلاً، أو غير ذلك من الأسباب '' .
وقال في شرح الوجوه التي استدل بها الشارح وهي:
1- أن الإيمان هو التصديق فقط، ولا دليل على نقله.
2- وللنصوص الدالة على الأوامر والنواهي بعد إثبات.
قال:
'' 1- محصله -أي: الوجوه- أن الإيمان هو التصديق القلبي، بدليل أن نصوص القرآن والحديث قد جعلت محله القلب، وليس لنا أن ندعي أنه نقل من هذا المعنى إلى مجموع التصديق والعمل -كما يقول المحدثون وجمهور المعتزلة- فإنه لا دليل على هذا النقل، وأيضاً ليس لنا أن ندعي أن الإيمان في هذه النصوص لا يراد به الإيمان عند الشرع وإنما يراد به الإيمان اللغوي؛ لأن لفظ الإيمان قد نقلته الشريعة من مطلق التصديق إلى التصديق بكل ما علم مجيء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به؛ إذ يجب في نصوص الشريعة أن تحمل الألفاظ على معانيها الشرعية التي نقلت إليها، ومتى علم كل هذا كان الإيمان الوارد في النصوص دالاً على معنى شرعي، وهذا المعنى هو التصديق المخصوص دون شيء زائد عليه ''
''2- محصل هذا الوجه من الاستدلال على أن العمل ليس جزءاً من الإيمان - أن الله تعالى جعلهم مؤمنين قبل أن يكتب عليهم الصيام، فلو كان العمل جزءاً من حقيقة الإيمان، والصيام بعض العمل، لما كانوا مؤمنين إلا بعد القيام بكل الأعمال التي منها الصوم.
وقد قيل من طرف المخالفين: إنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سماهم مؤمنين بالنظر إلى الأعمال التي شرعت قبل الصوم، وهو كلام غير مقبول؛ لأن الأعمال المأخوذة في مفهوم الإيمان عندهم هي كل الأعمال التي شرعها الله تعالى، فإذا خرج واحد منها خرج كلها؛ إذ لا فرق بين عمل وعمل'' .
هذا الكلام الذي قرره المعلق هنا والذي سيأتي نقضه جملة -بإذن الله- هو ما ظل يقرره ويدرسه لطلاب كلية أصول الدين بالأزهر سنوات طويلة!!
وننتقل من محمد محيي الدين عبد الحميد إلى داعية ومؤلف معاصر، سار على الخط نفسه مع زيادة في الغموض والاضطراب.
يقول بعنوان: مفهوم الإيمان والإسلام شرعاً:
''يهمنا أن ندرك معنى الإيمان والإسلام والارتباط بينهما، فالإيمان هو: التصديق الجازم بكل ما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وثبت ثبوتاً قطعياً، وعُلم مجيئه من الدين بالضرورة؛ كالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر خيره وشره.
وكالإيمان بفرضية الصلاة والزكاة والصيام والحج، والإيمان بتحريم القتل ظلماً للنفس المعصومة، وتحريم الزنا والربا وغيرها.
والإيمان بهذا المعنى محله القلب، والإسلام بالمعنى الآتي لازم له.
أما الإسلام فمعناه الإذعان والخضوع النفسي والاطمئنان القلبي، والشعور بالرضا بالنسبة لكل ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من دين، وعلم مجيئه عنه بالضرورة؛ أي بدون احتياج إلى سؤال أو كشف وبحث لشهرته بين المسلمين، ويلاحظ أن الإسلام بالمعنى المذكور هو حالة نفسية وقلبية مثل الإيمان، والفرق بينهما أن الإيمان تصديق جازم بما سبق، وأن الإسلام رضاء قلبي، وعدم اعتراض على أي تشريع شرعه الله تعالى وعلم بالضرورة.
وأنت قد تصدق بوجود شيء ولا ترضاه، وكم سمعنا من يقول: أنا أؤمن بأن الإسلام فرض الصلاة والزكاة، ولكني غير مقتنع بهما ولا بالحكم المترتبة عليهما.
فهذا الاعتراض يجعله غير مسلم؛ لأن عنصر الخضوع والإذعان غير متوفر، وهذا يجعلنا نشك في إيمانه، لأنه لو صدق بالله وبحكمته وعلمه ورحمته لأسلم نفسه ورضي كل ما ارتضاه الله؛ لذلك قلنا: إن الإيمان الصادق يلزم منه الإسلام بالمعنى السابق ''.
'' ...بقي العمل بالتشريعات الإسلامية، مثل: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وجميع الفرائض، والبعد عما حرم الله ونهى عنه.
هل لا بد من تنفيذ الفرائض الإسلامية وترك المحرمات مع الإذعان السابق ليصير المرء مسلماً، أم يكفي الإذعان في إطلاق اسم الإسلام على الإنسان؟
هما رأيان للعلماء: فالجمهور على أن تنفيذ أوامر الإسلام، والعمل بما جاء به ليس شرطاً ولا ركناً في جواز إطلاق اسم الإسلام على الإنسان، وبعض العلماء يرى: أن العمل وتنفيذ أوامر الإسلام وأركانه شرط في صحة الإسلام، أو ركن من أركانه، فمن أسلم وأذعن بقلبه ولم يعمل الأعمال الإسلامية مثل الصلاة وغيرها فليس بمسلم.
وعلى الرأي القائل بأن من أذعن بقلبه ولم يعمل أعمال الإسلام فهو مسلم -وهو رأي الجمهور- فإن هذا الإنسان عند القائلين بهذا الرأي يعتبر فاسقاً وعاصياً، فيطلقون عليه اسم: المسلم الفاسق، والمسلم العاصي، والمسلم المذنب، وتقام عليه حدود الإسلام التي شرعها زجراً وتأديباً لمن ترك فرضاً أو فعل منكراً، فافهم ذلك جيداً.
وهذا المسلم الفاسق أمره إلى الله في الآخرة؛ إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه بجريمته، ولكن مآله الجنة، إن كان قد مات على الإيمان والإسلام، وهذا هو رأي أهل السنة، قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ))[النساء:48].
والإسلام بهذا المعنى محله ظاهر الإنسان وباطنه؛ لأن الإذعان بالدين والرضا به أمر باطني، والخضوع لأحكامه أمر ظاهري، وعلى هذا فالإسلام أعم من الإيمان، والإيمان أخص من الإسلام، والإيمان باطني فقط، والإسلام ظاهري وباطني.
ونحن نحكم على الناس بالإسلام حين يكونون مذعنين ظاهراً لأحكام الله، غير رافضين لها، بمعنى أن أعمالهم وأقوالهم وتصرفاتهم لا تدل على رفضها وعدم الإذعان لها، أما بواطنهم فلا يعلمها إلا الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية، ولذلك فضح الله تعالى أناساً أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر في قوله تعالى: ((قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ))[الحجرات:14] '' .
ثم قال ملخصاً:
'' وحسبما فهمت من معنى الإيمان والإسلام ندرك أن بين الإيمان والإسلام -حسب الحقيقة الشرعية المنجية- تلازماً، مقتضاه: أن كل مؤمن مسلم، وكل مسلم مؤمن؛ لأن المصدق التصديق المذكور للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا بد من أن يكون خاضعاً لما جاء به عليه السلام، والخاضع هذا الخضوع لا بد من أن يكون مصدقاً هذا التصديق ''
'' ولذلك ذكر الإيمان والإسلام في القرآن بمعنى واحد في قوله تعالى:
(( فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ))[الذاريات:35-36] . ''
ثم قال المؤلف بعنوان:
'' حكم النطق بالشهادتين:
الشهادتان هما: [ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ]، والنطق بهما شرط لإجراء الأحكام الدنيوية على المسلم؛ مثل تزويجه المسلمة، والصلاة خلفه، والصلاة عليه إذا مات، ودفنه في مقابر المسلمين، فإذا لم ينطق لعذر كالخرس، أو لم يتمكن من النطق بهما بأن مات عقب إيمانه بقلبه - فهو ناج عند الله تعالى.
أما إذا استطاع النطق ووجد وقتاً كافياً ولم ينطق بالشهادتين؛ فإن كان عدم النطق عناداً فهو كفر، ولا عبرة بالتصديق القلبي، أما إذا كان عدم النطق لخوفه من الهلاك فالإيمان صحيح، لقوله تعالى:
((إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ))[النحل:106].
أما من لم ينطق بالشهادتين لغير سبب من الأسباب، ولكنه مصدق بقلبه ومطمئن إلى دين الله وأحكامه، فالقول الراجح أنه ناج عند الله، وإن كان لا يعامل معاملة المسلمين لعدم العلم بإيمانه، وعدم الدليل عليه، وهذا كله فيمن يريد الدخول في الإسلام، أما أولاد المؤمنين فهم مؤمنون، وإن لم يحصل منهم نطق بالشهادتين إلا إذا ظهر منهم ما يتنافى مع الإيمان '' .
ويقول مؤلف معاصر آخر:
'' فالإسلام إذن: استسلام بالكيان الظاهري للإنسان، يتوقف عليه جريان أحكام الإسلام في الدنيا؛ من إحراز للدم وحل للمناكحة وشرعية التوارث.
أما الإيمان: فهو التصديق القلبي بكل ذلك، بحيث لا يبقى أي شك في النفس يتعلق بشيء مما ذكرناه من حقائق الإسلام، ويتوقف عليه النجاة يوم القيامة بين يدي الله عز وجل.
ويتضح من ذلك أن الإنسان لا تجري عليه أحكام الإسلام في كل من الدنيا والآخرة معاً إلا إذا اتصف بكل من الإسلام والإيمان، وذلك بأن يذعن بقلبه ويعترف بلسانه.
ومهما نطق الإنسان بالشهادتين فإن ذلك لا يغنيه في الحقيقة شيئاً ما لم يصدق ويذعن بذلك في قرارة قلبه، وإنما تجري أحكام الدنيا على الظاهر فقط لعدم إمكان اطلاعنا على الباطن، وحملاً للسان على محمل الصدق في الكلام.
إلا أنه قد وقع الخلاف بين الأمة فيما إذا كان الرجل مؤمناً بقلبه فقط، هل ينجيه ذلك يوم القيامة أم لا يكتفى منه بذلك حتى يقر ويعترف بلسانه أيضاً؟
نقل النووي عن جمع من العلماء أن اليقين القلبي وحده لا يكفي للنجاة يوم القيامة إذا كان بالإمكان الإقرار والتلفظ باللسان.
ورجح ابن حجر في شرحه على الأربعين النووية ما ذهب إليه جمهور الأشاعرة وبعض محققي الحنفية من أن الإقرار باللسان إنما هو شرط لإجراء أحكام الدنيا فقط، أما يوم القيامة فيكفيه اليقين القلبي!! ''
وهكذا يتفق قدماء القوم ومعاصروهم على هذا الأصل الخطير الذي سوف نوضح مخالفته التامة للحق في الباب الآتي.