القضية الأولى
إنه من المعلوم في كل العلوم والفنون أن أصحابها يبحثون فيها دون العروج على التعريف المنطقي لمفرداتها، بل يكتفون بالاسم المتعارف عليه أو الموضوع في أصل اللغة، وهذا في علوم العصر أجلى وأشهر، حيث عزف الفكر الغربي الحديث عن المنطق التقليدي (الكلاسيكي) جملة، كما أن هذا هو الحال بالطبع قبل أن يوجد أرسطو ومنطقه.
ثم إن المقصود من التعريف -عند أصحاب العلوم جميعاً ما عدا الفلسفة والمنطق- هو تمييز الشيء عن غيره، بحيث لا يشتبه به وهذا هو المراد من كونه جامعاً مانعاً، وعلى هذا جرى الفقهاء والأصوليون والنحويون وغيرهم؛ كالكيميائيين والرياضيين ونحوهم، فأي وصف جامع مانع يكفي للتعريف، ولو كان عرضياً في نظر المناطقة .
بل المتكلمون أنفسهم كانوا على هذا الأصل - حتى مال بعضهم إلى كلام الفلاسفة المنتسبين للإسلام فأصابتهم لوثتهم .
أما الأصوليون فلم يكونوا يدخلون المنطق في مباحثهم أصلاً، ولهذا عاب العلماء على أبي حامد الغزالي أنه فعل ذلك في أول المستصفى، وقال: إنه مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط به فلا ثقة بعلومه أصلاً، ثم تلاه من تلاه.
والمقصود: أن القدماء من علماء النحو والأصول -وهما من أهم علوم الوسائل- كانوا يعرّفون الشيء بما يميزه عن غيره؛ كالتعريف بالمثال؛ فيقول النحويون: الفعل مثل: ضرب، والاسم مثل: زيد، والحرف مثل: في...وهكذا.
ويقول الأصوليون: الأمر مثل: أقيموا الصلاة، والنهي مثل: لا تقربوا الزنا، والعام مثل: كذا، والخاص مثل: كذا...وهكذا.
فلما فسدت الفطر والعقول على النحو الذي عبر عنه الإمام الشافعي بقوله: ''ما جهل الناس واختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس '' ظهر الاضطراب والاختلافات الكثيرة في معاني المفردات الواضحة البدهية، فاختلف النحويون في تعريف الاسم إلى أكثر من سبعين قولاً، واضطر كثير من الأصوليين إلى الاعتراف بعسر وضع حدٍ للعلم!! وما ذلك إلا لأنهم حاولوا وضع تعريف للشيء من حيث هو هو، أو من حيث هو في ذاته - كما يقولون.
وهكذا الحال في علم الكلام، الذي هو علم بدعي من أصله كما نص على ذلك أئمة الإسلام.
فإن المتكلمين الأوائل عرفوا الإيمان بالتصديق أو بالمعرفة، وهو شرح لغوي لمعنى الكلمة في الشرع -بزعمهم- ولهذا يحتجون عليه باللغة، سواء قالوا: إن الشارع نقل المعنى اللغوي أو لم ينقله؛ إذ هم مختلفون في ذلك.
فلما تأثر المتكلمون بالمنهج الفلسفي المنطقي، وانتقلوا بالتعريف من الغرض المعهود في كل العلوم إلى الغرض الفلسفي اليوناني خاضوا خوضاً تجريدياً جدلياً في ماهية الإيمان المجردة ولوازمها الداخلة -الذاتية- ولوازمها الخارجة -العرضية- وخرجوا على منهج أسلافهم، فأصبحوا يجعلون تعريف الإيمان بأنه التصديق تعريفاً لغوياً فقط، ثم يتبعونه بالتعريف الاصطلاحي الذي هو تعريف له من حيث هو هو -كما يقولون- فيأتون بتعريف سائر على قواعد المنطق كقولهم: الاعتقاد الجازم المطابق للواقع بالدليل أوالتصديق بما جاء به الرسول وثبت عنه بالضرورة -جملة أو تفصيلاً - وهكذا نحوها من العبارات المختلفة.
وليس الغرض الآن مناقشة هذه التعريفات، وإنما هو بيان أصل استمدادها الذي يغني تلقائياً عن الحديث عن فسادها، وأهم من ذلك هو ما رتب عليها من نتيجة بالغة الخطورة؛ وهي عدم إدخال العمل في حقيقته، كما سيأتي إيضاحه.
فأصل هذه التعريفات هو التقليد الأعمى للمناطقة اليونان، الذين كان غرضهم من المنطق ومن مبحث الحدود خاصة هو تصور الماهية من حيث هي هي، وإثبات الذوات المجردة، ليتوصلوا بذلك إلى إثبات حقائق الأشياء التي أنكرها خصومهم السفسطيون .
والمعركة بين فلاسفة اليونان والسفسطيين معركة جدلية ذهنية لا تتعدى نطاق الخيالات والفروض المجردة، ولا مساس لها بواقع حياة الناس من حيث الصلاح والفساد والخير والشر والهدى والضلال، بل لا أثر لها عند غير المشتغلين بها من أهل ملتهم وبني جنسهم، وهذا وحده كاف لاستغناء أي أمة من الأمم عنها، فما بالك بأمة الوحي المعصوم؟!
ويا ليت أن المنتسبين للإسلام إذا نقلوها حصروها -كما هي عند أهلها- في قضايا الذهن المجردة، ولكنهم طعنوا بها في صميم الدين، ليس في التوحيد والصفات فحسب، بل في مبحث الإيمان أيضاً!!
وذلك أن البحث في ماهية الإيمان المجردة - بزعمهم - والتفريق بين لوازمها الذاتية والعرضية أدى بهم إلى الحكم بأن العمل ليس داخلاً في الماهية ولا من اللوازم العرضية، وإنما هو من قبيل العرض العام.
ومع يقيني بأن هذا تحكم محض لا تقتضيه قواعد المنطق بالضرورة، فإني لا أشك أن مجرد الخوض المنطقي سيؤدي إلى مثل هذه النتيجة الخطأ؛ لأن طابعه التجريدي العام يتنافى مع إدخال العمل.
ولست تجد منطقياً متمكناً إلا وهو مقر بأن التفريق بين الذاتيات والعرضيات متعذر أو متعسر ، وإن كان أكثر إنصافاً فسيعترف بحقيقة أن هذه الأحكام كلها تعود إلى تقديرات وفرضيات ذاتية، ولهذا يجوز -كما هو الواقع- أن تختلف ما بين إنسان وآخر.
فإذا وضعنا في الاعتبار المعركة الجدلية الطويلة بين الفرق الإسلامية وحرص النفوس على الانتصار، ولو كان بتصيد الشبهات البعيدة وتعسف الاستدلالات - أدركنا مدى التحكم والاعتباط في استخدام علم المنطق، بل ربما كان هذا الدافع النفسي الكامن هو السبب في تقديس المنطق، مع علم القوم بما فيه وإمكان الاستغناء المطلق عنه.
ولإيضاح كون تعريف الإيمان بأنه قول وعمل من قبيل التعريف بالعرض العام، نقول:
إن العرض العام عندهم هوالكلي الخارج عن الماهية، الذي يقال عليها وعلى غيرها فهو أعم منها، ومن هنا كان هو الكلي الوحيد من الكليات الخمس الذي لا يصح أن يدخل في التعريفات، وإنما ذكروه معها على سبيل التمييز .
فهو لا يصلح جواباً عن الماهية أصلاً، كما يمثلون لذلك بلفظ (الماشي) في جواب (ما الإنسان؟) فلو عرف أحد (الإنسان) بأنه (الماشي) لكان خطأ؛ لأن المشي خارج عن ماهيته، ويطلق عليه وعلى غيره؛ كالفرس والقطار ونحو ذلك.
فهذا وجه نقدهم لتعريف السلف، ومن الإنصاف أن نقول: إن بعضهم ينقدون التعريف على أنه تعريف المعتزلة والخوارج - في حين يتجاسر بعضهم على التهجم على السلف، ولكن الجميع لا يعذرون بجهلهم الفرق بين مذهب السلف ومذهب المعتزلة والخوارج.
والباحث يعجب أن يقع ذلك من المتكلمين المحترفين الذين يجمعون شواذَّ الأقوال ويذكرون ساقط المذاهب، ومع هذا يجعلون مذهب سلف الأمة وأئمتها المقتدى بهم ومذهب الخوارج والمعتزلة سواء، أو يذكرون المذاهب كلها -حتى ما انقرض منها- إلا مذهب السلف، مع أنهم في معرض التقسيم والحصر.
وأعجب من ذلك وأسوأ أن يقوم بعضهم بتحريف كلام السلف ليوافق رأيه ومذهبه - كما فعل أبو حامد الغزالي وشارح كلامه الزبيدي، فقد قالا شرحاً لقول السلف ومن اتبعهم: ''إن الإيمان يزيد وينقص'' ''وفيه دليل على أن العمل بالجوارح (ليس من أجزاء الإيمان) التي تتركب منها ماهيته، [ و] لا من [ أركان وجوده ] بحيث لا يوجد ولا يتحقق إلا به، كما هو شأن الركنية، [ بل هو مزيد عليه، ويزيد به ] إذا وجد معه وينقص إذا انعدم.
[ والزائد موجود والناقص موجود ] وهو العمل، [ و] لا يخفى أن [ الشيء لا يزيد بذاته، فلا يجوز أن يقال الإنسان يزيد برأسه ]؛ لأنه جزؤه الذي تتم به إنسانيته، [ بل يقال: يزيد بلحيته ]...، [ وسمته] هو السكينة والوقار.
ولا يجوز أن يقال: الصلاة تزيد بالركوع والسجود؛ فإنهما من صلب الصلاة كما يعرف من حدها الشرعي -ذات ركوع وسجود- [ بل تزيد بالآداب والسنن الواردة في السنة... ]
[ فهذا تصريح بأن الإيمان له وجود ] في حد ذاته، [ ثم بعد الوجود تختلف حاله بالزيادة والنقصان ]، ويفهم منه أن الزيادة والنقصان باعتبار جهات هي غير نفس الذات '' ا هـ .
فـالغزالي يثبت أن للإيمان وجوداً ذاتياً يتجرد عن وصف الزيادة والنقص، وهما (الزيادة والنقص) عرضان يطرآن على تلك الذات، وقد استخراج ذلك من عبارة السلف مدعياً في أول كلامه أن هذا هو الفهم الصحيح لها.
وسيأتي بحث قضية الوجود الذاتي في الفقرة التالية، غير أنه لا بد هنا من بيان ما في كلامه من نوع المغالطة والحيدة عن موضع النزاع.
أما المغالطة ففي استدلاله بكون الشيء يزيد وينقص على أن له ماهية واقعية معينة، لم يزدد أو ينقص إلا بعد وجودها، فهذا كما لو قيل لك: كم مال زيد من الناس؟ فقلت: يزيد وينقص.
فإن السائل لا يستنتج الجواب أن لماله مقداراً محدداً؛ يزيد عنه مرة وينقص عنه أخرى مع ثبات هذا المقدار في الوجود والخارج، بل لو حددت المقدار فقلت: يزيد حتى يصل الألف، وينقص حتى يصل الصفر، فإن السائل -وغيرهم- لا يفهم أن لماله حداً مقرراً هو خمسمائة -مثلاً- وهذه الخمسمائة موجودة على الحقيقة، وإنما هذا من صنيع الذهن وحده، كما أن المتوسط الحسابي في الرياضيات هو عملية عقلية لا وجود لمدلولها في الواقع، حتى لو كان مستخرجاً من أرقام واقعية، فكيف بمسألة الإيمان الذي هو أمر معنوي بطبعه؟
والفهم الصحيح لعبارة السلف: أن إيمان كل إنسان قابل للزيادة والنقصان كل وقت، وعليه فالزيادة والنقص هما بالنسبة لمستوى الإيمان وحاله وقت وقوع أي منهما، لا بالنسبة لمستوى ثابت محدد في حق كل أحد في كل وقت.
ومما يوضح ذلك: أن السلف لا يعتبرون مجرد نقص الإيمان كفراً، ولو أنهم اعتقدوا أن له حداً معيناً ثابتاً وقد يزيد عليه أو ينقص عنه لوافقوا أكثر المرجئة القائلين بأن نقصه كفر؛ فإن هذه هي أعظم شبهة يحتج بها أولئك، وهي مبنية على قولهم: إن التصديق قدر ثابت، متى نقص صار شكاً، ومتى قبل الزيادة صار ناقصاً فهو شك أيضاً، فمن هنا أنكروا الزيادة والنقصان.
وبهذا يظهر أنه مع اشتراك كل المرجئة في الخطأ -الذي هو تصور حد معين ثابت- يتفرد القائلون بإثبات الزيادة والنقصان بزيادة فيه؛ وهو إنكارهم لأول عبارة السلف -أي: قول وعمل- وإيمانهم بآخرها -يزيد وينقص- مع تأويله بما يوافق مذهبهم.
وأما الحيدة عن موضع النزاع -في كلام أبي حامد- ففي قوله: لا يزيد بذاته... إلخ؛ فإن السلف لم يقولوا: إن الشيء يزيد بذاته، وإنما موضع النزاع هو هل الشيء تزيد ذاته وتنقص أم لا؟
فالسلف يدخلون الأعمال في ذات الإيمان وحقيقته، ولا يقولون: إنها زائدة على الذات كـالمرجئة، وما ذكره من الأمثلة هي عليه لا له؛ فإن السلف لا يقولون: إن الإنسان يزيد برأسه، ولا إن الصلاة تزيد بالركوع، وإنما يقولون ما معناه: إن الإنسان في حقيقته المجتمعة قابل للزيادة والنقص، والصلاة في حقيقتها قابلة للزيادة والنقص؛ فإن الإنسان يمكن أن يكون عملاقاً وأن يكون قزماً، ويمكن أن يقتطع منه عضو كبير أو صغير، وكذلك الصلاة يمكن أن تقع تامة وأن تقع ناقصة، والنقص يتفاوت من ترك الركن إلى ترك المستحب.
وهذا مثل جميع الأعيان والذوات الواقعة في الخارج كالشجرة والكتاب ونحوها، فمسمى الشجرة والكتاب يقبل الزيادة والنقصان إذا تعين خارج الذهن؛ فتقول: هذه الشجرة كبيرة أو صغيرة، وكتاب كذا صغير أو كبير ونحو ذلك، ولا يدل ذلك على وجود ذاتي معين للمسمى نقيس به الزيادة والنقصان.
فقول الغزالي والزبيدي: '' فهذا تصريح بأن الإيمان له وجود في حد ذاته، ثم بعد الوجود تختلف حاله... '' هو خلط بيّن بين ما في الأذهان مجرداً وما في الوجود معيناً، فهو كما لو قيل: الإنسان له وجود في ذاته، ثم بعد الوجود تختلف حاله بين أن يكون طفلاً أو رجلاً، أو الشجرة أو الكتاب لكل منهما وجود في ذاته، ثم بعد الوجود تختلف حاله في الصغر والكبر ونحو ذلك.
فمن الواضح أن -وجود هذه الحقائق في حد ذاتها- لا يزيد عن كونه تقديراً ذهنياً، وأن ما يوجد في الواقع لا يوجد إلا مقيداً موصوفاً، فليس هناك وجود واقعي مطلق من كل قيد ووصف -إلا في وهم فلاسفة اليونان ومن اتبعهم كـالغزالي وأمثاله- كما سيتضح في الفقرة التالية.
وعلى ضوء هذه الحقائق نستطيع أن ننظر إلى تعريف السلف للإيمان وإلى ما هو أعظم من ذلك؛ وهو ما عرفه به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه.
فـالسلف حين قالوا: إن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، لم يقصدوا الخوض في هذه المتاهات الفلسفية أصلاً، ولم يريدوا بهذه العبارة حقيقة التعريف العامة فضلاً عن أن يقصدوا التعريف المنطقي بالذات.
أي إنهم لم يقصدوا تمييز الماهية عن غيرها -كالعادة في عامة العلوم- فضلاً عن أن يأتوا بحدٍ خاص يصورها من حيث هي هي - كالشأن في المنطق.
وإنما غرضهم بيان حقيقته الشرعية ووصفها بما يظهر بطلان دعوى من زعم أنه اعتقاد مجرد لا يدخل العمل فيه، واشتقوا هذا البيان والوصف من فهم متكامل لنصوص الوحي فيه، ومن واقع حي عاشوه وتربوا عليه.
وإذ قد بينا الفارق الجوهري بين غرض فلاسفة اليونان -ومن اقتفاهم من المتكلمين- من التعريف، وبين غرض سائر أرباب العلوم والفنون منه - ومنهم قدماء المتكلمين، فما بالك بالفارق بين غرض هؤلاء جميعاً وبين سلف الأمة الصالح؟
فأما تمييز الإيمان عن غيره، فلعمر الحق ما على وجه الأرض أعرف عند المسلمين من الإيمان -الذي هو دينهم- ولا بعد بيان الله ورسوله له بيان، ولقد كان عوام المسلمين قبل ظهور لوثة الفلسفة وبعدها أرفع عقلاً من أن يسألوا عما يميز الإيمان عن غيره، أو يرتابوا في زيادته ونقصانه، وعلى هذا أكثر المسلمين ولله الحمد، لا يشذ عنه إلا من فسدت فطرته بالتفلسف والتمنطق، فما بالك بالصدر الأول وعلماء السلف الأجلاء؟!
ولولا هذا ما تواردت أذهانهم واتفقت كلمتهم في وقت واحد دون تشاور أو تواطؤ على عبارة واحدة - كما روى عنهم الإمام البخاري رحمه الله، قال: ''كتبت عن ألف نفر من العلماء وزيادة، ولم أكتب إلا عمن قال: الإيمان قول وعمل، ولم أكتب عمن قال: الإيمان قول'' أهـ.
وأما إن كان المراد من التعريف هو تصوير الماهية وإثبات الكليات المجردة خارج الذهن -على ما يزعمه هؤلاء- فهذا هو المحال بعينه، وقد نزه الله هذه الأمة -إلا من أبى- عن التكلف فيما لا قبل لها به.
والمناطقة من أولهم إلى آخرهم قد تكلفوا وضع حد منطقي لماهية الإنسان وحقيقته المجردة، واعتصروا أدمغتهم فلم يستطيعوا أن يأتوا بحدٍ لا اعتراض عليه بينهم، وأشهر حدودهم هو -كما ذكرنا- حيوان ناطق، وعليه من الاعتراضات ما لا يستطيعون رده.
فكيف يكون حالهم في الحقائق الشرعية المعنوية والغيبيات عامة؟! هذا مع أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أراحنا وهدانا وبين لنا الإيمان المطلوب منا، ولم يكلفنا أن نبحث في ماهية مطلقة له فكيف يظن هؤلاء أنه تعالى يرضى أن يردوا ما أنزل في كتابه وعلى لسان نبيه من الحق بما يرتبونه على إثبات هذه الماهية المختلفة؟!!
ولو أننا تنزلنا مع المناطقة أكثر من هذا لقلنا: إن المناطقة يقررون أن للسؤال أداتين هما: ما، وأي؛ فالأولى للسؤال عن الماهية الحقيقة، والأخرى يسأل بها عن المميز عما يشاركه في الجنس.
وقد صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أجاب عن هذين السؤالين في الإيمان؛ ففي حديث وفد عبد القيس سألهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه: {أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة....} إلخ الحديث.
وفي حديث جبريل -عليه السلام- أنه سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما الإيمان -أو: أخبرني عن الإيمان؟- وهما روايتان صحيحتان -والمؤدى واحد؛ وهو تمييز الإيمان الخاص عن الإسلام الخاص، فإنه سأله عنهما معاً، وكلاهما يشترك في اسم الدين- كما قال في آخر الحديث: {هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم، أويعلمكم دينكم}.
وعليه ترجم البخاري للباب بقوله: '' باب سؤال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإيمان والإسلام والإحسان...ثم قال: جاء جبريل عليه السلام يعلمكم دينكم؛ فجعل ذلك كله ديناً ''.
وقال البخاري عقب انتهاء الحديث: '' جعل ذلك كله من الإيمان '' أي: الإيمان العام المرادف للدين.
والمقصود أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجاب من هو خالي الذهن عن حقيقة الإيمان -أو في منزلة خالي الذهن- بالجواب المعروف الذي لا علاقة له قط بالجواب المنطقي -الذي ينتج عنه تصور الماهية، والذي يذكر فيه الجنس والفصل، أو الفصل وحده، أو الخاصة وحدها... إلخ- ومع ذلك حصل به المراد على أتم وجه وأجلى بيان.
ولم يكتف بعدوله عن ذلك، بل أعاد اللفظ المسئول عنه في الجواب؛ فإن جبريل سأله: ما الإيمان؟ فأجاب: أن تؤمن بالله.... وهذا مما لا يقره المناطقة؛ لأنه تعريف للشيء بنفسه يلزم منه الدور!!
فهاهنا أمر عظيم وموقف خطير، وهو أن أحد التعريفين خطأ شرعاً: إما تعريف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإما تعريف المتكلمين الجاري على قواعد المنطق!!
ونحن لا كلام لنا إلا مع من يؤمن بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً، وإليه نوجه السؤال! وأما الكافر برسالته فلا كلام معه؛ لأنه -على الأقل- لا يدعي أن تعريفه المنطقي تعريف شرعي، ولا أحد من المسلمين يتلقى عنه دينه، وهو كافر بما هو أعظم من هذا.
ولا مخلص للمتكلمين إلا بالإقرار بخطأ المنهج المنطقي -إن لم يكن في كل شيء ففي الشرعيات على الأقل- اللهم إلا أن يقولوا: إن كلامنا هذا فلسفة محضة لا علاقة لها بالشرع، وعليهم حينئذ أن يجردوا كتب العقيدة من هذا كله، وينفوا عن أنفسهم صفة الاشتغال بعلم التوحيد كما يسمونه.
وليت الأمر اقتصر على المتكلمين، ولكنه تجاوزهم إلى شراح السنة الذين تأثر بعضهم بهؤلاء، ونقلوا كلامهم في مباحث الإيمان وعارضوا به إجماع السلف -كما سيأتي مفرقاً- ومنه هذه المسألة:
فإن الحافظ ابن حجر والطيـبي والكرماني تأثروا بذلك -ربما بدون شعور- حين استشكلوا لماذا لم يجب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل بأنه التصديق!! وخرّجوا ذلك بأنه سأله عن متعلقات الإيمان لا عن معنى لفظه! أو أن في الجواب تضميناً للمعنى اللغوي! أو أن المراد من المحدود الإيمان الشرعي، ومن الحد الإيمان اللغوي!
فالمتمنطقون من المتكلمين -وهم أكثر المتأخرين كما سبق- افترضوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنزلة أرسطو أو فرفريوس وهو يناظر السفسطيين!!
والآخرون - ومن تأثر بهم من الشراح - افترضوه بمنزلة الخليل بن أحمد أو الأصمعي وهو يجيب الناس عن معاني الألفاظ اللغوية!
والله تعالى نزه نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الخوض الفلسفي في المطلقات والماهيات المجردة وسائر مباحثهم، بل نزه أصحابه الذين جاء جبريل يعلمهم دينهم أن يكون فيهم من ينكر حقيقة الإيمان، بل كفار قريش سائر العرب لم يعرفوا السفسطة، كما لم تعرفها أمة سوية على ظهر الأرض.
أما مجرد الشرح اللغوي؛ فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجل شأناً من أن يكون هو همه في مثل هذه المقامات العليا من التعليم؛ حيث الأمر يتعلق بأصل الدين وأسمائه وأصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يحتاجون أن يتعلموا لغتهم، ولو أرادوا ذلك لأمكنهم من غير طريقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو معها، كما أن مجيء جبريل عليه السلام أعظم قدراً من أن يكون لمجرد التعريف اللغوي.
فظهر من هذا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مقام التعليم الشرعي أجاب الجواب الشرعي الكامل الذي لا يجوز العدول عنه - سواء ما ورد في هذين الحديثين أو في غيرهما - كحديث الشُّعب، فلا وجه للاستشكال أصلاً، وأن قول السلف: قول وعمل يزيد وينقص، هي أصدق عبارة في الكشف عما تضمنته هذه الأحاديث - مع الآيات - من معنى، وأن ما أطال فيه المتكلمون من التفلسف وأرغمونا على الإطالة في رده لا يجوز التعريج عليه، وهذا ما نزيده إيضاحاً بالفقرات التالية لهذه.