ولست في معرض الحديث عن أسباب تقبل هذا الغزو المدمر، لكني لا أرى بداً من التعرض لذكر سببين رئيسيين له. إن لم يكونا السببين الرئيسين! وهما:
1- التخطيط التآمري لأعداء الإسلام:
الذي انتهج أمكر الأساليب، ومنها: الغزو من الداخل، وما ظاهرة الزندقة إلا رأس من رءوس أفاعي الظلام، التي أكل الحقد قلوبها فقذفته سموماً من الآراء والبدع والفلسفات الهدامة.
والمتأمل لرءوس الضلالة يجد طائفة منهم تنتمي للأديان والفلسفات التي سحقها الإسلام وحرر منها العباد مثل:
بشر المريسي ((يهودي)
عبد الله بن المقفع (مجوسي)،
إبراهيم النظام (برهمي)
عبدك الصوفي (ثيوصوفي))
.
وقد عرف الهدامون كيف يدخلون من أوسع الأبواب بالتدسس إلى السلطة الحاكمة والتأثير فيها لكي تتقبل هذه الأفكار، والناس من بعد لهم تبع.
وهكذا وقع لـ
خالد بن يزيد الأموي و
المأمون العباسي -وإن كان الأول أقل- وغيرهما ممن أغرته هذه الفلسفات، على أن هذا السبب يظل أقل السببين شأناً، فإن الأمة الإسلامية متى كانت مستقيمة على الإيمان لم يضرها كيد كائد ولا عداوة حاقد ((
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا)) [آل عمران:120].
2- المنهج التوفيقي:
إن الإيمان بالله ورسوله يحتم على الأمة الإسلامية أن تتمسك بمصدر الحق المعصوم الذي مَنَّ الله به عليها دون سائر الأمم، وألا تتلقى من غيره فيما كفاها مؤنته، بل تحكمه في كل ما تأخذ وما تذر، وهذا أصل قطعي كلي تضافرت للدلالة عليه الآيات والأحاديث.
ومنها: عن
جابر بن عبد الله {
أن عمر بن الخطاب أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب، فقرأه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فغضب فقال: أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو باطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني }
فهذا الموقف يرسم منهج التعامل مع الوحي المنسوخ، فكيف بالفكر البشري المحض الذي سماه الله تعالى: [ هوى وظناً وخرصاً وإفكاً...]، وهي كلها أسماء يدخل في مسماها دخولاً أولياً ما يسمى (الفلسفة الميتافيزيقية) وما تفرع عنها.
وحسبك أن الله تعالى قال:
((
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً))[الكهف:51].
فهذه الآية نسفت كل النظريات والفلسفات المخالفة للوحي -الكوني منها والإنساني- ووسمت أصحابها باسم [المضلين] وما كانوا دائماً إلا كذلك!
وعلى هذا المنهج سار
عمر بن الخطاب -نفسه- '' فإنه لما فتحت
أرض فارس ووجدوا فيها كتباً كثيرة، كتب
سعد بن أبي وقاص إلى
عمر بن الخطاب ليستأذن في شأنها وتنقيلها للمسلمين، فكتب إليه
عمر أن اطرحوها في الماء، فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه، وإن يكن ضلالاً فقد كفانا الله! فطرحوها في الماء أو في النار ''
.
وعليه -كذلك- كان موقف أئمة الإسلام وعلماء الملة؛ كالأئمة الأربعة و
وكيع و
ابن المبارك والسفيانين و
الفضيل...وغيرهم ممن سبقهم أو لحقهم.
وعلى هذا ثبتت
الطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة في كل العصور، فقد تعرضت كتب الفلسفة والمنطق
للحرق والمصادرة في عصور متعاقبة،
ولاحقها علماء الإسلام بالفتاوى المدمرة، حتى إن كتب الفقه سطرت أن الوقف إذا وقف على طلبة العلم لا يدخل فيه أصحاب الكلام.
وقد تجلى هذا الموقف الأصيل أعظم ما تجلى في موقف إمام السنة الإمام
أحمد بن حنبل رحمه الله، الذي حقق أعظم انتصار في التاريخ الفكري في الإسلام
وهو سجين أعزل، ما ذلك إلا لأنه يمثل منهج الوحي في مقابل الخرص والهوى والخرافة.
ولكن المنهج التوفيقي
وهو منهج ابتليت به الأمة الإسلامية قديماً وحديثاً -عكّر على هذا المنهج الحازم الحاسم مواقفه وأفسد كثيراً- في حين أراد إصلاحاً وتوفيقاً!
هذا المنهج -الذي انتهجه
الأشاعرة و
الماتريدية- يرى إمكان الجمع بين الوحي والفلسفة؛ بين منهج القرآن ومنهج
اليونان،
والخروج بموقف أو رأي وسط بينهما أو مركب منهما!!
ويظهر ذلك بوضوح في تعامله مع نصوص الوحي كتاباً وسنة، فهو يقرر جزماً وجوب الأخذ ببعض الآيات والأحاديث على ظاهرها المجمع عليه المعروف عند
السلف، في حين يقرر أيضاً -على الدرجة نفسها من الجزم والإيجاب- تأويل بعضها الآخر بما لم ينقل عن
السلف، بل قام إجماعهم على خلافه، ولا يتحرج أصحابه من ذكر الإجماع ومستنده النصي، ثم التصريح بمخالفته بقول يعلمون أنه منقول عن
اليونان!!
وهذا المنهج -فوق أنه محكوم عليه شرعاً بالخطل والضلال- هو خطأ بيّن بالفطرة العلمية المحضة؛ لأنه يقوم على غير معيار موضوعي متميز، وحسبك إقرار أصحابه قاطبة بأن التأويل ظني، ولهذا يختلفون فيه اختلافاً شديداً حتى لا يكاد يجمعهم أحياناً إلا مخالفة دلالة النص التي يسمونها ظاهراً، وإن كان نصاً لا يقبل الاحتمال، وهذا ينطبق على نصوص الإيمان والقدر كنصوص الصفات سواء.
ولهذا شهد الخط البياني لهذا المنهج تذبذباً شديداً، ثم انحيازاً تاماً في النهاية إلى جانب الفلسفة!
كما أن هذا المنهج -بحسب أفراده- يشهد تنقلات وتطورات عجيبة تلفت نظر كل دارس لأعلامه وأئمته، فالواحد منهم يبتدئ معتزلياً، وينتهي سنياً صرفاً، أو فلسفياً صرفاً، يتردد بينهما فيناقض في كتاب ما قاله في الآخر، وخيرهم من يرجع إلى مذهب
السلف عند الاحتضار أو قبيله!!
ولهذا كانت أصولهم -المتفق عليها بينهم- عرضة لتفسيرات مختلفة (مثل: معاني الصفات، والكلام النفسي، والكسب...) .
ولا شك أن لهذا تفسيره كظاهرة نفسية عامة تبرز في الاختلافات العقائدية والسياسية وغيرها، وأياً كان هذا التفسير فإن حلول الوسط في خلاف بين حق محض صراح، وباطل محض صراح هي بالبداهة ترجيح للباطل وهضم للحق.
بل مجرد الخروج عن مصدر المعرفة المعصوم (الوحي) هو الضلال بعينه أياً كان المصدر الآخر.
وعلى أي حال أصبح هذا المنهج حقيقة واقعة بعد أن كانت الأمة قبله فريقين متنافرين:
1-
أهل السنة والجماعة ومعهم كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصريح العقل، مجمعين على الدعوة إلى المنهج الناصع المستقيم.
2- رءوس الضلالة من
الجهمية و
القدرية والزنادقة والمتفلسفة، وهؤلاء معهم فلسفات وجدليات وتنطعات ترجموها عن أمم الشرك والضلال، وضربوا لأجلها كتاب الله بعضه ببعض حين خلطوها بتحريف للمحكم وفهم سقيم للمتشابه .