يمكن معرفة أصول الفرق المختلفة في الإيمان بتقسيم الأقوال منطقياً حسب الأعضاء الثلاثة: القلب، واللسان، والجوارح، وقد وضع هذا الضابط -نصاً أو تلميحاً- بعض المؤلفين من العلماء؛ عوضاً من استعراض الفرق الذي سارت عليه كتب الفرق والمقالات، ومنهم الإمام الطبري وابن حزم وشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وابن أبي العز .
وقد رأيت أن أستفيد من مجموع كلامهم، وأوجز كلامهم، وأستخرج منه مع الزيادة والإيضاح ضابطاً يعين على معرفة الأقوال والتفريق بينها بيسر وسهولة فكان هذا التقسيم:
1-            أن الإيمان بالقلب واللسان والجوارح:
1- أهل السنة
2- الخوارج
3- المعتزلة.
2- أن الإيمان بالقلب واللسان فقط:
1- المرجئة الفقهاء.
2- ابن كُلاب.
3- أن الإيمان باللسان والجوارح فقط:
الغسانية أو فرقة مجهولة؟
4- أن الإيمان بالقلب فقط:
1- الجهمية
2- المريسية.
3- الصالحية.
4- الأشعرية.
5- الماتريدية وسائر فرق المقالات.
5- أن الإيمان باللسان فقط:
1- الكرامية
وبعض هذه الأقسام تحتاج لتفصيل إيضاحي، وهي:
أ- الذين قالوا: إنه بالقلب واللسان والجوارح طائفتان:
1- الذين قالوا: الإيمان فعل كل واجب وترك كل محرم، ويذهب الإيمان كله بترك الواجب أو فعل الكبيرة؛ هم:
أ- الخوارج:
ومرتكب الكبيرة عندهم كافر.
ب- المعتزلة:
ومرتكب الكبيرة عندهم في منزلة بين المنزلتين.
2- الذين قالوا: الإيمان قول وعمل ، وكل طاعة هي شعبة من الإيمان أو جزء منه، والإيمان يكمل باستكمال شعبه وينقص بنقصها، ولكن منها ما يذهب الإيمان كله بذهابه ومنها ما ينقص بذهابه.
فمن شعب الإيمان أصول لا يتحقق إلا بها، ولا يستحق مدعيه مطلق الاسم بدونها.
ومنها واجبات لا يستحق الاسم المطلق بدونها.
ومنها كمالات يرتقي صاحبها إلى أعلى درجاته.
[ وتفصيل هذا كله حسب النصوص ]
* وهم أهل السنة والجماعة
ب- الذين قالوا: إنه يكون بالقلب واللسان فقط طائفتان:
1- الذين منهم يدخلون أعمال القلب وهم بعض قدماء المرجئة الفقهاء وبعض محدثي الحنفية المتأخرين.
2- الذين لا يدخلون أعمال القلب، وقد تطور بهم الأمر إلى إخراج قول اللسان أيضاً من الإيمان وجعلوه علامة فقط وهم عامة الحنفية [ الماتريدية ]
جـ- الذين قالوا: إنه يكون بالقلب فقط ثلاث طوائف:
1- الذين يدخلون فيه أعمال القلب جميعاً؛ وهم: سائر فرق المرجئة كـاليونسية والشمرية والتومنية.
2- الذين يقولون: هو المعرفة فقط: الجهم بن صفوان.
3- الذين يقولون: هو التصديق فقط: الأشعرية والماتريدية.
هذه هي الأصول النظرية عامة.
أما في واقع الظاهرة فقد تقلصت هذه الفرق إلى أقل من ذلك نظراً للتداخلات والتطورات الفكرية التي كان أهمها وأجلاها:
1- استخدام قواعد المنطق وإدخاله علماً معيارياً يحكم في القضايا النظرية الخلافية عامة، ومنها قضية الإيمان.
2- تحول مباحث العقيدة أو التوحيد والإيمان إلى علم الكلام الذي يقوم على أسس فلسفية ويستخدم القواعد المنطقية، وإجمالاً هو مباحث نظرية عقلية ليس للنصوص فيها -إن وجدت- إلا مكانة ثانوية، لا سيما في العصور الأخيرة.
وهذا ما سوف نفصل الحديث فيه عما قليل.
والمهم أن هذه الأسباب وغيرها من الأسباب التاريخية البحتة أدت إلى انقراض بعض الفرق الإرجائية، وهي:
1- الكرامية:
لم يعد لهم وجود ولا لفكرهم إلا في كتب المخالفين، مع أنها آخر المذاهب المبتدعة في الإيمان ظهوراً.
وانقراضهم قديم نسبياً، يقول الذهبي -في القرن الثامن-: وكان الكرامية كثيرين بـخراسان ولهم تصانيف، ثم قلوا وتلاشوا، نعوذ بالله من الأهواء.
هذا مع أنه كان لهم وجود ظاهر حتى نهاية القرن السادس ومطلع السابع، فإن المؤرخين للرازي وعلى رأسهم ابن السبكي ذكروا مناظراته لهم، وكتب الرازي تنضح بذلك، والرازي هو الإمام الثاني للأشعرية توفي سنة 606هـ وقد كتب أحد الباحثين رسالة علمية في ذلك.
وقبل ذلك أثناء ظهور إمام الأشعرية الأول وناشر المذهب -أبو بكر الباقلاني- كان مقدمهم ابن الهيصم يكتب ويناظر في الطرف الآخر.
قال شَيْخ الإِسْلامِ: ''وقد رأيت لـابن الهيصم فيه مصنفاً في أنه قول اللسان فقط، ورأيت لـابن الباقلاني فيه مصنفاً أنه تصديق القلب فقط، وكلاهما في عصر واحد، وكلاهما يرد على المعتزلة والرافضة '' .
2- الجهمية وأصحاب المقالات [ كـاليونسية والشمرية ]:
انقرض القائلون بأن الإيمان هو مجرد المعرفة القلبية.
ولكن العجيب هو قيام أعظم مذهبين في الإرجاء وهما الأشعرية والماتريدية اللذان يشكلان جملة الظاهرة العامة على أصوله في أن الإيمان هو ما في القلب فقط، حتى إن الماتريدية أوّلت ما هو مشهور عن أبي حنيفة أن الإقرار باللسان ركن آخر للإيمان، وجعلوه علامة فقط -كما سيأتي عنهم-.
هذا مع أن الأشعري نفسه صرح بمذهب جهم وجعله الفرقة الأولى من فرق المرجئة، والمنتسبون إليه يقرءون ذلك إلى اليوم، بل إن كلام إمامهم المتقدم الباقلاني في الإيمان يماثل ما ذكره إمامهم المنتسبون إليه (الأشعري) عن جهم!! وهذا من تناقضهم.
وعلى هذا يصح أن نقول: إن مذهب الجهمية في جملته لم ينقرض، وإنما انقرض القسمان الأولان من الأقسام الثلاثة المتفقة على أن الإيمان يكون بالقلب وحده - أعني: سائر الفرق ذات المقالات والجهمية [ راجع الجدول ].
أما الفرقة الثالثة: فكل ما عملته هو تحوير أو تعديل في كلام جهم، فوضعت التصديق بدلاً من المعرفة، وصرحت بنفي أعمال القلب الأخرى مثلما صرح جهم، وجعلت الأعمال المكفرة مجرد علامة على الكفر الباطن، وجعلت كل من حكَّم الشرع بكفره فاقداً للتصديق القلبي، ونحو ذلك من الآراء واللوازم التي لم يخالفوا جهماً في شيء منها، إلا إذا صح أن جهماً التزم القول بأن من أعلن التثليث في دار الإسلام وحمل الصليب بلا تقية أنه يكون مؤمناً إذا كان يعرف الله، على أن ابن حزم نسب هذا الالتزام للأشعري معه، ولا يصح هذا عن الأشعري.
لكن الأشعرية يقولون: إنه يمكن أن يكون مؤمناً في الباطن، ولكن إعلانه التثليث وحمله الصليب دليل على كفره وعلامة عليه، فهو كافر ظاهراً مع كونه مؤمناً باطناً إذا كان مصدقاً!!
وعلى أية حال فإن الفرق بين التصديق المجرد من أعمال القلب وبين المعرفة مما يتعذر على العقول إدراكه، كما نص شَيْخ الإِسْلامِ على أن الانقراض قد شمل أيضاً آراء بعض قدماء المذهب الأشعري؛ فمؤسسه ابن كلاب كان على عقيدة المرجئة الفقهاء، وأما أبو عبد الله بن مجاهد تلميذ الأشعري وشيخ الباقلاني، وأبو العباس القلانسي، ونحوهم؛ فكانوا على عقيدة السلف في الإيمان كما نقله عنهم أبو القاسم الأنصاري شيخ الشهرستاني في شرح كتاب الإرشاد للجويني، . وكل هؤلاء لم يبق لهم في مذهب الأشعرية أثر.
3/ المرجئة الفقهاء:
بعد أن استقرت الأمة على التمذهب بالمذاهب الأربعة المشهورة، استقر مذهب المرجئة الفقهاء ضمن مذهب أبي حنيفة -رحمه الله- ولهذا أصبح يسمى مذهب الحنفية.
وأبو حنيفة -رحمه الله- تضاربت الأقوال في حقيقة مذهبه وموقفه من أعمال القلوب خاصة - أهي داخلة في الإيمان أم لا؟
ولم يثبت لديّ فيما بحثت أي نص من كلام الإمام نفسه، إلا أنني لا أستبعد أنه -رحمه الله- رجع عن قوله ووافق السلف في أن الأعمال من الإيمان، وهذا هو المظنون به.
أما المشهور المتداول عنه فهو مذهب المرجئة الفقهاء -أي: أن الإيمان يشمل ركنين؛ تصديق القلب وإقرار اللسان، وأنه لا يزيد ولا ينقص ولا يستثنى فيه، وأن الفاسق يسمى مؤمناً؛ إذ الإيمان شيء واحد ينتفي كله أو يبقى كله حسب الأصل المذكور سابقاً.
وأشهر من يمثل هذا المذهب هم فقهاء الحنفية المتمسكون بعقيدة السلف، وعلى رأسهم الإمام أبو جعفر الطحاوي صاحب العقيدة المشهورة، والإمام القاضي ابن أبي العز شارحها، وقليل من المتأخرين.
وحقيقة الأمر أن مذهب هؤلاء مضطرب متردد، ولهذا قال شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: ''إنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضاً- فإنها لازمة لها'' .
وعبارة الطحاوي -رحمه الله- تدل على هذا فإنه قال: ''والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، وجميع ما صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الشرع والبيان كله حق، والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، ملازمة الأولى''
فقوله: (والإيمان واحد) شاهد لما قلنا: من أصل الشبهة ومنطلقها هو هذا.
وقوله: '' وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى... '' إلخ مخالف لذلك، فاضطربت عبارته؛ لأن قوله: وأهله في أصله سواء يدل على أن للإيمان أصلاً وفرعاً أو فروعاً -هو أعمال الجوارح وأعمال القلب-.
فيقال: إن كان الفرع داخلاً في مسمى الأصل كما هو الشرع واللغة والعرف لم يعد الإيمان واحداً، بل متفاوتاً متفاضلاً - كإثباته التفاضل في الخشية والتقى.
وإن كان غير داخل في مسماه فقوله: (وأهله في أصله سواء) غير دقيق، فينبغي أن يقول وأهله فيه سواء.
والذي دفعه رحمه الله إلى الوقوع في هذا هو محاولة الجمع بين مذهبي السلف وأبي حنيفة؛ لأن الرجل حنفي سلفي، وكذا شارح عقيدته، فإنه حاول ذلك أيضاً وأراده، ولهذا قال في شرح العبارة: ولهذا -والله أعلم- قال الشيخ رحمه الله: وأهله في أصله سواء، يشير إلى أن التساوي إنما هو في أصله، ولا يلزم منه التساوي من كل وجه '' .
فيقال له: ما هذا الأصل من التصديق الذي يكون أهل الإيمان كلهم مشتركين فيه، ويكون ما فوقه زيادة عليه؟ وما حده؟ ومن الذي وضعه؟
وهذا في الحقيقة يقودنا إلى قضية فلسفية منطقية هي إثبات الماهية المشتركة خارج الذهن، وهو ما لا يقره الشارح رحمه الله.
وهاهنا قضية مهمة، وهي أن بعض الناس يثبتون أن الخلاف بين مذهب السلف ومذهب أبي حنيفة لفظي بإطلاق، مستدلين بظواهر بعض كلام شَيْخ الإِسْلامِ وبمثل صنيع الطحاوي والشارح، والأخير نص على أن الخلاف صوري، ونحن وإن كان غرضنا هنا ليس التفصيل وإنما هو إثبات الظاهرة، فإننا نبين وجه الحق في ذلك وعلاقته بتطور الظاهرة قائمة أيضاً؛ لأن بعض الناس قد يحسب أن الماتريدية -وهي الطور النهائي للظاهرة بالنسبة للمرجئة الفقهاء- هي على مذهب أبي حنيفة كما تزعم، والخلاف بينها وبين السلف صوري.
وسوف نبطل ذلك ببيان حقيقة الخلاف بين أبي حنيفة والسلف، ثم نبين بعد خروج مذهب الماتريدية عن حقيقة مذهب الإمام.
بل إن بيان حقيقة مذهب أبي حنيفة والمرجئة الفقهاء عامة لهو مما يدل على انقراضه إلا من أمثال هذين الإمامين .