المادة    
قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله مقرراً إثبات العلو بالفطرة: "ومن الحجة أيضاً في أنه عز وجل على العرش فوق السماوات السبع أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر أو نزلت بهم شدة رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون ربهم تبارك وتعالى" وهذا دليل الفطرة.
يقول: "وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يؤنبهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم للأمة التي أراد مولاها عتقها إن كانت مؤمنة، فاختبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن قال لها: {أين الله؟ فأشارت إلى السماء، ثم قال لها: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنـة} فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها برفعها رأسها إلى السماء، واستغنى بذلك عما سواه".
ثم ذكر حديثاً بسنده، فقال: "عن معاوية بن الحكم قال: أطلقت غنيمة لي ترعاها جارية لي في ناحية أحد، فوجدت الذئب قد أصاب شاة منها، وأنا رجل من بني آدم" يريد أن يقدم عذره لكيلا يقال: كيف تقدم على هذا العمل؟! قال: "وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون" أي: أحزن وأندم وأتحسر، وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم، فهم بشر من خلق الله، لكنهم يتميزون بأنهم إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون، وإذا ظلموا أنفسهم أو فعلوا فاحشة أو أذنبوا أي ذنب تابوا إلى الله سبحانه وتعالى، تمر عليهم الغفلات كما تمر على كل الناس، لكنهم سرعان ما يستغفرون الله سبحانه وتعالى ويفيقون، وهكذا كان حالهم رضوان الله عليهم، قال: "فصككتها صكة" أي: ضربتها ضربة قوية، ثم ندم وتألم لذلك، قال: "ثم انصرفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فعظم عليَّ، قال: فقلت: يا رسول الله! فهلا أعتقها".
إن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو المبعوث رحمة للعالمين- قد كان في جانب الرحمة والشفقة على كل أحد، فلا يرضى أن ينزل بأحد وإن كان كافراً مالا يستحقه من العقاب، ولذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان والشيوخ في الحرب.
وهذه أمة جارية مملوكة، ومع ذلك يهتم بعتقها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما بعث إلا رحمة للعالمين، ولأن هذا الدين هو الذي أقر حقوق الإنسان، وليست المواثيق الخداعة التي يزعمها من يزعمها في هيئة الأمم، ووثيقة حقوق الإنسان إنما كتبت لأول مرة في تاريخ أوروبا عام 1948م، ونصت أن الإنسان لا يجوز لأحد أن يسترقه أو يظلمه، وما أعطاه الغربيون في هذه الوثيقة إلا بعض الحقوق، ومع ذلك كان هناك أكثر من ستين دولة لم توقع عليها، وبعض الدول إلى الآن لم توقع عليها.
إن الإسلام هو دين الرحمة الحقيقية والسلام الحقيقي، وليس السلام الذي يرضى بالكفر ولا الرحمة التي تبطل الجهاد وتبطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما السلام في موضعه والرحمة في موضعها، والجهاد في موضعه والقوة في موضعها، وهكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو أن هذه الأمة هي التي اشتكت، لربما قيل: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطيب خاطرها ويرضيها، إنما الصحابي هو بنفسه أتى يشكو نفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعظم عليه ذلك وأنَّبه.
ولذلك يحق لنا أن نفتخر ونقول: إن دين الإسلام هو دين الرحمة، يصون للإنسان كرامته وحريته، فلكثرة ما أنَّبه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! فهلا أعتقها!
وفي بعض الروايات أن أم معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه نذرت أن تعتق رقبة؛ فهذه فرصة لإعتاقها كفارة لذنبه، وتحللاً من نذر أمه، لكن هذه الجارية التي صكها أعجمية، فلا يدري أهي مؤمنة أو غير مؤمنة، والرقبة يشترط فيها أن تكون مؤمنة -بمعنى مسلمة- ليست كافرة.
"فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأتني بها، قال: فجئت بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم" وهي أمة سوداء أعجمية راعية غنم لا تملك شيئاً، ولا تستطيع أن تدافع عن نفسها، ولا أن تقيم محامياً، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الحكام والولاة على الناس أنه بالعدل تصلح الأمم وتستقيم الدول؛ "فقال لها -أي رسول الله صلى الله عليه وسلم-: {أين الله؟}" وهذا السؤال ليس سؤال الممتحن المتعنت، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يمتحن إيمانها متعنتاً ليعلم هل هي من الراسخين في العلم والمتفقهين في الدين أم لا؛ إنما هو سألها لمجرد معرفة هل تجزئ في العتق أم لا، والإجزاء يحصل بأدنى المطلوب، فقال لها: {أين الله؟ قالت: في السماء، فقال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله} فأقيمت الإجابة على هذين السؤالين مقام: (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) فهذا أول ما يدخل به الإنسان في دين الإسلام، وتعس والله من يدَّعي العلم وهو يجهل ما عرفته هذه الجارية الأعجمية عن أول ما يدخل المرء به في الإسلام.
  1. الرد على المحقق في تعليقه على حديث (أين الله)