المادة كاملة    
يبتدئ هذا الدرس بالحديث عن الغيبيات، ومنهج أهل السنة والجماعة في المغيبات، ثم تعرض لمذاهب وفرق أخرى زاغت في هذا الطريق، مستعرضاً أولاً مذهب الزنادقة والفلاسفة وغيرهم من الفرق الضالة، ثم عرض رأياً آخر وهو للأشعرية، وبعد ذلك ينتقل للحديث عن الإسراء والمعراج ومتى كان، وحكم تحديده بليلة السابع والعشرين من شهر رجب، وحكم الاحتفال بتلك الليلة، وهل كان بالجسد أم بالروح؟
  1. مذهب أهل السنة في المغيبات

     المرفق    
    هذا باب جديد من أبواب العقائد، وهو باب الغيبيات التي يسميها أهل الكلام السمعيات، والمقصود عندهم بالسمعيات ما ثبت بالخبر أي: بالدليل السمعي -كما يسمونه- أي ما ورد في القرآن أو في السنة، والعقل لا يثبته ولا ينفيه، بخلاف الكلام والرؤية وأمثالها مما سبق بحثه فإنهم يقولون: إن تلك يثبتها العقل ويدركها أي: يدرك إثباتها ويقر بها ويحكم بأن الله سبحانه وتعالى يوصف بها.
    وهناك صفات خبرية وأخبار مجردة كأحوال يوم القيامة، من الصراط والحوض والميزان، وكما هنا في الإسراء والمعراج، وأمثال ذلك مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم يؤمنون به ويقرون به على الشرط الذي سنذكره وسموه بالسمعيات، فأبواب العقيدة عندهم على نوعين:
    الأول: العقليات عموماً، وهي مباحث الإلهيات والصفات وما أشبه ذلك، وهذه تدخل جميعاً ضمن العقليات أي: التي يبحثها العقل ويثبتها ويدركها، وأما مباحث السمعيات فهي التي جاء بها النص وجاء بها الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم والعقل عندهم لا ينفيها.

    فنحن سنتحدث إن شاء الله عنها ونبين أولاً: مذهب أهل السنة والجماعة في إثبات هذه الغيبيات.
    ومذهب المتكلمين في ذلك ثم نتحدث عن الإسراء والمعراج إن شاء الله.
    قال الطحاوي رحمه الله:
    [ والمعراج حق وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، وأكرمه الله بما شاء، وأوحى إليه ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، فصلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى ]
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [ المعراج: مفعال من العروج، أي: الآلة التي يُعرج فيها، أي يصعد، وهو بمنزلة السلم لكن لا نعلم كيف هو، وحكمه كحكم غيره من المغيبات، نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته .
    وقوله: [ وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة ] اختلف الناس في الإسراء فقيل كان الإسراء بروحه، ولم يُفْقَد جسده، نقله ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية رضي الله عنهما، ونقل عن الحسن البصري نحوه؛ لكن ينبغي أن يعرف الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناماً، وبين أن يقال كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم، فـعائشة ومعاوية رضي الله عنهما لم يقولا كان مناماً، وإنما قالا: أُسري بروحه ولم يُفْقَد جَسدُه، وفرق ما بين الأمرين، إذ ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة، فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء وذُهب به إلى مكة، وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، فما أرادا أن الإسراء كان مناماً، وإنما أرادا أن الروح ذاتها أسري بها ففارقت الجسد، ثم عادت إليه، ويجعلان هذا من خصائصه، فإن غيره لا تنال ذات روحه الصعود الكامل إلى السماء إلا بعد الموت، وقيل: كان الإسراء مرتين، مرة يقظة، ومرة مناماً، وأصحاب هذا القول كأنهم أرادوا الجمع بين حديث شريك وقوله: (ثم استيقظت) وبين سائر الروايات.
    وكذلك منهم من قال: بل كان مرتين مرة قبل الوحي ومرة بعده، ومنهم من قال: بل ثلاث مرات، مرة قبل الوحي ومرتين بعده، وكلما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة للتوفيق!! وهذا يفعله ضعفاء أهل الحديث، وإلا فالذي عليه أئمة النقل: أن الإسراء كان مرة واحدة بـمكة، بعد البعثة، قبل الهجرة بسنة، وقيل: بسنة وشهرين ذكره ابن عبد البر، قال الشيخ شمس الدين ابن القيم: يا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مراراً، وكيف ساغ لهم أن يظنوا أن في كل مرة تٌفرض عليهم الصلواتُ خمسين، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمساً، فيقول: { أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي } ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين ثم يحطها إلى خمس؟!
    وقد غلَّط الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه، ثم قال: " فقدم وآخر وزاد ونقص " ولم يسرد الحديث، فأجاد رحمه الله، انتهى كلام الشيخ شمس الدين رحمه الله] إهـ.

    الشرح:
    نبدأ كما ذكرنا بالفقرة الأولى وهي ما هو مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان بالغيبيات، أو ما يسميه أهل الكلام بالسمعيات؟
    فالجواب هو: أن أهل السنة والجماعة يؤمنون بكل ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل ما ثبت آمنوا به وسلموا، والشرط الوحيد عندهم هو أن يصح ذلك فقط، وأن يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ثبت شيء من الأمور الغيبية في الكتاب أو السنة آمن به أهل السنة والجماعة، كما كان يؤمن به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من القرون المفضلة، قبل ظهور أهل البدع والضلال، إذاً لا يوجد عندهم أي شرط في أي شيء إلا أن يثبت ذلك ويصح بالشروط المعروفة، أي: أن يصح السند إذا كان حديثاً ولا يكون فيه شذوذ ولا نكارة، وغيرها من شروط الحديث الصحيح التي يذكرها الأئمة المعروفون في ذلك، فإذا أثبتوا أمراً من الأمور فإن كان ذلك الخبر عن أحوال يوم القيامة، أو الجنة أو النار، أو من صفات الله عز وجل، فكل ما جاء وصح نؤمن به.
    ولا نعرضه على عقل ولا على رأي، ولا نقول هذا يخالف العقول، أو يخالف البراهين أو القواطع العقلية، ولا نقول: لا نؤمن به حتى تثبت سلامته من المعارضة العقلية أو نحو ذلك، ولا نقول أيضاً كما يقول الطرف الآخر، فالطرف الأول هم الذين يعارضون بالعقل وهم المتكلمون، والطرف الآخر هم الصوفية وأمثالهم الذين يقولون: ثبت بطريق الكشف، أو ثبت بطريق الذوق أن هذا لا ينبغي، أو أن هذا لا يجوز، وأن ذلك لا يصح أو ما أشبه ذلك، كما تقول الصوفية مثلاً في الحكم لأبوي النبي صلى الله عليه وسلم بأنهما في الجنة، ويردون الأحاديث الصحيحة في ذلك، ويقولون: هذا لا يليق وقد ثبت عن أرباب المعرفة وأرباب الكشف والذوق أنهم في الجنة، هذا كلام لا يقبل عند أهل السنة والجماعة لأن العبرة عندهم هي: أن يصح الدليل هذا هو الشرط في أي حكم وفي أي أمر من الأمور، ولهذا أهل السنة والجماعة لا يفصِّلون في الأبواب، ولا يفّرقون فيجعلون أبواباً عقلية، وأبواباً سمعية، فكل ذلك عندهم شيء واحد، كله إذا ثبت به الدليل وصح به النقل آمنوا به وسلمت له عقولهم، وأيقنوا به في قلوبهم دون أي معارضة ولا أي تردد.
    هذا بإيجاز مذهب أهل السنة والجماعة
    وأما غيرهم فإنهم في مثل هذا الباب -في باب السمعيات- إما أن يردوا ذلك مطلقاً، ويقولون: إن العقل يعارضها، كما نقل عن المعتزلة ومن اتبعهم من الروافض: أنهم ينكرون عذاب القبر أو ينكرون الميزان أو ينكرون الصراط، وسيأتي تفصيل الكلام في الصراط والميزان إن شاء الله.
    ومنهم أيضاً من أنكر الإسراء والمعراج الذي هو موضوعنا وأخذوا يقولون: لا يعقل ذلك، وقال بعض المعتزلة نؤمن بالإسراء ولا نؤمن بالمعراج، أي يقولون: الذهاب من مكة إلى بيت المقدس ثم العودة هذا ممكن أن يقع عقلاً؛ لكن الصعود والعروج إلى السموات السبع، هذا يحيله العقل فلا يؤمنون به.
    1. إنكار الفلاسفة والزنادقة وبعض الفرق الضالة للمغيبات

      فالزنادقة والفلاسفة عموماً ينكرون الغيبيات إنكاراً باتاً، وتبعهم بعض المعتزلة والروافض وبعض المرجئة وبعض الأشعرية والخوارج والكرامية ومن ضل من هذه الفرق، ينكرون بعض الغيبيات تبعاً للفلاسفة والمعتزلة، ويقولون: العقل لا يثبت ذلك فكيف نثبت عذاب القبر ونحن نرى أناساً يغرقون في البحر، وأناساً تأكلهم الدواب، وأناساً كذا وكذا؟ فينكرون ما صح في ذلك من الأحاديث.
      ويقولون: لا نثبت الميزان. كيف توزن الحسنات، وكيف توزن الصلاة وقراءة القرآن، وهي ليست أشياء مادية محسوسة؟
      إذاً الميزان لا حقيقة له، وهكذا المعراج فإنهم يقولون: كيف يستطيع بشر أن يرقى إِلَى السموات العلى، وأن يدخلها سماءً بعد سماءٍ؟ فبأمثال هذه التراهات ينكرون السمعيات.
    2. مذهب الأشاعرة في الغيبيات

      والذين يثبتون الغيبيات ولكن عَلَى غير منهج السلف الصالح هم أغلب الأشعرية، أو من يسمون أنفسهم مُتكلمي أهل السنة ؛ لأنهم يقولون: نَحْنُ أهل الكلام من أهل السنة، فيجعلون المعتزلة أهل كلام بدعي، وأنفسهم أهل كلام سني، وقد سبق أن رددنا عَلَى هذه الشبهة.
      وقد ذم الأئمة أهل الكلام وعابوهم كالإمام أبي حنيفة وأبي يوسف والشَّافِعِيّ وغيرهم، فهَؤُلاءِ أئمة أهل السنة، وغيرهم كثير قد أطلقوا الذم عَلَى علم الكلام، ولا يوجد علم كلام سني وعلم كلام بدعي
      والباقلاني -وهو الذي أشهر وأظهر مذهب الأشعرية في بلاد المشرق- يقول: نؤمن بالحوض والصراط والميزان كما صح بذلك الحديث؛ لأن ذلك غير مستحيل في العقل، هذا كلامه في رسالة له اسمها رسالة الإنصاف.
      فيعلل ذلك القبول والإيمان بأن ذلك غير مستحيل في العقل، إذاً هذا قيد، ثُمَّ جَاءَ من بعده أبو المعالي الجويني وله كتاب الإرشاد فأخذ يذكر هذه الأبواب باباً بابا، ويقول في آخر كل باب نؤمن به لأن النص قد ثبت به، ولأنه غير مستحيل في العقل، وبهذا نعرف مذهب أهل الكلام في الغيبيات التي يسمونها بالسمعيات وهو الإيمان بها بشرطين :
      الأول: أن يصح بها النقل.
      والثاني: عدم الاستحالة عقلاً، أي: يعللون الإيمان بها؛ لأنها غير مستحيلة في العقل، أما أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ إذا قيل لهم: لماذا آمنتم بها؟ فإنهم يقولون: لأنه قد صح بها النقل وثبت بها الحديث، إذاً هناك فرق بين المذهبين، فالمسألة ليست مجرد أن يثبت الإِنسَان شيئاً وإن كَانَ إثباته حقاً، لكن يجب عليك أن تثبته عَلَى منهج أهل الإثبات، وهو أن تثبته لأن ذلك هو الذي أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما أن تثبته وتقربه لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر به والعقل لا ينفيه فقد زدت قيداً من عندك.
      يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في الرد عَلَى هذا المذهب في شرح العقيدة الأصفهانية، وهو أيضاً في درء تعارض العقل والنقل في الجزء الأول (ص:177)، وهذا ملخص بسيط لما ذكره، وإلا فكل الكتاب رد عليهم، لكنه ذكر ملخصاً بسيطاً في هذا، وقاعدة عظيمة يقول فيها: أن من قال أؤمن بما جَاءَ وبما ثبت لأن عقلي يسلم به، ولا أقر ولا أومن بكذا لأن عقلي يرده ولا يسلم به، فهذا قد رد النَّاس إِلَى أمر غير منضبط، فمثلاً أنا قرأت حديثاً ولا أدري هل تقبله عقول هَؤُلاءِ أو لا تقبله؟ وأيضاً قد أقرأ هذا الحديث وفيه كلام، فيأتي أحدهم ويقول: أنا عقلي يقبل ذلك، ويأتي آخر ويقول: أنا والله عقلي لا يقبل ذلك، فبأي شيء نؤمن والأمر غير منضبط.
      وقبل فترة نشر في إحدى الجرائد أن رجلاً قَالَ: إن في صحيح البُخَارِيّ أحاديث موضوعة، ودليله أنها موضوعة: أن العقل لا يقبلها، وذكر أمثلة، منها: حديث أن ملك الموت جَاءَ إِلَى موسى عَلَيْهِ السَّلام فلطمه ففقأ عينه، وقَالَ: هذا الحديث لا يقبله العقل إذاً هو موضوع، حتى لو كَانَ الذي رواه الإمام البُخَارِيّ ولا كلام في سنده؟!
      ولو طبقنا هذه القاعدة فكم سيبقى عندنا من أحاديث؟ كل إنسان يمكن أن ينفي ما شاء، فإذاً نَحْنُ بهذه الحالة لسنا عبيداً لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وإنما نَحْنُ أنداد -عياذاً بالله- فالعبد شأنه أن يطيع سيده وأن يصدقه، لكن إذا كَانَ يقول: هذا أقبله وهذا لا أقبله فهذا ندُُ لله. إذاً فما الحاجة إِلَى أن يبعث الله الأَنْبِيَاء والرسل؟ كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ في شرح الأصفهانية، ما الحاجة إِلَى أن يبعث الأَنْبِيَاء ما دام أنهم لا يأتونا بشيء إلا ونعرضه عَلَى العقل فإن أقره آمنا به وإن لم يقره رفضناه، فيشتغل النَّاس بكلام الرسل نفياً وإثباتاً ودراسة وتمحيصاً.
      إذاً: كانت الرحمة بالنَّاس أن لا تبعث الرسل؛ لأن النَّاس عندهم العقول يقيسون بها، وعندهم البراهين العقلية التي يتناقلونها عن اليونان ويتبعونها، ولا يتبعون أنفسهم في رد ما ثبت عن الأَنْبِيَاء وفي تأويله وفي إقرار بعضه ونفي بعضه.

      وممن أنكر الإسراء والمعراج مُحَمَّد حسين هيكل في كتابه حياة محمد، وهذا الرجل يفسر سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفسيراً عصرياً كما يقولون! وليس هو وحده، لكن هو أشهر من كتب في ذلك، والسبب أن كثيراً من الكتاب اتبعوا بعض المستشرقين.
    3. من خطط المستشرقين تجريد النبي صلى الله عليه وسلم من وصف النبوة

      رأى المستشرقون أن الصواب في الحط من قدر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو بإنكار نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغمط ما أظهره الله تَعَالَى عَلَى يده من الحق، وجحد ذلك، والطعن في شخصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سباباً وشتماً كما كانت تفعل الكنيسة ورجال الدين الغربيون في القرون الوسطى منذ الحروب الصليبية وقبلها وبعدها، فلقد كَانَ همُّ كل منهم أن يخطب فيشتم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويسبه سباً فاحشاً وحاشاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما يقولون.
      ومن قولهم: إنه كذاب ودجال وليس بنبي فعل وفعل وهكذا، حتى أوجدوا في العقلية الغربية الأوروبية مناعة غريبة جداً، فلا تريد أن تسمع عن هذا النبي أي شيء، كما هو حالهم إِلَى اليوم، ولا يريدون أن يقروا بأي فضل له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      هذا المنهج وجده بعض النَّاس -من المفكرين الغربيين- أنه أولاً: غير علمي، لأنه مجرد شتم.
      وثانياً: أن مردوده عند الْمُسْلِمِينَ عكسي، فالمسلم إذا قرأ ما كتب سوماس لامنس وأمثاله من المجرمين من شتم في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه ينفر من الغربيين، ومن النَّصَارَى نفوراً شديداً، ويشتمهم وتتوثب نفسه ولو لقتلهم أو قتالهم؛ لأن هذا لا يقر به أي مسلم مهما كَانَ ضعيفاً أو جاهلاً أو ساذجاً، فرأوا أن هناك طريقة أفضل من هذه وأجدى، لأن المستشرقين يخططون ويغيرون الخطط: وهي أن يمدحوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكن يجردونه من صفة النبوة، فيقولون: هذا رجل عظيم فتح جزيرة العرب، ووحد العالم، وأسس ديناً لم تعرف البشرية مثله، وأوجد شريعة لا يوجد في الأرض مثلها، جَاءَ بكذا...، ويصفونه بكل شيء إلا أنه لا يكون نبياً.
      فيجعلونه مجرد رجل عظيم كسائر العظماء، وعلى هذا كتب المؤرخ والكاتب الإنجليزي المشهور توماس كارل كتاب الأبطال، وجعل من جملة الأبطال محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو كتاب قديم في آخر القرن التاسع عشر فهلل واستبشر له أكثر المغفلين من الْمُسْلِمِينَ؛ لأنهم في ذلك اليوم كانوا في فترة ضعف وذل وهوان، وما صدقوا أن رجلاً غربياً يجعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بطلاً من الأبطال مثله مثل نابليون والقائد الإنجليزي الذي هزم نابليون، وعدة أبطال من إنجليز وفرنسيين وألمان، ومن جملة الأبطال الشرقيين مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    4. تأثر العصرانيين والعقلانيين بمنهج المستشرقين

      وعلى هذا المنهج سار بعض الناس، وهم الذين ينتهجون المنهج العقلي أو المنهج العصري من الْمُسْلِمِينَ، وهم من تلاميذ أو من أتباع مدرسة الشيخ مُحَمَّد عبده العقلية، ومنهم مُحَمَّد حسين هيكل هذا، ومنهم أيضاً عبد الرحمن عزام وغيرهم.
      فكتب أحدهم بطل الأبطال، والآخر كتب الرسالة الخالدة، وآخر كتب حياة محمد، وآخر كتب محمد هكذا فقط، وطه حسين كتب على هامش السيرة، كل هذا الكلام يكتبونه عَلَى أساس أن هذا رجل مفكر، داهية، سياسي، عسكري، عبقري، إِلَى آخر ذلك، إلا أنه لا يعمل بأمر من الله أو بوحي من الله، فهذا وإن كانوا لا يصرحون بإنكاره لكنهم لا يكادون يأتون عليه ولا يذكرونه.
      وكذلك أيضاً كتب العقاد العبقريات، فهي من هذا القَبِيْل، عبقرية محمد، وعبقرية الصديق، وعبقرية علي وعبقرية عمر إِلَى آخره، فكل هَؤُلاءِ المذكورون ومن شاكلهم متأثرون بمنهج المستشرقين من قريب أو من بعيد.

      يقول: مُحَمَّد حسين هيكل: إن الإسراء والمعراج، هو استجماعة نفسية وروحية، حصلت ولا تحصل إلا لمن بلغ درجة عالية من الروحانية، فكأنه استجمع في نفسه الوجود منذ أول الوجود إِلَى آخره، وإذا جئت تنظر في معاني ألفاظ هذه الكلمات لا تجد تحتها أي معنى، ولا تجد لها أي قيمة، إلا أن المقصود هو أن يجرد الإسراء والمعراج عن كونه آية جعلها الله لهذا النبي مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد رد عليه الشيخ مُحَمَّد الغزالي، وأنكر عليه ذلك، لكن الشيخ نفسه فيه نوع من التأثر بالمنهج العصري، فلهذا جَاءَ في كلامه أيضاً ما يلمح بأن من الممكن أن يفسر الإسراء والمعراج تفسيراً مادياً أو شبه مادي، لأنه يقول: إن كلمة البراق مشتقة من البرق.
      يقول: فكأن الحديث يشير إِلَى أن سرعة البراق مشتقة من البرق؛ لأنه كما جَاءَ في الحديث -يضع حافره عند منتهى طرفه من سرعته- وكأنه يسير بسرعة الضوء وفي ذلك دليل عَلَى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امتطى القوة الكهربائية في عروجه إِلَى السماء، وهذا نفس الشيء: مع أنه رد عَلَى أولئك، لكنه قريب مما قالوا.

      فلا ينبغي لنا أن نخوض في هذه الأمور بمجرد الآراء، إنما يجب علينا أن نسلم ونؤمن بما جَاءَ عن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ والبراق هي دابة كما جاءت صفتها في الحديث وكما سنذكره -إن شاء الله تعالى-، فنؤمن بها كما جاءت، وعليها ركب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صعد إِلَى السماء بكيفية لا تدركها عقولنا، وليس من شأننا أن نفكر لماذا لا تدركها عقولنا؟ أو هل تدركها أو لا؟ نَحْنُ عبيد مأمورون بأن نصدق، وأن نسلم بما جاء.
    5. من لم يصدق بالإسراء والمعراج فليس مؤمناً برسالة محمد صلى الله عليه وسلم

      إذا استنكرت عقولنا أن يقع الإسراء والمعراج، فما الفرق بيننا وبين كفار قريش الذين سخروا وضحكوا من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونادى بعضهم بعضاً حتى أن أبي جهل استوثق من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ: أتحدث القوم بما أخبرتني به؟
      قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم، فلم يشأ أن ينفره حتى أخذ منه وعداً بأن يحدث القوم حتى يجمع قريشاً، فإذا حدثهم يكون التكذيب والسخرية والضحك بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جماعياً، فانطلق في قريش يقول: يا معشر قريش قد جاءكم مُحَمَّد بالداهية الدهياء، فجاءوا واجتمعوا وَقَالُوا: ماذا لديك يا محمد؟
      فقَالَ: إنه قد أسري بي إِلَى بيت المقدس، وعرج بي إِلَى السماء.
      فسخروا وضحكوا وأنكروا وَقَالُوا: إن الراكب منا ليضرب في الأرض مسيرة شهر ليذهب إِلَى بيت المقدس، ثُمَّ مسيرة شهر ليعود، وتزعم يا مُحَمَّد أنك تذهب إليه في ليلة.
      وجاءوا إِلَى الصديق أبي بكر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فلم يستطيعوا أن يزعزعوا إيمانه، أما بعض من آمن فإنهم فتنوا -عافانا الله وإياكم- وقد ذكر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذلك في القُرْآن فقَالَ: ((وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ)) [الإسراء:60] ففتن بعض من آمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصدق برسالته، لما رأى أن هذا خبراً غريباً، وقصة عجيبة ومذهلة، ويحار العقل فيها، وكفار قريش، يضحكون ويسخرون، فكان ضعيف الإيمان من هَؤُلاءِ لا يستطع أن يثبت -عافانا الله وإياكم- من الزلل فكفروا وارتدوا، ومنهم من قتل مع أبي جهل بـبدر نسأل الله الثبات والسلامة والعافية.
      فإذاً لو قال أحد كهَؤُلاءِ- إما هيكل وإما أمثاله من المستشرقين وليس بعد الكفر ذنب-: كيف نؤمن بالإسراء والمعراج؟ كيف نصدق؟! فهذا بلا شك مشابه لموقف كفار قريش، فالذي يناقش في ذلك أو يماري أو لا يؤمن، فهو في الحقيقة لم يؤمن إِلَى الآن بالإسلام ولم يؤمن برسالة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو آمن أنه نبي مرسل من عند الله، وأن هذا القُرْآن من عند الله حقاً، لما كَانَ لديه أي شك ولا أي ريب، عافانا الله وإياكم من الزيغ والشك والريب والضلال.

      وبهذا نكون قد عرفنا مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في الغيبيات، ومذاهب الذين خالفوهم في ذلك، وقلنا: إنهم عَلَى فرقتين: من أنكره بالكلية، أو من أنكر بعضاً وأثبت بعضاً، أو من أثبته بشروط.
  2. الإسراء والمعراج

     المرفق    
    سبق أن تحدثنا عن الإسراء والمعراج وعن والأقوال في ذلك، وتقدم الكلام عن متى كَانَ الإسراء والمعراج في موضوع الرؤية، عندما تحدثنا عن مسألة هل رأى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه ليلة الإسراء أو لم يره؟ ونحتاج إِلَى أن نعرف ما يقع اليوم في واقعنا الإسلامي، وفي أكثر الدول من احتفال بليلة السابع والعشرين من رجب، والقول بأنها ليلة الإسراء والمعراج، أو عيد الإسراء والمعراج، فهل هذا حق؟ وهل هذا صحيح؟ فعندنا مسألتان: أولاً: ثبوت التاريخ. ثانياً: حكم ذلك.
    1. هل ثبت تحديد تاريخ الإسراء والمعراج وهل لمعرفته فائدة ؟

      أما ثبوت تعيين تاريخ الإسراء والمعراج فلم يثبت عَلَى الإطلاق أي دليل صحيح صريح في تحديد وقت الإسراء والمعراج، وكل ما نعرفه من خلال السيرة هو أن الإسراء والمعراج كَانَ قبل الهجرة، هذا هو القول الراجح، والمشهور والمستفيض أن الإسراء والمعراج كَانَ بعد موت أبي طالب عم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد موت خديجة، وبعد أن ذهب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطائف ورده أهلها، وهو العام الذي يسمى عام الحزن، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقي فيه الأذى الشديد والألم والتعب، فمنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليه بهذه الآيات العظيمة، وهذه المشاهد وهذا المقام الرفيع الذي لم يصل إليه بشر، تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت آيات عظيمة قال الله تعالى: ((لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى))[النجم:18] فأراه الله عَزَّ وَجَلَّ آياتٍ عظيمة ففُرج عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الهمَّ وسُرِّي عنه، وعاد وقد استيقن بربه وبلقائه، وأن ما يوحى إليه هو الحق أكثر من ذي قبل، وعاد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد شد العزم عَلَى أن يبلغ دعوة ربه، وأن لا يبالي بالنَّاس مهما صدوه، بعدما رأى ما رأى من الأَنْبِيَاء ومن الكرامة التي نالها،حتى قال الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللَّهُ كما في الجزء السابع من فتح الباري (ص:203) : والأقوال في ذلك أكثر من عشرة أقوال، حتى أن منها: أن ذلك قبل البعثة، ومنها: بعد الهجرة، وقيل: قبلها بخمس، وقيل: قبلها بست، وقيل: قبلها بسنة وشهرين كما قال ابن عبد البر .
      هذه خلافات كثيرة، ولا يوجد أي حكم شرعي يترتب عَلَى المعرفة الدقيقة لتاريخ الإسراء والمعراج.
      إذاً -الْحَمْدُ لِلَّهِ- لا يهمنا من معرفة التاريخ شيء، وما دام أنه لم يثبت منها شيء فنحن لا نثبت أي شيء منها، إلا أننا نقول: أنه كما يترجح ويظهر من عموم الأدلة أنه كَانَ قبل الهجرة، وأنه كَانَ بعد أو في عام الحزن.
    2. حكم الإحتفال بليلة الإسراء والمعراج

      مع أنها لم تثبت ولم يثبت لها تاريخ معين، بل قال بعض المتأخرين كما ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في نسيم الرياض في شرح الشفا للقاضي عياض يقول: قال بعض العلماء المتأخرين: "وأما ما هو منتشر اليوم في بعض الديار المصرية من الاحتفال بليلة سبع وعشرين، ودعوى أنها ليلة الإسراء والمعراج، فذلك بدعة] وهذا متأخر، يعني: أن هذه البدعة مع أنها بدعة؛ لكنها أيضاً بدعة متأخرة وينكرها النَّاس الذين لديهم اطلاع وفهم للسيرة والتاريخ، ولم يثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه احتفل بيوم إسرائه ومعراجه؟! وهل احتفل بذلك الصحابة أو التابعون؟! لا يثبت في ذلك شيء عَلَى الإطلاق، ونتحدى أن يأتي أحدٌ بشيءٍ في ذلك، ثُمَّ مع هذا يأتي المتأخرون فيحتفلون، بل ويجعلونه سُنة أو عيداً كما يسميه البعض: عيد رجب، ولم يكتفوا بذلك بل حددوا ليلة معينة في ذلك، وجزموا بأنه وقع فيها، وفي تلك الليلة يجتمعون في المساجد، فيأتي القارئ ويفتتح ويقرأ ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً)) [الإسراء:1] حتى أن الإذاعات والتلفزيون ذلك اليوم تستفتح بها كذلك! نَحْنُ نقول: سورة الإسراء من كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ وتقرأ، لكن لماذا تخصص في ذلك اليوم حتى تعطى النَّاس إيحاءً وإشعاراً بأن هذه هي ليلة الإسراء والمعراج، وكل هذا من البدع ما دام أنه لم يثبت {ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد}.
    3. هل الإسراء والمعراج كان بالروح أم بالجسد؟

      يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ في شرح قول الطّّحاويّ: [والمعراج حق]
      المعراج: مِفْعال من العروج، أي: عَلَى وزن مِفْعال، ومِفعال من أسماء الآلة كمِفْعَل ومفعلة كما نقول: "مِسَبر ومِبَرد ومِنَجل، ومِطَرقة " ومعراج من أسماء الآلة، فَيَقُولُ: مفعال من العروج، أي: الآلة التي يعرج فيها، أي: يصعد فيها، وهو بمنزلة السُّلم، وقد جَاءَ ذلك في بعض الروايات.
      وروايات حديث الإسراء والمعراج جمعها الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في كتاب التفسير عند أول الآية من سورة الإسراء((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً))[الاسراء:1] حيث جمع الروايات في الإسراء والمعراج من المسند ومن الصحيحين ومن المسانيد الأخرى كـأبي يعلى وروايات البيهقي وعبد الله بن أحمد كما في زياداته عَلَى المسند وابن جرير وغير ذلك.
      وابن جرير رَحِمَهُ اللَّهُ ذكر روايات كثيرة لكنها بسنده هو، والحافظ ابن كثير -رَحِمَهُ اللَّهُ- ذكر روايات المسند والصحيحين ثُمَّ ما في السنن والمسانيد الأخرى، ومنها ما ورد في صفة هذا المعراج كأنه أمر محسوس، أي: شيء مشاهد يتبعه الإِنسَان ببصره إذا قبضت روحه؛ لأنه يعرج بها إِلَى السماء، ولكن لا يعلم كيف هو؟ لأنه غيب، وحكمه كحكم غيره من المغيبات نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته عَلَى القاعدة المتبعة في هذه الأمور.

      قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [وقوله وقد أسري بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعرج بشخصه في اليقظة، اختلف النَّاس في الإسراء فقيل: كَانَ الإسراء بروحه ولم يُفقد جسدُه] هنا قولان مشهوران وأحدهما هو الصحيح، وهو الأشهر والآخر لا يثبت عند التحقيق، بل قد يكون احتمال الخطأ من ابن إسحاق -رَحِمَهُ اللَّهُ- أكثر من كونه اجتهاد خطأ من الصحابة.
    4. الراجح أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد وأدلة هذا الترجيح

      القول الأول الذي عليه جماهير الْمُسْلِمِينَ قديماً وحديثاً: أن الإسراء والمعراج كَانَ بروح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجسده معاً، كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً))[الإسراء:1] فهو أسرى بعبده، يعني: بذات عبده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس فقط بالروح والأدلة عَلَى ذلك متظافرة ولو أنا قرأنا الأحاديث في ذلك وتأملنا معانيها لوجدنا أن هذا القول هو الصحيح الذي لا ينبغي العدول عنه إِلَى غيره، ونذكر بعض الأدلة عَلَى ذلك.
      الدليل الأول: أن هذا هو الأصل في الكلام عند الإطلاق، وقوله تعالى:((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ)) [الإسراء:1]، الأصل إذا قرأنا هذه الآية أو سمعناها أن نفهم أنه أسرى بعبده، أي: بروحه وجسده، فلا يصح أن نقول: بروح عبده هذا خلاف الأصل، وإذا جئنا بشيء في الكلام عَلَى خلاف الأصل، فإننا نحتاج إِلَى دليل، وليس هناك دليل يدل عَلَى ذلك، بل الأصل عند الإطلاق الخالي من كل قيد: أن ذلك عَلَى الحقيقة أي: عَلَى ذات الإِنسَان روحه وجسده معاً.
      الدليل الثاني: وهو دليل واضح في هذا: أن قريشاً أنكرت واستغربت وشهَّرت بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفتن بذلك بعض من كَانَ قد آمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الاستنكار لا يكون عَلَى رؤيا حلم في المنام، فلو أن أحداً قال مثلاً: لقد رأيت أن القيامة قد قامت، فرأيت الجنة والنار، فهل يستنكر هذا أحد؟ كلا؛ لكن لو أنه ادعي أنه رأى الجنة والنَّار يقظة لاستنكر عليه، ولما وافقه أحد، فقريش لما أنكرت عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تنكر عليه رؤيا منام، وإنما أنكرت عليه؛ لأنه أخبرها أنه ذهب حقيقةً إِلَى بيت المقدس، ثُمَّ من هناك عرج به إِلَى السماء.
      ولذلك جَاءَ قائلهم وقَالَ: يا مُحَمَّد إن كنت قد ذهبت إِلَى بيت المقدس فصفه لي فأنا أخبر النَّاس به، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأول مرة يذهب، وفي الليل وبسرعة خاطفة، فلو قال:لم أتفحص ولم أدقق تماماً، لما كَانَ عليه لوم وكلامه صحيح؛ لكن الله عَزَّ وَجَلَّ يريد أن يقيم عليهم الحجة وأن يكذب قريشاً، فجلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأظهر أمامه بيت المقدس كأنه دون بيت بني عقيل.
      ثُمَّ أخذ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصف بيت المقدس كما يراه أمامه، وذلك الرجل ومن معه ممن رأوا بيت المقدس يقولون: نعم صدقت هو كذلك، المقصود أن هذا الكلام -لما قالوا له: نذهب مسيرة شهر ذهاباً ومسيرة شهر إياباً ويزعم مُحَمَّد أنه ذهب في ليلة- لا يكون إلا إذا كَانَ الذهاب حقيقة، لكن لو قال لهم: أنا ذهبت في المنام إلى بيت المقدس لما أنكرت عليه قريش، لأنهم قد يذهبون هم في المنام إِلَى أبعد من ذلك، ولا غرابة في ذلك.
      وأيضاً لما قالوا: ائتنا بعلامة -وقد ورد ذلك أيضاً في بعض الروايات- فأخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه رأى لهم بعيراً عليه مزادتان إحداهما سوداء والأخرى بيضاء، وأن البعير جفل من البراق فوقع فانكسر، وفي بعض الروايات أيضاً في السيرة أنه قَالَ: سيأتونكم في يوم كذا يقدمهم البعير الذي عليه كذا وكذا، فذهبت قريش تترقب، فجاء الوصف كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذاً هذه أمور وقعت حقيقة، وليست مجرد رؤيا أو أمر منامي أو بالروح

      وأيضا قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما ذكر المصنف، وإن كَانَ قد ذكر من آية في الاستدلال بها بعض الخطأ، وهي قوله تعالى: ((مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى))[النجم:11] فاستدلال المُصنِّف هنا ليس بظاهر، لأن الآية التي نستدل بها عَلَى الإسراء والمعراج هي ((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)) [النجم:17] ولتوضيح أن آية ((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)) أدل من آية ((مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى))نقول: لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى تلك الآيات العظيمة فقَالَ: ((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)) فهذا هل يكون بالروح أم برؤية حقيقية؟ لا شك أنها برؤية حقيقية، لأن البصر إنما يكون إذا عرج بالجسد ومنه هذا البصر، فيقول تعالى: ((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى))[النجم:17، 18].
      إذاً: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى سدرة المنتهى ورأى الأَنْبِيَاء والملائكة، لما رأى تلك العوالم العجيبة كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يراها بعيني رأسه حقيقة
      ، وأيضاً لو تأملنا نفس القصة "حمل عَلَى البراق" فهل تحتاج الروح أو يحتاج الإِنسَان في المنام أن يحمل عَلَى شيء؟
      إن النائم يمكن أن يذهب بدون أي شيء، لكن كونه يُحمل؛ بل أُخرج من بيته -حتى نجمع بين الروايات- ثُمَّ ذُهب به إِلَى الحرم، ثُمَّ شُق صدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغسل بماء زمزم في طست، ثُمَّ جيء بتور، أي: بإناء كبير محشو بالحكمة فحشي صدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذه كلها تهيئة لهذا العالم العجيب الذي لا تطيقه النفوس التي لم تصل -ولن تصل أي نفس- إِلَى ذلك، ثُمَّ جيء بالبراق، ثُمَّ ركب عليه، ثُمَّ ذهب، ثُمَّ صلى بالأنبياء، هذا الكلام كله يدل عَلَى أن الأمر حقيقي وليس بالروح فقط ولا في المنام.

      والأدلة عَلَى صحة هذا القول كثيرة، ولكن ما ذكرناه فيه الكفاية -إن شاء الله- عَلَى أن الأمر كَانَ عَلَى الحقيقة وهو قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين.
    5. الرد على من زعم أن الإسراء والمعراج كان بالروح فقط

      القول المخالف للقول الصحيح، نقله ابن إسحاق في السيرة في أول الجزء الثاني من سيرة ابن هشام، نذكر كلام المُصنِّف أولاً، ثُمَّ نبين اللبس الذي حصل فيه، يقول: [فقيل: كَانَ الإسراء بروحه ولم يُفقد جسدُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقله ابن إسحاق عن عَائِِِشَةَ ومعاوية رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، ونقل عن الحسن البصري نحوه].
      وقد نقل كلام ابن إسحاق الإمام أبو جعفر مُحَمَّد بن جرير الطبري في تفسير آية ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً)) [الإسراء:1] ونقده ونقضه، ونقله أيضاً الحافظ ابن كثير ونقده، ورجحوا مذهب جمهور السلف.
      ونعود إِلَى التفصيل فنقول: من قرأ كلام ابن إسحاق لا يجد فيه جزماً بأن الإسراء والمعراج كَانَ بالروح أو بالجسد، في اليقظة أو في المنام؛ بل قال والله أعلم أي ذلك كان، والله قادر عَلَى أن يسري بنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في اليقظة أو في المنام، فالحقيقة أن ابن إسحاق نفسه متردد ولم يجزم.
      وثانياً: أنه لما نقل كلام من قال من السلف إنه كَانَ بالروح، نقل كلام معاوية وعَائِِِشَةَ والحسن، فأما كلام معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فقَالَ: رُوي عنه أنه قَالَ: كانت رؤيا من الله صادقة، والجواب عَلَى ذلك من وجهين:
      الأول: أن هذا لم يثبت عن معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.
      ثانياً: لو فرضنا ثبوته فإنه لا ينفي أن تكون الرؤيا هذه هي إسراء ومعراج بالحقيقة بالروح والجسد، لأن عبد الله بن عباس حبر هذه الأمة وترجمان القُرْآن قد قال كما روى الإمام البُخَارِيّ عنه في قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ))[الإسراء:60] قَالَ: "رؤيا عين أُريها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" يعني: ليست رؤيا منام، وإنما هي رؤيا عي.
      والرؤيا في كلام العرب تطلق عَلَى رؤيا العين وإن كانت أكثر ما تطلق عَلَى رؤيا المنام، أما "الرؤية": فإنها هي التي بالعين فابن عباس فسر ذلك بأنها رؤيا صادقة، وبأنها رؤيا عين، فلا يشترط في قول معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ :"هي رؤيا صادقة" أنها مجرد منام.
      وأما قول عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها فقد قال ابن إسحاق: حدثني بعض آل أبِي بَكْرٍ أن عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها كانت تقول ذلك، يعني: أن عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها كانت تقول: كَانَ الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، وابن إسحاق يقول: حدثني بعض آل أبِي بَكْرٍ أن عَائِِِشَةَ كانت تقول.
      إذاً: في السند مجهول لا ندري من هو الذي حدثه، أثقة أم غير ثقة، فلا يصح عنها ذلك، وكذلك البيهقي رواه من طريق أخرى بنفس السند، قال حدثني بعض آل أبِي بَكْرٍ، فلا ندري من هو هذا البعض.
      إذاً: لا نستطيع أن نقول: إن عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها قالت ذلك، انتهينا من كلام معاوية وعَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما.
      وأما الحسن البصري فاستدل ابن إسحاق بكلامه في آية (((وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ))[الإسراء:60] ولم يأت أنه أنكر أن يكون الإسراء والمعراج حقيقة، وإنما قال الحسن في قوله تعالى: ((وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ))"بأنها رؤيا فتن النَّاس بها".
      إذاً: هذا الذي ذكره ابن إسحاق تفسير لكلام الحسن أن هذه رؤيا أي في المنام، والحسن لم يقل ذلك، لأنه يمكن أن يُحمل كلام الحسن عَلَى كلام ابن عباس فتكون الرؤيا حق ورؤيا عين، كما قال ابن عباس رضي الله تَعَالَى عن الجميع، فالحقيقة أنه لا يثبت لدينا قول نعتمد عليه عن السلف في أن الإسراء والمعراج لم يكن بروحه وجسده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاً.
    6. الفرق بين أن يقال الإسراء كان مناماً أو كان بالروح والجسد

      ثُمَّ يذكر المُصنِّف قضيةً مهمةً جداً ينبغي أن تُعلم، وهي: أنه ينبغي أن يعرف الفرق بين أن يقال كَانَ الإسراء مناماً، وبين أن يُقَالَ: كَانَ بروحه دون جسده، حتى القائلين بأن الإسراء لم يكن بالروح والجسد معاً قالوا: لا بد أن نفرق بين قول من يقول: إنه منام -كما فهم ذلك بعض المتأخرين- وبين قول الصحابة مثلاً: إنه لم يُفقد جسده، يقول: وبينهما فرق عظيم، فـعَائِِِشَةَ ومعاوية رَضِيَ اللهُ عَنْهُما لم يقولا كَانَ مناماً، هذا عَلَى فرض ثبوت القول وإلا فهو لم يثبت، وإنما قالا أُسري بروحه ولم يُفقد جسده، وهذا في الحقيقة إنما هو الرواية المروية المنقولة عن عَائِِِشَةَ وحدها.
      أما كلام معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فهو: كانت رؤيا من الله صادقة، ولم يقل لم يُفقد جسدُه وفرق ما بين الأمرين.
      فإنه إذا كَانَ الإِنسَان نائماً، فإنه قد يرى ما يراه أي النائم، وقد يكون ذلك أمثالاً خيالية مضروبة للمعلوم المحسوس، فتضرب له الأمثال من غير الواقع في صورة محسوسة واقعية مشاهدة، فيرى مثلاً كأنه قد عُرج به إِلَى السماء، وذُهب به إلى بيت المقدس، ثُمَّ رُجع به إِلَى مكة يرى ذلك، وفي الحقيقة أن روحه لم تصعد ولم تذهب ولم تغادر، وإنما هذا مجرد تصوير أو تخييل حصل له في أثناء النوم، ولم تذهب روحه ولم تفارق الجسد لتذهب وتطوف في تلك الأماكن، وإنما هذا أمر تخيلته النفس والإِنسَان نائم في مكانه.
      يقول: وإنما ملك الرؤيا ضرب له الأمثال، فما أراد أن الإسراء كَانَ مناماً، وإنما أراد أن ملك الرؤيا ضرب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمثال، وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نائم بجسده وروحه، لكن هذا القول عَلَى فرض أن ملك الرؤيا ضرب له الأمثال
      .