أقوال الأئمة المعاصرين للإرجاء
وإن مما يعطينا تحديداً أدق لتاريخ هذه الفرقة وانتشارها، وفي الوقت نفسه موقف أهل السنة والجماعة منها أن نستعرض بعض أقوال الأئمة المعاصرين لنشوئها فيها:
1- إبراهيم النخعي:
التابعي المشهور، فقيه الكوفة الأكبر في عصره، ومن تلاميذه كان مرجئة الفقهاء كـحماد، وقد عاصر تلك الأحداث، وتوفي بعد الحجاج ببضعة أشهر سنة 96هـ باتفاق.
ومن أقواله فيهم:-
'' الإرجاء بدعة.
إياكم وأهل هذا الرأي المحدث - يعني: الإرجاء.
وكان رجل يجالس إبراهيم يقال له: محمد، فبلغ إبراهيم أنه يتكلم في الإرجاء فقال له إبراهيم: لا تجالسنا.
ودخل عليه قوم من المرجئة فكلموه، فغضب، وقال: إن كان هذا كلامكم فلا تدخلوا عليّ.
وقال: تركوا هذا الدين أرق من الثوب السابري.
وقال له بعض تلاميذه: إنهم يقولون لنا: مؤمنون أنتم؟ وقال: إذا سألوكم فقولوا: ((آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ))[البقرة:136] إلى آخر الآية '' .
وقال: ''لفتنتهم عندي أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة'' .
أو: ''لفقوا قولاً، فأنا أخافهم على الأمة، والشر من أمرهم كثير، فإياك وإياهم'' .
2- سعيد بن جبير:
وهو كبير القراء الثائرين على الحجاج، قال: "المرجئة يهود القبلة'' .
وقال: ''المرجئة مثل الصابئين'' .
ويشرح ذلك في رواية أخرى، مبيناً وقوفهم في الوسط بين أهل السنة والخوارج -بزعمهم- قال: ''مثلهم كمثل الصابئين، إنهم أتوا اليهود، فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: اليهودية، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: موسى، قالوا: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة.
ثم أتوا النصارى، فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: النصرانية، قالوا: فما كتباكم؟ قالوا: الإنجيل، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: عيسى، قالوا: فماذا لمن تبع دينكم؟ قالوا: الجنة. قالوا: فنحن بين ذين'' .
3- الزهري:
الإمام المشهور المعاصر لهؤلاء، قال: ''ما ابتدعت في الإسلام بدعة هي أضر على أهله من هذه - يعني الإرجاء'' .
4- شهاب بن خراش:
قال هشام: '' لقيت شهاباً وأنا شاب في سنة أربع وسبعين، فقال لي: إن لم تكن قدرياً ولا مرجئاً حدثتك، وإلا لم أحدثك، فقلت: ما فيّ من هذين شيء '' .
5- يحيى وقتادة:
قال الأوزاعي: ''كان يحيى وقتادة يقولان: ليس من أهل الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء ''
وسيأتي بقية من هذا ضمن تراجم المرجئة القدماء، والمراد أن هذه الفرقة ظهرت وترعرعت في ذلك الزمن، وأن أهل السنة والجماعة لم يألوا جهداً في مقاومتها، وكان نظرهم بعيداً وصائباً حين توقعوا آثارها المدمرة على الأمة، مع أنه لم يكن لها حينئذ من الواقع ما يستلفت النظر، بل كان القائلون بهذا عباداً زهاداً في الغالب.
وعلى هذا فلا غرابة في تشديد ورثة هؤلاء من أئمة السنة على المرجئة، مثل وكيع، وابن المبارك، والسفيانين، وابن مهدي، وابن معين، والإمام أحمد، والبخاري، وأبي داود، ونحوهم؛ وذلك أن الآثار قد ظهرت، والإرجاء الغالي حينئذ قد برز.
والقضية التي لا ينبغي أن تفوتنا هي أن كلمة المرجئة في اصطلاح هؤلاء العلماء إنما تعني هذا الإرجاء -أي: إرجاء الفقهاء- وظل هذا قائماً حتى بعد ظهور الجهمية -كما سنرى- فكل ذم أو عيب قيل في المرجئة فهو منصرف لهم وحدهم حتى منتصف القرن الثاني تقريباً، بل هو الأغلب إلى القرن الثالث، ولهذا نجد من المصنفين من لم يطلق اسم الإرجاء على سواهم؛ كـابن عبد البر في التمهيد؛ فإنه لم يذكر المرجئة الجهمية الأشعرية، ولعله تبع أبا عبيد في ذلك.
ومن علماء السنة الكبار من فرق بين مسمى المرجئة ومسمى الجهمية، وذلك لأن المرجئة عندهم مبتدعة، والجهمية كفار.
يقول الفضيل بن عياض: ''أهل الإرجاء يقولون: الإيمان قول بلا عمل، وتقول الجهمية: الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل، ويقول أهل السنة: الإيمان المعرفة والقول والعمل'' .
ويقول وكيع بن الجراح: ''ليس بين كلام الجهمية والمرجئة كبير فرق، قالت الجهمية: الإيمان المعرفة بالقلب، وقالت المرجئة: الإقرار باللسان'' .
وكذلك قال الإمام أحمد: قال حمدان بن علي الوراق: '' سألت أحمد، وذكر عنده المرجئة، فقلت له: إنهم يقولون: إذا عرف الرجل ربه بقلبه فهو مؤمن، فقال: المرجئة لا تقول هذا، الجهمية تقول بهذا، المرجئة تقول: حتى يتكلم بلسانه وتعمل جوارحه، والجهمية تقول: إذا عرف ربه بقلبه وإن لم تعمل جوارحه، وهذا كفر؛ إبليس قد عرف ربه، فقال: رب بما أغويتني '' .