أولاً: المرجئة الفقهاء
لا شك أن البذور والبدايات الأولى للإرجاء وجدت بعد صفين، إما من المعادين للخوارج أو من المنشقين عنهم، كالشأن في ردود الأفعال، ولكن بروز الرأي والمجادلة فيه وبه تأخرت عن ذلك، وكان ظهورها في وقت الفتنة والاضطراب الكبير الذي عم البلاد، حين كان للأمويين دولة، ولابن الزبير دولة، وللخوارج دولة كما سبق في حديث أبي برزة الأسلمي.
برز الإرجاء حينئذٍ نتيجة المجادلات المستمرة بين الفرق -لا سيما بين الخوارج وغيرهم- وكانت الفتنة من أسباب التسرع في الرد وقدح الرأي؛ إذ لم يكن المجال ميسوراً للسؤال والتأكد والأمور هائجة والأحداث متلاحقة.
وكان هذا في أواخر عصر الصحابة، وقد كان بعض قدماء المرجئة من صغار التابعين، كما سيأتي في تراجمهم.
وأوثق نص ورد فيه هذا الاصطلاح هو الجامع الصحيح للإمام البخاري؛ فقد قال -رحمه الله- في كتاب الإيمان منه: ''(باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر).
وقال إبراهيم التيمي: [[ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً]].
وقال ابن أبي مليكة: [[أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل]].
ويذكر عن الحسن: [[ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق]].
وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة؛ لقول الله تعالى: ((وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ))[آل عمران:135].
حدثنا محمد بن عرعرة، حدثنا شعبة عن زبيد، قال: سألت أبا وائل عن المرجئة، فقال: حدثني عبد الله أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:{سباب المسلم فسوق وقتاله كفر }''
فالآثار التي ذكرها البخاري في الترجمة تدل على أنه عقد هذا الباب للرد على المرجئة القائلين: إن الإيمان قول بلا عمل، وأن الناس يتساوون فيه، وهذا هو إرجاء الفقهاء كما سيأتي بيانه.
ثم ذكر الحديث الذي يعطينا أقرب تحديد لنشأة هذه الفرقة، فالمسئول عنهم هو أبو وائل شقيق بن سلمة التابعي المشهور، من خيار أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقد توفي قبل نهاية القرن الأول - مع الخلاف في تحديد تاريخ وفاته؛ فقد '' قال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: مات في زمان الحجاج، بعد الجماجم، وقال خليفة بن خياط: مات بعد الجماجم سنة اثنتين وثمانين، وقال الواقدي: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وكذلك روي عن أبي نعيم، قال المزي: والمحفوظ الأول '' .
قال الحافظ في الفتح: ''قوله: سألت أبا وائل عن المرجئة -أي: عن مقالة المرجئة- ولـأبي داود الطيالسي، عن شعبة، عن زبيد، قال: لما ظهرت المرجئة أتيت أبا وائل، فذكرت ذلك له، فظهر من هذا أن سؤاله كان عن معتقدهم، وأن ذلك كان حين ظهورهم، وكانت وفاة أبي وائل سنة تسع وتسعين، وقيل: سنة اثنتين وثمانين، ففي ذلك دليل على أن بدعة الإرجاء قديمة'' .
هذا وفي رواية عبد الله بن أحمد عن أبيه بسنده إلى زبيد قال: ''لما تكلمت المرجئة أتيت أبا وائل فسألته...الحديث، وذكر عن شعبة أنه قال: وحدثنيه الأعمش ومنصور، سمعا أبا وائل، عن عبد الله...'' .
وأبو وائل عُمَّر طويلاً، فقد أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودفع لعامله الصدقة، لكنه لم يظفر بشرف رؤيته.
وأما السائل زبيد فهو زبيد بن الحارث اليامي، المتوفى سنة 122هـ، وهو من صغار التابعين، رأى عدداً من الصحابة، ذكر أبو نعيم منهم ابن عمر، وأنس.
ومن السؤال والجواب نستطيع أن نستنبط حقيقة القضية المسئول عنها ووجه الجواب، إذ لا ريب أن أبا وائل أفاد وشفى، وأن زبيداً فهم واكتفى!!
فالقضية التي كانت تشغل أذهان الناس يومئذ -في موضوع الإيمان- هي حكم مرتكب الكبيرة، وبناءً على الأصل الفاسد المشترك بين الخوارج والمرجئة معاً وهو أن الإيمان شيء واحد، لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل أهله فيه قال الخوارج: إن مرتكب الكبيرة قد ذهب إيمانه فهو كافر، وقالت المرجئة: بل هو كامل الإيمان مهما فعل!! كما يدل عليه أثر ابن أبي مليكة والحسن، وكلام إبراهيم، واستدلال البخاري بها.
فلما ذكر زبيد ذلك لشيخه أبي وائل، أجابه بأفضل أنواع الأجوبة وأعلاها؛ وهو أن يجيب المفتي من سأله بنص من الوحي في محل الإشكال.
فالحديث بمنطوقه يدل على التفاوت في الإيمان، وعلى ما يستحق أن يسمى به مرتكب الكبيرة.
فإيمان من قاتل مسلماً ليس كإيمان من سبه، ومفهوم منه أن من سلم من هذا وذاك فهو أكثر إيماناً، وقتال المسلم وسبابه معصية تذهب عن صاحبها اسم الإيمان المطلق، فيستحق اسم الفسق إن سبه، واسم الكفر إن قاتله، ولا يسمى مؤمناً بإطلاق إلا من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأمنه الناس على أنفسهم وأموالهم، كما دلت النصوص الأخرى.
وفي هذا دليل على خطر المعاصي التي تهون المرجئة من شأنها؛ إما نصاً وإما لزوماً.
ومما يوضح هذا الأمر وموقف أبي وائل منه - ما رواه عنه الطبري بسنده، قال: ''قوم يسألوني عن السنة، فأقرأ عليهم: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ...))[البينة:1] حتى قوله: ((وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ))[البينة:5] يعرض المرجئة " .
وإذا كان هذا النص يعطينا ًمفهوماً عن الفكرة، فإن نصاً آخر يقدم تاريخاً أكثر تحديداً، وهو ما رواه ابن بطة من طريق الإمام أحمد عن قتادة أنه قال: ''إنما أحدث الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث " .
والحقيقة أن هذا النص يقدم لنا ما هو أعم من ذلك، وهو ردة الفعل النفسية تجاه الهزيمة.
فـابن الأشعث هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي، أحد ولاة بني أمية أيام الحجاج، استعمله الحجاج في الوقت الذي كانت مظالمه تملأ البلاد، وكانت الخوارج تثير الناس بذلك، وتتذرع به لنشر ضلالها، وكان العلماء والصالحون حيارى بين فتنة الخوارج ومظالم الحجاج - حتى إنه لما قام بعضهم يدعو الخوارج إلى السلم والدخول في الطاعة، أنكر عليهم آخرون -على سبيل اليأس- قائلين: إلى من تدعوهم؟ إلى الحجاج؟!
في هذا الجو الحالك أعلن ابن الأشعث تمرده على الحجاج، ودعا الناس إلى النهوض معه لإقامة العدل ورفع الظلم وتحكيم الكتاب والسنة، وفعلاً قام معه علماء وصلحاء لله تعالى؛ لما انتهك الحجاج من إماتة وقت الصلاة، ولجوره وجبروته.
ولم يكن معروفاً عنه بدعة، وإنما هو ثائر سياسي، فرأى فيه هؤلاء العلماء والقراء منفذاً بين نارين، واستعجلوا الأمر، ورفضوا ما أشار به الحسن وغيره من الصبر والدفع بالتي هي أحسن، وتجنب سفك الدماء ما أمكن -كما هو مذهب سائر أهل السنة والجماعة في مثل هذا- ولكن هذا الاندفاع والتحمس سرعان ما تبدد، وأنتج أسوأ النتائج حين ظهر الحجاج على ابن الأشعث وقضى عليه، وأخذ في ملاحقة العلماء واحداً واحداً، وكان أشهرهم سعيد بن جبير الذي كان مقتله فاجعة .
وهنا برز قرن الإرجاء بين صفوف هؤلاء اليائسين المستسلمين للأمر الواقع، كما تجرأ الذين كانوا مرجئة من قبل فأعلنوا مذهبهم، واستغلوا آثار الهزيمة لنشره، كما نشط الخوارج وخلت لهم الساحة أكثر من ذي قبل، وندم بقية القراء الثائرين على ما تركوا من رأي الحسن وأمثاله.
وكانت الكوفة مركز إمارة الحجاج ومصب جوره، كما كانت هدف هجمات الخوارج ومطمع قادتهم، ولهذا كان طبيعياً أن تكون أيضاً بيئة الإرجاء ومركزه، لا سيما والتشيع سمة عامة لها.
وبلا شك قام أهل السنة والجماعة وأئمة العلم بجهد مشكور لمقاومة هذه الفكرة ومحاصرتها، ولم يقدر لها انتشار عام حقيقي إلا زمن بني العباس، حين تبنت الدولة رسمياً مذهب أهل الرأي؛ الذي يدين فقهاؤه بهذه العقيدة كما سنرى ومع ذلك صمد لها أهل السنة، ولا سيما الإمام أحمد وتلميذه أبو داود، ثم سار على منهجه علماء النقد والرجال وغيرهم.