بعد أن سرد الحافظ
ابن عبد البر رحمه الله الآيات القرآنية التي تثبت العلو قال: "وهذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول
المعتزلة، وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء وقولهم في تأويل استوى: (استولى)! فلا معنى له؛ لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة: المغالبة، والله لا يغالبه ولا يعلوه أحد، وهو الواحد الصمد، ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز" أي: إلا إذا اتفقنا على أن المراد به غير ما وضع له قال: "إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله عز وجل إلى الأشهر والأظهر من وجوهه" يعني أن كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم يوجه بالأظهر والأشهر من وجوهه؛ لا بمجرد أي معنى يحتمله اللفظ، بل يوجه بالقرائن وبالسياق وبما هو أشهر وأظهر.
قال: "ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدعٍ ما ثبت شيء من العبارات" يعني: لو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع لأمكن صرف مدلول أية عبارة تحكماً، فلو قال لك إنسان مثلاً: لك عندي ألف ريال، فيجوز أن تدعي عليه أن لك عنده مائة ألف ريال، وتقول له: المضاف محذوف وأنت ما أردت ألفاً فقط، لكن أردت مائة ألف وحذفت المائة تجوزاً، فإذا فتح باب المجاز بدون أي ضابط، فإنه من الممكن أن يقال في أي كلام: إنه لا حقيقة له ولا ظاهر له، فلا يثبت عند الناس أي كلام، وهذا كلام نفيس من إمام متقدم؛ لأنه توفي رحمه الله سنة (463).
فائدة: ابن جني صاحب اللغة المشهور من القائلين بالمجاز، ذهب به جنون المجاز إلى أن يقول: إذا قلنا: قام زيد، فإن ذلك مجاز؛ فإن لفظة (قام) يشمل كل قيام في الوجود، فكونك تخصصه بإنسان واحد -وهو زيد- وبوقت واحد، فهذا مجاز، فكأن السامع أول ما يفهم من لفظة (قام) أن جميع القيام في الدنيا حصل، فلما قلت: زيد، أسندته إلى واحد من بعض أفراده، وإسناد الفعل إلى بعض أفراده هو من المجاز.
فإذا قلنا بالمجاز؛ تبعاً لأي دعوى؛ فلن يبقى شيء من حقائق العبارات ثابتاً، ولو أن الله سبحانه وتعالى أنزل كتابه على أفهام هؤلاء المتحكمين بالمجاز والمتوسعين فيه بلا ضابط، لكان ذلك من أشد الحرج على الناس، لكنه -ولله الحمد- أنزله بلسان عربي مبين للأصحاء أسوياء العقول ولم ينزله للمجانين، ولذلك لا يعقله إلا العالمون، ولا يفقهه إلا من كان أهلاً لذلك أو من اتبع من هو أهل لذلك.
قال الحافظ ابن عبد البر : "ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدعٍ ما ثبت شيء من العبارات، وجل الله عز وجل أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطبتها، مما يصح معناه عند السامعين".