كلمة
الخوارج علم مشهور على تلك الفرقة المعروفة التي وصفها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمروق من الدين، وتميزت عن سائر الفرق بالغلو والإفراط والشطط والتنطع، كما تميزت في منهجها الحركي بالاندفاع والتهور والثورية العمياء، والقابلية السريعة للتمزق والاشتعال.
فالجلافة طبعهم، وضيق الأفق سمتهم، ما خيروا بين أمرين إلا اختاروا أعسرهما، وما رأوا طريقين إلا سلكوا أشقهما، وما صادفوا احتمالين إلا انحازوا لأبعدهما.
وقد امتلأت صفحات تاريخهم بنماذج غريبة لعقيدتهم ومنهجهم، فهم يقيمون الدنيا ويقعدونها، ويثورون ويحجمون من أجل إثبات قضية، قد لا تكون ذات شأن، لكنهم يرون أن عدم إثباتها كفر وضلال، فإذا ما تحقق لهم ذلك نكصوا ونكسوا على رءوسهم، وقالوا: قد كنا مخطئين -بل كافرين- حين فعلنا ذلك، فيثورون ويشتطون أشد من الأول من أجل إبطال ما أثبتوه، والتراجع عما قرروه، ويرون ضد ذلك كفراً!!
وليس هذا فحسب، بل جرى شأنهم أنه خلال هاتين الثورتين الجامحتين ينشق عنهم بعضهم، ويشتطون في التهجم على الطائفة الأصل، ويكفرونها بسبب التردد والتقلب، أو بسبب أحد الرأيين: إما السابق وإما الآخر، ويحدث عندئذ أن ترد عليهم تلك الطائفة بلا تورع ناسبة الكفر إليهم، بسبب مفارقة الجماعة أو بأي سبب تراه.
ثم إنه غالباً ما ينشأ من حدة هذا الخلاف فرقة ثالثة تتوسط بين الطائفتين، وتتوقف عن كلا الرأيين، فما تلبث أن تعنف منهما، وتوصم بالكفر، لأن كلاً منهما يوجب عليها أن تكون معه، وإلا فهي كافرة.. وهكذا دواليك، سلسلة من تضخيم المواقف أو الاجتهادات والتكفير بها، يصاحبها سلسلة من الانشقاقات الجذرية والمفاصلات الكاملة.
فقد ابتدأ أمرهم يوم
صفين، حين قالوا لأمير المؤمنين
علي رضي الله عنه: عليك أن تقبل تحكيم كتاب الله، وإلا فأنت كافر.
فلما وافقهم على التحكيم كارهاً مرغماً، قالوا: حكمت الرجال في دين الله، فأنت كافر، لأنه لا حكم إلا لله!!
فلما قال لهم: ما حكمت مخلوقاً، إنما حكمت كتاب الله، والكتاب خط مسطور، وإنما ينطق به الرجال، وما فعلت ذلك إلا برأيكم، قالوا: قد كنا لما رضينا بالتحكيم كافرين، والآن نتوب من الكفر، فإن شهدت على نفسك بالكفر وتبت، عدنا إلى طاعتك، فقال: أبعد إيماني بالله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهجرتي وجهادي مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشهد على نفسي بالكفر؛ قد ضللت إذن وما أنا من المهتدين؟!
وعندما كتبت وثيقة الصلح، وطلب أهل
الشام منه أن يمحو كلمة أمير المؤمنين، محاها رضي الله عنه رغبة في الصلح وتصديقاً لما أخبره به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قبل.
فقال
الخوارج: قد محوت عن نفسك إمرة المؤمنين فأنت إذن أمير الكافرين! وعندما قيل لهم: عودوا إلى طاعة أمير المؤمنين ولا تشقوا العصا، قالوا: إذا جئتمونا بمثل
عمر فعلنا
ولما لم يأتهم أحد بمثل
عمر اختاروا لإمرة المؤمنين
عبد الله بن وهب الراسبي!! وهو أعرابي بوال على عقبيه، لا سابقة له ولا صحبة ولا فقه، ولا شهد الله له بخير قط.
وتجرأ أشقاهم واغتال أمير المؤمنين، وهو أفضل من على وجه الأرض يومئذ، فما ندم ولا جزع، ولما قطع لسانه جزع لفوات ذكر الله عنه كما قال.
ومر عليهم
عبد الله بن خباب، فقالوا له: أنت
ابن خباب صاحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم، قالوا: فحدثنا عن أبيك، فحدثهم بحديث: {
يكون فتنة فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فكن } فقدموه فضربوا عنقه، ثم دعوا سريته وهي حبلى فبقروا عما في بطنها، وكانوا قد مروا على ساقته فأخذ واحد منهم تمرة، فوضعها في فيه فقالوا له: تمرة معاهد فيم استحللتها؟ فقال لهم
عبد الله بن خباب: أنا أعظم حرمة من التمرة، فلم يبالوا بأن يقتلوه كما بالوا بحرمة تمرة النصراني!!
ومن النماذج الكثيرة لذلك قصة طويلة، أصلها فتوى فقهية فرعية، لكن تشعب عنها من الآراء والفرق ما يدعو إلى العجب.
وذلك أنه كان رجل من
الإباضية يقال له
إبراهيم أفتى بأن بيع الإماء من مخالفيهم جائز، فبرئ منه رجل يقال له:
ميمون وممن استحل ذلك .
ووقف قوم منهم فلم يقولوا بتحليل ولا بتحريم، وكتبوا يستفتون العلماء منهم في ذلك فأفتوا:
أ- بأن بيعهن حلال وهبتهن حلال في دار التقية .
ب- ويستتاب أهل الوقف من وقفتهم في ولاية
إبراهيم ومن أجاز ذلك.
ج- وأن يستتاب
ميمون من قوله .
د- وأن يبرءوا من امرأة كانت معهم وقفت فماتت قبل ورود الفتوى.
هـ- وأن يستتاب
إبراهيم من عذره لأهل الوقف في جحدهم الولاية عنه، وهو مسلم يظهر إسلامه.
و- وأن يستتاب أهل الوقف من جحدهم البراءة عن
ميمون، وهو كافر يظهر كفره.
قال صاحب
المقالات: ''فأما الذين وقفوا ولم يتوبوا من الوقف وثبتوا عليه، فسموا
الواقفة، وبرئت
الخوارج منهم، وثبت
إبراهيم على رأيه في التحليل لبيع الإماء من المخالفين، وتاب
ميمون ''
.
لكن الأمر لم يقف عند هذا، بل تشعب الخلاف وتطور فافترقت فرقة من
الواقفة وهم [
الضحاكية] فأجازوا أن يزوجوا المرأة المسلمة عندهم من كفار قومهم في دار التقية، كما يسع الرجل منهم أن يتزوج المرأة الكافرة من قومه في دار التقية، فأما في دار العلانية- وقد جاز حكمهم فيها- فإنهم لا يستحلون ذلك فيها.
''ومن
الضحاكية هذه انشقت أيضاً فرقة وقفت فلم تبرأ ممن فعله- أي: التزوج والتزويج- وقالوا: لا نعطي هذه المرأة المتزوجة من كفار قومنا شيئاً من حقوق المسلمين، ولا نصلي عليها إن ماتت ونقف فيها، ومنهم من برئ منها ''
.
'' وهكذا صارت
الواقفة من [
الضحاكية] فرقتين: فرقة تولوا الناكحة، وفرقة ينسبون إلى
عبد الجبار بن سليمان، وهم الذين يتبرءون من المرأة الناكحة من كفار قومهم ''
.
ولم يقف الأمر أيضاً عند هذا، بل حدث داخل فرقة
عبد الجبار انشقاق آخر جعلها تتفرق فرقاً, وأشعل قضية مشكلة تفرقت
الخوارج فيها, وطال خلافهم وهي قضية -حكم الأطفال- أطفال المسلمين وأطفال المشركين في الدنيا وفي الآخرة؛ في دار التقية ودار العلانية!!
'' وذلك أن
عبد الجبار خطب إلى أحد أصحابه -ويدعى
ثعلبة- ابنته, فسأله
ثعلبة أن يمهرها أربعة آلاف درهم, فأرسل -أي:
عبد الجبار- الخاطب إلى أم الجارية مع امرأة يقال لها أم سعيد يسأل هل بلغت ابنتهم أم لا؟ وقال: إن كانت بلغت وأقرت بالإسلام لم أبال ما أمهرتها.
فلما بلغتها أم سعيد ذلك قالت: ابنتي مسلمة بلغت أم لم تبلغ، ولا تحتاج أن تدعى إذا بلغت، فرد مرة أخرى ذلك عليها, ودخل
ثعلبة على تلك الحال, فسمع بتنازعهما فنهاهما عنه, ثم دخل
عبد الكريم بن عجرد وهما على تلك الحال، فأخبره
ثعلبة الخبر, فزعم
عبد الكريم أنه يجب دعاؤها إذا بلغت, وتجب البراءة منها حتى تدعى إلى الإسلام, فرد عليه
ثعلبة ذلك، وقال: لا. بل نثبت على ولايتها.... فبرئ بعضهم من بعض على ذلك ''
.
'' ومع انشقاق
الضحاكية في مسألة المرأة , وما بني عليها من الفتوى انشقت أيضاً فرقة تدعى
البيهسية ''
وقد كان رأيها:
'' أ- أن
ميموناً كفر حين حرم بيع المملوكة في دار كفار قومنا, وحين برئ ممن استحل ذلك.
ب- وكفر أهل الثبت حين لم يعرفوا كفر
ميمون وصواب
إبراهيم، وأهل الثبت:
الواقفة.
ج- وكفر
إبراهيم حين لم يتبرأ من أهل الوقف لوقفهم في أمرهم, وجحدهم الولاية عنه, وجحدهم الولاية من
ميمون. ''
هكذا آل أمرهم في هذه المسألة, والمسائل مثلها كثير, وهو ما يعطي الحقيقة الواضحة عن منهج القوم الفكري وجبلتهم النفسية، وهو المطلوب هنا، ولنا عودة إلى هذا التشقق ونتائجه.