تقرر مما سبق عن حقيقة النفس الإنسانية أن كل إنسان همام -أي مريد ومفكر- وأن كل همام حارث -أي: عامل كادح- وأن كل عامل له غاية ومراد ينتهي إليها همه وإرادته، ويقصدها بكدحه وعمله، فهو عامل لها: أي عابد ولا بد!
وتقرر قبله ومعه أن الإسلام هو دين الفطرة القويمة، أنزله الله متسقاً مع حقيقة الإنسان، مستوعباً كل نشاطه وحركته -هماً وحرثاً وفكراً وعملاً- ومن ثَم جاء منهجاً متكاملاً لإصلاح النشاط الإنساني كله؛ إصلاح الخواطر والأفكار بالاعتقادات الحقة، والإرادات الصحيحة، والنية الخالصة، وإصلاح الأعمال بأنواع الطاعات والبر والمعروف.
وتكفل ببيان ضد ذلك من الاعتقادات الباطلة والإرادات الفاسدة والأعمال السيئة والتحذير منها.
وكما أن الإنسان لا يمكن أن يكون هماماً ولا يكون حارثاً؛ فإن الإيمان لا يمكن أن يكون اعتقاداً ولا يكون عملاً.
ومن هنا نستطيع أن نتبين أي المذهبين في الإيمان هو الحق؛ مذهب
أهل السنة والجماعة أم مذهب
المرجئة .
ومعيار الحكم في هذا يبدأ من أصل الخلاف, وهو اختلاف مصدري التلقي والاستمداد عند الفريقين؛ فمن يستقي من مصدر الوحي المعصوم، فضروري أن يكون مذهبه هو الحق المتفق مع حقيقة الإنسان؛ تبعاً لما تقرر من اتفاق دين الله ووحيه مع خلقه وفطرته، ومن استقى من مصدر آخر -أياًّ كان- فلا بد أن يقع في التناقض، وأن يصادم حقيقة الإنسان تبعاً لمخالفته لصريح القرآن!
وبنظرة عامة لما سبق نستطيع أن نستخرج بسهولة هذه النتيجة: أن
أهل السنة والجماعة في اعتقادهم الجازم أن الإيمان عمل، والعمل إيمان- على ما سيأتي إيضاحه- إنما يستقون من معين الوحي المعصوم- كتاباً وسنةً- ما هو منسجم قطعا مع حقيقة النفس الإنسانية.
أما ما تعتقده
المرجئة من التفريق بين الإيمان والعمل، وإثبات الإيمان كاملاً في القلب مع وقوع عمل الجوارح على خلافه
فهو فصل اعتباطي للحقيقة النفسية الواحدة، يجعل أحد شقيها ذاهباً ذات اليمين والآخر ذاهباً ذات الشمال في وقت واحد، وهو ما لا يقع أبداً، بل هذا الفصل يشبه من الناحية العضوية فصل القلب عن الجسد وفصل الطاقة عن الحركة.
حقيقة الأمر أن
المرجئة تعتبر الإيمان قضية ذهنية مجردة -تسميها تصديقاً أو معرفة- تعلق هذه القضية بالقلب كمادة جامدة ومعزولة لا تزيد ولا تنقص، توجد كاملة أو تذهب كاملة، ولا تستلزم أي أثر في الوجدان والشعور أو الحركة والكدح، بل هي مثـل أية معلومة رياضية أو مقولة فلسفية!!
وهي حين تعتقد ذلك يغيب عنها حقيقة بالغة الأهمية، وهي كيف إذن يفسر العمل الإنساني الدائب الذي لا يتوقف إلا لحظة الموت؟ ما مصدره؟ ما طاقته؟ ما دوافعه إن لم يكن الإيمان أياً كان هذا الإيمان؟!
حقاً لقد جهدت كثيراً لكي أعثر على وجهة نظر القوم في هذه القضية الكبرى بلسان مقالهم لا بلسان حالهم، وتساءلت أيستطيع هؤلاء أن يلتزموا القول بأن المؤمن -على زعمهم- مصاب بانفصام الشخصية؛ فهو يعتقد غير ما يعمل، ويعمل غير ما يعتقد؟!
وكيف يجيبون على كثير من الأسئلة البدهية التي يفجؤهم بها مناظرهم قبل الدخول في تفصيلات النقاش العلمي والخوض الجدلي مثل:
كيف يمتلئ القلب بالحب، وتعمل الجوارح أعمالاً كلها عداء وانتقام؟!
وكيف يمتلئ القلب بالرحمة، وتعمل الجوارح أعمالاً كلها غلظة وفظاظة؟!
وكيف يمتلئ القلب بالتصديق، وتعمل الجوارح أعمالاً كلها تكذيب وإعراض؟!
وكيف يمتلئ القلب بالتقوى وتعمل الجوارح أعمالاً كلها فجور وآثام؟
ولما لم أجد لهذا ذكراً عندهم خرجت بنتيجة وضعتها أول الأمر على أنها افتراض، ثم صدقها البحث التاريخي المستقصي؛ وهي: أن عقيدة
المرجئة لم تكن على الإطلاق ثمرة نظر في النصوص الشرعية ولا وليدة اجتهاد عقلي سَوي، وإنما هي وليدة مواقف انفعالية جدلية أفرزتها المعارك الكلامية الطاحنة بين الفرق البدعية, تلك الفرق التي كان جهلها بالشرع وإعراضها عنه سبباً في تعلقها لدفع خصومها بأوهام ذاتية أو تصورات غريبة منقولة عن مصادر وثنية
ولهذا جاءت أصولها الاعتقادية- لا سيما
المرجئة- مجافية تماماً للدين والفطرة والعقل والحقيقة الإنسانية.
ولست أدري أيَّ الخيالين كان أسبق إلى عقول
المرجئة وهي تؤسس هذه النظرية الهلامية: أهو تخيل أن الإنسان تمثال شاخص لا علم له ولا إرادة ولا إحساس, أم تخيل أن الإيمان قطعة جامدة هامدة لا تنتج إحساساً ولا إرادةً ولا عملاً؟
فعلى الخيال الأول يريدون إرغام العقول السوية على أن تتصور قلباً بشرياً مزروعاً في جسد تمثال!
وعلى الخيال الآخر يريدون إرغامها على أن تتصور إنساناً حياً يعيش بقلب من الخشب أو الفخار الصامت!
والمهم أنه على كلا الحالين لا نجد خارج أذهان
المرجئة إنساناً- أي لا نجد إيماناً- هذه صفته.
أما الإنسان ذاك الذي خلقه الله تعالى بطبيعته حارثاً همّاماً حياً حساساً مريداً عاملاً، فإنه لا يمكن -في الحالة السوية- أن يؤمن بشيء ولا يعمله، أو يعمل شيئاً وهو لا يؤمن به.
فالصلة بين الإيمان -أياً كان- وبين العمل كالصلة بين العمل والحياة.
ولا مخرج
للمرجئة من هذه الإلزامات جميعها إلا أن تقر بأن ما تتحدث عنه مسمية إياه إيماناً ليس هو الإيمان الشرعي، ولتسميه بعد ذلك ما شاءت!!