المادة    
يقول: [الحادي عشر: التصريح برفع الأيدي إلى الله تعالى، كقوله صلى الله عليه وسلم: {إن الله يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً}] أي خالية، فالله سبحانه وتعالى أكرم وأجل من أن يَرُدَّ يد عَبْدٍ قَصَدَه خالية.
وما أكثر غفلة الناس! فالله سبحانه وتعالى كريم غني لا تنفد خزائنه، وأنت العبد الضعيف الفقير العاجز، المحتاج إلى الله تعالى في كل لحظة، فإذا رفعت يديك في أي وقت، فلن ترجع خاليةً بإذن الله، ومع ذلك كم من الناس يدعو الله؟!
إن كثيراً من الناس في أبلغ حالات الشدة والحاجة إلى الله سبحانه وتعالى لا تجد عندهم اللجوء اللائق بهم إلى الله عز وجل، فإذا مرض أحدهم واشتد به المرض، بحث عن الشفاء عند أحد الأطباء، فإذا لم يجد الشفاء عنده فكر في طبيب آخر وفي مستشفى أبعد، فيذهب إليها يريد الشفاء، فإذا لم يجد الشفاء فكر في دولة أخرى يريد الشفاء، وهكذا يتعلق بالأسباب المخلوقة، سبباً وراء سبب، ولا يرفع يديه إلى السماء يسأل الله سبحانه وتعالى، مع أن الله سبحانه وتعالى هو أكرم من سُئِل في أي وقت.
فاسأل الله عز وجل فإنه لا يرد يديك صفراً، ولا يشترط أن يتحقق لك ما تريده؛ فقد يعطيك الله ما طلبت، أو يعطيك أفضل منه، أو يعطيك غيره، أو يدخر لك ذلك إلى يوم القيامة ويعطيك أجره، أو يدفع عنك من البلاء ما لا تعلم فلا ينزل بك، ففي كل حالة من الحالات أنت رابح غير خاسر.
بل إن الله سبحانه وتعالى فتح باب الدعاء لمن استحق الهلاك جزاء كفره وعناده وإعراضه، فتح الله له الباب أن يدعو الله، فيرفع الله عنه العذاب؛ قال تعالى: ((وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ))[المؤمنون:76]، وقال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ))[البروج:10] سبحان الله! يحرقون أولياءه بالنار ومع ذلك يقول: ((ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا)) فيمكنهم مع كل ما عملوه أن يتوبوا وإذا تابوا غفر لهم، فإن التوبة تَجُبُّ ما قبلها، فمن هو أكرم منه سبحانه وتعالى؟! وأي كرم فوق هذا الكرم؟!
{ إن الله حيي كريم }، فالكريم من البشر يستحيي أن يرد إنساناً طلبه، بل يعطيه ما أمكنه، وإن كان السائل فاجراً أو فاسقاً أو ظالماً، وإن وجده في أي مكان، فكيف بالله عز وجل الذي لا تنفد خزائنه وإن أنفق ما أنفق سبحانه وتعالى؟!
فالخير كله من عنده والأمر كله إليه، إليه المنتهى، وإليه يرجع الأمر كله؛ لكن من الذي يلتجئ إليه؟!! ((فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ))[الأنعام:43] فهذه مشكلة البشر في جميع العصور؛ حتى ولو كان العذاب قريباً، فالقلوب معرضة عن الله سبحانه وتعالى، وأعتى أمة شهدها هذا الوجود هي (عاد) قال تعالى: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ))[الفجر:6-8] أرسل الله سبحانه وتعالى عليهم العذاب، وانظروا إلى عتوهم: ((فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا))[الأحقاف:24] فظنوا أنهم لن يصيبهم عذاب، وهذا حال المعرضين عن الله سبحانه وتعالى، ولو أنهم تركوا هذه القسوة والغفلة، وتضرعوا إلى الله كما تضرع قوم يونس، لأزاح الله عنهم العذاب.
((فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ))[الأحقاف:24] والعارض هنا هو الريح تسوق السحاب الأسود وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى الريح بكى، واستغاث بالله سبحانه وتعالى؛ لأنه قد أهلك الله به أمة عظيمة، وهم الذين قال لهم هود عليه السلام: ((أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ))[الشعراء:128-130].
وعندما أقرأ هذه الآية أتذكر ما يسمى الآن بـالولايات المتحدة الأمريكية، وكأن الآية تنطبق عليهم، فلسان حالهم يقول: من أشد منا قوة؟! لكن والله لهم أهون على الله سبحانه وتعالى من بعوضة في فلاة، ولا يعبأ الله بالفجار ولا يبالي بهم؛ إذا أراد الله سبحانه وتعالى بعزته وقدرته أن يدمرهم.
فهؤلاء الأمريكان يبنون بكل مكان قواعد بحرية وحربية؛ حتى في الفضاء؛ ويعبثون ويفعلون ما لم يفعله قبلهم أحد من الأمم.
فنقول: مهما تجبر الخلق، ومهما عصوا الله سبحانه وتعالى؛ فإنهم لو تضرعوا وأنابوا إلى الله، لأغاثهم الله، ولكشف عنهم العذاب؛ فهو لا يرد أحداً دعاه في حال الشدة، فكيف في حال الطاعة؟! فهو سبحانه وتعالى حيي كريم إذا رفع العبد يديه إليه يستحيي أن يردهما صفراً.
فهذا الحديث هو جزء من دليل الفطرة، فالحديث دليل على علو الله؛ لأن العبد يرفع يديه إلى السماء في دعائه متوجهاً إليه سبحانه وتعالى، وهذا الرفع دليل على علو الله على خلقه، ودلالته كدلالة رفع النبي صلى الله عليه وسلم يده في ذلك المشهد العظيم في حجة الوداع، حين قال: {اللهم هل بلغت! اللهم فاشهد}.
وهناك من أهل البدع من يقول: إذا قال أحدٌ: يا ألله! وأشار بيده إلى أعلى، فقد ارتكب مكفراً، أو أقل شيء أنه يوافق العرب في عقائدهم الباطلة، أو أنه فاسق أو جاهل بالله، مع أن هذه الإشارة وردت في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي واردة أيضاً عند أصحاب الفطر المستقيمة والعقول السليمة.
وهؤلاء الذين يقررون بطلان هذه الإشارة لو جالستهم أو خالطتهم، لوجدت الواحد منهم يشير إلى الله عدة مرات وهو لا يدري، لأن هذا مما لا يمليه العقل؛ والإنسان مجبول عليه بالفطرة ذاتها، فهو يقع والإنسان غير مدرك له.
  1. إبطال شبهة أن العلو قبلة الدعاء

    قال: "والقول بأن العلو قبلة الدعاء فقط باطل بالضرورة والفطرة" باطل بالضرورة؛ أي: باطل بالعلم الضروري، وهو الذي لا يحتاج إلى استدلال، والعلم النظري هو الذي يحتاج إلى نظر واستدلال.
    والعلم الضروري عند من يدينون بالفلسفة ويستخدمون الأساليب المنطقية يعتبر محصوراً وضيقاً إلى حد أنهم -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى- لا يجزمون على شيء بأنه ضروري لا يحتاج إلى استدلال وأنه واضح جلي إلا على ما يتفق عليه عقلاء بني آدم، فيساويهم فيه كل إنسان، فهم كما يقول المتنبي :
    يموت راعي الضأن في جهله            ميتة جالينوس في طبه
    فـأرسطو مثلاً تعمق في علم الفلسفة وفي الاستدلالات العقلية ليجعل العلم نوعين: علم قطعي ضروري، وعلم نظري استدلالي، فكل المسائل القطعية الضرورية التي وصل إليها أفلاطون أو أرسطو يصل إليها ذلك الراعي، ولا فرق إلا في الاسم، فهذا راعٍ، وأرسطو فيلسوف، فلا فرق إذاً، بل الراعي أنظف ذهناً؛ ولم تشوش أفكاره تخبطات أولئك الفلاسفة، وحين تسأله وتقول له: هل الواحد نصف الاثنين؟! يقول: أنت مجنون، وكذلك لو قلت له: هل كل الغنم عندك أكثر من بعض غنمك؟! هل نصف التفاحة أصغر من كل التفاحة؟!
    والعرب لا تتخاطب بهذا أصلاً حتى الرعاة وحتى أهل البوادي، ويعتبرون هذا الكلام من لغو المجانين.
    وإذا تركنا الرعاة وأهل البوادي جانباً، وجئنا إلى علم الكلام، فإننا نجد المتكلمين يقسمون العلم إلى ضروري وإلى نظري؛ فالضروري كالعلم بأن الكل أكبر من الجزء، وأن الواحد نصف الاثنين، فهذه هي الضروريات التي لا تحتاج إلى نظر وإلى استدلال، فهي التي يدركها كل بني آدم.
    وبعضهم يمثل بالحسيات، فيقول: إن من العلم الضروري: أن السماء فوق الأرض، فهذه هي خلاصة ونهاية التعب والبحث عن اليقين -كما يسمونه هم- لنصل إلى هذه النتائج!
    وقد أغنانا الله عن علمهم هذا، فنحن نؤمن بالكتاب والسنة، فكم من اليقينيات نؤمن بها! نؤمن بالصراط ولم نره، وإنما عرفنا ذلك بالنص، ونؤمن بالميزان، ونؤمن بعذاب القبر، ونؤمن بالله سبحانه وتعالى، ونؤمن بالعالم العلوي بكل ما ورد فيه، ونؤمن بما سيقع من أحوال القيامة وأهوالها، وحال أهل الجنة وحال أهل النار، نؤمن به كأننا قد رأيناه، وهو علم يقيني ضروري قطعي لا نقاش فيه.
    فالاستدلال أو الرجوع إلى الكتاب والسنة يوسع فهم الإنسان وكلامه وعقله، فيرفعه ليكون إنساناً حقاً ويرفع عقله.
    وإذا استوى الفيلسوف وراعي الضأن، فلا يستوي المؤمنون والكافرون، ولا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أبداً!!
    لا يستوي من يقول: لا أدري، ومن يؤمن بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر والقبر وعذابه ونعيمه، فأين هذا من هذا؟!
    أين تلك الدابة الضالة السائمة من ذلك الذي قذف الله في قلبه النور وجعل في قلبه الإيمان؟!
    فالقول بأن العلو قبلة الدعاء فقط باطل بالضرورة -أي بالعلم الضروري- وباطل بالفطرة.
    يقول: "وهذا يجده من نفسه كل داعٍ" أي: كل من يدعو الله؛ إن دعا الله في جوف الأرض، أو دعا الله في الطائرة، أو دعاه على سطح الأرض، أو دعاه وهو في الملأ الأعلى، فإن شعوره يتجه إلى العلو.