الإرادات والغايات
فأما اختلاف الإرادات والغايات:
فإن مراد المؤمن الأعلى ومحبوبه بالقصد الأول هو الله تعالى، وأما الكافر فمراده وغايته ومحبوبه بالقصد الأول هو ما يتخذه من ند معبود وهوىً مألوه.
فهذا يريد الله والدار الآخرة همًّا وحرثاً، وذاك يريد حظ النفس ومتاع العاجلة.
وهذا كاف في تفسير التناقض الواضح بين واقع كل منهما في هذه الأرض أمماً وأفراداً، حتى مع اشتراكهما في بعض مظاهر السعي الصورية.
يقول الله تعالى: ((
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ))[البقرة:165].
ويقول جل ذكره: ((
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً))[الكهف:28].
ويقول على لسان إمام الموحدين إبراهيم عليه السلام في إنكاره لقومه: ((
أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ))[الصافات:86].
ويقول: ((
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *
ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ))[النجم:29-30].
ويقول: ((
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً *
وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً))[الإسراء:18-19].
والآيات في ذلك كثيرة معروفة.
كما أن من أعظم أخطاء الأمم الشركية أنها جعلت الوسائط والأسباب المخلوقة غايات ومرادات معبودة -وهذا الذي كثر الحديث عنه في القرآن- سواء اعتقدوا أن هذا السبب يوصل إلى الله تعالى تقرباً وتألها أو يوصل إلى شيء من الرزق والفضل الذي هو بيد الله وحده.
ولهذا قالوا: ((
مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى))[الزمر:3].
وقالوا: ((
هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ))[يونس:18].
وأبطل الله عز وجل -في مواضع كثيرة من كتابه- الشرك كله، سواء أكان في الغاية أو الواسطة، فحقيقة الشرك -على اختلاف صوره ومظاهره- هي الوقوف بالإرادات عند غاية دون الله عز وجل، أو الانقطاع إلى أسباب من خلق الله عز وجل وصنعه.
وبيّن أن ذلك من المشركين تخبط في الوهم وتعلق بالسراب.
((
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ))[يوسف:40].
((
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ))[العنكبوت:42].
((
وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ))[يونس:66].
وهذه قضية من أوضح قضايا التصور السلفي وأجلاها، وأصلها أن الناس لو عقلوا عن الله -عز وجل- كلامه وقاموا لله مثنى وفرادى، ثم تفكروا، لوجدوا أنه ما من شيء يتوهمونه مراداً وغاية لذاته، أو سبباً في حصول المرادات وتحقق الغايات، إلا هو مستلزم لسبب آخر وراءه، وما تزال الغايات والأسباب تتسلسل حتى تنتهي إلى الغاية التي ليس وراءها مطلب، والمصدر الذي ليس وراءه سبب وهو الله تعالى.
وهذا من كنوز التوحيد ودقائقه التي كان يقين
السلف الصالح بها يفوق المزاعم النظرية المثالية عند
المتصوفة ويبطل التصورات الوهمية الساذجة التي ابتدعها
المرجئة، ولهذا ملكوا نواصي الأمم واستذلوا مناكب الأرض جهاداً في سبيل الله.
يقول
ابن القيم رحمه الله:
''قول الله تعالى: ((
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ))[الحجر:21] متضمن لكنز من الكنوز، وهو أن كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيده، وأن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده ولا يقدر عليه.
وقوله: ((
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى))[النجم:42] متضمن لكنز عظيم وهو أن كل مراد إن لم يرد لأجله ويتصل به وإلا فهو مضمحل منقطع، فإنه ليس إليه المنتهى، وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها، فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه، فهو غاية كل مطلوب، وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب، وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل، وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه، فاجتمع ما يراد منه كله في قوله: ((
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)) فليس وراء الله سبحانه غاية تطلب وليس دونه غاية إليها المنتهى.
وتحت هذا سر عظيم من أسرار التوحيد، وهو أن القلب لا يستقر ولا يطمئن ولا يسكن إلا بالوصول إليه، وكل ما سواه مما يحب ويراد فمراد لغيره، وليس المراد المحبوب لذاته إلا واحد إليه المنتهى، ويستحيل أن يكون المنتهى إلى اثنين، كما يستحيل أن يكون ابتداء المخلوقات من اثنين، فمن كان انتهاء محبته ورغبته وإراداته وطاعته إلى غيره بطل عليه ذلك، وزال عنه وفارقه أحوج ما كان إليه، ومن كان انتهاء محبته ورغبته ورهبته وطلبه هو سبحانه، ظفر بنعيمه ولذته وبهجته وسعادته أبد الآباد''
.
''ولا يزال العبد منقطعاً عن الله حتى تتصل إراداته ومحبته بوجهه الأعلى، والمراد بهذا الاتصال أن تفضي المحبة إليه وتتعلق به وحده، فلا يحجبها شيء دونه، وأن تتصل المعرفة بأسمائه وصفاته وأفعاله، فلا يطمس نورها ظلمة التعطيل، كما لا يطمس نور المحبة ظلمة الشرك، وأن يتصل ذكره به سبحانه، فيزول بين الذاكر والمذكور حجاب الغفلة، والتفاته في حال الذكر إلى غير مذكوره، فحينئذٍ يتصل الذكر به ويتصل العمل بأوامره ونواهيه، فيفعل الطاعة لأنه أمر بها وأحبها، ويترك المناهي لكونه نهى عنها وأبغضها.
فهذا معنى اتصال العمل بأمره ونهيه، وحقيقته: زوال العلل الباعثة على الفعل والترك من الأغراض والحظوظ العاجلة.
و يتصل التوكل والحب بحيث يصير واثقاً به -سبحانه- مطمئناً إليه راضياً بحسن تدبيره له غير متهم له في حال من الأحوال، ويتصل فقره وفاقته به سبحانه دون من سواه.
ويتصل خوفه ورجاؤه وفرحه وسروره وابتهاجه به وحده، فلا يخاف غيره ولا يرجوه، ولا يفرح به كل الفرح، ولا يسر به غاية السرور، وإن ناله بالمخلوق بعض الفرح والسرور، فليس الفرح التام والسرور الكامل والابتهاج والنعيم وقرة العين وسكون القلب إلا به سبحانه، وما سواه إن أعان على هذا المطلوب فرح به وسر به، وإن حجب عنه فهو بالحزن به والوحشة منه واضطراب القلب بحصوله أحق منه بأن يفرح به، فلا فرحة ولا سرور إلا به أو بما أوصل إليه وأعان على مرضاته.
وقد أخبر سبحانه أنه لا يحب الفرحين بالدنيا وزينتها، وأمر بالفرح بفضله ورحمته، وهو الإسلام والإيمان والقرآن كما فسره الصحابة والتابعون.
والمقصود أن من اتصلت له هذه الأمور بالله سبحانه فقد وصل، وإلا فهو مقطوع عن ربه متصل بحظه ونفسه وملبّس عليه في معرفته وإراداته وسلوكه''
إن الكافر العصري -الأوروبي خاصة- بظلمه وجهله ونسيانه يغفل عن أعظم غاية يفتقر إليها قلبه، وهي الإيمان بالله عز وجل، وينسى أن جوعة الإيمان لا يسد رمقها أي نوع من ملاذِّ الدنيا ومتاعها الزائل وغاياتها الدنيئة، وهو إذ يحس ذلك من نفسه، ويرى أنها غير مستسلمة لله ولا منقادة لأمره، لا يرضى أن ينسب للعبودية، بل ينكر أن يكون يعبد شيئاً بإطلاق.
وهو بهذا يفتقد الصراحة التي كان كفار الماضي يتمسكون بها مع أنفسهم، فقد كانوا مقرين بالعبودية لمعبوداتهم، حتى إنهم ليسمون أنفسهم: عبد اللات، وعبد العزى، وعبد يغوث، ونحوها مما هو كثير في أسمائهم، وهو ما تزال تعترف به عوام الأمم
الوثنية المعاصرة في
آسيا و
إفريقيا وغيرها، فمع اشتراك الفريقين في الضلال والعذاب الشديد بالعبودية لغير الله يزيد الكافر العصري عناداً وجحوداً بمكابرته في إنكار ما هو عليه من الرق لغير الله.
ولعل مرجع ذلك إلى أن الإنسان المعاصر قد صدق المزاعم الهدامة التي بثها دعاة الضلالة من الخارجين عن الكنيسة
النصرانية الوثنية أمثال
جوليان هكسلي و
سارتر ونحوهما، تلك المزاعم التي تدعي أن الإنسان اختلق فكرة الألوهية لما كان محتاجاً إليها، أما الآن فقد أصبح هو نفسه الإله, تعالى الله عما يفترون علواً كبيراً.
وبغض النظر عن الغرض الهدام وراء هذه الأفكار، فإن مؤدى التبرير العقلي لها هو: أن الإنسان الحديث بما حصل عليه من المعرفة -التي لا تتجاوز نسبة ضئيلة من أسرار خلق الله- قد أصبح شيئاً آخر وخلقاً جديداً غير الإنسان القديم الذي كان من خصائصه الحاجة إلى الإيمان.
وكأنما يريدون أن يقولوا: إن الطبيعة البشرية أو الفطرة الإنسانية لم تعد على الحال الذي كانت عليه في الماضي، بل تحولت إلى شيء آخر، وهذا من أعظم أنواع المكابرات، وهذه المزاعم أثر من آثار لوثة [التطور السائب] الذي آمن به الفكر الأوروبي أثناء ثورته الجامحة على طغيان الكنيسة وجمودها.
والتصور السلفي يرد على هذه الفكرة منذ القدم مبيناً أن الافتقار ذاتي في كل إنسان ما ظل يطلق عليه اسم [إنسان] وما ظل حياً حساساً حارثاً هماماً، وأن الاستكبار عن عبادة الله كالإقرار بالعبودية لغير الله سواء بسواء.
و هذه حقيقة قائمة لا يضيرها من تملص منها أو كابر فيها، فما مثله إلا كمثل رجل كليلٍ كسيحٍ تظهر عليه كل آثار المرض والفقر والعجز، ومع ذلك يصر بلسانه على أنه أغنى الناس وأصحهم وأقدرهم، ومن أراد الوصول إلى الحقيقة فليضم ما كتبه أدباء
أوروبا ومفكروها عن شقاء الإنسان الحديث وضياعه وتمزقه وذعره, إلى قول شَيْخ الإِسْلامِ
ابن تيمية:
'' القلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل وهي العلة الفاعلة ''
.
ولو حصل له كل ما يلتذُّ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذِّة والنعمة والسكون والطمأنينة.
و هذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له، فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة: ((
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))
فإنه لو أعين على حصول كل ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده، ولم يحصل له عبادة الله، فلن يحصل إلا على الألم والحسرة والعذاب، ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها إلا بإخلاص الحب لله، بحيث يكون الله هو غاية مراده ونهاية مقصوده وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله لا يحب شيئاً لذاته إلا الله.
ومتى لم يحصل له هذا، لم يكن قد حقق حقيقة [لا إله إلا الله] ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة لله، وكان فيه من نقص التوحيد والإيمان بل من الألم والحسرة والعذاب بحسب ذلك.
ولو سعى في هذا المطلوب، ولم يكن مستعيناً بالله متوكلاً عليه مفتقراً إليه في حصوله لم يحصل له، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فهو مفتقر إلى الله من حيث هو المطلوب والمحبوب والمراد المعبود, ومن حيث هو المسئول المستعان به المتوكل عليه.
فهو إلهه الذي لا إله له غيره وهو ربه الذي لا رب له سواه.
ولا تتم عبوديته لله إلا بهذين، فمتى كان يحب غير الله لذاته أو يلتفت إلى غير الله أنه يعينه، كان عبداً لما أحبه وعبداً لما رجاه بحسب حبه له ورجائه إياه، وإذا لم يحب أحداً لذاته إلا الله، وأي شيء أحبه سواه فإنما أحبه سواه له، ولم يرج قط شيئاً إلا الله، وإذا فعل ما فعل من الأسباب أو حصل ما حصل منها كان مشاهداً أن الله هو الذي خلقها وقدَّرها وسخرها له، وأن كل ما في السماوات والأرض فالله ربه ومليكه وخالقه ومسخره وهو مفتقر إليه, كان قد حصل له من تمام عبوديته لله بحسب ما قسم له من ذلك.
فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم وأقربهم إلى الله وأقواهم وأهداهم أتمهم عبوديةً لله من هذا الوجه، وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه، وهو أن يستسلم لله لا لغيره، فالمستسلم له ولغيره مشرك، والممتنع عن الاسستلام له مستكبر .
''وكل من استكبر عن عبادة الله لا بد أن يعبد غيره فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة''
ثم قال بعد هذا الكلام المنقول سابقاً: '' بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكباراً عن عبادة الله كان أعظم إشراكاً بالله، لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقراً وحاجةً إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود: مقصود القلب بالقصد الأول، فيكون مشركاً بما استعبده من ذلك.
ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه الله، ولا يعادي إلا من عاداه الله، ولا يحب إلا لله، ولا يبغض شيئاً إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فكلما قوي إخلاص دينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته لله تكمل تبرئته من الكبر والشرك ''
.
وبعد أن تحدث عن الإسلام الاختياري تحدث عن الإسلام الإجباري، حيث تكون حقيقة الافتقار التي لا مراء فيها لأحد: '' وقال تعالى: ((
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً))[آل عمران:83]
فذكر إسلام الكائنات طوعاً وكرهاً، لأن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام، سواء أقر بذلك أو أنكره، وهم مدينون له مدبَّرون، فهم مسلمون له طوعاً وكرهاً، ليس لأحد من المخلوقات خروج عما شاءه وقدره وقضاه، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو رب العالمين ومليكهم يصرفهم كيف يشاء، وهو خالقهم كلهم وبارئهم ومصورهم، وكل ما سواه فهو مربوب مصنوع مفطور فقير محتاج مقهور، وهو سبحانه الواحد القهار الخالق البارئ المصور.
وهو وإن كان قد خلق ما خلقه بأسباب فهو خالق السبب والمقدر له، وهو مفتقر إليه كافتقار هذا، وليس في المخلوقات سبب مستقل بفعل خير ولا دفع ضر، بل كل ما هو سبب فهو محتاج إلى سبب آخر يعاونه وإلى ما يدفع عنه الضد الذي يعارضه ويمانعه.
وهو سبحانه وحده الغني عن كل ما سواه، ليس له شريك يعاونه ولا ضد يناوئه ويعارضه ''
.
إن كثيراً من المسلمين -ولله الحمد- يدركون حقيقة إسلام الكون القهري لله تعالى، فلا يتطرق إليهم الشك في أن الكفار في
أوروبا و
أمريكا مربوبون لله تعالى من حيث هو خالقهم ورازقهم ومدبر أمورهم.
ولكنهم -مع ذلك- لا يدركون الجانب الآخر من الحقيقة، وهو أن هؤلاء الكفار عبيد أرقاء مغرقون في العبودية والرق لغير الله.
ولا غرابة في خفاء ذلك على أكثر المسلمين، لأنهم -هم- واقعون في شرك الإرادة وهم لا يشعرون.
حتى البلاد التي عافاها الله فتخلصت من شرك التقرب والتنسك لغير الله غزاها الشيطان بشرك الإرادة الخفي، وفتنها ما فتح الله عليها من كنوز الأرض، فانكب أهلها على الدنيا انكباب الغافلين، وعبدوا الدراهم والدينار -بل التراب والعقار- وتحولت العقيدة الصحيحة إلى نظرية ذهنية موروثة، وحتى شكلها النظري لم يبق منه لدى العامة إلا معانٍ شاحبةٍ
إلا من سلَّم الله وحفظ.
هذا والواجب والأصل أن تكون هذه الحقيقة النفسية واضحة وضوح تلك الحقيقة الكونية.
ورحم الله الشيخ
محمد بن عبد الوهاب فقد عقد باباً خاصاً في كتابه المبارك
كتاب التوحيد بعنوان:
'' باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا. أورد فيه قوله تعالى: ((
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ))[هود:15]
والحديث الصحيح: {
تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط...} الحديث''
ومراده أوسع وأعمق مما ذكره حفيده العلامة
سليمان بن عبد الله في قوله: ''إن المراد بهذا الباب أن يعمل الإنسان عملاً صالحاً يريد به الدنيا، كالذي يجاهد للقطيفة والخميلة ونحو ذلك ''
فهذا وإن كان داخلاً في المراد، لكن تقييده به تضييق لمغزى واسع أحسب أن الشيخ المؤلف أراد إيضاحه، وهو أن أكثر الناس -المسلمين وغيرهم- جعلوا همهم وحرثهم وكدحهم وكبدهم للدنيا وحدها، فلا تتحرك قلوبهم ولا تنفعل إلا لها وبها، حتى أنهم لو دعوا الله وعبدوه، فإنما يريدون بذلك زيادة الخير والبركة في الصحة والرزق، وهذا باب أوسع من باب فساد النية مع عمل صالح يفعله العبد المؤمن، فهذا الباب -الأخير- يصيب الصالحين ويعرض للمخلصين.
كما أن ظاهر الحديث لا يؤيد كلامه -رحمه الله- فالمقصود من الحديث هو عبودية القلب وإرادته غير الله، وليس مجرد فساد النية مع عمل صالح، ألا ترى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربط بين العبودية للدنيا وعمل القلب بقوله: {
إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط} وهو مطابق لمنطوق ما ذكر الله عن المنافقين في قوله: ((
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ))[التوبة:58] وهي ضمن سياق كله في النفاق الأكبر.
فعبودية القلب للدنيا التي لحظها
شَيْخ الإِسْلامِ -المؤلف- هي ذلك الداء العضال الذي ابتليت به الأمة الإسلامية، فنزع الله مهابتها من قلوب أعدائها، وقذف في قلوبها الوهن حب الدنيا وكراهية الموت، فأصبح حرثها وهمها للدنيا وحدها .
وهذه بلوى أوسع وأخطر من الجهاد من أجل القطيفة والخميلة الذي قد لا يزيد عن كونه ذنباً عارضاً يتاب منه، وليس المرض العارض كالعاهة المزمنة، والرجل قد يعمل أو يجاهد لأجل القطيفة والخميلة حتى إذا ملكها كانت في يده ولم تكن في قلبه، بخلاف الذي استعبد حبها قلبه وملك عليه لبه، فهذا الحقيق بأن يسميه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبداً لها، وينطبق عليه قوله تعالى: ((
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *
ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى))[النجم:29-30]
وإرادة القلب للدنيا إفساد لعمل القلب من اليقين والتوكل والرضا ونحوها, بخلاف صرف شيء من العمل للدنيا، ففيه إفساد لعمل الجارحة من جهاد وصدقة يريد بها نماء ماله ونحوها, ومع تلازمهما
فالأول أعظم من الأخير .
ومما يوضح ذلك أن الرياء إنما كان شركاً أصغر لطروء الفساد على عمل القلب، بخلاف سائر المعاصي التي يكون الفساد فيها مقتصراً على عمل الجوارح، فلم يطلق عليها الشارع لفظ الشرك مثله.
وإرادة غير الله بالهم والحرث بحيث تنصرف أعمال القلوب لمراد غيره يستهلكها أو أكثرها أمكن في باب الشرك من مجرد الرياء بطاعة من الطاعات أو طلب الدنيا بها، لكن ها هنا مجال التفاوت، فمن صرف إرادته لغير الله بالكلية كان عبداً خالصاً لغير الله، ومن جرد إرادته لله وحده بلغ الذروة من الإيمان، وبين ذلك درجات كثيرة وحالات مختلفة.
والحالة التي نريد علاجها هنا هي عبودية القلب لغير الله دون أن يشعر، لأن غفلة الناس عنها وراء وقوعهم في الوهم الأكبر: ''وهو أنهم محققون للإيمان مع كونهم غير عابدين لغير لله ''.
و الحال أنهم بضد ذلك حتى لو سلموا من الشرك الجليّ، وما أقل السالمين منه!
يقول
شَيْخ الإِسْلامِ: '' كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهم أن المخلوق يخرج من العبودية بوجه من الوجوه أو أن الخروج عنها أكمل، فهو من أجهل الخلق بل من أضلهم''
ثم ذكر النصوص في ذلك، وقال: '' إذا تبين ذلك فمعلوم أن الناس يتفاضلون في هذا الباب تفاضلاً عظيماً وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان، وهم ينقسمون فيه إلى عام وخاص، ولهذا كانت إلهية الرب لهم فيها عموم وخصوص.
و لهذا كان الشرك في هذا الأمة أخفى من دبيب النمل.
وفي الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {
تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطي رضي وإن منع سخط}.
فسماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عبد الدرهم وعبد الدينار وعبد القطيفة وعبد الخميصة وذكر ما فيه دعاء وخبراً، وهو قوله: {
تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش }.
والنقش: إخراج الشوكة من الرجل، والمنقاش: ما يخرج به الشوكة، وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه ولا خلص من المكروه، وهذا حال من عبد المال.
وقد وصف ذلك بأنه إذا أعطي رضي، وإذا منع سخط كما قال تعالى:
((
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ))[التوبة:58].
فرضاهم لغير الله، وسخطهم لغير الله .
وهكذا حال من كان متعلقاً برئاسة أو بصورة ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة: هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فالقلب عبده
و هذا أمر يجده الإنسان من نفسه، فإن الأمر الذي ييئس منه لا يطلبه ولا يطمع فيه ولا يبقى قلبه فقيراً إليه ولا إلى من يفعله، وأما إذا طمع في أمر من الأمور ورجاه، فإن قلبه يتعلق به، فيصير فقيراً إلى حصوله، وإلى من يظن أنه سبب في حصوله، وهذا في الحال والجاه والصور وغير ذلك.
قال الخليل: ((
فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ))[العنكبوت:17]
فالعبد لا بد له من رزق وهو يحتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من الله صار عبداً لله فقيراً إليه، وإذا طلبه من مخلوق صار عبداً لذلك المخلوق فقيراً إليه. ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة، وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد '' .
وبعد أن نقل طائفة من الأحاديث في ذلك قال: '' والإنسان لا بد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه ودفع ما يضره، وكلا الأمرين شرع له أن يكون دعاؤه لله، فلا يسأل رزقه إلا من الله ولا يشتكي إلا إليه- كما قال يعقوب عليه السلام: ((
إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ...))[يوسف:86]
وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته لقضاء حاجته ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما سواه، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه، كما قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره.
فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من الله والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله، لا سيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق، بحيث يكون قلبه معتمداً إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه، وإما على أهله وأصدقائه، وإما على أمواله وذخائره، وإما على ساداته وكبرائه، كمالكه وملكه وشيخه ومخدومه وغيرهم ممن هو قد مات أو يموت، قال تعالى: ((
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً))[الفرقان:58].
وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً لهم مديراً لأمورهم متصرفاً بهم.
فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة -ولو كانت مباحة له- يبقى أسيراً لها، تتحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها أو مالكها، ولكنه في الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، لا سيما إذا علمت بفقره إليها وعشقه لها، وأنه لا يعتاض عنها بغيرها، فإنها حينئذ تتحكم فيه تحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه، بل أعظم، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استعبد بدنه واسترق وأسر لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص.
وأما إذا كان القلب الذي هو ملك الجسم رقيقاً مستعبداً متيّماً لغير الله، فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية الذليلة لما استعبد القلب، وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، فإن المسلم لو أسره كافر أو استرقه فاجر بغير حق، لم يضره ذلك إذا كان قائماً بما يقدر عليه من الواجبات، ومن استعبد بحق إذا أدى حق الله وحق مواليه فله أجران، ولو أكره على التكلم بالكفر، فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان، لم يضره ذلك.
وأما من استعبد قلبه فصار عبداً لغير الله، فهذا يضره ذلك، ولو كان في الظاهر ملك الناس.
فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
{
ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس } وهذا لعمر الله إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة، فأما من استعبد قلبه صورة محرمة -امرأة أو صبي- فهذا هو العذاب الذي لا يدانيه عذاب.
وهؤلاء عشاق الصور من أعظم الناس عذاباً وأقلهم ثواباً، فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها مستعبداً لها، اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد.
وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم، فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم، فيبذل لهم الأموال والولايات، ويعفو عما يجترحونه ليطيعوه ويعينوه، فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم.
و التحقيق أن كلاهما
فيه عبودية للآخر، وكلاهما تارك لحقيقة عبادة الله، وإذا كان تعاونهما على العلو في الأرض بغير الحق كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع الطريق، فكل واحد من الشخصين لهواه الذي استعبده واسترقه مستعبد للآخر.
و هكذا أيضاً طالب المال، فإن ذلك المال يستعبده ويسترقه ''.
ثم يقول رحمه الله: '' وهذه الأمور نوعان:
1- منها ما يحتاج العبد إليه من طعامه وشرابه ومسكنه ومنكحه ونحو ذلك، فهذا يطلبه من الله ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده -يستعمله في حاجته- بمنزلة حماره الذي يركبه وبساطه الذي يجلس عليه، بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيها حاجته من غير أن يستعبده،
فيكون هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً.
2- ومنها ما لا يحتاج العبد إليه، فهذا لا ينبغي له أن يعلق قلبه به، إذا علق قلبه به صار مستعبداً له، وربما صار معتمداً على غير الله فلا يبقى معه حقيقة العبادة لله ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله وشعبة من التوكل على غير الله، وهذا من أحق الناس بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة}. وهذا هو عبد هذه الأمور فإنه لو طلبها من الله، فإن الله إذا أعطاه إياها رضي، وإذا منعه إياها سخط، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله تعالى، وهذا هو الذي استكمل الإيمان كما في الحديث: {
من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان} وقال: {
أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله} ''
وشرح الإمام
ابن القيم رحمه الله في مواضع متفرقة كيف أن أعظم أصول المعاصي كلها هو تعلق القلب بغير الله، وأن سبب انحراف الناس عن الإيمان انحرافهم عن صحة المعرفة وصحة الإرادة.
ويقول: ''إذا أصبح العبد وأمسى، وليس همه إلا الله وحده، تحمل الله سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمه، وفرّغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمّله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم.
فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره، كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره، فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته، قال تعالى: ((
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ))[الزخرف:36]
ويقول: "الإنابة هي عكوف القلب على الله -عز وجل- كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه، وحقيقة ذلك عكوف القلب على محبته وذكره بالإجلال والتعظيم، وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له والمتابعة لرسوله.
ومن لم يعكف قلبه على الله وحده عكف على التماثيل المتنوعة، كما قال إمام الحنفاء لقومه: ((
مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ))[الأنبياء:52] فاقتسم هو وقومه حقيقة العكوف، فكان حظ قومه العكوف على التماثيل وكان حظه العكوف على الرب الجليل.
والتماثيل جمع تمثال وهي الصور الممثلة، فتعلق القلب بغير الله واشتغاله به والركون إليه عكوف منه على التماثيل، التي قامت بقلبه، وهو نظير العكوف على تماثيل الأصنام.
ولهذا كان شرك عبّاد الأصنام بالعكوف بقلوبهم وهممهم وإرادتهم على تماثيلهم، فإذا كان في القلب تماثيل قد ملكته واستعبدته بحيث يكون عاكفاً عليها، فهو نظير عكوف [عباد]
الأصنام عليها، ولهذا سماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبداً لها ودعا عليه بالتعس والنكس، فقال: {
تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش}"
.
ويقول: ''ومن هنا يتبين انحراف أكثر الناس عن الإيمان لانحرافهم عن صحة المعرفة وصحة الإرادة.
ولا يتم الإيمان إلا بتلقي المعرفة من مشكاة النبوة وتجريد الإرادة عن شوائب الهوى وإرادة الخلق، فيكون علمه مقتبساً من مشكاة الوحي وإرادته لله والدار الآخرة ''
.