وفي أحد تتجلى طبيعة هذا الدين، وحقيقة الإيمان الذي جاء به في جانبي العمل الإيماني كليهما: عمل القلب وعمل البدن، فأما عمل الجوارح وجهادها خلال وقائع المعركة، فقد كانت التضحيات الكبرى والنماذج الفذة في المصابرة والمناجزة، كما كانت البطولات الرائعة والجراح العميقة التي تحدثت عنها مصادر السيرة الصحيحة والتي ستظل الأجيال وراء الأجيال تستمد منها الوقود لجهاد لا يعرف اليأس، وصبر لا يعرف الوهن.
ولكن الجانب الأعظم في دروس هذه الغزوة -لا سيما بالنسبة لموضوعنا- هو جانب عمل القلب، وهو الجانب الذي يكشف عن حقيقة معركة هذا الدين وطبيعة سيره وفق سنة الله الثابتة التي لا يصح إغفالها أو تناسيها في أي عصر ولدى أي دعوة.
'' إن معركة أحد لم تكن معركة في الميدان وحده، إنما كانت معركة كذلك في الضمير، كانت معركة ميدانها أوسع الميادين، لأن ميدان القتال فيها لم يكن إلا جانباً واحداً من ميدانها الهائل الذي دارت فيه، ميدان النفس البشرية وتصوراتها ومشاعرها وأطماعها وشهواتها ودوافعها وكوابحها على العموم.
وكان القرآن هناك يعالج هذه النفس بألطف وأعمق، وبأفعل وأشمل ما يعالج المحاربون أقرانهم في النزال!
وكان النصر أولاً وكانت الهزيمة ثانياً، وكان الانتصار الكبير فيها بعد النصر والهزيمة، انتصار المعرفة الواضحة والرؤية المستنيرة للحقائق التي جلَّاها القرآن، واستقرار المشاعر على هذه الحقائق، واستقرار اليقين، وتمحيص النفوس، وتمييز الصفوف، ووضوح سمات النفاق وسمات الصدق في القول والفعل، وفي الشعور والسلوك، ووضوح تكاليف الإيمان وتكاليف الدعوة إليه والكرة به، مقتضيات ذلك كله من الاستعداد بالمعرفة والاستعداد بالتجرد والاستعداد بالتنظيم والتزام الطاعة والاتباع بعد هذا كله، والتوكل على الله وحده في كل خطوة من خطوات الطريق، ورد الأمر إلى الله وحده في النصر والهزيمة وفي الموت والحياة، وفي كل أمر وفي كل اتجاه ''.
ولقد أنزل الله تعالى لبيان ذلك كله وعلاجه وتقريره ستين آية من سورة آل عمران آيات مفصلات تبين حقيقة الإيمان ومقتضياته، وارتباط النصر أو الهزيمة بجزئياته التي قد لا يحسب لها كثير من الناس بل من الدعاة حساب.
ومن ثم لم يقف سياق هذه الآيات عند حدود المعركة القتالية ودروسها الحية، بل تعرض بوضوح وتفصيل لأعمال إيمانية كثيرة، ذلك أن '' القرآن كان يعالج الجماعة المسلمة على أثر معركة -لم تكن كما قلنا- معركة في ميدان القتال وحده، إنما كانت معركة في الميدان الأكبر، ميدان النفس البشرية وميدان الحياة الواقعية، ومن ثم عرج على الرِّبا فنهى عنه، وعرج على الإنفاق في السراء والضراء فحض عليه، وعرج على طاعة الله ورسوله فجعلها مناط الرحمة، وعرَّج على كظم الغيظ والعفو عن الناس، وعلى الإحسان والتطهر من الخطيئة بالاستغفار، والتوبة وعدم الإصرار، فجعلها مناط الرضوان.
كما عرج على رحمة الله المتمثلة في رحمة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولين قلبه، وعلى مبدأ الشورى وتقريره في أحرج الأوقات، وعلى الأمانة التي تمنع الغلول، وعلى البذل والتحذير من البخل في نهاية ما نزل في التعقيب على هذه الغزوة من آيات...
عرج على هذا كله لأنه مادة إعداد الجماعة المسلمة للمعركة الكبرى في نطاقها الواسع، الذي يتضمن المعركة الحربية في إطاره ولا يقتصر عليها، معركة التعبئة الكاملة للانتصار الكبير، الانتصار على النفس والشهوات والمطامع والأحقاد، والانتصار في تقرير القيم والأوضاع السليمة لحياة الجماعة الشاملة.
وعرج على هذا كله ليشير إلى وحدة هذه العقيدة في مواجهة الكينونة البشرية ونشاطها كله، ورده كله إلى محور واحد، محور العبادة لله والعبودية له والتوجه إليه في حساسية وتقوى، وإلى وحدة منهج الله في الهيمنة على الكينونة البشرية كلها في كل حال من أحوالها، وإلى الترابط بين جميع هذه الأحوال في ظل هذا المنهج، وإلى النتائج النهائية للنشاط الإنساني كله، وتأثر كل حركة من حركات النفس وكل جزئية من جزئيات التنظيم في هذه النتائج النهائية.
وإذن فهذه التوجيهات الشاملة ليست بمعزل عن المعركة، فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية، والذين تولوا يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب، والذين انتصروا في معارك العقيدة وراء أنبيائهم هم الذين بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب، والالتجاء إلى الله، والالتصاق بركنه الركين.
والتطهر من الذنوب إذن، والالتصاق بالله، والرجوع إلى كنفه من عدة النصر وليست بمعزل عن الميدان، واطراح النظام الربوي إلى النظام التعاوني من عدة النصر، وكظم الغيظ والعفو عن الناس من عدة النصر، فالسيطرة على النفس قوة من قوى المعركة، والتضامن في المجتمع والتسامح قوة ذات فاعلية كذلك '' إن هذه كلها شُعب من شُعب الإيمان التي يجب على الجماعة المؤمنة أن تستكملها لتكون أهلاً لنصر الله وتأييده، والحديث عن هذه الشعب ضمن الحديث عن المعركة وتقديرها ضمن دروس المعركة وتوجيهاتها يعطي أكبر الدلالة على حقيقة هذا الدين وحقيقة الإيمان، فإن تعليم هذه الأحكام وتقريرها حصل في جو الدماء والمعارك والمجاهدة، فما بالك بالالتزام بها وتنفيذها في واقع النفس والحياة، ولهذا قال جل شأنه: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا))[العنكبوت:69].
إن الإنسان ليشعر بالهوة الساحقة بين قمة الإيمان -هذه التي يبينها القرآن وتدل عليها سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحياة الجماعة المسلمة الأولى- وبين مستنقع النظريات الكلامية المجردة وهي تتحدث عن الإيمان في تجريد وغموض وأوهام وأخلاط، وإن الأمة التي تدع أخذ عقيدتها من كتاب ربها وسنة نبيها وواقع سيرته كي تأخذها من هذه النظريات السقيمة لهي جديرة بأن تكون على الحال الذي عليه أمة الإسلام اليوم وحسبك به حال.
وأنه إذا كانت المخالفة الجزئية لخطة المعركة -كما وقع من الرماة- وتطلع بعض النفوس إلى الغنائم المادية، وتولي بعض الأفراد حين حمى الوطيس نذائر شؤم وأسباب هزيمة وخسارة، فما بالك بأمة تلقي كتاب ربها وراءها ظهرياً، وتعبد الدرهم والدينار، ولا يخطر على بالها جهاد قط، وتستحل الربا والغلول و...، و... , وتفعل ما تعرضت له هذه الآيات وما لم تتعرض له، ثم تستبطئ نصر الله الذي وعد به المؤمنين، وتحسب نفسها مؤمنة حق الإيمان، لأنها تصدق بقلوبها وتقر بلسانها، فهذا هو الإيمان كما علَّمته إياها كتب علم الكلام!
إنها هوة كبيرة جداً بين هذا الإيمان الحي المتحرك الوثاب الذي يخطئ فيرى عقوبة خطيئته، ويصيب فيرى بركة استقامته، وبين تلك القضايا الذهنية الباهتة الباردة التي يتوهمها الكلاميون، والعواطف الغامضة المشوشة التي يتخرصها الصوفيون.
وخير مثال لهذه الهوة، هو الهوة بين واقع الجيل الأول وواقع العصور المتأخرة عصور الإرجاء!
وبعد أن تمثلنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مكسور الثنية، مجروح الوجنة متردياً في حفرة يوم أحد، نتمثله الآن في يوم آخر وهو عاصب على بطنه من الجوع يضرب بالفأس، ويجرف بالمسحاة، ويحمل في المكتل، وينشد مع أصحابه:
والله لولا الله ما اهتدينا            ولا تصدقنا ولا صلينا
ويقول:
اللهم إن العيش عيش الآخرة            فاغفر للأنصار والمهاجرة
فيجيبونه:
نحن الذين بايعوا محمداً            على الجهاد ما بقينا أبداً
وذلك يوم الخندق، وما أدراك ما يوم الخندق؟!
هذا اليوم الذي يضيف إلى دروس أحد دروساً جديدة، ويرسم معالم إيمانية جديدة أيضاً، ويعطي صفحة أخرى نقرأ فيها كيف أنه '' في معترك الحياة ومصطرع الأحداث كانت الشخصية المسلمة تصاغ، ويوماً بعد يوم وحدثاً بعد حدث كانت هذه الشخصية تنضج وتنمو وتتضح سماتها، وكانت الجماعة المسلمة التي تتكون من تلك الشخصيات تبرز إلى الوجود بمقوماتها وقيمها الخاصة وطابعها المميز بين سائر الجماعات.
وكانت الأحداث تنهال على الجماعة الناشئة حتى لتبلغ أحياناً درجة الفتنة، وكانت فتنة كفتنة الذهب، تفصل بين الجوهر الأصيل والزبد الزائف، وتكشف عن حقائق النفوس ومعادنها فلا تعود خليطاً مجهول القيم''
وكل ذلك إنما هو مقتضيات جديدة للإيمان، وتحقيق واقعي لزيادته التي ظل هذا الجيل يترقى فيها درجة بعد درجة حتى وصل إلى الكمال الذي لم يبلغه جيل مثله قط، فاستحق بذلك القوامة على العالمين، والثناء العظيم من رب العالمين.
ولو أن إيمانهم وقف عند عقبة من عقبات الطريق الشاقة، أو تملص من فتنة من فتن التمحيص الحادة، لما تحقق لهم كل ما تحقق، بل ربما خسروا وخسرت الإنسانية كلها.
ومع ما في الخندق من زيادات للإيمان جديدة، ودروس للبناء جديدة، فإنها كانت امتداداً طبيعياً لسنة الله في سير هذا الدين -كما ألمحنا إليها- وفي تزكية النفس الإنسانية به.
ذلك أن الله تعالى لم ينزل القرآن بمواعظه وتزكيته على قوم محبوسين في الأديرة والصوامع، أو قابعين في زوايا الحياة، وإنما اقتضت حكمته أن تكون الموعظة والتزكية من خلال الابتلاءات والامتحانات المتكررة ''فقد علم الله أن هذه الخليقة البشرية لا تصاغ صياغة سليمة , ولا تنضج نضجاً صحيحاً، ولا تصح ولا تستقيم على منهج إلا بذاك النوع من التربية التجريبية الواقعية التي تحفر في القلوب , وتنقش في الأعصاب , وتأخذ من النفوس وتعطي في معترك الحياة ومصطرع الأحداث.
أما القرآن فينزل ليكشف لهذه النفوس عن حقيقة ما يقع ودلالته، وليوجه تلك القلوب وهي منصهرة بنار الفتنة، ساخنة بحرارة الابتلاء، قابلة للطرق، مطاوعة للصياغة '' .
ومن واقع أنفسنا اليوم نستدل على هذه الحقيقة؛ فنحن نقرأ آيات المعركة كما في سورة الأحزاب: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً))[الأحزاب:9-11] الآيات.
نقرأها فنمر عليها مروراً عابراً، وإذا فسرها المفسرون منا فقد لا يزيدون على قولهم: (( إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ))[الأحزاب:10] أي: من جهتي المدينة، ((وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ))، أي: من الخوف، (( وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ )) أي: ارتفعت من شدة الخوف.. إلخ.
أما أن نقف -ولو في الشعور- مثل ذلك الموقف الرهيب , والكرب الشديد، والأهوال المحدقة لنواجه أعداء الله ونعلي كلمته متأسين بذلك الجيل، فهذا ما لا يخطر على قلب كثير من المسلمين اليوم , وعلى رأسهم نحن المنتسبين للعلم الشرعي في كثير من الأحيان، والله المستعان.
إن الحديث عن الإجهاد والمشقة والجوع والبرد والخوف الذي لقيه المؤمنون ليطول، وقد أفاضت فيه المصادر الصحيحة وهو ذو دلالة عظمى على ما نريد إيضاحه من قضية الإيمان ومقتضياته، ومع هذا لن نفيض فيها، وإنما نقتصر على جانب واحد من جوانب العبر الكبرى:
وهو أن هذا الجيل الكريم هو من حيث التكوين النفسي بشر مثلنا ومثل سائر البشر؛ له مشاعره وعواطفه البشرية بما فيها من نقص وجزع وتأثر بالأحداث.
ونحن نخطئ جداً حين نحسبهم غير ذلك فنفقد الأمل في التأسي بهم.
''لقد كانوا ناساً من البشر، وللبشر طاقة لا يكلفهم الله ما فوقها، وعلى الرغم من ثقتهم بنصر الله في النهاية، وبشارة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم؛ تلك البشارة التي تتجاوز الموقف كله إلى فتوح اليمن والشام والمغرب والمشرق . على الرغم من هذا كله، فإن الهول الذي كان حاضراً يواجههم كان يزلزلهم ويزعجهم ويكرب أنفاسهم.
ومما يصور هذه الحالة أبلغ تصوير خبر حذيفة، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحس حالة أصحابه ويرى نفوسهم من داخلها فيقول: من رجل يقوم فينظر ما فعل القوم ثم يرجع -يشرط له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجعة- أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة؟
ومع هذا الشرط بالرجعة، ومع الدعاء المضمون بالرفقة مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجنة، فإن أحداً لا يلبي النداء!!
فإذا عين حذيفة بالاسم قال: فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني.
ألا إن هذا لا يقع إلا في أقصى درجات الزلزلة، ولكن كان إلى جانب الزلزلة وزوغان الأبصار وكرب الأنفاس , كان إلى جانب هذا كله الصلة التي لا تنقطع بالله، والإدراك الذي لا يضل عن سنة الله، والثقة التي لا تتزعزع بثبات هذه السنن وتحقق أواخرها متى تحققت أوائلها.
ومن ثم اتخذ المؤمنون من شعورهم بالزلزلة سبباً في انتظار النصر، ذلك أنهم صدقوا قول الله سبحانه من قبل:
((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ))[البقرة:214].
وها هم يزلزلون، فنصر الله إذن منهم قريب! ومن ثم قالوا:
((هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً))[الأحزاب:22] '' .
فقد زادهم إيماناً أن رأوا الأهوال تحدق بهم والأحزاب تتألب عليهم؛ ليقينهم أنه ما لم يكن ذلك الابتلاء والتمحيص فلا نصر، لأنه في الحقيقة لا إيمان يمكن الجزم به، بل هي دعاوى كل يقدر أن يدعيها، فإذا اجتاز المؤمن الابتلاء تحقق الإيمان، وإذا تحقق الإيمان تحقق النصر، هذه سنن ثابتة وحقائق ساطعة.
وبعد هذا نطوي وقائع شاقة ومشاهد بليغة لنصل إلى يوم الحديبية وبيعة الرضوان، تلك التي كانت كسابقاتها امتحاناً شديداً للإيمان، ولكنه امتحان من نوع آخر!
إنه امتحان القلوب المؤمنة التي جاشت بالحمية الإيمانية والغيرة لله ورسوله ودينه، واستقر في أعماقها صدق رسولها في وعده، وصدق وعد الله له، وإن كان هذا الوعد رؤيا في المنام -فرؤيا الأنبياء وحي- قلوب مفعمة باستعلاء الإيمان وعز الطاعة، تأبى أن يستضيمها عدو الله أو تنصاع لضغوطه في أي ميدان.
ومع ذلك ترى في يومها ذاك أموراً تبدو مناقضة لهذا كله، فكانت أهوالاً وكروباً لا يسكن أمامها إلا قلب بلغ الغاية القصوى من الانقياد والتسليم لله ورسوله، والتجرد مما يخالف ذلك حتى وإن كان دافعه الغضب لله والحمية لدينه والاعتزاز بالإيمان به.
كانت صدمة عنيفة لهذه الجماعة الراشدة الزاحفة أبداً إلى الأمام أن تواجه منعطفاً خطيراً يتشهى فيه الكافرون من الشروط، ويملونها عليها ثم ترى نبيها يقبلها بلا تحفظ.
إن اكتمال الإيمان يقتضي مرحلة عليا من التربية، مرحلة تتعدى مراحل الحض والإيقاظ ورفع الهمم والعزائم إلى مرحلة تهذيب الحماس وتسكين الحمية الإيمانية، لتوافق الوحي في كل أمر وتنضبط عليه في كل حركة حتى وإن رأت أن موافقته شاقة، لا على حظ النفس فذاك أمر قد استأصلته التربية الوثابة، ولكن على إيمان القلب الثائر للحق.
فلنتصور ما كانت عليه تلك القلوب من حماس وتوقد وغيرة واستعلاء بالإيمان، ثم لنتصور معه كيف تطيق رؤية المفاوض الكافر وهو يُصر على محو صفة الرسالة من اسم رسولها الكريم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويستجاب له؟!
وكيف تطيق قبول هذه الشروط المجحفة المتعسفة مثل: أن يرجع هذا العام -وهو على مشارف الحرم- بلا عمرة ويعتمر من قابل، وأن من أتى المدينة مؤمناً مهاجراً يرد إلى مكة -لتعذبه وتضطهده- ومن ارتد من المهاجرين يعود إلى مكة آمناً؟!
وكيف تتحمل رؤية المعذبين في الله كـأبي جندل يرسفون في الأغلال، ويستصرخون حميتها الإيمانية، فيردهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى معذبيهم التزاماً بشروط الصلح؟!
وكيف تتحمل أن تحلق الرءوس وتنحر الهدي هنا في هذه البيداء، وهي إنما خرجت من المدينة واثقة مطمئنة إلى رؤية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدخول البيت آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين لا يخافون؟!
ويأتي ثاني رجل في هذه الأمة الزكية ليخاطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتوقد وتحرق: { ألست رسول الله حقاً؟
قال: بلى، قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟
قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا إذن؟
قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري، قال: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟
قال: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟
قال: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به
}
ثم تكون نهاية هذا الموقف العصيب -بعد هدأة القلوب، وسكون العاصفة- أن ينزل الله تعالى على رسوله وهو قافل إلى المدينة:
((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً))[الفتح:1-4]
فيبشر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه بها قائلاً: {نزلت عليَّ الليلة سورة هي أحب إليَّ من الدنيا وما فيها -أو قال: لهي أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس- }
وكيف لا وفيها البشارة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفتح والمغفرة التامة والنعمة العظيمة والهداية القويمة، وللمؤمنين بالسكينة وزيادة الإيمان والوعد بالجنة؟!
إن نزول السكينة وزيادة الإيمان بها لهو ثواب كريم على الإيمان السابق المتمثل في الثقة في الله والاستسلام لأمره مهما كان هول الموقف.
وهكذا يرقى الإيمان ويسمو وترسخ قاعدة عظمى من قواعد فقه التزكية الإيمانية، وهي: أن من ثواب الإيمان حصول إيمان أعلى منه، ومن جزاء المعصية نقص الإيمان بمعصية أخرى، وهي قاعدة لم تثبت من خلال موعظة في مسجد ولا محاضرة في جامعة، وإنما في موقف مهول كهذا الموقف.
ثم نطوي -كذلك- أحداثاً جِساماً ووقائع شاهدات لننـتقل إلى غزوة تبوك .
إنها لبادرة فجائية كبرى في تاريخ الإنسانية أن يخرج جيش من قبائل العرب ينازل الامبراطورية الرومانية أكبر إمبراطوريات الأرض يومئذٍ عتواً وأكثرها حضارة، إنه لحدث ما كان العرب من قبل يحلمون به، ولا كان الروم يتوقعونه ولو في الخيال!
وإن في هذا وحده لدلالة كبرى على الطبيعة الجهادية لهذا الدين، والحقيقة الإيمانية التي يبنيها في قلوب أتباعه.
ولكن هناك دلالة أكبر من هذا وأعظم؛ ذلك أن هذه البادرة الكبرى ما هي إلا مظهر وثمرة لجهد داخلي عظيم، وخطوة على طريق هائل كبير لم يتوقف دفعة واحدة إلا على بلاط الشهداء وأسوار القسطنطينية.
فالجماعة المؤمنة وصلت في آفاق التزكية الإيمانية وقمم الجهاد -بكل معانيه- إلى غاية لم تبلغها قبلها جماعة قط، وهذه الغزوة تمحيص نهائي وترقية عليا لها، واستئصال جذري للطفيليات المحسوبة عليها وليست منها.
جيش قِوامه ثلاثون ألفاً لا يتخلف منه عن هذه الغزوة الشاقة المجهدة إلا ثلاثة نفر!
ثم هؤلاء الثلاثة يتعرضون لمحنة رهيبة يصفها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأنها وصلت إلى حد أن: ((ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ))[التوبة:118].
وتقتضي حكمة الله البالغة أن يكون هؤلاء الثلاثة من السابقين الأولين -اثنان منهما شهدا بدراً مرارة وهلال، والثالث كعب شهد العقبة ليكون ذلك أبلغ وأشد وقعاً في نفوس قوم ربما كانت أنفسهم قد حدثتهم بالتخلف وهم من مؤخرة القافلة.
أما المتخلفون سواهم فما كانوا إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء.
وتنزل السورة الفاضحة، البحوث، المبعثرة، المقشقشة، المخزية، الحافرة، المنكلة، المنقرة، المدمدمة، وتتناول -عدا المقاطع الأولى منها- موضوع الغزوة، ويستغرق الحديث عن المنافقين من جميع جوانبه أكثرها، ويؤخر موضوع توبة الله على الثلاثة إلى آخرها في آخر توبة الله على الجماعة المؤمنة كلها.
وليس من غرضنا الآن -ولن نستطيع- تقصي دروس الموقف وعبره، ولكننا نكتفي بعبرتين، إحداهما على سبيل الإجمال والأخرى واقعة جزئية.
أما الأولى: فهي أن المنافقين لم يكن يخفى عليهم قط أن الإيمان جهاد وأعباء، وواجبات وفرائض على النفس والمال، وعلى القلوب والجوارح، ولهذا لم يدر في خلدهم أن يستخدموا منطق الأمة الإسلامية في عصورها الأخيرة فيقولوا للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين استنفرهم للغزو: لن نجاهد معك ولن يضر هذا في إيماننا، فنحن مصدقون لك بقلوبنا ومقرون برسالتك بألسنتنا، فدعنا نأخذ بأذناب البقر ونغرس الأشجار ونهتم بشؤون أهلينا وأولادنا.
لم يكونوا ليفكروا في هذا، لأن حقيقة الإيمان الحية أمامهم في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحبه لم تكن تسمح لهم بذلك، فقول كهذا في مجتمع مؤمن كهذا يعد لغواً وهذياناً.
لو قالوا هذا أو قريباً منه لكشفته السورة وأزالت شبهته، لكنه لم يكن يصل في تفكيرهم إلى درجة الشبهة، ولهذا لجأوا إلى أعذار وتعللات عليها مسحة من الشرعية مثل:
1- الاعتذار بأنهم ليسوا محل تكليف، إذ مناط التكليف الاستطاعة وهم غير مستطيعين ((لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ))[التوبة:42].
2- الاعتذار بشدة الحر الذي جعله الشارع سبباً في الترخيص والتخفيف، كما في الإبراد بصلاة الظهر ((وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ))[التوبة:81].
3- الاعتذار بوقوع مفسدة تضيع معها مصلحة الجهاد، وهي الافتتان ببنات الروم((ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي))[التوبة:49] ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح!!
4- الاعتذار بالقياس، حيث طلبوا من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعذرهم كما يعذر من رفع الله عنه الحرج من الضعفاء والمرضى ((ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ))[التوبة:86].
وغير ذلك من الأعذار المفتعلة التي هي شرعية في فقه المنافقين أو أصول فقههم، وهو فقه كثير الحواشي طويل الذيل لا يخلو منه عصر ولا دعوة، أما ذاك القول الذي لم يصل أن يكون عذراً ولا شبهة في أصول فقه المنافقين فقد أصبح حجة وقاعدة في أصول دين الطوائف الإسلامية التي دانت بعلم الكلام واتبعت أساطينه.
فقد سود أحبار علم الكلام ورهبانه الصحائف، واستنفدوا المحابر للتدليل على أن الجهاد -بل كل الأعمال صغيرها وجليلها- ليست من الإيمان، بل صرح أئمة فيهم بأن نطق كلمة الشهادة -مجرد نطق- ليس منه.
ورحم الله من قال من السلف في الفرق بين منافقي الصدر الأول والقرون المتأخرة: ''كانوا يراءون بما يعملون، فأصبحوا يراءون بما لا يعملون''
حقاً إن مما سهل للمرجئة نشر عقيدتهم أن حقيقة الإسلام الحية الكاملة لم تكن قائمة في عصور الانحراف، فكان يسيراً عليهم أن يقنعوا أمة غير عاملة بأن العمل ليس من الإيمان، إذ ليس أشهى إلى الكسول من أن يجد ما يبرر كسله، ولكن المعيار الوحيد هو الجيل الأول، ذلك الجيل الذي كان منافقوه يجاهدون ويحجون وينفقون، فلما غابت صورة هذا المعيار عن عقول المرجئة -بل ربما عن عقول بعض مناظريهم من أهل السنة - وتحول الأمر إلى جدل نظري بالشبهات والتأويلات , استشرى الخطر وعمت البدعة.
وكان على أهل السنة والجماعة -وما يزال- أن يعيدوا الواقع نفسه حيَّاً قائماً -ما أمكن- وأن يستحضروا دائماً صورته وهم يعملون ويناظرون.
* وأما الأخرى -أي الواقعة الجزئية -: فهي قصة النفر من المنافقين الذين نزل فيهم قول الله تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ))[التوبة:65-66].
وقد رُوي سبب نزولها من طرق كثيرة تثبت بمجموعها صحته، والأشهر أن ما قالوه هو: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء.
فهؤلاء قوم خرجوا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الغزوة الشاقة متعرضين للقتل والأسر، أنهكتهم وعثاء السفر، فجلسوا في خلوة يتلهون بالسخرية ببعض الصحابة، فأنزل الله تعالى فيهم آيات محكمات حكم فيها بكفرهم بعد إيمانهم وخروجهم من عِداد المؤمنين، وهو ما يترتب عليه خلودهم الأبدي في النار ما لم يتوبوا .
وقبل أن تنزل الآيات فزع هؤلاء النفر يهرعون إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معتذرين نادمين يقسمون الأيمان أنهم ما أرادوا الكفر ولا قصدوه، وأن ما صنعوا لم يكن إلا خوضاً ولعباً ولم يكذبهم الله تعالى في دعوى الخوض واللعب، بل أوضح أن نفس خوضهم ولعبهم كفر، فنفس عذرهم إقرار بكفرهم!
إنه لا خلاف بين فقهاء الإسلام في أن الهزل بالكفر كفر -وإن اختلفوا في الهزل في سائر الأحكام كالبيع والطلاق والعتاق- وهذه الآية من أقوى الأدلة على ذلك .
وقد بقي هذا الإجماع محفوظاً نظرياً في كتب الفقه حتى المتأخر منها، أما في الواقع العملي فإن استمراء الإرجاء، وانحسار مفهوم الإيمان، وغموض مفهوم الكفر، والغفلة عن كثير من ضروبه وأنواعه جعل الأمة الإسلامية تغفل عن تكفير المرتدين قصداً وجهاراً فضلاً عن الهازلين الساخرين إلا من سار منها على منهج أهل السنة والجماعة وهم في العصور المتأخرة قليل.
بل إن هؤلاء القليل عندما يدعون إلى تصحيح الإيمان وتجلية معانيه، ويبينون للأمة الكفر وضروبه وخطره نجدها تقف في وجوههم متهمة إياهم بتكفير المسلمين، كما حصل لـشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، وشَيْخ الإِسْلامِ محمد بن عبد الوهاب، والشهيد سيد قطب رحمهم الله وأمثالهم، ويعرضون عن تصريح هؤلاء العلماء بأنهم لا يقصدون تكفير الأعيان بل تصحيح حقائق الدين في القلوب والأذهان.
ولئن كان علماء عصور الإسلام الوسطى، من المرجئة أو المتأثرين بالإرجاء يحجمون عن تكفير ملاحدة وحدة الوجود، وأمثالهم من الزنادقة أو الساخرين بالدين من الكتَّاب والشعراء، وينتحلون لهم التأويلات والتبريرات، فقد استغنى علماء الإرجاء في عصرنا الحاضر عن هذه التأويلات، لأن الإسلام في عرفهم وراثة لازمة كما تورث الأسماء، وأحرف تكتب في الهوية لا ينسخها عمل ولا قول يرتكبه حاملها، ولهذا تجرأ الملاحدة زعماءً وكتاباً على دين الله سخرية واستهزاء، وأصبح هذا ميداناً للزعماء والمفكرين، وملهاة للشعراء والصحفيين، وجرت ألفاظ الاستهزاء على ألسنة العوام، فأصبحت في بعض الأحيان والبلدان كالسلام!!
وعمَّ البلاء حتى تعدى مجال الاستهزاء إلى مجال الكفر الجاد الجلي الذي كان أمراً محظوراً -ولو عرفاً وعادة- فنسي الناس تكفير الباطنية والقرامطة والدروز والنصيرية وأشباههم، بل نسي بعضهم أو شك في كفر اليهود والنصارى وأمثالهم، وغاب عنهم تماماً كفر طواغيت الدجل والخرافة والسحر، بل سموهم أولياء وصالحين!!
أما طواغيت الحكم والتشريع فقد نسخوا شريعة الله جهاراً نهاراً، وحكّموا شرائع الطاغوت في الدماء والأعراض والأموال وألزموا الناس في مناهجهم ووسائل تربيتهم بموالاة الكفار وتقديس عظماء الكفر من فلاسفة وقادة وحكام، ونشروا من استحلال المكفرات والموبقات ضروباً وألواناً، وسخروا من الحدود والحجاب وتعدد الزوجات وأحكام الميراث والعبادات والأخلاق..، كل هذا وأكثر الشعب لا يرفع عليهم رأساً ولا يرى به بأساً، والجريء منهم يعتبره خطأ أو معصية والمنافقون من أصحاب العمائم يقولون كما قال أحدهم: لو كان لي من الأمر شيء لجعلتك في منزلة من لا يسأل عما يفعل.
وانضم أغلب الطبقة المثقفة -كما يسمونها- إلى الأحزاب الكفرية والمنظمات الإلحادية والمذاهب الأدبية التي تستر الكفر بالشعر، حتى إن بعض معاقل الإسلام التاريخية أصبح في كل قرية منها ومدرسة فرع للحزب الملحد.
وسقط حد الردة إلا من كتب الفقه الموروثة، بل ظهر في صفوف المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية اتجاه جديد ينكر حد الردة ضمن ما ينكر من حدود الإسلام وأصوله
ومر على الأمة الإسلامية أجيال بل قرون لا تكاد تسمع فيها أن حد ردة أقيم على زنديق مجاهـر أو ملحد مكابر، في حين أن الآلاف من الأرواح تزهق لأسباب سياسية أو خلافات شخصية! أما الأحكام المتعلقة بأهل الذمة من جزية وصغار ونحوها، فقد اتفقت كل الأنظمة في نسخها وإلغائها وإنسائها، وعزّ الكفار في كل بلد، وضرب الذل والصغار على من يدعو إلى معاملتهم بحكم الله عز وجل، وصار أهل الكتاب -بل عباد البقر- يخططون لإخراج المسلمين عن دينهم في عقر دار الإسلام!!
فيا لها من غربة لا يخفـف وطأتها إلا نسمات الفجر الصادق التي بدأت تهب من كل مكان، حاملة البشائر بمستقبل زاهر يعز الله فيه أولياءه ويذل أعداءه، ويعلي كلمة التوحيد والسنة ويقمع رءوس الشرك والبدعة وما ذلك عليه بعزيز.
وبعد الاكتفاء بهاتين الوقفتين مع أحداث غزوة تبوك نكتفي -أيضاً- بما سبق عرضه من المعالم الكبرى في سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، التي كانت تطبيقاً وتحقيقاً للدين كما يريده الله تعالى، وبياناً واقعياً لطبيعة سيره وحكمة إنزاله، وسنة الله في تزكية الناس به ومجاهدتهم عليه.
وإننا في كل غزوة وسرية من غزوات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسراياه التي بلغت مائة غزوة وسرية، وفي كل موقف من مواقفه في الدعوة والجهاد، وفي كل مقام من مقامات عبوديته وتبتله إلى ربه , لنجد برهاناً ساطعاً ومعلماً شاخصاً على حقيقة دين الله تعالى، وحقيقة الدعوة إليه، وحقيقة النفس التي يجب أن تؤمن به وتستقيم عليه، مع إيضاح لحقيقة الجاهلية التي يجب أن تُحارب وتُدحر لكيلا تقف في طريقه.
وقد كان الجيل الأول -أصفى أجيال الإنسانية وأعظمها- يدرك هذه الحقائق إدراك من عاناها وتذوقها وتربى عليها وجاهد لأجلها ورأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمامه يعانيها ويدعو إليها، وقد ملك هذا الإدراك نفوس ذلك الجيل حتى بلغ بهم حداً رفيعاً من الحساسية ورهافة الشعور تجاهها، فاستصحبوا الشعور بالتقصير وسوء الظن بالنفس واستعظام الهفوة، حتى وصل الحال ببعضهم أحياناً إلى ما يشبه قنوطاً ويأساً، وحتى إنهم ليرون ما ليس بذنب ذنباً، ويخشون أن يكون ما أعطاهم الله من الكرامة عقوبة واستدراجاً، والنماذج الثابتة في هذا كثيرة جداً:
عن أنس رضي الله عنه قال: [[لما طعن حرام بن ملحان -وكان خاله- يوم بئر معونة قال بالدم هكذا فنضحه على وجهه ورأسه، ثم قال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة ]]
وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: [[إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ورأيتنا نغزو وما لنا طعام إلا ورق الحبلة وهذا السمر، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط]].
وعن جابر رضي الله عنه قال: [[سرنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان قوت كل رجل منا في كل يوم تمرة، فكان يمصها ثم يصرها في ثوبه، وكنا نختبط بقسينا ونأكل حتى قرحت أشداقنا، فَأُقْسِم أُخْطِئها رجل منا يوماً فانطلقنا به ننعشه فشهدنا أنه لم يعطها فأعطيها فقام فأخذها]] .
وعن عتبة بن غزوان رضي الله عنه -في حديث عظيم له: [[ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحداً إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً ]].
و عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه [[أُتِيَ بطعام وكان صائماً فقال: قتل مصعب بن عمير، وهو خير مني، كفن في بردة إن غُطِّيَ رأسه بدت رجلاه، وإن غُطِّيَ رجلاه بدا رأسه وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير مني ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط -أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا- وقد خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام ]].
وقال خباب بن الأرت رضي الله عنه: {هاجرنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، ومنا من مضى أو ذهب ولم يأكل من أجره شيئاً، كان منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد لم يترك إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غُطِّيَ بها رجلاه خرج رأسه... قال: ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها} .
وعن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري قال: [[قال لي عبد الله بن عمر: هل تدري ما قال أبي لأبيك؟ قلت: لا، قال: فإن أبي قال لأبيك: يا أبا موسى! هل يسرك إسلامنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهجرتنا معه وجهادنا معه وعملنا كله معه برد لنا ، وأن كل عمل عملناه بعده نجونا منه كفافاً رأساً برأس؟
فقال أبي : لا والله، لقد جاهدنا بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصلينا وصمنا وعملنا خيراً كثيراً،وأسلم على أيدينا بشر كثير، وإنا لنرجو ذلك.
فقال أبي: لكني والذي نفس عمر بيده لوددت أن ذلك برد لنا، وأن كل شيء عملناه بعده نجونا منه كفافاً رأساً برأس. فقلتُ: إن أباك والله خير من أبي
]]. .
ولما طعن رضي الله عنه جاءه ابن عباس فمس جسده بيده، وقال: جلد لا تمسه النار أبداً -يذكره ببشارة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له بالجنة- وأخذ يطمئنه ويبشره بصحبته للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللصديق، وبرضى المسلمين جميعاً عنه في عدله وسيرته .
فقال الفاروق : [[أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورضاه فإنما ذاك منٌّ مِنَ الله تعالى مَنَّ به عليّ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك مَنٌّ مِنَ الله جل ذكره مَنَّ به عليّ، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك -أي الرعية أن يكون قصَّر في أمرها- والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به عذاب الله عز وجل وقبل أن أراه ]].
وجاءه شاب آخر يبشره بأجر الصحبة والعدل والشهادة، فقال عمر: [[وددت أن ذلك كفاف لا علي ولا لي]].
و أبو ذر رضي الله عنه حدث الناس بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولا تلذذتم بالنساء على الفرشات...} الحديث.
فقال: [[والله لوددت أني شجرة تعضد]] .
و ابن مسعود رضي الله عنه يحدث عنه مسروق قال: [[قال رجل عند عبد الله : ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين، أكون من المقربين أحب إليَّ، قال: فقال عبد الله: لكن هناك رجل ود لو أنه إذا مات لم يبعث يعني نفسه ]] .
فهذا الوجل وشدة المحاسبة مع تلك التضحيات والفضائل والدرجة العليا التي شهد الله لهم بها في كتابه.
وقد استمرت سيرتهم امتداداً لسيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجهاد -بكل ضروبه- ففتحوا الآفاق والبلاد، وفتحوا القلوب والعقول، ونقلوا للناس هدي نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيَّاً ماثلاً، فما انقضى عصرهم حتى أنفقت كنوز كسرى وقيصر في سبيل الله، ودانت ملوك الأرض وجبابرتها للملة الحنيفية، وأظهر الله دينه على العالمين حتى دخلت فيه أو في حكمه أمم الأرض إلا من اعتصم وراء لجج البحار أو بعدت بهم المهامة والقفار، أو عاشوا مع الوحوش في الأحراش والأدغال، وسيأتي لهذا مزيد بيان بإذن الله .
ولقد قصَّر نابليون حين وصف هذه المدة الهائلة بقوله: '' إن المسلمين فتحوا نصف العالم في نصف قرن! '' فما كان القسم الذي لم يفتح نصف العالم قط، وإنما كان حُوشيِّ الأرض التي لم تصلها جيوش الإسلام فقد غزتها ثقافته وحضارته.
ولكن الأوروبيين منذ عصر الامبراطورية الرومانية إلى الآن يعتبرون أوروبا نصف الدنيا، وكم جمح بهم الغرور فاعتبروها محور العالم، وسائر الأمم حُواشي وهوامش .
وعلى نهج الصحابة سارت بعدهم أجيال فأكملوا المسيرة، مسيرة الجهاد بكل ضروبه وأنواعه: الجهاد لإدخال الأمم في دين الله وتحريرها من عبودية طواغيت الدجل والاستبداد.
والجهاد في طلب العلم وتعليمه ليعبدوا الله على بصيرة ويدعوا الناس إلى حق وحقيقة.
والجهاد في مقاومة البدع والمنكرات وصيانة الأمة من تحريف الغالين وتأويل المبطلين.
والجهاد في تحمل أذى الدجالين والجبابرة والشياطين من الجن والإنس وجيوشهم من طلاب الشهوات وأتباع كل ناعق.
وقدمت هذه الأجيال من التضحيات وتحملت من المشقات ما سطره التاريخ وما لم يسطره، مما لا يستطاع حصره ولا تحصى آثاره.
كل ذلك عملوه وجاهدوه لا على أنه مجرد نوافل وتطوعات، ولا على أنه مهام جانبية تقضى في أو قات الفراغ من الشواغل، ولا على أنه وسيلة قطعية توصلهم للدرجات العلى في الجنة، بل كانوا يعملون ذلك كله على أنه هو حقيقة الإسلام، وهو شُعب الإيمان، وهو أسنان ومفتاح الشهادتين، وهو الطريق إلى الجنة إن سلم من الآفات والعوارض، يعملون ذلك وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، والخوف من التقصير، والخوف من أن ترد عليهم أعمالهم، والخوف من أن تعجل لهم حسناتهم في الدنيا , حاضرٌ في قلوبهم، ماثل أمام أعينهم، كما تشهد بذلك سيرهم التي جمعها بعض المصنفين، وما لم يجمعوه من أعمال القلوب أكثر وأعظم.
وما نقل عن أحد منهم قط أنه قال: إن إيمانه كإيمان جبريل أو أنه كامل الإيمان، وما كان لمثلهم أن يتفوه بهذا.