فالعالم الأرضي كله يتخبط في ظلمات الأديان المحرفة، والوثنيات الكالحة، والأنظمة الطاغوتية، وكان هذا العالم ينقسم قسمين كبيرين:
1- القسم البدائي.
2- القسم المتحضر.
أما القسم الأول: وهو يشمل الشعوب الهمجية التي تقطن غرب أوروبا ووسط آسيا وشرقها ومعظم إفريقية. فحاله غني عن الشرح والبيان، وهو إلى حياة السوائم أقرب منه إلى حياة البشر في كل مناحي الحياة.
والنماذج الباقية منه الآن تعطي صورة مصغرة منه للحال التي كان عليها في ذلك الزمن الغابر.
وأما القسم الأخير: فأبرز من يمثله الدولتان العظيمتان "فارس، والروم" وكلاهما كان يخضع لنظام طاغوتي استبدادي، ويدين بدين باطل محرف.
فالفرس يدينون بـالمجوسية، والروم يدينون بالديانة التركيبية التي أسسها بولس وأظهرها قسطنطين باسم المسيحية.
والنظام الاجتماعي في الدولتين كلتيهما من أبشع النظم في التاريخ من حيث التمييز العنصري والتفاوت الطبقي.
وكان أعظم مظاهر الانحطاط في هذه الأمم -بل هو أصل الفساد كله- هو عبودية البشر للبشر، تلك العبودية التي نعاها عليهم منقذ الإنسانية رسول الله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كتابه لقيصر وواجه بها ربعي بن عامر قائد جيوش كسرى سواء العبودية لطواغيت الخرافة والتدين، أو طواغيت الحكم والتسلط، وفي واقع دولة أهل الكتاب التي هي خير ما على الأرض حينئذ ما يوضح ذلك.
فالطبقات السفلى تعبد العليا، والكل يعبد الامبراطور، والدين يشرعه السَدَنة والأحبار والرهبان، والقوانين يسنها أباطرة والنبلاء، والجيوش الجرارة تحمي هذه الأنظمة الجائرة والأوضاع الظالمة أيما حماية، وما من مواطن إلا هو مستعد -طوعاً أو كرهاً- لإراقة دمه في سبيل ما أسموه شرف الامبراطور والوطن كما هو خاضع في عقيدته وتدينه لما يشرعه رجال الدين!!
أما الشعوب الخاضعة لحكم هاتين الدولتين -ومنها سكان العراق والشام ومصر- فقد كانت ترزح تحت نير الاستبداد الغاشم، والجبروت القاهر، وحسبك أنهم كانوا كالعبيد لعبيد الامبراطورية.
أما عقائدهم الدينية فيجب أن تكون تبعاً لما تقرره مجامع روما أو القسطنطينية، وإلا فالإبادة والاستئصال وقرارات اللعن والحرمان من الجنة.
ويقرب من حال هاتين الدولتين ما كانت عليه الهند، إلا أن دينها أكثر إسفافاً، ونظامها الطبقي أشد بشاعة.
وأما عرب الجزيرة خاصة، فهم في حياتهم القبلية وعاداتهم الراسخة أقرب إلى حال الشعوب الهمجية المذكورة في القسم الأول، لولا ما خصهم الله به من ميزات، إرهاصاً لحمل الرسالة العظمى إلى أمم الأرض قاطبة.
والحاصل أن العالم البشري كله كان يعيش واقعاً رهيباً لا يتصور بأي حال من الأحوال إصلاحه من داخله، أي: من خلال حضارته وثقافته وحكمته.
فالقسم المتحضر -خاصة- لم يكن مفلساً من ذلك، بل كانت له فلسفاته وثقافاته وتجاربه، وقد كان بين أيدي أممه من مأثورات: بوذا، وبيدبا، وأفلاطون، وأرسطو، وأردشير، وبزرجمهر، وأضرابهم الشيء الكثير.
كما كان عند العرب من رصيد الحكم ومشهور الأمثال والعبر الذخر الوفير.
فقد كان لديهم دعاة السلم الصارخون كـزهير، وأساطين الحكمة المجربون كـأكثم، والوعاظ المنذرون بسوء المصير مثل: قس بن ساعدة.
ولكن هذا الواقع الضخم المظلم لم يكن ليتغير بالنظريات ولا بالحكم المجردة، بل إن النظريات الفلسفية خاصة لهي إحدى الدعامات الطاغوتية التي قام عليها هذا الواقع في مجال العقيدة والفكر.
أما الحِكَم الأخلاقية، والعبارات التهذيبية، مهما نمّقها الحكماء، وأرسلها الخطباء، فهي أشبه بفقاعات في ذلك المحيط الهائج.
هذا في العالم الممقوت، وأما بقايا أهل الكتاب المستمسكون بأثارة نبوية فهم من الندرة بمكان، ثم إنهم قابعون في زوايا النسيان والإهمال، ينتظرون رسول آخر الزمان بفارغ الصبر، أو ينتظرون ريب المنون ليخلصهم من هذا الواقع الأليم.
وأما الباحثون عن الدين الحق -على ندرتهم- فمنهم من قتله اليأس والكمد، ومنهم من اعتنق بعض تلك الأديان لأنه لم يجد سواها ومنهم من كُتِبَ له الفوز فأدركه النور وانتشلته الرحمة الربانية وهو غارق في متاهات البحث.
والمقصود: أن هؤلاء كانوا أعجز وأقل من أن يفكروا في إصلاح شيء من هذه الدنيا المائجة بالضلال والظلام.
لقد كان العالم في أشد الحاجة إلى رحمة إلهية تنقذه من براثن الانهيار المحتوم.
وجاءت هذه الرحمة في النور المبين الذي نزل على النبي الأمي محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))[الأنبياء:107].
نزل هذا النور ليزيح ذلك الواقع الكالح، ويرفع كابوسه عن الثقلين، ويقيم مكانه واقعاً يرضاه الله، وتطمئن له الفطرة، وترتاح إليه العقول، وتتحقق فيه الكرامة الإنسانية التي لا تتحقق أبداً إلا بالعبودية الخالصة لرب العالمين والانخلاع الكامل من عبودية المخلوقين.
ومعنى هذا ومقتضاه أن تلك الامبراطوريات، وتلك المعتقدات، وتلك الأوضاع، والتقاليد، وتلك الأنظمة والقوانين، وتلك الفلسفات والثقافات، سوف تجتث من جذورها، وتستأصل من عروقها، سواء في واقع الأرض أو في واقع النفوس، وأن ما زوى الله لحبيبه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأرض سوف يتطهر من هذه الأرجاس والأدران ويستضيء بنور الهدى والفرقان.
ومعنى هذا: أن تلك الجيوش الامبراطورية الجرارة التي عجز بعضها عن سحق بعض، لا بد أن يظهر مقابلها جيش إيماني يسحقها جميعاً.
ومن معناه كذلك: أن نفوس الملايين من البشر الذين توارثوا تلك الضلالات والخرافات، وأشربوا في قلوبهم آثارها المدمرة، لابد لها من تزكية ربانية تحرق الشبهات، وتحطم الشهوات، وتستأصل الأمراض المتغلغلة، والضغائن المتأصلة، والالتواءات النفسية العميقة.
وهذا عمل ضخم هائل، لا يدرك حقيقة ضخامته إلا من أدرك ضخامة هذا الواقع الأرضي الثقيل الطاغي في مقابل رجل واحد، ثم قاس ذلك بمعاناة الأنبياء السابقين -صلوات الله وسلامه عليهم- مع أممهم.
فهذا نوح عليه السلام يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً بنص القرآن، ثم لا يؤمن معه إلا قليل بنص القرآن أيضاً، وهذا القليل -مع اختلاف الأقوال في تحديده- لم ينقل أنه زاد عن مائة نفس
وكثير من الرسل بعده كانوا كذلك، بل كان منهم من لم يتبعه إلا الرجل والرجلان، ومنهم من لم يتبعه أحد .
وهذا وهم إنما بعثوا إلى أقوامهم خاصة، فكيف بمن بعث للثقلين عامة، وأمر بمجاهدة الدنيا قاطبة، كما ورد في الحديث العظيم الجامع الذي رواه عياض بن حمار رضي الله عنه ومنه: {وإن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان، وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت: رب إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك}
إن هذا الحديث يعطي فيما يعطي من دلالات: اعتبار ذلك الواقع الضخم ومراعاته، وكذلك ضخامة التكليف وعبء الحمل، كما يوضح مع ذلك كيف تلتقي السنن الربانية -ومنها سنة اشتراط الجهد البشري وابتلاء بعض الناس ببعض- مع سنة العهد الرباني بنصر أوليائه وإن طال الابتلاء، فهما مقترنتان متضافرتان تعملان عملاً واحداً في النهاية.