وانطلاقاً من ذلك كان منهجي في هذه الرسالة يقوم على ثلاثة أسس:
* الأول: دراسة الإرجاء على أنه ظاهرة فكرية لا فرقة تاريخية .
والفرق بين هذين كبير جداً في طبيعة البحث وفي آثاره ونتائجه؛ فحين نبحث الإرجاء على أنه فرقة من الفرق التي طواها التاريخ فإن من أهم ما يفوتنا هو معرفة حقيقة واقعنا المعاصر الذي يسيطر عليه الفكر الإرجائي، وحينئذ لا يزيد البحث عن كونه عملاً أكاديمياً يضاف إلى مجموعة المؤلفات التي تتحدث عن تاريخ الفرق وآرائها.
أما حين نبحثه على أنه ظاهرة فكرية نشأت ثم تطورت إلى واقع ضخم يواجه كل دعوة تجديدية، ونفسر بها كثيراً من أسباب التخاذل والتردي الذي تعاني منه الأمة عامة والدعوة خاصة، فإن النتائج الإيجابية لذلك ستنهال علينا من كل جانب، وحسبنا إن لم نعط القضية حقها أن نثيرها ونبعثها ونخطو في سبيلها ما استطعنا، ثم الله يهيئ لها ما يشاء.
ومن هنا انصب الاهتمام على ركن العمل وضرورته للإيمان والدعوة وكيف تخلت الأمة عنه مكتفية من الإيمان بالاسم والإقرار.
وهنا لا بد من بيان حقيقة مهمة كان لها أثرها البالغ في منهج البحث وهي: أن الإرجاء لم يكن -في الأصل- دعوة واعية مقصودة لترك العمل والتفلت من الطاعات، وإنما كان تفسيراً ضالاً لحقيقة الإيمان أنتجته أسباب تاريخية شرحناها في موضعها.
ولكن الأمة وهي تتراخى عن العمل بالتدريج، وتنفلت من الواجبات، وتنحدر عن قمة الامتثال رويداً رويداً كانت تجد في الإرجاء تفسيراً مريحاً يبرر لها تراخيها وتفريطها -وهذه حقيقة نفسية معروفة- فكل ما انحسر عنه العمل واقعياً ستره ثوب الإرجاء الواسع نظرياً.
ولهذا لم يكن المرجئة القدماء بحاجة إلى أكثر من كشف شبهاتهم النظرية، وردهم بالدليل العلمي الصريح.
ولكن الحال تغير بعد انتشار الظاهرة وسيطرتها؛ إذ أصبحت الأمة في القرون الأخيرة تتبنى الإرجاء عقيدة ومنهجاً، وتعد مخالفه خارجاً مارقاً، وتضبط دينها وأحكام إيمانها بأصوله وقواعده.
فصارت تعتقد أن التصديق القلبي المجرد من قول اللسان وعمل الأركان هو حقيقة الإيمان الذي أنزل به الله الكتب وبعث به الرسل وجعله مناط النجاة من عذابه في الآخرة، وتبني على ذلك لوازم وأحكاماً، أهونها تخطئة السلف في إجماعهم على أنه قول وعمل، وعدم تكفير طوائف من المرتدين.
وأصبح معنى كون الصلاة والزكاة والصيام والحج أركاناً للإسلام هو اعتقاد وجوبها والإقرار به وإن لم يعمل من ذلك شيئاً.
ونحو ذلك مما يستغربه الناظر أول وهلة، ثم يتأمل فإذا هو عندهم حقيقة واقعة.
والأدهى من ذلك أن تقوم بعض اتجاهات الدعوة الإسلامية -التي عملها وغرضها في الأصل إعادة الناس إلى حقيقة الإيمان اعتقاداً وعملاً- على هذا الفكر العقيم وتتبناه وتدعوا إليه، كما سنبينه في الفقرة التالية.
من هنا كان لا بد من تغيير منهج العرض والمناقشة لقضية الإيمان وعلاقته بالعمل والدعوة بانتهاج منهج يجمع بين الدليل العلمي النظري من النصوص وكلام السلف، وبين الدليل الواقعي المحسوس من سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحقيقة النفس البشرية ذاتها.
وإيضاحاً لذلك نقارن بين نص من كلام أحد رءوس المرجئة في مرحلة تأسيس الإرجاء، وبين ما يكتبه بعض الدعاة المعاصرين:
يقول عمر بن ذر الهمداني أحد رءوس المرجئة، وابن ذر بن عبد الله الهمداني الذي قال عنه الإمام أحمد: إنه أول من تكلم في الإرجاء: ''لما رأى العابدون الليل قد هجم عليهم ونظروا إلى أهل السآمة والغفلة قد سكنوا إلى فرشهم ورجعوا إلى ملاذهم من الضجعة والنوم، قاموا إلى الله فرحين مستبشرين بما قد وهب لهم من حسن عبادة السهر وطول التهجد، فاستقبلوا الليل بأبدانهم، وباشروا ظلماته بصفاح وجوههم، فانقضى عنهم الليل وما انقضت لذتهم من التلاوة، ولا ملت أبدانهم من طول العبادة، فأصبح الفريقان وقد ولَّى عنهم الليل بربح وغبن .
أصبح هؤلاء قد ملَّوا النوم والراحة، وأصبح هؤلاء متطلعين إلى مجيء الليل للعبادة شتان بين الفريقين .
فاعملوا لأنفسكم -رحمكم الله- في هذا الليل وسواده، فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار، والمحروم من حرم خيرهما، وإنما جعلا سبيلاً للمؤمنين إلى طاعة ربهم، ووبالاً على الآخرين للغفلة عن أنفسهم، فأحيوا لله أنفسكم بذكره، فإنما تحيا القلوب بذكر الله.
كم من قائم في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في حضرته، وكم من نائم في هذا الليل قد ندم على طول نومه عندما يرى من كرامة الله -عز وجل- للعابدين غداً، فاغتنموا ممر الساعات والليالي والأيام رحمكم الله''.
فهذا الرجل كان يقول: الإيمان هو الاعتقاد والإقرار فقط، لكن هل يتصور منه أن يقول: إن مجرد التصديق القلبي دون قول ولا عمل كاف في النجاة عند الله، أم إن القضية عنده شبهة نظرية مجردة لم يكن لها أي مدلول واقعي إلا الهروب من تكفير صاحب المعصية الذي وقعت فيه الخوارج؟
غير أن هذا القول نفسه قاله بعض الدعاة المعاصرين امتداداً لظاهرة الإرجاء العامة، وقد ذكرنا كلامهم في موضعه.
* الثاني: معالجة واقع الدعوة الإسلامية المعاصرة، فالمشاهد اليوم أن أصحاب الدعوة ينقسمون غالباً فريقين، وكل فريق تتوزعه فرق وآراء واجتهادات:
- أحدهما: فطن إلى أصل القضية ومكمن الداء فأراد أن يصحح الأصول، ويجلي بدهيات الدين، ويربط ذلك بالعمل وضرورته، لكنه سلك في سبيل ذلك حرفة عقيمة في الفهم، وإشارة موغلة في الغلو، ظاناً أن هذا هو منهج العزيمة والاستقامة، فوقع في طامة التكفير أعني: تكفير أعيان عوام المسلمين من المخالفين.
وهكذا نفر من بدعة ليقع في بدعة شر منها، وسد على نفسه منافذ الاتصال بالناس، وإيصال الحق لقلوبهم، فتحولت دعوته إلى نظرة عقيمة تتآكل كل يوم، وتفرز بدعاً جديدة، واستتبع ذلك انحرافاً خطيراً في منهج التلقي والاستمداد، حيث وضعت أصول ومعايير لا تقل شراً وخطراً عن شرائع الطواغيت الوضعية.
- والآخر: انطلق في دعوته بدون منهج واضح ولا تصور اعتقادي متكامل، فلم يتناول الأمر بالتأصيل العلمي بل بالتهويش العاطفي، فكان أن واجهه أصحاب الفريق الأول بأصول وقواعد لا يملك مثلها ولا يستطيع ردها، فهرب من التكفير إلى التبرير، وأخذ يسند هذا الواقع المنحرف ويؤصله بنظريات بدعية، ووجد في مذهب المرجئة -الذي أصبح كما قلنا هو الظاهرة الفكرية العامة- بغية وسنداً، فنسى نفسه ونسى مهمته الأساس وهي تغيير هذا الواقع لا تبريره.
- فالفريق الأول: أعاد مذهب الحرورية جذعاً.
- والآخر: أحيا مذهب المرجئة غضاً ونقله من الدوائر الأكاديمية التقليدية إلى منهج العمل والتغيير!
وهكذا أصبحت الكتابة عن هذا الموضوع -حقيقة الإيمان- على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة ضرورية لكبح جماح الغالين، ودفع تفريط المقصرين.
الثالث: -وهو كالنتيجة للأولين- اختطاط منهج للبحث يزيد على مجرد البحث العلمي النظري للقضية أي: إيراد الأدلة ونقضها بإضافة عناصر جديدة تخاطب البديهة والوجدان والعقل معاً، وأهم جانب من ذلك استحضار واقع الجيل القدوة الذي رباه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتأسي بهم في استكمال الإيمان والدعوة إليه والحكم على تاركه، وكذا بيان حقيقة النفس الإنسانية، التي لا تخلو قط من إرادة وعمل، وربط ذلك بحكمة الدين وغايته التي هي إصلاح الإرادات وتزكية الأعمال، مما بين أن الإيمان اعتقاد وعمل على الحقيقة الشرعية والواقعية والنفسية في آن واحد.
على هذا دارت مباحث هذه الرسالة، التي أسأل الله تعالى أن ينفعني بها وإخواني المسلمين، وأن يجعل كل ما بذل فيها من جهد ونَصَب خالصاً لوجهه الكريم. وتبعاً لذلك قسمتها إلى خمسة أبواب: