المادة    
يقول رحمه الله: "الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده" وفيه إشارة إلى الملأ الأعلى الكرام، يقول: "وأن بعضها أقرب إليه من بعض كقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ))[الأعراف:206].. ((وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ))[الأنبياء:19]" ولو كان الله -كما يقولون- في كل مكان، أو لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته، لما كان هذا التصريح بأن هذا النوع من المخلوقات عنده أو أنه أقرب إليه، فالكل بالنسبة إليه سواء؛ لأنهم يقولون: لا تثبت له جهة، والجهة لا تتصور إلا في حق المخلوقات، ولو أثبتنا العلو لزمنا إثبات الجهة، ولو أثبتنا الجهة لكان كذا وكذا؛ من اللوازم الباطلة، فنقول: فما تقولون فيما ورد صريحاً بأن بعض المخلوقات أقرب إليه سبحانه من بعض، وأنها عنده؛ كما في هذه الآيات التي ذكرها المصنف وهي في وصف الملائكة الكرام؛ قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ))[الأعراف:206]?!!
فإذا كان الخلق بالنسبة إليه سواء -كما يقولون هم: الله في كل مكان بذاته- فما معنى قوله تعالى: ((عِنْدَ رَبِّكَ))[الأعراف:206] ؟! وما فائدة تخصيص هؤلاء بأنهم عنده؛ إذ أن الذين في الأرض أيضا عنده حسب قولكم أنتم؟! فإذا فهموا قوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ))[الحديد:4] على غير وجهه الصحيح، وفهموه فهماً خاطئاً؛ كما يفهمه المؤولون الذين ينكرون علو الله؛ فيقولون: نحن عنده أينما كنا، فإننا قوله تعالى: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ))[ق:16] كذلك أنه عندهم دائماً، فإننا نقول: لماذا وصف الله الذين عنده بهذه الصفات، فقال فيهم: ((إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ))[الأعراف:206]؟! أي أن هناك من لا يستكبرون عن عبادته وهم عنده سبحانه وتعالى، وهناك من يعصي الله، ومن يأبى إلا أن يتنكب طريق الحق ويتبع طريق الضلالة؛ يقوده هواه وهؤلاء عن الله مبعدون، وهذا مما يدل دلالة صريحة لا تحتمل التأويل على علو الله سبحانه وتعالى، واختصاص هؤلاء الملأ الأعلى الذين هم خير من الملأ الأسفل بالقرب من الله سبحانه وتعالى، وباستدامة الطاعة له سبحانه وتعالى من تسبيح وعبادة لا يفترون عنها؛ مما يدل ويؤكد بأن الله سبحانه وتعالى في السماء، عالٍ على جميع المخلوقات، ولهذا فالمصنف رحمه الله في آية الأنبياء، وهي قوله تعالى: ((وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ))[الأنبياء:19] قال: "ففرق بين (من له) عموماً، وبين (من عنده) من مماليكه وعبيده خصوصاً"، أما المؤولون فيقولون: لأنهم في ملكه، ولأنهم في سلطانه، فيقال لهم: إنه قال: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) فكل المخلوقات داخلة في ملكه وسلطانه؛ لكن هناك نوع خاص موصوف بأنه عنده، فليس الكل عنده، وإنما الذين عنده هم الذين هذه حالهم وهذه صفتهم: من عدم الاستكبار، والتسبيح المستمر: ((يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ))[الأنبياء:20]، فهؤلاء العباد المكرمون اصطفاهم الله سبحانه وتعالى وفضلهم بهذه العبادة، فكيف يصح أن يقال: إن كل المخلوقات سواء؟!
الكل له والكل عبيده؛ عبودية القهر والغلبة، لكن يقال: هناك من جُبِلوا على العبادة وخلقوا لها؛ لا يخالط عبادتهم ملل ولا ينابذها معصية؛ فهم مجبولون على الذكر والتسبيح والذل الذي لا يخالطه ملل ولا تعتريه غفلة؛ وهؤلاء مخصوصون بأنهم عنده، وهم الملأ الأعلى الكرام.
وهذا الاختصاص دليل على علوه سبحانه وتعالى، ولا شك أن أي عاقل من الناس ممن يفهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهماً صحيحاً يعلم أن الملائكة هم الملأ الأعلى، وأن إبليس وجنوده هم الذين في جهة السفل؛ نعوذ بالله من شرهم!
ثم يقول المصنف: [قول النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه: أنه عنده فوق العرش]، وقد تقدم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي}، فإذا قلنا: إن الله في كل مكان -كما يقولون- فكل كتاب في أي مكان؛ سواء كان في الأرض، أو بين السماء والأرض، أو في السماء الدنيا، أو في السماء الرابعة، أو في السماء السابعة، فإنه يوصف بأنه عنده على قولهم، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش} وهذا من النصوص التي يستحيل تأويلها؛ لأن معانيه بعضها يؤكد بعضاً، فالعندية والفوقية جاءتا معاً، ففيه إثبات الاستواء والفوقية والعلو بما لا يحتمل التأويل بأي حال من الأحوال، ومن أوَّل فهو إما أن يقدح في صحة هذا الحديث، والحديث صحيح ثابت، ولا يقدح في السنة الصحيحة الثابتة إلا من أضله الله سبحانه وتعالى، واتبع هواه بغير علم ولا هدى من الله؛ فإن قدح في صحته، فقد أخرج نفسه من جملة من يتمسكون أو يتسمون بالسنة، وإن قال: إن الحديث صحيح ولكن لا بد أن يؤوَّل، فكيف يؤوِّل ما جاء فيه: {عنده فوق العرش} بأي شكل من أشكال التأويل؟!
وسوف نعرض -إن شاء الله- عند آية سورة الملك في الدليل التاسع بعض تأويلاتهم؛ لأن تلك الآية التي في سورة (الملك) يقولون: إنها تحتمل التأويل، فأكثروا فيها من التأويلات الباطلة، وسوف نبين بطلان تأويلاتهم فيها، وهي التي يمكن عقلاً أن تحتمل التأويل؛ فكيف بما لا يحتمل التأويل كهذا الحديث؟!