أما الولايات المتحدة الأمريكية نفسها فقد كانت تصرفاتها العسكرية تنذر بأمر خطير لم يخف على الصحافة العربية فضلاً عن الزعماء، ولنأتِ على ذلك بمثالين:
1- جلسة للكونجرس حضرها قادة فروع الجيش الأمريكي:
نشرت جريدة الحياة الصادرة يوم 23شعبان 1410هـ تقريراً عنها بعنوان "القوات الأمريكية تعيد تنظيم تشكيلاتها للتدخل الطارئ".
جاء فيه: ''بدأت المؤسسات العسكرية في الولايات المتحدة الأمريكية عملية إعادة تنظيم رئيسية لقواتها في أنحاء العالم لمواجهة تهديدات غير متوقعة، وبخاصة الخطر المحتمل من قوى متوسطة المستوى في الشرق الأوسط والعالم النامي، وفي جلسة أمام الكونجرس أخيراً وصف الجنرال كولين باول رئيس الأركان المشتركة -وكذلك جنرالات كبار- خططاً لصياغة المزج المناسب لقوات ثقيلة وخفيفة تحمي مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في أرجاء العالم في عصر يتسم بخفض موازنة الدفاع وعدد أفراد القوات المسلحة'' ..
وأبلغ الجنرال باول لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأمريكي أن الولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تكون مستعدة لمواجهة طائفة من التهديدات تتراوح بين عمل إرهابي فردي إلى حرب إقليمية، وأنها تحتفظ بقوات كبيرة في أرضها وفي أوروبا وأنحاء مختلفة من العالم على مستويات عالية من الاستعداد لمواجهة مثل هذه الطوارئ.
وعرَّف رئيس اللجنة -لي إسبين- الطوارىء بأنها: ''تلك النزاعات التي لا تحركها تهديدات سوفيتية ومن حلف وارسو'' وأضاف "باول" ''أن الولايات المتحدة الأمريكية لجأت في الغالب في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى استخدام القوات العسكرية بأعداد صغيرة نسبياً، وفي أوضاع واضحة المعالم وأساساً في حروب صغيرة مثل: كوريا، وحرب أكبر مثل فيتنام، أو تدخلات عسكرية سريعة مثل: -جرينادا، وبنما- '' إلا أنه حذَّر من أن التهديدات العالمية التي تواجه أمريكا اليوم تختلف تماماً وربما تتطلب منها أن تنشر قوات ضخمة في الجو والبحر في مواجهة بلدان حسنة التسليح في العالم الثالث في ظروف غير مستقرة. ووصف عمليات هذه القوات بأنها ''عمليات متواصلة طويلة الأجل'' وقال: ''إن الكثير من هذه البلدان في الشرق الأوسط'' وقال: ''وبعض هذه الدول وإحداها على وجه التحديد تمتلك مخزوناً يضم أكثر من 5000 دبابة'' وعرَّف التقرير هذه الدولة بأنها العراق.
وأوضح قائد البحرية البلدان المستهدفة بأنها ''المناطق الأقل تطوراً في العالم، فهنا تكفن المعادن والموارد النفيسة''
لاحظوا كيف يظهرون طمعهم في ثروات العالم الفقير، ومع ذلك يتضرعون بما يسمونه تهديدات تواجه أمريكا!!
على أن أهم ما في الجلسة هو وصف سيناريو التدخل الذي جاء على لسان أحد القادة: إنه سيتحمل القدرة على الدخول القسري باستخدام القوات المحمولة جواً وقوات خاصة وجوالة، ويمكن أن يستخدم أيضاً الإنزال البرمائي للمارينز التي تضم نحو 197 ألفاً من الرجال والنساء، وتجهيزات نقل وإسناد من البحرية الأمريكية... إلخ، مضيفاً ما قيل عن الفرقة 82 المحمولة جواً!!
يلاحظ قوله: "الدخول القسري" الذي يعني أن أية دولة ترفض هذا الدخول ستجده أمراً واقعاً، لعلم الأمريكان أن دول الخليج لا تريد هذا الوجود، وقد حرصت أمريكا على أن تطلب الكويت منها التدخل، وأبلغتها عن الحشود العراقية على الحدود ولكنها لم تفعل فكان ما كان...!!
والمهم أن الأمريكيين قادمون وعازمون على الدخول لهذا السبب أو ذاك.
2- التقرير الأمني السنوي لمجلس الأمن القومي الأمريكي:
وهو مكون من 32 صفحة، وقد نشرت عنه جريدة الحياة بتاريخ 26/شعبان/1410هـ: ''أفاد تقرير أمني سنوي أصدره مجلس الأمن القومي الأمريكي أن المصالح الحيوية الأمريكية في الشرق الأوسط المتمثلة أساساً في مصادر الطاقة والعلاقات الأمريكية القوية مع بعض دول المنطقة تستحق وجوداً عسكرياً أمريكياً مستقراً وربما معززاً في المنطقة، وأضاف أن التهديدات التي تواجه هذه المصالح ازدادت على أثر التبدد السريع للتوتر بين الشرق والغرب''
لاحظوا وصف الوجود بالاستمرار، والمغالطة في دعوى أن التهديدات زادت بعد الوفاق!! وأضاف: ''أن منطقة الشرق الأوسط فيها صراعات ذات دوافع محلية مستقلة عن أعمال أو سياسات الاتحاد السوفييتي'' وزاد: ''إن التهديدات لمصالحنا بما في ذلك أمن إسرائيل والدول العربية المعتدلة وكذلك تدفق النفط بحرية تنبع من مصادر متنوعة'' وبعد أن ضخّم كالعادة القوى الإقليمية وأسلحتها الكيماوية والبيولوجية والنووية "أكد التقرير أن الولايات المتحدة الأمريكية ستحافظ على وجود بحري لها في شرق البحر الأبيض وفي منطقة الخليج والمحيط الهندي، وأنها ستنظم مناورات بحرية مشتركة بين فترة وأخرى، وستسعى إلى دعم أفضل من الدول المضيفة للأسطول، وإلى خزن معدات سلفاً في مختلف أنحاء المنطقة" ويقول المُعلِّق بالجريدة:
''وقد أكدت الولايات المتحدة الأمريكية خلال العام الماضي أنها مضت قدماً في تطبيق خطط لخزن معدات عسكرية قيمتها ملايين الدولارات في إسرائيل من أجل أن تستخدمها القوات الأمريكية في حال نشوب أزمة فضلاً عن منح إسرائيل حرية استخدام تلك المعدات في حال الطوارئ.
وهذا ما تريد أمريكا فعله أيضاً في الدول الخليجية إذا رأت تخفيف وجودها البشري في المنطقة، هذا وقد توقف- التقرير- أمام العنف الناتج من صراعات دينية في الشرق الأوسط، والذي يحظى باهتمام مسئولي السياسة الأمريكية الذين يعتقدون بأن التطرف الديني سيستمر في تهديد حياة السكان الأمريكيين والدول الصديقة من الشرق الأوسط والتي يعتمد العالم على مصادر الطاقة فيها) اهـ.
والحاصل أن كل وسائل الإعلام العالمية خلال الشهور السابقة لانفجار الأزمة، قد نشرت أنباء نُذُر حرب جديدة وعن كون العراق هدفاً لها، وعن تصريحات عراقية بالاستعداد لرد العدوان الأمريكي البريطاني الإسرائيلي كما تسميه!!
ومن أهم ما نُشِر بعد وقوع الكارثة ما جاء في "صحيفة اطلنطا كونستيوشن" بتاريخ 25/ أكتوبر1990م، الموافق 7/ربيع الثاني/1411هـ، من مقال للفريق "جون بوسوك" الرجل الثاني بعد القائد العام نورمان شوار سكوف (كما وصفه المقال) والذي شغل منصب كبير المستشارين بالحرس الوطني السعودي سابقاً كما ذكر أيضاً والمقال بعنوان: العقل المدبر للجيش يقود تنفيذ الخطة.
وأوله "قيادة الجيش الثالث، المملكة العربية السعودية".
وفي شهر مارس من عام 1989م ميلادي جلس الفريق جون بوسوك مع خمسمائة من ضباط تخطيط المعارك العسكرية والمتخصصين في معدلات استهلاك الوقود والمخططين الآخرين، جلسوا جميعاً بقاعدة جورجيا العسكرية يفكرون في وضع خطة لنقل: 200.000 من القوات العسكرية إلى المملكة العربية السعودية.
وقد وضعوا خطة سميت "اليوم س" وهو تاريخ افتراضي من المحتمل أن يقرر فيه أحد رءوساء الولايات المتحدة الأمريكية نقل قواته لمساعدة المملكة العربية السعودية ضد أحد أعدائها القادمين من الشمال -من المحتمل أن يكون العراق أو إيران...
إن هذا التخطيط الذي أُعطي أعلى درجة من السرية والذي تمَّ بالمبنى 363 بقاعدة ماكفرسون بمدينة أطلنطا يشكل الدور المطلوب من أن يقوم به الجيش في هذا المشروع، وفي يوليو 1990م أصبح الجنرال بوسوك ونظرائه من كبار القواد بالبحرية والطيران جاهزون لاختبار خطتهم، وقد تحركوا في مجموعات صغيرة هم وكبار مرءوسيهم إلى القيادة المركزية بمدينة تامبا، حيث استخدموا الحاسبات الآلية على مدى أسبوع في حرب وهمية بالصحراء السعودية أعطيت رمزاً هو (اويزيشن انترنال لوك90)..
بانتهاء التدريب كانت هنالك خطة تحدد الفرق التي يجب أن تتوجه إلى المملكة العربية السعودية، وذبذبات الراديو التي يتوجب استخدامها، والأماكن التي يمكن أن يتحصلوا منها على الماء الذي يحتاجونه، وكيف يعالجون إصاباتهم، وكيفية معالجة المسألة الإعلامية، وبعد شهر من ذلك كانت قوات الرئيس العراقي المحمولة جواً قد نزلت بمدينة الكويت مما دفع الرئيس بوش بإعطاء أوامره في السابع من أغسطس لتنفيذ الخطة.
الآن وقد مضت تسعة وسبعون يوماً من بداية العملية فإن الخطة التي وضعها -بوسوك- قد حققت أكبر وأسرع وأدق عملية نقل للجنود في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.
وإذا علمنا هذه الإرهاصات والنذر، واستيقنا أن الأمر مخطط له ومرتب بالنسبة لـأمريكا، فإن الأسئلة الملحة هي عن العراق لماذا فعل ما فعل؟
وهل كانت الدول العربية الأخرى على علم به؟
وما هي الدوافع الخفية لوقوف بعضها معه؟
وما هي صلة أمريكا بالغزو؟
وهي أسئلة مهمة نحاول الإجابة عليها في الفقرة التالية.