إن فكرة الوفاق الدولي ليست وليدة العصر الحاضر "أي مؤتمر يالطا كما يُقال" بل هي نموذج معاصر للأحلاف الأوروبية في مطلع العصر الحديث "القرن 17 و18" هذا إن لم نقل إن أصلها هو التحالف الغربي الكبير في الحملات الصليبية الأولى.
والواقع أن جوهر القضية في هذه التحالفات قديمها وحديثها واحد وهو: أن مصلحة الغرب تقتضي تناسي خلافاته الداخلية والتوحيد لمقاومة الخطر الخارجي الذي يُعَدُّ الإسلام رأس الحربة فيه، فقد تحالفت أوروبا المتناحرة ضد الدولة العثمانية فيما سُمي (الحلف المقدس) كما ظلت تركيا -رغم أنها دولة أوروبية من جهة الموقع- خارج الاتفاقيات الدولية الأوروبية إلى عهد قريب لسبب واحد هو أنها مسلمة، ومنذ أسابيع فقط سُئل الرئيس التركي أوزال عن سبب عدم قبول تركيا عضواً في الوحدة الأوروبية رغم أنها عضو في حلف الناتو فأجاب: بأن السبب هو أن الغرب لا يزال ينظر إلى تركيا باعتبارها دولة إسلامية!
إن الحرب العالمية الأولى انتهت كما هو معلوم بالنقاط الأربعة عشر للرئيس الأمريكي "ولسُن" التي أصبحت أساس مبدأ عصبة الأمم، والتي بمقتضاها اتفق الغرب على وضع العالم الإسلامي تحت الوصاية الدولية -أي تحت السيطرة الغربية- مع أن الأجزاء المهمة منه كانت قد وضعت من قبل تحت سيطرة الغرب باسم "الحماية" ومنها: عدن، والكويت، ومشيخات الخليج، وبقيام الحرب العالمية الثانية انهارت عصبة الأمم كما انهارت القوة الاستعمارية التقليدية، وبرزت قوتان جديدتان هما: أمريكا وروسيا، وكان وفاق المنتصرين فيها المتمثل في مؤتمر يالطة، وفي التحكم في العالم من خلال الهيئة الدولية الجديدة "هيئة الأمم المتحدة" إذ احتفظ الطواغيت الكبار بحق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي كما يسمى!!
وكان أيضاً التنافس الحاد بين القوتين في السيطرة على العالم وخاصة المناطق الحيوية منه. (ومنها -بالطبع- العالم الإسلامي الذي تفككت مجتمعاته ودوله ومنظماته مِزَعاً بحسب التبعية لأي من المعسكرين)، وكان السباق الهائل على امتلاك أشد الأسلحة فتكاً ودماراً لكن دون مواجهة عسكرية شاملة، وهذه هي المرحلة التي سميت "مرحلة الحرب الباردة".
وقد حدثت أزمات كثيرة كادت أن تجعلها ساخنة "مثل أزمة كوبا" إلا أن التفكير في الوفاق واقتسام مناطق النفوذ ظل ينمو باستمرار وخاصة من الجانب الأمريكي الذي كان يعلم أن القوة العسكرية هي كل ما يملكه الخصم من أسباب القوة.
وعندما برزت الصين لتكون القوة الثالثة في العالم سارعت أمريكا إلى مد الجسور إليها وكان الوفاق السريع بينهما الذي قسم الكتلة الشيوعية، وكان الرئيس نيكسون مهندسه وبوش سفيراً له فيها.
ولأسباب يطول ذكرها أظهرت كل من القوتين استجابة أكثر للوفاق، ودارت المفاوضات الطويلة ببطء وكانت نتائجها محدودة، غير أن المفاجأة الكبرى حدثت في السنوات الأخيرة فقط حيث ظهر للعالم كله أن الغرب قد أعد العُدَّة لوضع كوني جديد، وأنه سائر في طريق تنفيذه بسرعة مذهلة، وقد تجلت مظاهر هذا الوفاق في الخطوات العُجلى لتوحيد أوروبا الغربية في دولة واحدة سكانها 325 مليوناً مع التمهيد لتوحيد أوروبا كلها ومنها روسيا وكتلتها وهو ما يُطالب به جورباتشوف نفسه ابتداءً بتوحيد شطري ألمانيا، وصار من المتوقع أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه 35 دولة أوروبية دولة واحدة، بل ربما أصبح لها مقعد واحد في مجلس الأمن والأمم المتحدة!!
وستكون لهذه الدولة أقوى الروابط بـالولايات المتحدة الأمريكية التي تبارك هذا التوحد وتطمح من خلاله إلى زعامة الغرب كله، فمن المتوقع أن تشهد السنوات القليلة القادمة تجمعاً غربياً يزيد سكانه على 1000 مليون نسمة، ويملك ما يزيد على (75%) من اقتصاديات العالم، أما قوته العسكرية فهي بمثابة غول هائل لا يفكر أحد في مقاومته!!
- لقد تساقطت أنظمة المعسكر الشرقي كما يتساقط ورق الشجرة الجاف عند هبوب الرياح، وتهاوت صروح الأنظمة التسلطية في أكثر العالم، وبشكل درامي مثير تم الإعلان عن حل حلف وارسو، والسعي ليكون الغرب كله حلفاً واحداً نواته حلف الناتو، وبسرعة أيضاً سحبت القوات من أوروبا الوسطى وظهرت آثار ذلك سريعاً على العالم الثالث حيث شهدت كل مناطق الصراع النهاية نفسها أو هي في الطريق إليها (أنجولا، أثيوبيا، السلفادور، نيكاراجوا، كمبوديا، كوريا، لبنان، وأخيراً نذكر أفغانستان التي لها وضع متميز ومع ذلك فمن المتوقع أن تتم التسوية قريباً).
والمشكلة الوحيدة التي لم تُحل هي مشكلة الصراع العربي الإسرائيلي، وليس ذلك لأن الوفاق أهملها أو تناساها فهي لب المشكلات ومحور القضايا كلها، ولكن لحساسيتها البالغة -كما يعبرون- ومن هنا اقتضى الأمر أن يكون الإخراج من نوع خاص جداً، كما سنرى.
والشعار الذي يرفعه الوفاق الدولي للنظام الجديد هو "السلام" وإبعاد شبح الحروب عن العالم كله، وحل كل القضايا سلمياً عن طريق الأمم المتحدة، وتوظيف إمكانيات العالم الإقتصادية لرفاهية الشعوب، وضمان لقمة العيش بدلاً من تبذيرها على التسليح خاصة في العالم الثالث الجائع المَدِين!!
لم يكن غريباً أن يسود تفاؤل كبير معظم أرجاء العالم، وأن تداعب الأحلام المعسولة أكثر الشعوب المنكوبة، إلا أن الساسة وكثيراً من المفكرين في العالم كانوا حذرين أو متشائمين من المستقبل المزعوم!!
فقد أدرك كثيرون أن السلام القادم معناه '' بقاء القوي قوياً بدون تكاليف جديدة وإبقاء الضعيف ضعيفاً إلى الأبد بسد أي منفذ له ليكون قوياً ''.
إن الوفاق الغربي لم يسقط من حسابه تلك القوى الإقليمية الصاعدة، بل حسب لها بكل دقة وهو موقن أن سيطرته الأبدية لن تتم إلا بإجهاض هذه القوى، ولكن كيف يتم ذلك؟ هذا هو لب المشكلة! ولوعرفنا ذلك لعرفنا إلى أين ستنتقل القوات المسحوبة من أوروبا وأين ستتحول القواعد المغلقة في خطوط المواجهة والصراع بين الحلفين المندمجين.
لا شك أن من بين القوى التي يحسب الغرب حسابها "الصين واليابان والهند وكوريا واستراليا" ولكن ما مدى خطورة هذه الدول على الغرب، وبعبارة أخرى: أليس من الممكن استدراجها للانضمام إلى التحالف الغربي وإعطاؤها مكاسب محدودة؟
وإذا كان هذا الأمر وارداً بل واقعاً فأين هي إذاً القوى المتوقع تمردها ونفوذها؟
وقبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من التنبيه إلى معادلة مهمة وهي:
إنه إذا كان بديهياً أن مصدر قوة الغرب وغيره هو امتلاك السلاح النووي، فإن هذا هو أيضاً مصدر مشكلة الغرب تجاه القوى الإقليمية....!!
أي: أن القوى النووية بقدر ما تردع العدو عن مهاجمة صاحبها، تردع صاحبها أيضاً عن استعمالها، وهكذا تم الوفاق الغربي في ظل التكافؤ في تملكها، أما حين تدور المعركة بين طرفين أحدهما نووي والآخر مغامر من العالم الثالث؛ فإن الحسم سيكون لصالح الأقدر منهما على استخدام الأسلحة التقليدية والأكثر عزماً وتدريباً... إلخ، لأن اللجوء إلى الخيار النووي هو بمثابة انحدار علمي!!
قد لا تكون هذه المعادلة صادقة (100%) ولكنها حق إلى حد كبير، ومن هنا لم يخف الغرب أن أخطر ما يواجهه هي القوى الإقليمية ذات التسلح التقليدي الكبير وخاصة إذا حكمتها زعامات متطرفة ذات طموح عال، أو عداوة تاريخية للغرب!!