المادة كاملة    
بين هذا الدرس المعنى الحق والمعنى الباطل في كلمة الجهة، وقد ذكر معنى قول المصنف: "تعالى عن الحدود"، ثم وضح أنه لا يلزم من إثبات علو الله على خلقه انحصاره في مكان، ثم شرع في بيان وتوضيح قول المصنف: "لا تحويه الجهات الست"، وما المعنى الذي أراده المصنف من كلامه هذا، وعلى إثر هذا ساق المصنف قول أبي حنيفة في علو الله، مبيناً أنه لم يخالف السلف في ذلك. وأحال في الأخير على كتاب أضواء البيان عند قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) ذاكراً أن الشنقيطي قد ذكر حولها كلاماً جميلاً.
  1. تعالى الله عن الحدود والغايات

     المرفق    
    إذا قال المؤمن السني الذي يتبع السلف الصالح: إن الله تَعَالَى فوق المخلوقات، أو قال في السماء، كما جَاءَ في القُرْآن والسنة، فسيأتيه المجادلون من أهل البدع، فيقولون له: يلزمك من هذا أن الله له مكان، أو أن الله له جهة، ونتيجة لذلك يقولون: نَحْنُ ننفي الجهة عن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
    1. المعنى الحق والمعنى الباطل لكلمة جهة

      كلمة الجهة محتملة وفيها لبس، ولابد من التفصيل فيها لنعرف المعنى الصحيح والمعنى الباطل أو الخطأ لهذه الكلمة فإذا قال أحد: إن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى له جهة، قلنا له: ماذا تريد بقولك: إن الله له جهة، فإن قَالَ: أريد العلو، أي: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عال عَلَى المخلوقات.
      وهذه الكلمة وردت في بعض كلام الأئمة من السلف فإنهم يقولون: نعم لله جهة، ويقصدون بها (جهة العلو)، أي: أنه فوق المخلوقات؛ فنقول لمن يقول ذلك إثباتك للعلو حق وصواب، لكن كلمة الجهة تحتمل معنى آخر يلزمك به أهل البدع فلا تستخدم هذه الكلمة وقل: هو فوق المخلوقات كما أخبر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      وإن جَاءَ أحد: وقَالَ: ليس لله جهة قلنا: ماذا تريد بذلك؟ فإن قَالَ: أريد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يحصره شيء وأنه فوق كل شيء، وأعظم من كل شيء، ومحيط بكل شيء ، قلنا: هذا المعنى حق لكن هذه الكلمة (ليس له جهة) يستخدمها نفاة العلو، فيقولون: ليس له جهة أي: أنه ليس فوق المخلوقات، فلا تستخدم هذه الكلمة التي قد تلتبس عَلَى بعض الناس، واستخدم الألفاظ الشرعية التي لا إجمال فيها ولا لبس.

      ونقول: هو فوق المخلوقات كما قال تعالى: ((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ)) [الأنعام:18] ((يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم)) [النحل:50] أو هو في السماء، كما قال تعالى: ((أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)) [الملك:16] أو كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للجارية: {أين الله؟ قالت: في السماء} والأمثلة كثيرة، وموضوع العلو والاستواء سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى.
      يقول المُصنِّف رحمه الله تعالى: [وأما لفظ الجهة فقد يراد به ما هو موجود، وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق] والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي أوجد كل موجود فالموجودات خَلْقُ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأما العدم فهذا لا وجود له [فإذا أُريد بالجهة أمر موجود غير الله تَعَالَى كَانَ مخلوقاً، والله تَعَالَى لا يحصره شيء، ولا يحيط به شيء من المخلوقات تَعَالَى الله عن ذلك] أي: إذا أردنا بالجهة شيئاً موجوداً غير الله كَانَ هذا المكان أو الحيز مخلوقاً، فإذا قلنا: الله في جهة، ونقصد به الجزء الأعلى من الكون، أي: داخله، فيكون بهذا قد حصرنا الله سبحانه وجعلناه في شيء من مخلوقاته معين.
    2. كيف يحد الله وهو أعظم من كل شيء؟

      لا يمكن في أي حال من الأحوال أن يصح في الأذهان أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يحصره شيء أو يحده شيء من مخلوقاته، كيف وهذه المخلوقات جميعاً ما هي في قبضته - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إلا كالخردلة في يد الإِنسَان، فعلى أي اعتبار نظرنا فهو فوقها وهو أعظم منها.
      و إذا أردت إيضاح ذلك فتأمل معي هذا العالم الذي نعيش فيه الآن عَلَى هذه الأرض وفوقنا السماء الدنيا، وهي أقرب سماء إلينا، أو هي التي نراها ونرى العالم الذي داخلها، هذه السماء الدنيا وسائر السماوات السبع ما هي في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أكبر وأعظم من كل شيء، فكيف يكون حالنا في هذا الكوكب ونحن في هذه الأرض التي لا تكاد تكون بالنسبة إِلَى عالم السماء الدنيا إِلَى الكون المنظور إلا هباءة أو ذرة؟!
      فلو نظرنا إِلَى ما يقول علماء الجغرافيا، الذين لا يؤمنون بأن السماوات سبعاً، ولا يؤمنون بوجود الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولا يؤمنون أصلاً بأن هناك شيئاً اسمه السماء الدنيا، لأن النظرة عندهم نظرةٌ مادية فقط، فبالمنظار المقرب والمكبر الذي يمتد عبر المراصد إِلَى آفاق الكون ينظرون به إِلَى آفاق السماء ويتخيلون أن السماء فراغ، وليس هناك جرم محسوس مخلوق يُقال له: السماء!
      هكذا أكثرهم، حتى بعض الْمُسْلِمِينَ مع الأسف -ممن كتب في هذا الموضوع- تجد من كلامه أن هذا الكون فضاء وفراغ يتمدد، وليس هناك جرم يسمى سماء.
    3. السماء جرم حقيقي بدلالة الكتاب والسنة

      نصوص الكتاب والسنة قطعية وواضحة في إثبات أن السماء جرم حقيقي موجود، وإلا فما معنى قوله تعالى: ((سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً))[الملك:3]، وما معنى ما جَاءَ في حديث الإسراء والمعراج، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصعد إِلَى السماء الدنيا ويستأذن ملائكتها هو وجبريل، ثُمَّ يصعدان إِلَى السماء التي تليها ثُمَّ إِلَى التي تليها...، بل هذا كله يدل عَلَى أن السماء أجرام حقيقية.
      وفي القُرْآن ما يدل عَلَى هذا دلالة واضحة قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (((يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ))[المعارج:8] والمهل: هو الرصاص المذاب أو هو الزيت السائل المعروف عند العرب، فكونها تتحول إِلَى حالة سائلة فيه دلالة بينه عَلَى أنها جرم حقيقي، وأنها في حالة صلبة، وأن هذه السماء جسم، أو شيء موجود حقيقة وليس مجرد فراغ أو هواء ننظر إليه ونظن أنه لا نهاية له، وبهذا نعلم خطأ من يقول: هذا الكون اللانهائي، وهذه العبارة غير صحيحة، فالسماء الدنيا لها نهاية بل الكون كله له نهاية، وكل المخلوقات لها نهاية، فكيف بهذه الدنيا التي هي محوية بالسماء التي فوقها؟!
      وأعظم من هذه السماء الكرسي، وأعظم من الكرسي العرش.
    4. لا يلزم من إثبات علو الله انحصاره في مكان

      الذين خاضوا في مسألة نفي علو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بحجة أنه يلزم من ذلك أن الجهة تحصره، أو أن مكاناً يحويه من هذه الدنيا، هَؤُلاءِ قاصري النظر والإدراك بالنظرة إِلَى العلم الحديث، فما بالك بالنظرة إِلَى الكتاب والسنة؟!
    5. ما أوسع هذا الكون!

      يقول أصحاب العلم الحديث: هذا الكون فيه سعة وفيه امتداد لا يستطيع العقل أن يتخيله ولا يدري أين جهاته ولا يدري أين نهايته، وكما هو معلوم أن الأرض هي مثل الهباءة بالنسبة إِلَى هذا الكون الكبير جداً، فمن أي جهة من الأرض انطلقت المركبة الفضائية -مثلاً- فإنها تحتاج إِلَى أن تقطع في أعماق هذا الكون المسافات العظيمة، وما يزال الفضاء أوسع وأبعد مما يُتخيل، ونتيجةً للضخامة وكبر هذا الكون الهائل العظيم، فهم يعلنون أن هذا الكون أعظم من أن يكون نجماً أو كوكباً بل هو مجرة ومجرات ومجرات.
      والمجرة تحوي ملايين من النجوم، والشمس -مثلاً- من أصغر النجوم في الكون، والشمس تتبعها المجموعة الشمسية، فإذا كانوا يكتشفون بعد الحين والحين مجرة، والمجرة فيها ملايين النجوم، والنجم أكبر من الشمس بأضعاف، والنجم له كواكب وتوابع كثيرة قد تبلغ أحياناً عشرات أو أكثر! فكيف سيكون حجم هذا الكون؟!
      وإن مثل علماء الفلك، كما قال بعضهم: مثل أناس كانوا محصورين في سور معين فأخذوا يعالجون الباب حتى فتحوه، ولما فتحوا الباب وإذا بسور آخر وفيه باب، وَقَالُوا: متى فتحنا هذا الباب وصلنا إِلَى النهاية، فكلما فتحوا باباً يكتشفون باباً آخر وهكذا، كلما تقدم العلم يفتحون باباً جديداً ويكتشفون أنهم ضاعوا، وفي النهاية أصبحوا عاجزين، فوضعوا مراصيد ضخمة جداً لكنها تكل تماماً، وترجع إليهم وهي حاسرة كسيرة لا تعرف هذه السماء الدنيا ولا تدري أين نهايتها، فسُبْحانَ اللَّه! إذا كَانَ عجزهم هذا عن سماء الدنيا، وعجزوا عن تصورها وهم بهذا العلم وبهذه المراصيد.

      فهل يصح بهذا ما يقوله علماء اليونان من أنه سبحانه: لا داخل العالم ولا خارجه؟! بحجة أنَّا لو قلنا: إنه فوق للزم أنه في جهة، وأخذ بهذا القول علماء الكلام ومنكرو العلو، فكانوا يعتقدون أن السماء هذه مشابهة للأرض؛ أو قريبة للأرض في حجمها، وأن النجوم والكواكب هي مثل القناديل المعلقة في هذا المسجد أو في أي مكان، هكذا كَانَ تصور الذين نفوا علو الله ونفوا صفات الله عَزَّ وَجَلَّ.
      والآن أصبح العلم الحديث يعجز ويحار في فقه ذلك ولا يستطيع أن ينفي أي شيء؛ لأنه لم يفقه هذه الحياة الدنيا، ولا هذه السماء الدنيا، فأصبحوا لا يستطيعون أن يوجدوا لغة يفهمونها للأطوال والأبعاد الكونية، ولذلك تجدون الأبعاد الفلكية تختلف جداً عن الأبعاد المعروفة لنا في الأرض، نَحْنُ نقيس المسافات -مثلاً- بالميل وبالكيلو، لكن علماء الفلك يقيسون المسافات بالسنة الضوئية، فالقمر -مثلاً- يستغرق نوره حتى يصل إِلَى الأرض ثانية واحدة تقريباً، لأن القمر يبعد ثلاثمائة ألف كيلو متر، فالقمر في ثانية واحد يصل نوره إِلَى الأرض، لكن الشمس يصل نورها إِلَى الأرض بعد ثمان دقائق، لأنها تبعد "93" مليون ميل من الأرض تقريباً، فإذا كَانَ نور الشمس يصل إلينا وهي عَلَى بعد "93" مليون ميل من أميالنا المعروفة في الأرض في ثمان دقائق.
      فإذا قسناها بالسنة الضوئية فكم ستكون ملايين؟ لا نستطيع أن نُعبر عنها إلا عن طريق الأس أو القوة، يقول إنشتاين: إن حجم الكون تقريباً 10 أُس 82، يعني: عشرة مضروبة في نفسها اثنين وثمانين مرة، وليس هناك اصطلاح رياضي نعبر عنه، وإنما بلغة الأرقام فقط نعبر عنها، عشرة مضروبة في نفسها اثنين وثمانين مرة من السنين الضوئية، ومع هذا فما يزال هذا الكون في تمدد واتساعٍ ولا يعنون بذلك -أي: أهل العلم الحديث- إلا ما كَانَ دون السماء الدنيا، أي: الفراغ بين هذه الأرض التي نعيش عليها وبين السماء الدنيا هو فقط الذي لا يتمدد، ولذلك أوجدوا وحدات جديدة للقياس.
    6. أهل الكلام لم يعرفوا حقيقة هذا الكون

      إن عقولنا تعجز عن تصور عظمة الكون، ومع ذلك تجد من يخوض في عظمة الله ويقول يلزم أن يكون في جهة وأن تخلو منه باقي الجهات، سُبْحانَ اللَّه العظيم! ما أجهل الإِنسَان! إذا أنت لم تعرف هذا المخلوق ولم تقدره، فكيف تتكلم في الخالق وتقول: يلزم ويلزم؟! وهذا الكلام لو قاله إنسان في حق المجموعة الشمسية، أو في غيرها لسخر منه الناس، فضلاً عن الكون، فضلاً عن خالق الأكوان جميعاً.
      فعلى المخلوق أن يعرف قدره، ويعرف عجزه وضعفه.
      هذه النجوم يقدر أعمارها كما يقال بملايين من السنين، ومع ذلك ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)) [القصص:88] سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا النجم الذي يبقى ملايين ثُمَّ ينطفئ أو يتناثر في الفضاء، عبرة للإنسان المسكين لينظر كم سيعيش في هذه الدنيا؟ ستين سنة تقريباً، وستين سنة لا تساوي بالنسبة إِلَى هذه الأبعاد الكونية أي شيء حتى يُقال إن بعض النجوم كالشعرى مثلاً المذكور في قوله تعالى: ((وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى)) [النجم:49] يُقدر بُعده عنا بنسبة ستة ملايين سنة ضوئية، أي لو أن الشعرى انطفأت في هذه اللحظة فإننا نفقد نورها بعد ستة ملايين من السنين، لأن النور يستمر في المجيء ستة ملايين سنة ضوئية!
      ثُمَّ نجد بعد هذا من يتكبر عَلَى الله تعالى، ويتطاول عَلَى أوامر الله وعلى نواهيه، ويتجرأ عَلَى حدوده، ويتكلم في ذات الله وفي صفاته، ينفي ما يريد ويثبت ما يريد، ومع الأسف فإن بعض العلماء كتب كتاباً اسمه هموم داعية يقول: ما دام أن الكون بهذه الأبعاد، والنَّاس اكتشفوا علو الفلك فلا داعي من أن نخوض ونتكلم في العلو ولا في الفوقية ولا في الاستواء! وينتقص مذهب السلف بناءً عَلَى أن الفلكيين توصلوا إِلَى آفاق جديدة في علم الفلك، فيا سُبْحانَ اللَّه! أليس ما وصلوا إليه هو دليل لمذهب السلف أم أنه دليل عليه؟
    7. ولا تقف ما ليس لك به علم

      وترى من علماء الفلك وغيرهم من يقول: ثُمَّ ماذا وراء ذلك؟!
      نقول لهم: نَحْنُ نعلم ما وراء ذلك، فإن كنتم لا تعلمون ما وراء ذلك فقفوا عند حدود ما تعلمون، ولا تتطاولوا عَلَى ما بعد ذلك، سواء في ذلك من غلط من فلاسفة اليونان ومن اتبعهم، أو من تكلم في هذا من فلاسفة العصر الحديث -الجغرافيين المتفلسفين- ومن يتبعهم في قولهم ممن خاض في هذه المسألة، كل أُولَئِكَ خالفوا قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً))[الاسراء:36] فأولئك قفوا ما ليس لهم به علم فوقعوا في الضلال ووقعوا في التخبط.

      والمقصود أنه إذا أريد بالجهة أمر وجودي، أو جهة من الجهات الموجودة، ونحن لا نثبتها لك ولا يصح ذلك، فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أعظم من كل هذه الموجودات، ونحن لا نثبتها لك ولا يصح ذلك، وإن أُريدَ بالجهة أمر عدمي، وهو ما فوق العالم، فليس هناك إلا الله وحده، فإذا قيل: إنه في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح، ومعناه: أنه فوق العالم حيث انتهت المخلوقات فهو فوق الجميع عالٍ عليهم.
      فلم نقصد بكلمة الجهة حيزاً معيناً، وإنما أردنا شيئاً اعتبارياً أي: بالنسبة للكون فإنه توجد جهة ينتهي إليها فنقول ما فوق الكون، فلو قلنا: الكرسي فوق السماوات السبع، وفوقه العرش والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فوق العرش، إذاً الجهة هنا ليست شيئاً وجودياً وإنما شيئاً اعتبارياً، وقد قلنا -ونعيد-: إن الجهة يمكن أن تكون أشياء اعتبارية فقط، فنحن -مثلاً- نقول للسقف: إنه عالٍ علينا وما ذلك إلا باعتبارنا نَحْنُ لأننا تحته.
      ولو أن هنالك بيتاً للنمل في سقف، والنمل يمشي فيه، فبالنسبة للنملة يكون العلو ما نَحْنُ عليه ونعده أسفل، فالقصد أن هذا شيئاً اعتبارياً.
      فباعتبار الكون وأنه كله ضئيل وحقير بالنسبة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هل هناك جهة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ نعم، جهة الفوقية، أي: أن الله فوق هذا الكون، ولكن نفاة لفظ الجهة نفوا الاحتمال الصحيح ويريدون بذلك نفي العلو.
    8. اللازم الباطل

      يذكر نفاة العلو من أدلتهم: أن الجهات كلها مخلوقة -وهذا في جميع كتب الأشعرية والمعتزلة- فكيف نثبت له جهة وهو موجود قبل الجهات؟ وهو الذي خلق الجهات؟ ولو قلنا: إنه في جهة للزم أن يكون شيء من العالم محيطاً به!!
      وهَؤُلاءِ يتكلمون عن الجهة باعتبارها حيزاً معيناً في طرف من أطراف الكون، وهذا من ضعف الخيال الإِنسَاني ومن قصور العقل البشري، نعم الجهات كلها مخلوقة إذا قُصِدَ بالجهات الحيز، وأما إذا كنا نريد بها شيئاً اعتبارياً فليس بلازمٍ أن يكون في حيز، وإنما الجهة التي يمكن -على كلامهم- أن تمنع هي أن تكون من هذا الكون نفسه، بحيث لا يكون في جهة أخرى.
      ثُمَّ يقولون: ومن قَالَ: إنه في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم، أي قدم الجهة التي هو فيها أو أنه كَانَ مستغنياً عن الجهة ثُمَّ صار فيها! فبين الشيخ: أن هذه الألفاظ ونحوها إنما تدل عَلَى أنه ليس في شيء من المخلوقات، فهم يريدون أن يقولوا: إن الله ليس حالاً في شيء من المخلوقات ولا يحويه شيء من المخلوقات -تعالى الله عن أن يكون حالاً أو محصوراً في شيء من مخلوقاته- وكل خلقه بالنسبة له كالخردلة في يد الإِنسَان، ولله المثل الأعلى.
      وبناءً عَلَى قولهم السابق قالوا: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته ولا أمامه ولا خلفه وهذه عقيدة فلاسفة اليونان، أو بعضهم وهي التي عليها الأشاعرة كما في كتاب المواقف وغيره:

      ثُمَّ يقول المصنف: [ما لا يوجد فيما لا نهاية له ليس بموجود]، فإذا قلنا: إن الجهة لا نهاية لها، وما لا يوجد فيما لا نهاية له فهو معدوم، وبمعنى أوضح: نفي التعيين كَانَ نقول: هذا الشيء لا داخل ولا خارج، هو نفي للماهية، أي: نفي للوجود.
      وكما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ: "لو قال أحد: ما هو العدم لقال لك: العدم هو الشيء الذي لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته"، وهذا تعريف صحيح باعتبار التعريفات السلبية، فالذين يصفون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالعدم هروباً من إثبات العلو ما فعلوا ذلك إلا لأنهم ما فهموا معنى إثبات العلو، وما فهموا من إثبات الجهة -كما يسمونها- إلا حيزاً محصوراً موجوداً مخلوقاً.

      ثُمَّ يأتي الحديث عن النزول والاستواء لما بينها من العلاقة، فإذا تكلموا في النزول قالوا: هل يخلو منه العرش أو لا يخلو؟ نقول لهم: أثبتوا أولاً أنه عَلَى العرش، ثُمَّ اسألوا هذا السؤال، وهذا دليل التناقض الفكري الذي لا بد أن يقع فيه كل من أعرض عن الكتاب والسنة. وما مذهب أهل البدع إلا مجموعة أمور متناقضة.
  2. الله جل جلالة لا تحوية الجهات الست

     المرفق    
    1. هل الإمام أبو جعفر على مذهب الماتريدية؟

      قَالَ المُصنِّفُ -رحمه الله تعالى-:
      وقول الشيخ رحمه الله تعالى: [لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات]
      [هو حق باعتبار أنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته، بل هو محيط بكل شيء وفوقه، وهذا المعنى هو الذي أراده الشيخ -رَحِمَهُ اللَّهُ- لما يأتي في كلامه: أنه تَعَالَى محيط بكل شيء وفوقه، فإذا جمع بين كلاميه، وهو قوله: لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات وبين قوله: "محيط بكل شيء وفوقه" عُلم أن مراده أن الله تَعَالَى لا يحويه شيء، ولا يحيط به شيء، كما يكون لغيره من المخلوقات، وأنه تَعَالَى هو المحيط بكل شيء، العالي عَلَى كل شيء.
      لكن بقي في كلامه شيئان: أحدهما: أن إطلاق مثل هذا اللفظ -مع ما فيه من الإجمال والاحتمال- كَانَ تركه أولى، وإلا تُسِلَطَ عليه، وألزم بالتناقض في إثبات الإحاطة والفوقية، ونفي جهة العلو، وإن أجيب عنه بما تقدم، من أنه إنما نفى أن يحويه شيء من مخلوقاته، فالاعتصام بالألفاظ الشرعية أولى.
      الثاني: أن قوله: "كسائر المبتدعات" يفهم منه أنه ما من مبتدع إلا وهو محوي!! وفي هذا نظر، فإنه إن أراد أنه محوي بأمر وجودي، فممنوع، فإن العالم ليس في عالم آخر، وإلا لزم التسلسل، وإن أراد أمراً عدمياً، فليس كل مبتدع في العدم، بل منها ما هو داخل في غيره، كالسموات والأرض في الكرسي ونحو ذلك، ومنها ما هو منتهى المخلوقات، كالعرش، فسطح العالم ليس في غيره من المخلوقات قطعاً للتسلسل، كما تقدم، ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال: بأن "سائر" بمعنى: البقية، لا بمعنى: الجميع، هذا أصل معناها، ومنه: " السؤر " وهو ما يبقيه الشارب في الإناء، فيكون مراده غالب المخلوقات، لا جميعها، إذ " السائر " عَلَى الغالب أدل منه عَلَى الجميع، فيكون المعنى: أن الله تَعَالَى غير محوي -كما يكون أكثر المخلوقات محوياً، بل هو غير محوي بشيء- تَعَالَى الله عن ذلك.
      ولا يُظن بالشيخ -رَحِمَهُ اللَّهُ- أنه ممن يقول: إن الله ليس داخل العالم ولا خارجه بنفي النقيضين، كما ظنه بعض الشارحين، بل مراده: أن الله تَعَالَى منزه عن أن يحيط به شيء من مخلوقاته، أو أن يكون مفتقراً إِلَى شيء منها، العرش أو غيره] اهـ.

      الشرح :
      من منهج أهل البدع أنهم يأتون إِلَى المتشابه من الكلام ويؤولونه، فأولوا كلام الله، وأولوا كلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما بالكم بكلام البشرفبعض الماتريدية الحنفية المتأخرين في شروحاتهم عَلَى هذه العقيدة أو في كتبهم الأخرى يقولون: إن الإمام أبا جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ عَلَى العقيدة الماتريدية أي: عَلَى القول بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ويستدلون عَلَى ذلك بأنه قَالَ: "لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات"، يقولون: والمعنى واحد.
      وعليه: فالإمام أبو جعفر عَلَى مذهبنا، وهذا الكلام الذي نقوله هو مذهب الإمام أبى جعفر الطّّحاويّ، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ كما سيذكر المصنف، والسبب الذي أوقعهم في ذلك هو اللبس والإجمال في العبارة ولهذا ينتقد المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ هذه العبارة لأنها تؤدي إِلَى هذا اللبس فأخذ في إبطال ذلك فقَالَ: [إن قول الشيخ: "لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات" هو حق باعتبار أنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته، بل هو محيط بكل شيء وفوقه، وهذا المعنى هو الذي أراده الشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ لما يأتي في كلامه أنه تَعَالَى محيط بكل شيء وفوقه].
      وهذا الكلام مشابه لقوله في موضع آخر: [وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه].
      فتركوا هذا الكلام الصريح المحكم وأخذوا بقوله المتشابه: "لا تحويه الجهات الست" وبناءً عليه قالوا: لا هو داخل العالم ولا خارجه ولا عن يمينه ولا عن شماله ولا فوقه وتحته!
    2. توجيه كلام الإمام الطحاوي

      يقول المصنف: [فإذا جمع بين كلاميه وهو قوله: لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات، وبين قوله: "محيط بكل شيء وفوقه" علم أن مراده أن الله تَعَالَى لا يحويه شيء، ولا يحيط به شيء كما يكون لغيره من المخلوقات، وأنه تَعَالَى هو المحيط بكل شيء العالي عَلَى كل شيء، ولا يظن -نحن ولا كل منصف- بالشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ أنه ممن يقول: إن الله تَعَالَى ليس داخل العالم ولا خارجه بنفي النقيضين] لأن هذا الإطلاق نَفْيٌ للنقيضين، ويقول علماء المنطق، النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان معاً، فلا يمكن أن نقول: لا داخل العالم ولا خارجه ولا يمكن أن يكون داخل العالم وخارجه في نفس الوقت فالنقيضان لا يجتمعان معاً ولا يرتفعان معاً.
      ثُمَّ يقول المُصنِّف مستدركاً: [لكن بقي في كلامه شيئان: أحدهما: أن إطلاق مثل هذا اللفظ -مع ما فيه من الإجمال والاحتمال -كان تركه أولى. وإلا تسلط عليه، وألزم بالتناقض في إثبات الإحاطة والفوقية ونفي جهة العلو، وإن أجيب عنه بما تقدم، من أنه إنما نفى أن يحويه شيء من مخلوقاته فالاعتصام بالألفاظ الشرعية أولى.
      الثاني: أن قوله: "كسائر المبتدعات" - يفهم منه أنه ما من مبتدع إلا وهو محوي] لأنه يقول: لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات، وما زال الإشكال قائماً في العبارات وبهذا نعلم أنه ينبغي للإنسان أن يزن كلماته وعباراته فلا يأتي بعبارات خاطئة أو محتملة، فالمصنف رَحِمَهُ اللَّهُ أراد أن يؤكد أن الله لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات (أي: المخلوقات).

      ثُمَّ بيَّن المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ أنه إذا كَانَ قصد الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ بالجهات الست أشياء وجودية وأمكنة حقيقية، وإن المخلوقات تحويها أشياء مخلوقه وكل مخلوق يحويه مخلوق إِلَى ما لا نهاية، وهذا لا يصح أن يكون فلذلك يقول: [وفي هذا نظر! فإنه إن أراد أنه محوي بأمر وجودي فممنوع، فإن العالم ليس في عالم آخر، وإلا لزم التسلسل، وإن أراد أمراً عدمياً، فليس كل مبتدع في العدم]، وإذا كَانَ قصده المعنى العدمي لأن الجهة -كما قلنا- لها معنيان: معنى وجودي، ومعنى اعتباري أو عدمي- فنقول: ليس كل موجود في العالم هو في العدم، فمثلاً هذا المسجد في المدينة، والمدينة في الأرض، والأرض في السماء الدنيا وهكذا.
      فبعض الموجودات هي داخل موجود آخر، إلا الكون فلا يحويه موجود آخر، وإنما ينتهي بذلك إِلَى نهاية الكون أو سطح العالم، فيكون بعد ذلك العرش، وبعد العرش يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي استوى عَلَى العرش، وهو محيط به وبجميع المخلوقات عَلَى كيفية لا نعلمها يقول المصنف: [بل منها ما هو داخل في غيره كالسماوات والأرض في الكرسي] فإنها في الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة- [ونحو ذلك، ومنها ما هو منتهى المخلوقات كالعرش، فسطح العالم ليس في غيره من المخلوقات قطعاً للتسلسل كما تقدم].

      ومما يمكن أن يكون جواباً للإشكال الحاصل في قوله: "كسائر المبتدعات"، بأن كلمة "سائر" بمعنى: البقية، أو بمعنى الغالب، وهذا الأصح في لغة العرب، أن تكون بمعنى البقية لا بمعنى الكل، ونحن نستخدمها في معنى الكل، ونقول: أنا مثل سائر النَّاس أي: مثل كل النَّاس.
      فمن الناحية اللغوية كلمة "سائر" لا تطلق إلا عَلَى الباقي، لكن النَّاس استخدموها في معنى الكل، مثلاً في حديث الغسل من الجنابة "ثُمَّ أفاض الماء عَلَى سائر جسده" أي: بعد أن غسل رأسه أو بعد أن توضأ "أفاض الماء عَلَى سائر جسده" أي: عَلَى بقية جسده، وكان ذلك بعد وضوئه كما هو ثابت في الصحيحين.
      وهذا هو التعبير الصحيح في اللغة العربية؛ فيقول المصنف: [ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال: بأن "سائر" بمعنى: البقية، لا بمعنى: الجميع، هذا أصل معناها، ومنه "السؤر" وهو ما يبقيه الشارب في الإناء] فسؤر القطة ما بقي في الإناء بعد أن تشرب منه [فيكون مراده غالب المخلوقات، لا جميعها، فيكون المعنى: أن الله تَعَالَى غير محوي] وأكثر المخلوقات محوية بمخلوق آخر إِلَى نهاية العالم.

      وهذا الكلام الذي ذكره المُصنِّف لعله منقول بالنص من كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ الذي في التدمرية صـ 45، أو في منهاج السنة (1/250)، وهذا يبين أن شارح العقيدة الطّّحاويّة يعتمد اعتماداً شبه كلي عَلَى كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وابن القيم، وكذا الحافظ ابن كثير والذهبي، ولكن اعتماده الأكثر عَلَى كلام ابْن تَيْمِيَّةَ، وابن القيم رحم الله الجميع.
      وكان يترك التصريح بالأسماء خشية أن ينسب إليهم ثُمَّ يرد الحق الذي معه.
    3. ماذا قال أبو حنيفة في علو الله تعالى؟

      قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
      [وفي ثبوت هذا الكلام عن الإمام أبي حنيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ نظر، فإن أضداده قد شنعوا عليه بأشياء أهون منه، فلو سمعوا مثل هذا الكلام لشاع عنهم تشنيعهم عليه به.
      وقد نقل أبو مطيع البلخي عنه إثبات العلو، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وظاهر هذا الكلام يقتضي نفيه، ولم يرد بمثله كتاب ولا سنة، فلذلك قلت: إن في ثبوته عن الإمام نظراً، وإن الأولى التوقف في إطلاقه فإن الكلام بمثله خطر، بخلاف الكلام بما ورد عن الشارع، كالاستواء والنزول ونحو ذلك، ومن ظن من الجهال أنه إذا نزل إِلَى سماء الدنيا، كما أخبر الصادق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكون العرش فوقه، ويكون محصوراً بين طبقتين من العالم.
      فقوله مخالف لإجماع السلف، مخالف للكتاب والسنة، وقال شَيْخ الإِسْلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني سمعت الأستاذ أبا منصور بن حمشاذ بعد روايته حديث النزول يقول: سُئل أبو حنيفة؟ فقَالَ: ينزل بلا كيف. انتهى.
      وإنما توقف من توقف في نفي ذلك، لِضعف علمه بمعاني الكتاب والسنة وأقوال السلف، ولذلك ينكر بعضهم أن يكون فوق العرش، بل يقول: لا مباين ولا محايث، لا داخل العالم ولا خارجه، فيصفونه بصفة العدم والممتنع، ولا يصفونه بما وصف به نفسه من العلووالاستواء عَلَى العرش.
      ويقول بعضهم: بحلوله في كل موجود، أو يقول: هو وجود كل موجود ونحو ذلك، تَعَالَى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.
      وسيأتي لإثبات صفة العلو لله تَعَالَى زيادة بيان، عند الكلام عَلَى قول الشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ: "محيط بكل شيء وفوقه" إن شاء الله تعالى] اهـ.

      الشرح :
      قول المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [وفي ثبوت هذا الكلام عن الإمام أبي حنيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ نظر، فإن أضداده قد شنعو عليه بأشياء أهون منه؛ فلو سمعوا مثل هذا الكلام لشاع عنهم تشنيعهم عليه به] في هذا نقدٌ لمن ينسب إِلَى الإمام أبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ قوله بنفي الجهات، سواء كَانَ التعبير بنفي الجهات كما قال الطّّحاويّ: [لا تحويه الجهات الست] أو أنه قَالَ: لا داخل العالم ولا خارجه، فيقول -رَحِمَهُ اللَّهُ-: إن ذلك لا يصح عنه وفي نسبة ذلك إليه نظر.
      لأن أضداد الإمام أبي حنيفة شنعوا عليه بأشياء أهون من هذا، ولو سمعوا عنه أو بلغهم عنه هذا لشنعوا عليه به؛ لأنه أشنع وأعظم وأخطر، فنجد مثلاً في كتاب السنة، للإمام عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل -رحم الله الجميع ورضي عنهم-كلاماً طويلاً عن الإمام أبي حنيفة، وأقوالاً كثيرةً جداً، منها الثابت، ومنها غير الثابت، ومنها ما أخذ عليه شيء في عقيدته.
      وذكر ذلك أيضاً ابن حبان في كتاب المجروحين وغيرها من الكتب التي تعرضت له وجمعت ما له وما عليه، كما جمع الخطيب في تاريخ بغداد أشياء له وعليه، فلو بدر عن الإمام أبي حنيفة نفي العلو عَلَى أي تعبير جاء، لكان ذلك من أشنع ما ينسب إليه، كيف وقد نسب بعضهم إليه ما لم يقل؟
      فلا يمكن ولا يصح أن الإمام أبا حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ أو أحداً من السلف أنكر العلو،
      بل أورد الشيخ وأورد غيره ما يدل عَلَى أن الإمام أبا حنيفة يثبت العلو فذكر من ذلك: [وقد نقل أبو مطيع البلخي عنه إثبات العلو كما سيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى-] في كتاب الفقه الأكبر.
      فكان مما قَالَ: "من أنكر أن الله فوق العرش فقد كفر"، هكذا قال الإمام أبو حنيفة، من نفى أو من أنكر أن الله تَعَالَى فوق العرش فقد كفر، لأن الله يقول: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طـه:5]
      .
      ثُمَّ بيَّن المُصنِّف أن العبارات المجملة الأولى أن لا تطلق، ويكتفى بما ورد عن الله ورسوله كالاستواء والنزول ونحو ذلك.
      ثُمَّ استطرد يقول: [ومن ظن من الجهال أنه إذا نزل إِلَى السماء الدنيا] كما ورد بذلك الحديث الصحيح المتواتر الذي رواه جمع من الأئمة، ومن أكثر من أطال في نقل رواياته الإمام ابن عبد البر في كتاب التمهيد، وكذلك شرحه شرحاً مستفيضاً طويلاً شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في كتابه شرح حديث النزول، فمن ظن أنه عندما ينزل في الثلث الأخير من الليل، ويكون العرش فوقه، أو يكون محصوراً بين طبقتين من العالم.
      فإن مثل هذه التصورات الجاهلية السخيفة الساذجة، أساسها سذاجة العقل وضيق الأفق، والإِنسَان مسكين لا يستطيع أن يتخيل شيئاً إلا عَلَى الكيفيات التي يعرفها، كما يُقَالَ: "لو أنّ رجلاً ولد في السجن أو عاش في السجن وهو صغير ولا يرى إلا الصراصير، وأكبر حيوان يراه في السجن هو الفأر، وما خرج إِلَى الدنيا ولا رآها، ويسمع أباه والسجناء يقولون: الفيل، الثور، البقرة، فإنه سيسأل أباه: يا أبي! الفيل أكبر من الفأر أم مثل الصراصير؟!! " وهكذا الفكر والعقل البشري محصور مسجون، فإذا جاءنا نصٌ فيه {ينزل ربنا إِلَى السماء الدنيا} قيل: معناها أنه بين سمائين!! ثُمَّ يتبادر سؤالٌ هل خلا منه العرش أم لا؟!
      وهذه تفكيرات ساذجة سطحية تدل عَلَى ضعف إدراك الإِنسَان.

      ولهذا أول ما وصف الله به المؤمنين، وهو أعظم وصف لهم في جميع أبواب العقيدة قوله تَعَالَى: ((الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)) [البقرة:3] فنؤمن بالغيب، ونؤمن بأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- صادق فيما أخبر وأن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذلك، وأن عقولنا عاجزة وكليلة عن إدراك أمور الغيب، وعلى هذه العقول أن تؤمن سواء فهمت حقيقة ذلك وكيفيته أو لم تفهمه، فإذا جادلت وما طلت وكيفت وحُرِفت، فإنها لا تكون مؤمنة بالغيب.
      ثُمَّ ينقل المُصنِّف كلام شَيْخ الإِسْلامِ أبي عثمان الصابوني، وله كتاب في إثبات الصفات حققه الشيخ علي ناصر فقيهي وفيه يقول: "سئل أبو حنيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن حديث النزول، فقَالَ: ينزل بلا كيف"، فـأبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ يثبت علو الله عَزَّ وَجَلَّ، ويثبت نزوله، كما ورد في الأحاديث، وينفي الكيفية، كما يقول ذلك سائر السلف.
      ثُمَّ يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [وإنما توقف من توقف في نفي ذلك -أي: من الشراح الذين توقفوا في نفي مثل هذه العبارات- لضعف علمه بمعاني الكتاب والسنة وأقوال السلف، ولذلك ينكر بعضهم أن يكون فوق العرش!] ينكر علو الله عَلَى عرشه! [بل يقول: لا مباين ولا محايث لا داخل العالم ولا خارجه، فيصفونه بصفة العدم والممتنع، ولا يصفونه بما وصف به نفسه من العلو والاستواء عَلَى العرش ويقول بعضهم بحلوله في كل موجود، أو يقول: هو وجود كل موجود، ونحو ذلك تَعَالَى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيرا]ثُمَّ أشار المُصنِّف إِلَى أنه سيأتي تفصيل ذلك.
    4. إحالة إلى ما قاله الشنقيطي في العلو والاستواء

      وبخصوص هذه القضية هناك مرجع سهل وميسر ومبسط جداً في مسألة العلو والاستواء، وهو كلام شيخنا الشيخ مُحَمَّد الأمين الشنقيطي رحمة الله عليه في كتاب أضواء البيان، عند قوله تَعَالَى في سورة الأعراف: ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش)) [الأعراف:54] فقد تكلم بكلام رائع وعظيم ومفهوم وواضح.
    5. البدعة بريد الكفر

      تقدم ذكر مذاهب النَّاس في مسألة العلو، لكن ينبغي أن نعرف خطر البدع وتسلسل بعضها من بعض، فإن أول ما يبدأ به الشخص أنه ينكر علو الله عَزَّ وَجَلَّ، ويقول: لا داخل ولا خارج...، فإذا أقر بهذا ودرسه وفهمه واستوعبه، أتاه الحلولي فقَالَ: ما دام أنك قلت: لا داخل ولا خارج...، فليس هو إلا هذا الكون فينتهي به الأمر إِلَى أن يقول: إن الله هو هذا الكون، أو إن الله حالٌ في هذا الكون، أي: إما اتحادي يقول اتحد في هذا الكون، أو يقول بوحدة الوجود، وأن ما في الوجود إلا هو، كما يقول ابن عربي في تفسير قوله تعالى: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طـه:5] يقول: عَلَى أي شيء استوى، وما في الوجود إلا هو؟! فهو المستوي وهو المستوى عليه، عياذاً بالله.
      ونحن نقول ويقول معنا الأشعرية والمعتزلة وأمثالهم: إن من قال إن الله تَعَالَى هو عين الموجودات كافر خارج عن الملة.
      لكن من الذي يمهد لهذا الإِنسَان هذه الطريق ليصل به إِلَى الكفر؟ إنه من يقول من أهل البدع: إن الله في كل مكان، أو إنه لا داخل العالم ولا خارجه
      ، أما المؤمن الذي يقرأ كتاب الله ويقرأ سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنك تجده يعرف ربه حق المعرفة؛ لأنه يقرأ سبعة مواضع في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ في إثبات الاستواء، فما بالك بالعلو الذي أدلته لا تحصى؟!
      وكما سبق أن قلنا: إن العلو ثابت بالآيات والأحاديث، والعقل والفطرة والإجماع، لكن الاستواء بالذات ثابت بالنص أي بالآيات والأحاديث
      ونعلم أنه عال عَلَى المخلوقات حتى من غير النص ومن قبل أن يرد النص، يقول عنترة الشاعر المشهور:
      يا عبل أين من المنية مهـرب            إن كَانَ ربي في السماء قضاها
      فهو يثبت العلو ويثبت القدر، والذين ينفون العلو وينفون القدر خالفوا حتى المعاني الجاهلية،
      فالعلو ثابت بالعقول والفطر، والاستواء ثابت بالنص، وكل منهما يؤيد الآخر.