في حين أن نظرة عقلية عجلى تؤكد أن
الحداثة هي نفسها مفهوم نسبي بما أن حاضرنا هو ماضي الغد!!
فكما رأينا -في
أوروبا- كان
لوثر أكبر الحداثيين في عصره، وهو الآن نموذج للبروتستانتي الكلاسيكي، و
دانتي كان حداثياً كبيراً في زمانه، وهو الآن مثال
الكلاسيكية الإنسانية.
وكان
ديكارت حداثي زمانه بالنسبة للفلسفة العقلية، ثم كان الرومانسيون في القرن الثامن عشر نموذج
الحداثة الثائرة على
العقلانية الجامدة!
وفي أواخر القرن التاسع عشر كانت
الرمزية ثورة حداثية على الاتجاهات جميعها، ولما ظهرت مدارس (اللامعقول) المتنوعة (
السوريالية،
العبثية،
العدمية،
الوجودية) كتب النقاد عنها باعتبارها أكبر انقلاب معرفي حداثي، وأسمى
سارتر مجلته
العصور الحديثة!!
وفي الستينيات -كما أسلفنا- زعمت
البنيوية أنها الثورة الحداثية التي لم يشهد التاريخ لها من نظير، ولكن نقيضها
التفكيكية سرعان ما ظهرت في أواخر العقد نفسه مدعيةً الدعوى نفسها!!
وفي
أمريكا كانت موجة (الهيبيز) آخر صرعة في نظر مفكري ذلك العقد والآن تلاشت، وارتد كثيرون للأصولية الإنجيلية!!
وهذا كله غير حداثة
ماركس التي حقرت كل ما قبلها، وعندما جاء
لينين صاغها بشكل تقدمي (حداثي) أكثر عصرية، ثم جاء عصر
استالين وتبنى اتحاد الكتاب السوفيت آراءه الأكثر حداثة، وهكذا...
إنه العقل البشري المحدود الضعيف الذي يتخيل كل مرحلة من مراحله أنها نهاية التاريخ، والدهر أعظم من ذلك وأطول لو كانوا يفقهون.
ولا نستطيع أن نجرد الحداثيين العرب عن فهم هذه الحقيقة، لكنهم بذكائهم اللماح لم ينسوا أن اطراد "الجدلية" إلى نهاية التاريخ تساوي نهاية اللغة، يمكنه حل المأزق بافتراض أن اختفاء عنصر النقيض في المرحلة الأخيرة من الصراع الأبدي يؤدي إلى نهاية لا محدودة!! ولذلك تعجل هؤلاء الخطى وطالبوا -من الآن- بالوصول بالمعرفة إلى تلاشيها المطلق، وباللغة إلى تجريدها المطلق!!
وبتعبير الحداثيين: (إن الوصول بالمعرفة السائدة والنمطية إلى تلاشيها المطلق ينفي احتمال ظهور أي وضع معرفي استاتيكي (ثابت)، وسيظل الانفجار المعرفي الحداثي هو السائد والوحيد إلى ما لا نهاية)!!
وحسبك بهذه النتيجة من باطل لا تنكره بداءة العقول فحسب، بل يرفضه الواقع الحي في كل البلاد ولاسيما في الأدب العربي، إنه ليس من سنة الله كما أن الجمود المطلق ليس من سنته.