ومع كل ماسبق من نشأة
البنيوية وما تطور عنها في سياق تاريخي معرفي مغاير ومناقض لما تنتمي إليه هذه الأمة، فلا بأس أن نتنـزل في الجدل ونفرض أن
البنيوية ليست سوى منهج مجرد في الدراسات اللغوية والأدبية ونسأل:
أليست
البنيوية منهجاً مطرداً بقوانين وتحليلات شمولية قاطعة لا تستثني قائلاً ولا نصاً ولا لغة ً؟ ثم أليس ''الموقف الألسني يجرد كل قاعدة من قدسيتها؛ بل لا يرى قاعدة إلا فيما هو متداول وممارس من طرف المجموعات البشرية، وفي بعض الأحيان يرى تكسير القاعدة قاعدة.
إن كل من يشك في الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب هو في نظر البنيويين عدو لدود ورجعي تقليدي؛ ذلك أن قوة النظرية تستمد من شموليتها واطراد قانونها بخلاف سائر المناهج والاتجاهات المنطقية -كما يزعمون- وعليه فليس لدى البنيويين نص مقدس لا يخضع لنظريتهم، وتبعاً لذلك جرت دراسة التوراة والإنجيل بنيوياً مثلها مثل سائر النصوص، ومن هنا ندرك مدى خطورة الدعوة إلى
البنيوية وتطبيقاتها على اللغة العربية التي أسمى ما فيها وذروة نصوصها باتفاق كل ناطق بها أو دارس لها هو "النص الموحى" -أي: كلام الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كيف يمكن أن تطبق على القرآن الكريم نظرية موت المؤلف، واستقلال النص وقيامه كوناً مستقلاً بذاته يفهمه كل قارئ كما يشاء، حيث أنه لا مانع لدى
البنيوية من أن يكون له تفسيرات بعدد القراء بل أكثر من ذلك.
فانظر إلى ما يقوله الدكتور
الغذامي -بعد أن أطال في تقرير هذا الأمر، وجعله من أعظم ميزات المنهج وأسمى خصائصه:
الكاتب صاغ النص حسب معجمه الألسني، وكل كلمة من هذا المعجم تحمل معها تاريخاً مديداً ومتنوعاً وعى الكاتب بعضه وغاب عنه بعضه الآخر، ولكن هذا الغائب إنما غاب عن ذهن الكاتب ولم يغب عن الكلمة التي تظل حبلى بكل تاريخياتها، والقارئ حينما يستقبل النص فإنه يتلقاه حسب معجمه، وقد يمده هذا المعجم بتواريخ للكلمات مختلفة عن تلك التي وعاها الكاتب حينما أبدع نصه، ومن هنا تتنوع الدلالة وتتضاعف، ويتمكن النص من اكتشاف قيم جديدة على يد القارئ، وتختلف هذه القيم وتتنوع من قارئ وآخر؛ بل عند قارئ واحد في أزمنة متفاوتة، وكل هذه التنوعات هي دلالات للنص حتى وإن تناقضت مع بعضها البعض.
أيقبل مسلم تطبيق هذا الكلام على القرآن؟
إن إقرار تطبيقه على شعر العرب ولغتهم وهدم قواعدهم النحوية والبلاغية جملة لابد أن يؤدي إلى ذلك حتماً.
إن موقف
طه حسين ومن وراءه أخف من هذا الموقف ولو من بعض الوجوه؛ ذلك أنه -وشيوخه
المستشرقين- حين أرادوا هدم البيان القرآني -توصلاً إلى هدم الإسلام- اتخذوا ذريعة لذلك إنكار الشعر الجاهلي في ذات نصوصه، أما هذا المنهج البنيوي فهو يتنكر للقواعد والأصول والمعايير النحوية واللغوية؛ بل للفطرة العربية من أساسها، إنه يستبقي النصوص -أشباحاً وهلاماً- فقط!!
فالأولون ساروا على منهج كفار قريش في الزعم بأن النص القرآني ليس منـزلاً من عند الله، والبنيويون حاكوا
الباطنية في تفسيره -كما يشاءون- بلا ضابط من عقل أو نقل.
وإنه لو قدر
للحداثة العربية أن تسير على الدرب نفسه الذي سلكته نظيرتها التركية
لكان معنى ذلك المسخ الكامل لا للغة فحسب بل لوجه الإسلام كله.