ثم كان القرن التاسع عشر وهو قرن التغيرات الكبرى في كل مجالات الحياة الأوروبية:-
الثورة الصناعية تعم أرجاء القارة، حاملة الكوارث الاجتماعية مع التقدم المادي الكبير.
الرأسمالية بوجهها الكالح تسيطر على أوروبا وتحفز الأوروبيين للتنافس الضاري على خيرات العالم كلها، حيث كان العصر الذهبي للتوسع الاستعماري والاحتكار التجاري.
الثورات السياسية تجتاح القارة مزلزلة بقايا الإقطاع والأنظمة الملكية.
الفلسفة المثالية تسود القارة وخاصة ألمانيا، والمذهب النفعي يسيطر على إنجلترا.
خارطة أوروبا تشهد تغييرات مفاجئة متلاحقة، فمثلاً: امبراطوريات تسقط وولايات تصبح امبراطوريات، دول تنكمش وأخرى تختفي!!
التعصب القومي يبلغ ذروته (جذور الفاشية، جذور النازية، والحركة الصهيونية) .
ظهور الحركات المتطرفة كـالماركسية، العدمية، الفوضوية.
ولعل أكبر الأحداث الفكرية في أول القرن هو ظهور الفلسفة الوضعية التي نادى بها كونت عام (1857م) ديناً جديداً للإنسانية.
ثم تلاها البركان الذي تجاوبت أصداؤه في أنحاء القارة كلها، وأحدث انقلاباً عاماً في الأفكار والآراء والمعتقدات التي توارثتها أوروبا -بل الإنسانية- قروناً طويلة، وهو البركان الذي فجره "داروين" في كتابه: "أصل الأنواع" المشتمل على نظرية التطور العضوي والانتقاء الطبيعي.
وقد وصلت سيول الحمم التي قذفها البركان إلى أرجاء المعمورة كافة نتيجة جهود عظيمة قام بها أناس متعددو الاتجاهات، لكنهم متفقو الدوافع -على ما يبدو- ومن أبرزهم اليهود الثلاثة "ماركس، فرويد، دوركايم، وتبعهم بالطبع جموع هائلة من المغررين أو المسيرين! في كل مكان.
هذا الحدث المذهل أثار حفيظة دعاة القديم، وبالأخص رجال الكنيسة فاستجمعوا قواهم واستنجدوا بكل حميم، وخاضوا معركة كان فيها حتفهم، وانقشع الغبار عن سقوط آخر قلاع الكنيسة وخروجها كلياً عن ميدان الصراع الفكري العام، واندحار الدعاة الأخلاقيين ودعاة الالتزام عامة، ولم يبق لهم إلا شراذم في (حزام الإنجيل) وشبهه.
وهكذا كان الغرور الهائل الذي أوحت به النظرية، والثقة في التقدم المطلق في كل المجالات التي أسهمت فيها الاكتشافات العلمية المذهلة حينئذٍ، وكانت نهاية المطاف ظهور النظرية النسبية في أوائل القرن العشرين عام (1905م).
ونتج عن ذلك تنكر مخيف للماضي بكل ما فيه، وقطع متعمد للأواصر الرابطة به، وثورة شاملة على الأخلاق والتقاليد، لم يسبق لها نظير من قبل.