الصدمة الحضارية الأوروبية
وهكذا كانت الحملات الصليبية، وكانت الصدمة الحضارية التي لم تنسها أوروبا لحظة واحدة من عمرها:
أوروبا التي لا تعرف التمدن تحاصر مدناً -هي صغرى في محيط الحضارة الإسلامية- لكن بعضها يبلغ عشرة أضعاف روما عاصمة المتحضرين المقدسة!!
أوروبا التي لم تعرف العلم قروناً، بل لم تعرف كتاباً إلا الإنجيل ولا قارئاً إلا القسيس، تذهل للمكتبات الهائلة التي تختـزنها هذه المدن الصغرى من عامة وخاصة، وفي كل فنون المعرفة من الفلك إلى النقد الأدبي!!
أوروبا التي لا تستطيع أن تستغفر ربها أو تصلي له أو تقدم له قرباناً إلا بتوسط البابا وكهنته، ولا تستطيع أن تقرأ كتابها المقدس ولا تفسره أو تترجمه إلى لغة حية، تجد كتاب الله الأخير -القرآن- في الشرق الإسلامي المتحضر تتلوه الملايين في المساجد والبيوت، والكل يعبد رب العالمين بلا واسطة مخلوق!!
أوروبا التي يعيش (99%) من أهلها عبيداً ورقيق أرضٍ وفلاحين لا يستطيع أحدهم أن يتنفس الهواء خارج إقطاعيته، وإن حاول ذلك كان عقابه الكي بمياسم عريضة تطبع العبودية على جبينه مدى الحياة، تجد الناس في الشرق الإسلامي يعيشون ويتنقلون أحراراً في أرض الله الواسعة من المحيط الهادي إلى المحيط الأطلسي، ويتاجرون مع جنوب إفريقيا والدول الإسكندنافية وربما مع جزر الكاريـبي!!
أوروبا التي كان أفضل نموذج لوحداتها الإدارية هو حكومات "الكوميون" في إيطاليا، تجد الشرق المسلم يعيش أرقى النظم الإدارية في ممالك تبلغ مساحتها مساحة القمر!!
أوروبا التي يحكمها الأباطرة حكماً استبدادياً مطلقاً، ويعتقد الرعايا أن القيصر من نسل الآلهة، وأن الله هو الذي أعطاه هذا الحق قدراً وشرعاً وأورثه لسلالته المقدسة، تفاجأ بالمسلمين وسلاطينهم من الترك تارة، ومن الكرد أخرى، ومن المماليك ثالثة، والكل بشر في نظر سائر البشر.
أوروبا الغارقة في الهمجية والوحشية التي تحرق المخالفين وهم أحياء، وتتفنن في تعذيب المنشقين وإذلال المقهورين، ولا تعرف عهداً ولا ميثاقاً، تبهرها الأخلاق الإسلامية في الحرب والسلم سواء .
أوروبا التي ما كانت تحسب العالم إلا أوروبا، والتي تسمي الوصول إلى شيء من أطراف الشرق اكتشافاً !!وظلت هكذا إلى القرن التاسع عشر، ففوجئت بالمسلمين يجوبون الدنيا شرقاً وغرباً تجاراً ورحالة ودعاة، بكل تواضع وهدوء، لقد وصلوا إلى أجزاء من شمال أوروبا قبل أن تعرفها أوروبا نفسها، هذا عدا العالم الشرقي الهائل السعة بالنسبة لها براً وبحراً ، وما المساجد التي اكتشفت في جزر الكاريـبي وصرخ كولومبس حين رآها قائلاً: "يا إلهي!! حتى اليابان فيها مساجد؟!!" إلا أحد الشواهد الثابتة على هذا.
أوروبا التي كانت تتداوى بمركبات من الروث والبول وأشلاء الحشرات الميتة، تفاجأ بالعالم الإسلامي زاخراً بالمستشفيات والمعامل القائمة على منهج التجربة والاستقراء؛ مع الخبرة والحدس في التشريح والتشخيص والجراحة وتركيب الدواء، وكل ذلك مدون في موسوعات ضخمة ظلت المصدر الأول لنهضة الطب الحديث ولا تزال رافداً متجدداً له .
وإجمالاً: ولدت أوروبا ولادة جديدة، ووجد لديها لأول مرة في تاريخها الشعور بأنها أمة واحدة تواجه عدواً أبدياً هو الإسلام، وكانت طفولتها في ذلك العصر الذي سمي "عصر النهضة" أو الانبعاث الذي تعمّدت ألا تجعله يبدأ تاريخياً بمعرفة الدين الرباني واكتشاف حضارته العظمى، بل بلحظة الإبحار العكسي إلى الجاهلية الإغريقية واكتشاف أرسطو.