المادة    
وهنا يذكر المصنف شبهات الفلاسفة والمتكلمين في إبطال العلو، ويفندها جميعها، فيقول: [فإن قيل: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها، قيل: لولم يكن قابلاً للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها].
أي أنهم قد يكابرون ويقولون: أنتم ناقشتمونا في قضية عقلية، وهي أن الذات لا تخلو من الشيء أو من ضده، فنحن لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى تلزمونا بثبوت ضدها، فنقول: [إنه لو لم يكن قابلاً للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها]، فالذي لا يقبل الجهات هو شيء غير موجود، وليس له حقيقة، وليس ذاتاً قائمة مستقلة منفصلة عن العالم؛ ثم يقول: [فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم، وأنه موجود في الخارج؛ ليس وجوده ذهنياً فقط؛ بل وجوده خارج الأذهان قطعاً، وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه].
وللفلاسفة والمتكلمين في ذلك مذهبان: مذهب من يرى رفع النقيضين، فيقول: لا داخل ولا خارج ولا فوق ولا تحت؛ تنزيهاً منه لله بزعمه، فيرفع النقيضين، وهذا محال؛ لأنه لا بد من ثبوت أحدهما، وممن يقول بهذا القول بعض فلاسفة اليونان المتقدمين، ثم أخذها عنهم أهل الكلام، ومنهم الأشاعرة المتفلسفون، ومنهم صاحب المواقف والرازي وغيرهما.
والطائفة الأخرى قالوا: نحن لا نثبت ذاتاً قائمة مستقلة بنفسها؛ لأننا نقول: وجوده ذهني فقط، وهذا قول فلاسفة اليونان القدماء، ويوجد أيضاً من الفلاسفة المعاصرين من يذهب إلى هذا القول، فهم يقولون: إن الله تعالى مجرد فكرة، ولا وجود له إلا في الأذهان فقط -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- وهؤلاء من أكفر طوائف بني آدم، وكل بني آدم وكل العقلاء يكفرونهم، والسبب الذي جعلهم يقولون هذا القول نظرتهم إلى أنهم مضطرون لو أثبتوا أنه تعالى موجود خارج الأذهان في الحقيقة أن يقروا أنه لابد له من صفات، فقالوا: لا يمكن أن يتخيله العقل، ولا أن يتخيل له هذه الصفات، فأنكروا وجود الذات، وجعلوا وجوده مجرد وجود ذهني فقط، وهذا كلام ليس عليه أي دليل؛ لأنه يؤدي إلى أن الذي خلق الموجودات لا يكون موجوداً، وأنه مجرد فكرة تلقاها الناس، ثم كيف تُجمع العقول جميعاً على وجود هذه الفكرة؟! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وكل العقول السليمة تتفق على أن لها خالقاً قديراً حكيماً عليماً، بحيث إذا سئل الإنسان عن أي شيء من الموجودات، أو عن أي شيء من آثار الموجودات، فبالبداهة يتكلم عن موجد هذه المخلوقات وعن خالقها وعن صانعها، وهو الله سبحانه وتعالى، فالجميع متفقون على موجود كامل الوجود، كامل الصفات، هو الذي أوجد هذه الكائنات، فهذه دلالة على بطلان هذا المذهب الذي لا أساس له، والمفكرون الأورتوبيون المتأخرون لم يقولوا هذا إلا فراراً من سطوة رجال الدين الذين كانوا يعذبونهم ويضطهدونهم، فقالوا: لا يمكن أن ننكر وجود الله؛ لأن العقول والفطر والقلوب كلها تؤمن بالله، فجاء الشيطان فوسوس لهم فقالوا: ننكر وجوده خارج الذهن، فهم من أجل أن يأمنوا من سطوة الكنيسة لم يقولوا: لا يوجد إله؛ لأنهم يخافون من عقوبة الكنيسة، وإن قالوا: هناك إله؛ فليس أمامهم إله، إلا هذا الذي ورد الحديث عنه وعن صفاته في الأناجيل وفي عقيدة الكنيسة الباطلة التي تجعله حالاً في عيسى عليه السلام، والعقل لا يقبل ما قيل في هذه العقيدة؛ فهروباً من ذلك ظهرت النظريات، ومنها الفلسفة المثالية الألمانية التي تقول: إن وجود الإله مطلق ليس له وجود حقيقي، وإنما وجود مطلق داخل الذهن، تبعاً للفلسفة اليونانية القديمة، والذين أظهروا ذلك وتبنوه ونشروه في العالم الإسلامي هم فرقة الباطنية، فيصفونه بوصف الوجود المطلق، بشرط الإطلاق إن وصفوه به، وبعضهم ينفي حتى الوجود المطلق فيقول: لا نقول: موجود ولا غير موجود؛ فلا يوصف بشيء مطلقاً؛ وذلك بسبب إعراضهم عن الوحي وعما شرع الله، فأدى بهم ذلك إلى أن يتخبطوا حتى في البدهيات الواضحة الجلية التي لم يكلفنا الله سبحانه وتعالى أن نبحث فيها، ولم يحوجنا بالنسبة لها إلى تَعَلُّم، بل أوجدها في أنفسنا، فينكرون الفطرة والبداهة، ويأتون بهذه الأباطيل.
يقول المصنف: [فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم، وأنه موجود في الخارج، ليس وجوده ذهنياً فقط، بل وجوده خارج الأذهان قطعاً، وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك، فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه] فلا يمكن أن يكون إلا كذلك؛ لأن هناك خالقاً ومخلوقاً، فإذا أثبتنا ذات الخالق سبحانه وتعالى وأنه غير مخالط للعالم وأنه منفصل عنه، وميزنا فقلنا: خالق ومخلوق، فهو خارج هذا العالم.
يقول: [وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى وأظهر الأمور البديهيات الضرورية بلا ريب] أي: أن إنكار هذا الشيء هو إنكار لأمور من أجلى وأظهر الأمور البدهية التي لا تحتاج إلى نقاش عند العقلاء.
ثم يقول: [فلا يستدل على ذلك بدليل إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه وأوضح وأبين] فمهما استدلوا على نفي العلو، فالدليل على مباينة الله -سبحانه وتعالى- للخلق من العقل والفطرة مع ثبوتها بالأدلة النقلية أظهر وأوضح.
  1. اتصاف الله بصفات الكمال يقتضي علوه على خلقه

  2. الإيمان بوجود الله يستلزم الإيمان بعلوه

  3. نفي العلو يستلزم تكذيب الرسل عليهم السلام

  4. معاضدة الفطرة والعقل السليم للنصوص الشرعية في إثبات العلو