إن الواقع السياسي المعاصر الذي تنعكس عليه الصورة الحقيقية للجاهلية الأوروبية ليزخر بالدلائل القاطعة والبراهين القوية ويعج بالمتناقضات الصارخة والظواهر الغربية التي تنذر - مجتمعة بالمصير المشئوم والنهاية المروعة لعالم لا يؤمن بالله ولا يحتكم إلى شريعته.
ونحن المسلمين لا نرى فيما يضطرم به مسرح الأحداث العالمية من مفاسد جمة ومظالم شائنة وإرهاب فظيع وعنف مدمر وكوارث جسيمة إلا نتيجة طبيعية لعبادة غير الله المتمثلة في الحكم بغير ما أنزل الله.
فالنتيجة معروفة لنا سلفاً، وحكمنا عليها أساسي أعمق من مناقشة تفصيلاتها ومعالجة ظواهرها.
غير أنه قد يكون من الضرورى ونحن نعرض الجاهلية المعاصرة -كما هي فكراً وواقعاً- أن نعرض معها الوجه الآخر لها كما يراه بعض مفكريها لكى تكتمل صورة العرض.
هنالك قضية آمن بها المفكرون السياسيون قديماً وحديثاً هي كما جاءت على لسان
كريستيان غاوس: ''أن الدولة ليست خارج نطاق عالمنا الإنساني، فالشكل المعين لهذه الدولة التي يعيش البشر في ظلها ليس من صنع الله ولا من صنع الشيطان أو فرضهما، وهى إلى حد ما من الأشياء التي خلقها الإنسان، ولذا من الواجب أن تكون خاضعة كغيرها من الأمور التي خلقها لإعادة نظره ودراسته''
. وتلك هي علة العلل في الجاهلية المعاصرة.
يلهث الإنسان منقباً عن ذاته وقيمه وأنظمته وموازينه في حدوده الأرضية دون أن يرفع نظره مرة واحدة إلى السماء، ومن هنا كان حتماً عليه أن يضل ويشقى ويصرخ ويستغيث.
ولقد تعالت صيحات الخطر من الغرب تنتقد وتستنكر وتنذر وتحذر، وسنعرض هنا بعض ما كشفه الكتاب الغربيون من مساوئ الأنظمة السياسية الأوروبية بشقيها الرأسمالي والشيوعى.
أولاً:
الديمقراطية الليبرالية.
الناس في الغرب يقبلون الحوار والنقاش حول أي موضوع ما عدا موضوع
الديمقراطية، فـ
الديمقراطية بمبادئها - كالحرية والمساواة - وحقوقها وضماناتها - كما أسلفنا - منطقة مقدسة لا ينبغي أن تكون موضع جدال، وما لها لا تكون كذلك وهم لا يعلمون لها بديلاً إلا
الديكتاتورية ذلك الشبح الرهيب؟!
ومع ذلك فقد كثرت اعتراضات المفكرين على هذا المبدأ وانتقد من جوانب عديدة، ويتلخص نقد الكتاب الديمقراطيين
للديمقراطية في أمور:
1- ميوعة الاصطلاح، وصعوبة تحديده بدقة علمية يمكن بواسطتها التمييز بين الحقيقة وبين الادعاء المزيف.
يقول صاحب كتاب
نظم الحكم الحديثة: ''كل محاولة تستهدف تحديد الاستعمال الصحيح لاصطلاح
الديمقراطية، من شأنها أن تواجه مزيداً من التعقيدات، وليست البلاد التي تسمى بـ
الديمقراطية تقليداً... هي التي تظهر المتناقضات والعيوب فحسب؛ بل إن البلاد
الشيوعية في العالم والتي تعتنق مفهوماً سياسيا مخالفاً تماماً تدعي بذات التأكيد أنها ديمقراطيات شعبية، وأن انتساب البلاد الأخرى إلى
الديمقراطية إنما هو من قبيل الخداع''
.
ويقول
آرنولد توينبى: ''أصبح استخدام اصطلاح
الديمقراطية مجرد شعار من الدخان، لإخفاء الصراع الحقيقى بين مبدأي الحرية والمساواة''
.
ويقول
رسل عنها:
''كانت تعنى حكم الأغلبية مع نصيب قليل غير محدود المعالم من الحرية الشخصية، ثم أصبحت تعني أهداف الحزب السياسي الذي يمثل مصالح الفقراء على أساس أن الفقراء في كل مكان هم الأغلبية، وفي المرحلة التالية أصبحت تمثل أهداف زعماء هذا الحزب، وها هي الآن في
أوروبا الشرقية وجزء كبير من آسيا يصبح معناها الحكم المستبد لمن كانوا يوماً ما نصراء للفقراء، والذين أصبحوا يقصرون نصرتهم هذه للفقراء على إيقاع الخراب بالأغنياء، إلا إن كان هؤلاء الأغنياء من الديمقراطيين بالمعنى الجديد'' .
صحيح أن لفظ
الديمقراطية يعني عند إطلاقه حكم الشعب، لكن الآراء تتضارب كثيراً حول كيفية الحكم ونوعية الاقتراع والتمثيل وشروط المقترعين وتحديد الفئات السياسية.
ترى
الشيوعية أن الدول
الرأسمالية ليست
ديمقراطية بالمعنى الصحيح؛ لأن الحكم فيها حقيقة بيد الطبقة الثرية، وأن المصطلح الحقيقى لها هو:
دكتاتورية رأس المال.
وفى الوقت نفسه تقول
الرأسمالية: إن الدول
الشيوعية ليست
ديمقراطية لأنه بكل سلطانه ينحصر في قبضة قليلة واحدة من الشعب هي
الحزب الشيوعي؛ ولذلك لا تحسب الدول
الشيوعية في عداد العالم الحر.
هذا بالإضافة إلى الانقسامات داخل الدول
الديمقراطية الليبرالية.
2- الأحزاب المتشاحنة التي لا تعبر عن إرادة الأمة: إن الواقع المحسوس لينطق بصراحة بأن النظام الديمقراطي يقضي على وحدة الأمة، ويفتتها إلى تكتلات متناحرة وأحزاب متطاحنة لأسباب لم تكن لتستدعي التكتل والتحزب لولا أن النظام نفسه يشجع على ذلك ويهيئه، ومع خطورة هذا التمزق على الأمة فإنه ينبني عليه أثر خطر بالنسبة لتحقيق مصالح الشعب.
وذلك أن الدول
الديمقراطية الغربية يوجد بها نوعان من الأنظمة:
- نظام الحزبين، ونظام الأحزاب المتنافسة، وندع الكلام حول عيوب النظامين كليهما لـ
هارولد لاسكي المشار إليه: ''في
إنجلترا مثلاً إذا اقتصر الأمر على حزبي المحافظين والعمال، فسوف يضطر كثير من الموظفين لأن يختاروا بين بديلين، ليس بينهم وبين أحدهما تجاوب كامل خلاق، ولهذا السبب ينهض الادعاء بأن نظام الأحزاب المتعددة الذي يسمى عادة بنظام المجموعة يتلاءم مع انقسام الرأي بصورة أكثر فاعلية.
ولكن بناء على خبرتنا بنظام المجموعة - كما في
فرنسا وحكومة ويمار في
ألمانيا - يبدو أنه مصحوب دائما بعيبين خطيرين، ويكمن أكثر هذين العيبين أهمية في أن هذا النظام عندما يعمل تكون الطريق الوحيدة التي يتحكم بها في السلطة التشريعية هي تنظيم نوع من الائتلاف بين المجموعات... ويكون من نتسيجة ذلك أن يستعاض عن تحمل المسئولية بالمناورات وأن تصبح السياسة مجردة من التماسك وسعة الأفق...
والعيب الثاني الذي يظهر بدرجة ملحوظة في
فرنسا هو أن نظام المجموعة يميل إلى تجميع السلطة حول الأشخاص أكثر من تجميعها حول المبادئ''
.
3- إيجاد طبقة ثرية مسيطرة
دكتاتورية : هذا العيب الخطر ملازم للأنظمة
الديمقراطية الغربية، وهو أجلى عيوبها وأبرزها، وبه تتذرع
الشيوعية في هجومها على العالم الليبرالي، كما تستغله الأحزاب اليسارية داخل هذه الدول نفسها.
من الحقائق المقررة عالميا أن المصالح المادية هي الدافع الوحيد والمحرك الرئيسي للعمل السياسي، وكل دول العالم الديمقراطي لا تخفي حقيقة أنها تعمل جاهدة لحماية امتيازاتها، وضمان تفوقها الاقتصادي، وتوفير المجال الحيوي لشعبها، وهذا هو القناع الظاهري الذي تتستر به إمبراطوريات المال في هذه الدول، والتي تتحكم في السياسة الخارجية والداخلية مباشرة أو بطريق الضغط على السلطة الحاكمة.
وفيما يحسب الشعب أنه سيد نفسه ومقرر مصيره، تقوم الطبقة
الرأسمالية المحتكرة بسن القوانين لحماية مصالحها، والزج بسياسة الدولة فيما يخدم أغراضها النفعية الخاصة.
يقول لاسكى:
إن الدولة
الديمقراطية تبذل الكثير في سبيل تحقيق المساواة بين الموطنين فيما تمنحهم من ضمانات، كما تتجه أوامرها القانونية إلى حماية الملكية القائمة للامتيازات أكثر مما تعمل على توسيع نطاقها، فانقسام المجتمع إلى فقراء وأغنياء يجعل أوامر الدولة القانونية تعمل لصالح الأغنياء... إذ أن نفوذهم يرغم نواب الدولة وذوي السلطة فيها على أن يكون لرغباتهم الاعتبار الأول.
وتعبر الدولة عن رغبات أولئك الذين يسيطرون على النظام الاقتصادي، فالنظام القانوني بمثابة قناع تختفي وراءه مصلحة اقتصادية مسيطرة لتضمن الاستفادة من النفوذ السياسي، فالدولة أثناء ممارستها لسلطتها لا تعمد إلى تحقيق العدالة العامة أو المنفعة العامة، وإنما تعمل على تحقيق المصلحة للطبقة المسيطرة في المجتمع بأوسع معاني هذه المصلحة.
إن الحرية والمساواة اللتين حصلنا عليهما كانتا أولاً وقبل كل شيء حرية ومساواة لمالك الثروة
.
والأمثلة الواقعية على ذلك واضحة للعيان، ولعل في الحروب التي خاضتها وتخوضها
الولايات المتحدة أصرح دليل على خضوع السياسة
الديمقراطية لضغط الطبقة المحتكرة.
فالحرب العالمية الأولى، وكذلك الحرب الثانية، ثم حرب
فيتنام كلها دخلتها
أمريكا دون أن يكون لها مصلحة مباشرة أو يتعرض أمنها القومي للخطر، وبغض النظر عن دوافعها ونتائجها كان الشعب الأميركي يرفض تدخل حكومته في هذه الحرب، وكانت المظاهرات الصاخبة تنظم باستمرار احتجاجاً على ضياع الأرواح والأموال فيما لا جدوى منه.
لكن الطبقة
الرأسمالية التي تملك مصانع السلاح وشركاتها الكبرى التي تتولى تسويقه تكمن مصلحتها في إشعال الحروب واستمرارها، والذي حصل ويحصل دوماً هو تنفيذ رغبة هذه الفئة القليلة مقابل تعطيل رغبات الشعب بكامله.
ولما حاول الرئيس
كنيدي تقديم المصلحة
القومية وعقد اتفاقية وفاق دولي تخلصت منه هذه الطبقة، فأزهقت روحه بعملية اغتيال غريبة لا تزال أسرارها في طي الكتمان إلى الآن.
وليس هذا فحسب، بل إن إمبراطوريات المال لتملك المنظمات الإرهابية والعصابات المسلحة، إلى جانب عصابات الرقيق الأبيض والرشاوي، بالإضافة إلى سيطرتها على وسائل الإعلام، واستخدامها في الفضائح السياسية والمالية والأخلاقية، وكلها شباك تنصبها للاقتناص بالقوة تارة وبالإغراء تارة أخرى
.
والحقيقة التي يجب ألا تغرب عن بالنا في هذا الصدد هي أن الطبقة
الرأسمالية المسيطرة ليست سوى مجموع المنظمات الربوية الاحتكارية
اليهودية التي تخطط للسيطرة على العالم أجمع وفق أوامر
التلمود و
البروتوكولات.
4- تزييف وتطويع الرأي العام:
هذا العيب متلازم والعيب الذي قبله؛ فوجود طبقة ثرية مسيطرة يجعل وقوع وسائل الأعلام - المكون الرئيسي للرأي العام - في قبضتها أمراً طبيعياً، كما أن خضوع وسائل الإعلام لفئة معينة تتيح لها القدرة على تقوية مركزها ودعم نفوذها السياسي والمالي عن طريق تكوين الرأي العام أو تضليله، مما يضمن فوز المرشحين الموالين لها ونجاح مخططاتها، يقول
ميشيل ستيورات في معرض حديثه عن مشكلات
الديمقراطية وعيوبها: ''هناك نفوذ الثروة على تكوين الرأي العام، فـ
الديمقراطية تتطلب فرصاً متكافئة لجميع الذين يريدون الاقناع أو التعبير عن الرأي، ولقد حاولت
الديمقراطية توفير ذلك بإزالة العقبات القانونية على حرية الكلام والكتابة.
وثمة اتجاه معاصر يتمثل في ملكية فئة قليلة للصحافة، كما وأن النفقات الباهظة لإدارة صحيفة تجعل دخول ملاك جدد لميدان الصحافة أمراً عسيراً، ثم إن المصالح الصناعية والتجارية تؤثر على الإذاعة والتليفزيون، ومن الجائز مع تقدم الدراسات الخاصة بعلم النفس والدعاية والإعلام أن تزيد مقدرة القلة التي تستطيع أن تنفق بسخاء للتحكم في وسائل الإعلام على تكييف عقول الباقين مما ينال من حق الشخص وقدرته على التفكير، وهو الغرض الأساسى
للديمقراطية، وهذه المشكلة هي أكثر المشاكل خطورة، لأنها ليست من مخلفات الماضي وإنما هي قوة (بلوتوقراطية سيطرة رأس المال) جديدة ظهرت حديثاً''
.
ويركز لاسكى اهتمامه على الصحافة ودورها في تزييف الرأي العام، فيقول: إن جمع الأخبار ونشرها عمل لا يراعى فيه العرض الموضوعي للوقائع، فالأخبار سرعان ما تصبح دعاية عندما تتمكن مادتها من التأثير في السياسة، كما يميل مضمون الأخبار في المجتمع المتفاوت إلى فائدة من بيدهم مقاليد السلطة الاقتصادية.
ومعظم الأفراد يعتمدون على الصحف في استقاء معلوماتهم، وهذه الصحف تعتمد في بقائها على الإعلانات التي تستطيع أن تحصل عليها، كما أن إصدار الصحف عموماً باهظ التكاليف، بحيث لا يستطيع أن يؤسسها إلا الأغنياء فقط.
ونظراً لأنها تعتمد على المعلن فيتحتم عليها غالباً أن تنشر تلك الأخبار والتعليقات التي ترضي أولئك.
وبذلك تكون النتيجة تحيزاً واضحاً في نقل الأخبار للحوادث الصحيحة التي قد تقلق الطبقة الغنية أو تحرجها.
5- الفتور في تجاوب المواطنين مع العملية الانتخابية: تدعي
الديمقراطية أنها حكم الشعب، وأن النواب وأعضاء الحكومة إنما يختارون وفقاً لإرادة الشعب وأنهم تبعاً لذلك يمثلون الشعب تمثيلاً صادقاً.
ولكن هذه الدعوى تناهضها أمور عدة منها:
الدول التي تقصر حق الانتخاب على فئة معينة لأسباب عنصرية أو جنسية أو طائفية لا يمكن أن تعد نسبتها إلى
الديمقراطية صادقة، كما يرى
ستيورات ويمثل لذلك بـ
سويسرا التي لم تعط للنساء حق الانتخاب، وبالدول التي لا يخطى الملونون أو الطوائف الدينية فيها بذلك كبعض
الولايات المتحدة و
إيرلندة.
بالنسبة للدول التي لا تضع مثل هذه الحواجز، بل تحفز المواطنين بكل وسائل الإعلام على الإدلاء بأصواتهم، يلاحظ بوضوح عزوف نسبة ليست قليلة من الشعب عن الاشتراك في العملية الانتخابية، وتكون النتيجة أن الذي يفوز في الانتخابات، حزبا أو فرداً - يفوز لأنه حصل لا على أصوات أغلبية الشعب، بل على أصوات أغلبية المشتركين فعلاً في الاقتراع.
فإذا أضفنا الرافضين للانتخابات إلى الذين دخلوها معارضين، فسنجد غالباً أن الأغلبية الفائزة في الانتخابات ليست سوى أقلية بالنسبة لمجموع الشعب.
وبذلك لا يصح بحال القول بأن الحكومة تمثل الشعب تمثيلاً كاملاً أو صادقاً، وهذا العيب تعترف به الدول
الديمقراطية نفسها، وليس من دولة تستطيع نفيه، وإنما تتباهى فيما بينها بانخفاض نسبة الرافضين وتحقيق أرقام قياسية في عدد المشتركين.
وعلى سبيل المثال يذكر مؤلفو كتاب
نظام الحكم والسياسة في الولايات المتحدة أنه لم تزد نسبة الناخبين عن (66%) من عدد الأشخاص الذين بلغوا سن الانتخاب، وفي بعض الأحيان أقل من (55%)، وفي سنة (1956) (60.5%) فقط.
6- القضاء على الميزات الفردية: على الرغم من أن
الديمقراطية - في جوهرها - نظام فردي، كان وجوده أصلاً بمثابة رد فعل لإهدار الحقوق الفردية في ظل النظام الإقطاعي، فإن الفرد الممتاز في
الديمقراطية مهضوم الحق بالنسبة لمشاركته في صياغة القرارات التي تتخذها الحكومة.
هذا العيب لفت نظر بعض النقاد إلى آفة تعانى منها
الديمقراطية، ومنهم
ألكسيس كاريل، فالدكتور
كاريل يعجب كيف رضيت البشرية أن ترزح تحت نير نظام يقضي على المميزات الفردية، ولا يقيم للصفوة الممتازة أي وزن في التأثير على سير الأحداث، عدا ما يتمتع به سائر الناس، ويقول:
هناك غلطة أخرى تعزى إلى اضطراب الآراء فيما يتعلق بالإنسان والفرد، وتلك هي المساواة
الديمقراطية. إن هذا المذهب يتهاوى الآن تحت ضربات تجارب الشعوب، ومن ثم فإنه ليس من الضرورى التمسك بزيفه، إلا أن نجاح
الديمقراطية قد جعل عمرها يطول إلى أن يدعو للدهشة، فكيف استطاعت الإنسانية أن تقبل مثل هذا المذهب لمثل هذه السنوات الطويلة؟!
إن مذهب
الديمقراطية لا يحفل بتكوين أجسامنا وشعورنا، إنه لا يصلح للتطبيق على المادة الصلبة وهى الفرد.
صحيح أن الناس متساوون، ولكن الأفراد ليسوا متساوين، فتساوي حقوقهم وهم من الأوهام، ومن ثم لا يجب أن يتساوى ضعيف العقل مع الرجل العبقري أمام القانون... ومن خطل الرأي أن يعطوا (أي: الأغبياء) قوة الانتخاب نفسها التي تعطى للأفراد مكتملي النمو، كذلك فإن الجنسين لا يتساويان، فإهمال انعدام المساواة أمر خطير جداً، لقد ساهم مبدأ
الديمقراطية في انهيار الحضارة بمعارضة نمو الشخص الممتاز... ولما كان من المستحيل الارتفاع بالطبقات الدنيا، فقد كانت الوسيلة الوحيدة لتحقيق المساواة
الديمقراطية بين الناس هي الانخفاض بالجميع إلى المستوى الأدنى، وهكذا اختفت الشخصية
.
ويؤيد رأيه هذا ما يقع فعلاً في الدول
الديمقراطية عند الاقتراع على قضية اقتصادية مثلاً، حيث يكون نصيب عالم الاقتصاد الضليع صوتاً واحداً فقط، وهو ما يحصل عليه الفرد المتوسط أو الجاهل، وغالباً ماتكون النتيجة في غير صالح الأفراد الممتازين بسبب انسياق عامة الشعب وراء عواطفهم وخضوهم للتضليل الدعائي.
7- تعارض المصلحة الذاتية للفرد والجماعة: هذا العيب يلقي ضوءاً على المحك الذي يظهر حقيقة أي نظام أرضي بشري، فـ
الديمقراطية تدعى أنها النظام الأمثل لتحقيق المصلحة الفردية والجماعية بإتاحتها الفرصة للحصول عليها بطريقة قانونية.
لكن المشكلة تكمن في تعارض مصلحة الفرد ذاته - وكذلك الجماعة - بين اتخاذ هذا القرار أو ضده، إذ هو لا يستطيع التوفيق بين مطالبه الخاصة، كما أنه لا يستطيع التيقن من كون نتيجة القرار ستحقق هذه المطالب أو تنفيها.
ولنأخذ مسألة رفع الأجور مثلاً لذلك :
تطالب نقابات العمال دائماً برفع الأجور - لكي تكسب أصواتهم - وهي إذ تطالب بذلك تعلم يقيناً أن رفعها يحقق للعمال مصلحة من جهة، لكنه يفوتها من جهة أخرى؛ لأنه يكون مصحوباً بارتفاع الأسعار.
ومن ناحية أخرى يقول
بيكر في سياق نقده لأسلوب التمثيل:
إن الناس جميعاً لهم مصالح كثيرة متعددة، حيث لا يمكن لجانب منها أن ينمو ويطرد إلا بسن تشريع يحقق هذا الغرض، ولكن هذا التشريع يسن على حساب الآخرين، فالزراع والعمال مثلاً هم المنتجون والمستهلكون في وقت معاً، فهم كمنتجين يتطلعون إلى أسعار أعلى من تلك التي يبيعون بها منتجاتهم، ولكنهم كمستهلكين يتطلعون إلى أسعار أقل من تلك التي يشترون بها حاجياتهم
.
هذه بعض العيوب التي لاحظها بعض الكتاب الديمقراطيون على
الديمقراطية في المبدأ والتطبيق، وقد حاول كاتبان فرنسيان صياغتها في عبارات موجزة فكان مما استنتجاه:
1- الصراعات الدائمة بين الأحزاب المنقسمة على بعضها.
2- الحكومات التي لم يتجاوز متوسط بقائها في الحكم طيلة نصف قرن ثمانية أشهر.
3- المنافسات الحمقاء بين المواطنين.
4- عدم وجود سياسة متجانسة لمدى طويل.
5- البطء الشديد في تقدم مستوى حياة الجماهير، سياسة الإسكان، عدم كفاية التربية المدنية والاقتصادية والاجتماعية.
وملاحظة هذه المساوئ هي التي دفعت بالكاتب الإنجليزى أ. د
لندساس إلى القول: ''إن هناك دائماً هوةً رهيبة بين النظريات الرفيعة عن
الديمقراطية التي نقرأ عنها في كتب النظريات السياسية، وبين وقائع السياسة الفعلية''
.
ومع أن كل هذه الانتقادات لم تنفذ إلى لب المشكلة وأساسها المتمثل في الحكم بغير ما أنزل الله وعبادة الأهواء والشهوات من دونه؛ فإنها ترشد إلى فداحة الخطب وشناعة الغلطة التي وقع فيها المجتمع الغربي بتنكره للحق وتمرده على الله استكباراً وغروراً.
ونحن -إن شاء الله- سنناقش الموضوع من أساسه العميق في الباب الخامس.
ثانياً: النظام الشيوعي:
إذا كانت
الرأسمالية ومعها الأفكار
الديمقراطية قد ولدت لتكون رد فعل لمساوئ الإقطاع، فإن أقرب تفسير
للشيوعية هو أنها رد فعل لمساوئ
الرأسمالية.
ومع أن
الشيوعية تعتقد أنها اكتشفت القانون العلمي لحركة التاريخ والحياة، وهو مبدأ الديالكتيك - الجدلية - وآمنت به إيماناً مطلقاً فإن تصورها للدولة لا يتفق مع هذا القانون، وأشبه شيء بدولة المستقبل كما حلم بها
فلاسفة الشيوعية هي نظرية
يوتوبيا الخيالية، فـ
النظرية الشيوعية تؤمن بحتمية اضمحلال جهاز الدولة عندما تبلغ البشرية مرحلة أكثر تطبيقاً وتشبعاً بالأفكار
الشيوعية، ومعنى ذلك أنه سيأتى اليوم الذي يتوقف فيه الصراع بين المتناقضات إلى الأبد، وهو ما لا يقره قانون الجدلية!
أما الدولة
الشيوعية المعاصرة فهي وإن كانت مؤقتة - مرحلة ضرورية، وتتمثل فيها
النظرية الشيوعية الملائمة لطبيعتها المرحلية.
وترى الدولة
الشيوعية أنها دولة
ديمقراطية شعبية، حسب التعريف الخاص الذي يقدمه الشيوعيون
للديمقراطية وهو أنها شكل سياسي لمجتمع اشتراكي قائم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج مخطط ومتحرر من الاستغلال
.
وتؤمن
الشيوعية بمبدأ سيادة الطبقة العاملة -أو ما تسميه
دكتاتورية البروليتاريا- مقابل
دكتاتورية الرأسماليين في
الديمقراطية الليبرالية.
وتتميز الدولة
الشيوعية بالتزامها المطلق بالنظرية كعقيدة شمولية تشمل التصور العام، وتقدم الحلول والتفسيرات لكل نشاطات الحياة، ومجالتها العامة؛ وذلك يربطها جميعاً بالعامل الوحيد المؤثر في الحياة، وهو العامل الاقتصادي، وبصفة خاصة ملكية وسائل الإنتاج.
ومن هنا ينبغى النظر إلى الدولة
الشيوعية على أنها وجه اقتصادي يشمل السلطة التشريعية والجهاز التنفيذي، وتقع سلطته المطلقة في يد
الحزب الشيوعي و
الحزب الشيوعي، يعتبر نفسه تجسيداً لإرادة العمال والفلاحين، وهو بهذه الصفة أصدق طريق للتعبير عن إرادة الشعب، والجهاز الرسمي للدولة يشمل أجهزة معقدة لتنفيذ إرادة السيادة كما يعبر عنها
الحزب الشيوعي.
ويعتقد الحزب أنه هو الشعب على الحقيقة، ولهذا فله السلطة الكاملة الشاملة في وضع السياسات الداخلية والخارجية، وتقرير صحة النظريات، والتوجيه للاستراتيجية السياسية، وقيادة كل جهاز في الدولة والإشراف عليه
.
يقول أحد الكتاب الشيوعيين: ( إن وضع قيادة البلاد في يد مثل هذه القوة المنظمة الهادفة -وهى
الحزب الشيوعي- يطبع المجتمع كله بطابع موحد، وهذا ينجح في مقاومة محاولات التدخل من الخارج ويحل مشكلات كبرى بروح المثل الشيوعي،
تلك هي ملامح
الديمقراطية الشعبية التي يهتف لها زعماء
الشيوعية وكتابها، ويبالغون في إطرائها وتمجيدها...!
فما رصيد هذه
الديمقراطية الفريدة من الحق والعدل؟ وما هي إيجابيتها ومنجزاتها؟ وما مقدار سلامتها من عيوب نظيرتها
ديمقراطية الرأسماليين)؟
إن الواقع المشاهد الذي لا يحتاج إلى دليل خارجي هو أن أنظمة الحكم
الشيوعية الديمقراطية الشعبية! هي أبشع أنواع الأنظمة الاستبدادية "
الدكتاتوريات" في التاريخ، وأن الدول
الشيوعية المعاصرة هي في الواقع أشبه شيء بمعتقلات فسيحة زبانيتها أعضاء
الحزب الشيوعي، ونزلاؤها الشعب بكامله، وما الستار الحديدي الذي ضربته هذه الدول لإخفاء تلك الحقيقة إلا واحداً من الأدلة الفاضحة عليها، وهذا ليس حكماً نصدره من عند أنفسنا، ولا هو برأي نقلناه عن كتاب مناهضين
للشيوعية، ولكنه شيء من وصف زعماء سياسيين وصل بعضهم إلى مرتبة نائب رئيس دولة
شيوعية، والآخرون كانوا في مرتبة عضو بـ
الحزب الشيوعي للمستويين القطري والدولي.
كما أن الحقيقة أظهرها مفكرون بارزون في الغرب، دفعتهم مساوئ المجتمع الديمقراطي الرأسمالي إلى اعتناق
الشيوعية، والدفاع المتحمس عنها، فلما انجلت لهم الحقيقة المرة ارتدوا عنها إلى غير بديل.
فمثلاً:
ميلوفان دجيلاس النائب السابق لرئيس
يوغسلافيا يقسم المراحل التي مر بها الحكم الشيوعي إلى ثلاث:
1- حكم ثوري فردي ديكتاتوري:
لينين.
2- حكم عقائدي فردي إرهابي:
استالين.
3- حكم سياسى (غير عقائدي) جماعي بيروقراطي:
خروتشوف فصاعداً.
ويقول عن الانتخابات
الشيوعية: إنها سباق يعدو فيه حصان واحد، ويقول عن الأحزاب
الشيوعية: ''لقد أكدت هذه الطقبة الجديدة أنها أكثر تسلطاً في الحكم من أية طبقة أخرى ظهرت على مسرح التاريخ، كما أثبتت في الوقت نفسه أنها تحمل أعظم الأوهام، وأنها تكرس أعتى أساليب الظلم في مجتمع طبقي جديد''
.
ويقارن بين القوانين المعلنة وغير المعلنة قائلاً: ''إن كافة المواطنين يدركون أن الحكومة هي في أيدي اللجان الحزبية، وتحت رقابة البوليس السري، وبالرغم من أن دور
الحزب الشيوعي في الشئون الإدارية غير معلن، فإن سلطته مكرسة في كافة المؤسسات والمنظمات والقطاعات. كما أنه في الوقت نفسه ليس هناك أي قانون يعطي البوليس السري الحق في رقابة المواطنين، ومع ذلك فإنه يتمتع بمطلق الصلاحيات، ومع أنه ليس هناك أي نص قانوني يقضى بضرورة إشراف البوليس السري واللجان الحزبية على السلك القضائي إلا أن هاتين القوتين الغاشمتين تقومان بالإشراف والهيمنة الفعلية على ذلك السلك''
.
أما
آرثر كوستلر - العضو السابق في
الحزب الشيوعي والكاتب الروائي البارز - فيقول: ''إن الكومنترن يتاجر في العناوين والشعارات، كما يتاجر مروجو الخمور الممنوعة في أنواعها الزائفة المقلدة، وكلما كان العميل أقرب إلى السذاجة سهل عليه أن يصبح ضحية لأنواع الخمور الفكرية التي تباع تحت عناوين السلام والديمقراطية والتقدم وما شئت من هذه الأسماء''
.
ويتحدث
أندريه جيد بعد رجوعه عن
الشيوعية قائلاً: ''إن الناس في
روسيا الآن يطلب منهم الموافقة والمصادقة على كل ما تفعله الحكومة، أما أقل معارضة أو نقد فإنها تعرض صاحبها لأقسى العقوبات، بالإضافة إلى إخماد هذه المعارضة وطمسها، إن أحسن الناس سجلاً في هذا السلم الاجتماعى الجديد من أسفله إلى أعلاه هم أكثرهم ذلة وعبودية، أما أولئك الذين تبرز منهم أية ناحية استقلالية فإنهم يحصدون أو ينفون، ولن نلبث حتى نرى أن هذا الجنس الباسل الذي استحق عن جدارة كل حبنا وإعجابنا لم يبق منه إلا النفعيون والجلادون والضحايا، لقد أصبح العامل الصغير صاحب الرأي الحر كالحيوان المطارد يلقى الجوع والتحطيم ثم الهلاك، إننى أسائل نفسي: هل هناك دولة أخرى في العالم - بما في ذلك
ألمانيا في عهد
هتلر - قد كان العقل فيها والروح أقل حرية وأكثر ذلة واستعباداً أو جبناً أو خوفاً منها في
الاتحاد السوفييتي؟''
.
ويصف
لويس فيشر - الذي عانى التجربة نفسها مع
الشيوعية - المسخ الفكري هناك بقوله: ''ضاعت كل مقاييس الحكم الثابتة، ولم يعد يدرى ماذا يعتنق، وماذا يرفض، وقد لا يأتي المساء حتى يعلن على ملائكة هذا الصباح أنهم شياطين، إن التشويش العقلي الذي ينتج عن هذا أفضى إلى النفاق وإلى التقبل الآلي والتلقائي لكل وحي جديد قد يأتي من سماء الكرملين، فهنا على الأقل يجد الإنسان الحد الأدنى من السلامة والأمن لنفسه''
.
وكان من المخدوعين بـ
الديمقراطية الشيوعية برتراند رسل الذي اكتشف الحقيقة، فكتب مناقضاً لهذه الدعوى: ''إن الطبقة العاملة في
روسيا في سنة 1917 كانت أقلية ضئيلة بين السكان، وكانت الأغلبية الساحقة من الفلاحين، فتقرر عندئذٍ أن يكون
الحزب البلشفي هو ذلك الجزء من الطبقة العاملة الذي يتمتع بالوعي الطبقي، وأن لجنة صغيرة من زعمائه هم الذين يعدون الجزء الواعي طبقياً بين
الحزب البلشفي، وهكذا صارت
دكتاتورية العمال
دكتاتورية اللجنة الصغيرة، ثم انتهى الأمر بأن أصبحت
دكتاتورية رجل واحد هو
استالين، وإذ زعم أنه الوحيد ذو الوعي الطبقي بين طبقة العمال أخذ يحكم بإعدام الملايين من الفلاحين جوعاً، ويحكم على ملايين غيرهم بالسخرة في معسكرات الاعتقال''
.
ولعل خير ما نختم به موضوع الواقع المعاصر للأنظمة العالمية التي تحكم بغير ما أنزل الله هو العبارة اليائسة التي قالها
لويس فيشر: ''بعض الناس يقض مضاجعهم ما يقترفه العالم الرأسمالي من جرائم وآثام، فيظلون عمياً لا يرون جرائم
البلشفية وإفلاسها، وكثير منهم يستغلون نقائض العالم الغربي ليصرفوا الانتباه عن فظائع
موسكو البشعة، أما أنا فأقول: لعن الله كليهما'' .