طبيعي جداً أن يكون لرجال الدين سلطة سياسية في الأمة التي تدين بدينهم، بل إن الافتراض الذي لا يصح سواه هو أن تكون أزمة الأمور كلها -والسياسة خاصة- في يد فئة مؤمنة متدينة تطبق شريعة الله وتقيمها في واقع الحياة، لكن الذي لا يصح على الإطلاق هو أن يتحول رجال الدين إلى طواغيت ومحترفين سياسيين، مع نبذ شريعة الله وإسقاطها من الحساب ليحل محلها شهوة عارمة للتسلط ورغبة شرهة في الاستبداد، ومفاد ذلك أنه لا حرج على الكنيسة في تقويم انحرافات الملوك وممارسة الضغوط عليهم، إذا سولت لهم أنفسهم خرق التعاليم الدينية وتجاوز الأوامر الإلهية لتردهم إلى حظيرة الدين وتعبدهم لله وحده، فهذا عين مهمتها في الحياة ولا ينبغي لها بحال أن تتخلى عنها، أما أن تسهم الكنيسة في طمس الدين وتعطيل الشريعة ثم تفرض نفسها وصية على الملوك والأمراء وترغمهم على الخضوع المذل لها وتجعل معيار صلاحهم منوطا" بمقدار ما يقدمونه لها من مراسم الطاعة وواجبات الخدمة، لا بمقدار ما يحفظون حدود الله ويستقيمون على منهجه، فذلك هو الأمر الشائن والعيب الفاضح، ومع هذا فهو الذي حصل بالفعل للكنيسة
المسيحية طيلة عصور ازدهارها.
لقد ظلت النفسية الأوروبية تعاني تمزقاً رهيباً، ما تزال آثاره ممتدة إلى اليوم بسبب الصراع المزمن الذي دار بين الكنيسة وبين الملوك، والمنافسة الشديدة بين الطرفين للقبض على مقاليد المجتمع وكسب ولاء الأفراد.
ولم تكن الحرب بين أتباع البابوات وأنصار الأباطرة أو "الجوالف والجبليين" -كما يعرفهم التاريخ الأوروبي- إلا حرباً بين حزبين متناحرين لا يكاد أحدهما يتميز عن الآخر إلا في الشعارات التي يخفي تحتها مطامعه الدنيوية البحتة.
كان ملوك
أوروبا يضيقون ذرعاً بتدخل الكنيسة المتعنت في كل شئونهم، ذلك التدخل الذي لا يجدون له مبرراً على الإطلاق، وفي نظرهم لم يكن لرجال الدين عليهم ميزة إلا "القداسة" ومع ذلك فهم أيضاً" مقدسون، إن لم يكن بأنفسهم فبنسبهم.
يقول
فيشر: ''كانت الأسر الحاكمة في
أوروبا تستمد بقاءها من صلتها النسبية بأحد القديسين، فيرثون منه قداسته ولا يبالي الشعب بعد ذلك بتصرفاتهم لأنهم مقدسون''
.
وقد جرؤ
ادوارد الأول ملك
انجلترا، و
فيليب الجميل ملك
فرنسا، على القول بأنه: ''ليس من الضروري أن يخضع الملك للبابا لكي يحظى بالجنة في الآخرة، وأن كلاَّ منهما قد نوى أن يكون سيداً في مملكته وأن شعبه يؤيده في هذه النية تمام التأييد''
.
إذن فقد كان غاية ما يطمح إليه أولئك أن تكف الكنيسة عن فرض وصايتها السياسية والدينية عليهم، دون أن يفكروا في تقويض بنيانها أو الخروج على تعاليمها.
لكنهم كانوا في واد والكنيسة في واد، فقد كانت ترى أن خضوع الملوك لها ليس تطوعاً منهم، بل واجباً يقتضيه مركزها الديني وسلطانها الروحي.
جاء في البيان الذي أعلنه البابا "
نقولا الأول" قوله: ''إن ابن الله أنشأ الكنيسة: بأن جعل الرسول
بطرس أول رئيس لها، وأن أساقفة
روما ورثوا
بطرس في تسلسل مستمر متصل... (ولذلك) فإن البابا ممثل الله على ظهر الأرض، يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين، حكاماً كانوا أو محكومين''
.
أما البابا الطاغية "
جريجوري السابع" فقد أعلن أن الكنيسة بوصفها نظاماً إلهياً خليقة بأن تكون صاحبة السلطة العالمية، ومن حق البابا وواجبه -بصفته خليفة الله في أرضه- أن يخلع الملوك غير الصالحين، وأن يؤيد أو يرفض اختيار البشر للحكام أو تنصيبهم، حسب مقتضيات الأحوال".
وسخر من الملوك والشعوب بقوله: ''من ذا الذي يجهل أن الملوك والأمراء يرجعون بأصولهم إلى الذين لا يعرفون الله، ثم يتعالون ويصطنعون العنف والغدر ويرتكبون جميع أنواع الجرائم، ويطالبون بحقهم في حكم من لا يقلون عنهم -أي: الشعب- جشعاً وعماية وعجرفة لا تطاق''
.
وليس ثمة شك في أن النصر ظل حليف الكنيسة طيلة القرون الوسطى، بسبب سلطتها الروحية البالغة وهيكلها التنظيمي الدقيق واستبدادها المطلق، ولذلك فقد كان البابوات هم الذين يتولون تتويج الملوك والأباطرة، كما كان في إمكانهم خلع الملوك وعزلهم بإرادتهم المحضة، ولم يكن باستطاعة أحد الانفلات من ذلك، ومن رفض الرضوخ فإن حكمه غير شرعي، ومن حق
البابوية أن تعلن الحرب الصليبية عليه وتحرم أمته، ولا يعوزنا الاستشهاد على ذلك من التاريخ الأوروبي، فالأمثلة فيه كثيرة، ولعل خير مثال لذلك حادثة الامبراطور الألماني "
هنري الرابع" المشهورة مع البابا
جريجوري السابع وذلك أن خلافاً نشب بينهما حول مسألة "التعيينات" أو ما يسمى "التقليد العلماني" فحاول الامبراطور أن يخلع البابا، ورد البابا بخلع الامبراطور، وحرمه وأحل أتباعه والأمراء من ولائهم له وألبهم عليه، فعقد الأمراء مجمعاً قرروا فيه أنه إذا لم يحصل الامبراطور على المغفرة لدى وصول البابا إلى
ألمانيا، فإنه سيفقد عرشه إلى الأبد، فوجد الامبراطور نفسه كالأجرب بين رعيته، ولم يكن في وسعه أن ينتظر وصول البابا فضرب بكبريائه عرض الحائط، واستجمع شجاعته وسافر مجتازاً
جبال الألب والشتاء على أشده، يبتغي المثول بين يدي البابا بمرتفعات
كانوسا في
تسكانيا وظل واقفاً في الثلج في فناء القلعة ثلاثة أيام، وهو في لباس الرهبان متدثراً بالخيش حافي القدمين عاري الرأس، يحمل عكازة مظهراً كل علامات الندم، وأمارات التوبة، حتى تمكن من الظفر بالمغفرة والحصول على رضا البابا العظيم
.
وفي
بريطانيا حدثت قصة أخرى مماثلة: فقد حصل نزاع بين الملك
هنري الثاني وبين "
تومس بكت" رئيس أساقفة
كنتربري، بسبب دستور رسمه الملك يقضي على كثير من الحصانات التي يتمتع بها رجال الدين، ثم إن رئيس الأساقفة اُغتيل، فروعت
المسيحية وثار ثأرها على
هنري ودمغته بطابع الحرمان العام، فاعتزل الملك في حجرته ثلاثة أيام لا يذوق فيها الطعام، ثم أصدر أمره بالقبض على القتلة وأعلن للبابا براءته من الجريمة، ووعد بأن يكفر عن ذنبه بالطريقة التي يرتضيها، وألغى الدستور، ورد إلى الكنيسة كل حقوقها وأملاكها، وبالرغم من ذلك لم يحصل على المغفرة حتى جاء إلى
كنتر بري حاجاً نادماً، ومشى الثلاثة أميال الأخيرة من الطريق على الحجارة الصُّوَّان، حافي القدمين ينزف الدم منهما، ثم استلقى على الأرض أمام قبر عدوه الميت، وطلب من الرهبان أن يضربوه بالسياط، وتقبل ضرباتهم وتحمَّل كل الإهانات في سبيل استرضاء البابا وأتباعه
.
وأعظم زعيم تحدى سلطات الكنيسة واستطاع مقاومتها مدة غير يسيرة، هو الامبراطور "
فردريك الثاني" وتعود صلابته إلى المؤثرات الإسلامية في ثقافته وشخصيته، فقد كان مجيداً للعربية مغرماً بالحضارة الإسلامية، حتى أن الكنيسة اتهمته باعتناق الإسلام وسمته "الزنديق الأعظم" أما المفكرون المعاصرون فيسميه بعضهم "أعجوبة العالم" وبعضهم "أول المحدثين".
وقد اشتد النزاع بينه وبين البابا "
جريجوري التاسع" بسبب رفضه القيام بحملة صليبية على الشرق - وكانت الكنيسة تعد الملوك جنوداً طائعين لها... فحرمه البابا وشهر به في رسالة علنية عدد فيها هرطقاته وذنوبه، فكان على الامبراطور أن يدفع التهمة عن نفسه برسالة وصفها
ويلز بأنها "وثيقة ذات أهمية قصوى في التاريخ، لأنها أول بيان واضح صريح عن النزاع بين مدعيات البابا في أن يكون الحاكم المطلق على عالم
المسيحية بأسره، وبين مدعيات الحكام العلمانيين، وقد كان هذا النزاع يسري على الدوام كالنار تحت الرماد، ولكنه كان يضطرم هنا على صورة ما ويتأجج هناك على صورة أخرى، ولكن
فردريك وضع الأمر في عبارات واضحة عامة، يستطيع الناس أن يتخذوها أساساً لاتحادهم بعضهم مع بعض
للوقوف في وجه الكنيسة.
على أن
فردريك كان ظاهرة فذة لم تلبث أن تختفي تحت قهر قرارات الحرمان والسطوة الكنسية الباغية، ولم يعرف التاريخ الأوروبي من يماثله إلا بعد أجيال عديدة.