أسباب اختيار المؤلف لموضوع العلمانية
وإذ كان عليَّ أن أختار مذهباً فكرياً ليكون موضوعاً لرسالتي، فقد هداني الله لاختيار مذهب العلمانية وآثرته على غيره لأسباب، منها:
1- غموض المدلول الحقيقي لهذا الاصطلاح الخادع بالنسبة لكثير من المثقفين فضلاً عن العامة، فبالرغم من الكساد الذي بدأت المذاهب الأخرى كـالشيوعية والاشتراكية تمنى به بعد اكتشاف الجماهير لحقيقتها، ما تزال أسهم العلمانية مرتفعة، سواء باسمها الصريح، أو تحت شعار الديمقراطية، أو شعار "الدين لله والوطن للجميع" أو شعار "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين".
2- التوافق بين ذات العلمانية بوصفها فكرة غربـية واعية وبين موضوعها المتمثل في عزل الدين عن توجيه الحياة، وهو ما يعاني منه الواقع الإسلامي المعاصر، فـ العلمانية -موضوعياً- موجودة في كل نواحي الحياة الإسلامية المعاصرة، وإن لم يكن لها وجود ذاتي متكامل، كما هو الحال في أوروبا.. هذا التوافق يجعل تقبلها -ذاتياً- أمراً سهلاً، ومن ثم يحتم على ذوي الاختصاص دراستها وكشف زيفها وإيضاح تعارضها مع المفهوم الصحيح للإسلام ومقتضيات "لا إله إلا الله" .
وقد عرفت منذ اللحظة الأولى أن مهمتي ليست بيسيرة، وأن عليَّ أن أخوض في ميادين بعيدة عن مجال دراستي الشرعية البحتة، جاعلاً كل قراءاتي السابقة في الفكر الغربي بمثابة التمهيد فقط لما يجب علي أن أنهض به.
وفعلاً خصصت نصف المدة المحددة للرسالة -تقريباً- في اطلاع دائب وقراءة متواصلة، مسترشداً بالتوجيهات القيمة والآراء السديدة التي كان أُستاذي الفاضل يزودني بها باستمرار، فاطلعت على أمهات النظريات والاتجاهات في السياسة والاقتصاد والعلم والاجتماع والأدب والفن، وكنت كلما ازددت إيغالاً في الاطلاع ازدادت ثقتي، وقوي عزمي على إكمال الطريق، ومع أن المراجع المذكورة آخر الرسالة لا تساوي إلا جزءاً مما قرأت، فإنني لا أشعر بشيء من الخسارة، بل أحمد الله تعالى الذي أراني الفكر الجاهلي الأوروبي على حقيقته.. والحق أنني علمت علم اليقين أن هذا الفكر ليس باطلاً فحسب، بل هو أيضاً تافه هزيل، وتمنيت من أعماقي أن يهب الله كل شباب أمتي ما وهب لي من معرفة تفاهته وهزاله.