المادة كاملة    
ركز هذا الدرس على ضرورة استخدام الألفاظ الشرعية الواردة في الكتاب والسنة، وأبطل قول النفاة أن يلزم من إثبات الصفات وجود الأركان والأعضاء والأدوات، ثم ساق أدلة إثبات صفة اليد والوجه والنفس، ورد على المخالف، ونفى التعارض بين النص الصحيح والعقل الصريح، ثم بيَّن الفرق بين المعنى الإجمالي للعبارة، ونفي الصفة التي تدل عليها لفظة من الألفاظ، ثم ذكر صفة العلو ومذاهب الناس فيها، وأقسام المنكرين للعلو، واستدل على علو الله بالاستواء، وذكر مذهب السلف الصالح في إثبات هذه الصفة مستدلاً بالكتاب والسنة.
  1. ضرورة استعمال الألفاظ الشرعية

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [وأما لفظ الأركان والأعضاء والأدوات، فيستدل بها النفاة عَلَى نفي بعض الصفات الثابتة بالأدلة القطعية، كاليد والوجه. قال أبو حنيفة -رضي الله عنه- في الفقه الأكبر: له يد ووجه ونفس، كما ذكر تَعَالَى في القُرْآن من ذكر اليد والوجه والنفس، فهو له صفة بلا كيف، ولا يُقَالَ: إن يده قدرته ونعمته، لأن فيه إبطال الصفة انتهى.
    وهذا الذي قاله الإمام -رضي الله عنه- ثابت بالأدلة القاطعة قال تعالى: ((مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي))[صّ:75] ((وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ))[الزمر:67] وقال تعالى: ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ))[القصص: 88]، ((وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ))[الرحمن:27] وقال تعالى: ((تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ))[المائدة:116] وقال تعالى: ((كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ))[الأنعام:54] وقال تعالى: ((وَاصطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي))[طـه:41] وقال تعالى: ((وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ))[آل عمران: 28].
    وقال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الشَّفَاعَة لما يأتي الناسُ آدم فيقولون له: {خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء} الحديث.
    ولا يصح تأويل من قَالَ: إن المراد باليد: القدرة، فإن قوله: ((لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ)) [صّ: 75]
    لا يصح أن يكون معناه بقدرتي مع تثنية اليد، ولو صح ذلك لقال إبليس: وأنا أيضاً خلقتني بقدرتك، فلا فضل له عليّ بذلك، فإبليس -مع كفره- كَانَ أعرف بربه من الجهمية ولا دليل لهم في قوله تعالى: ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ))[يـس:71] لأنه تَعَالَى جمع الأيدي لما أضافها إِلَى ضمير الجمع، ليتناسب الجمعان اللفظيان، للدلالة عَلَى الملك والعظمة. ولم يقل "أيديَّ" مضاف إِلَى ضمير المفرد ولا "يدينا" بتثنية اليد مضافة إِلَى ضمير الجمع فلم يكن قوله: ((مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا)) [يّـس:71] نظير قوله: ((لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ)) [صّ: 75].
    وقال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ربه -عَزَّ وَجَلَّ-: {حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه} ولكن لا يقال لهذه الصفات إنها أعضاء، أو جوارح، أو أدوات، أو أركان، لأن الركن جزء الماهية، والله تَعَالَى هو الأحد الصمد، لا يتجزأ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- والأعضاء فيها معنى التفريق والتعضية، تَعَالَى الله عن ذلك، ومن هذا المعنى قوله تعالى: ((الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ))[الحجر:91] والجوارح فيها معنى الاكتساب والانتفاع.
    وكذلك الأدوات هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة، ودفع المضرة، وكل هذه المعاني منتفية عن الله تعالى، ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله -تعالى- فالألفاظ الشرعية صحيحة المعاني، سالمة من الاحتمالات الفاسدة، فلذلك يجب أن لا يعدل عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً، لئلا يثبت معنى فاسد، أو يُنفى معنى صحيحٌ. وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل] إهـ.

    الشرح:
    الألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنة وهي ألفاظ مجملة تحتمل معنيين: أحد المعنيين حق، والآخر باطل، فإننا لا نطلقها ولا نستعملها في حق الله -عَزَّ وَجَلَّ- لأننا إن استخدمناها وأردنا المعنى الصحيح، فإن غيرنا قد يفهم الاحتمال الآخر الباطل، وإن استخدمها أيضاً غيرنا في المعنى الباطل، ونفينا نَحْنُ ذلك المعنى، أو قلنا: له إن كلامك صحيح، فقد يفهم من ذلك إقرارنا معناه الباطل، ونحن إنما نقصد الإقرار للمعنى الذي في أذهاننا.
    فنتيجة لهذا اللبس، فإن الإِنسَان لا يستعمل في حق الله تَعَالَى إلا الألفاظ الشرعية الواردة في الكتاب والسنة، ولا يعدل عنها إِلَى غيرها إلا لضرورة البيان، أو لما تقتضيه الحاجة، أو بأن نذكر اللفظ الشرعي، ثُمَّ نوضحه ونبين دلالته بأي معنىً آخر من المعاني التي يعبر عنها لغرض الإيضاح لمعنى اللفظ الشرعي لا بإحلال معنىً آخر محله.
    1. بطلان ما فهمه الشراح من نفي الصفات عن الله والسبب في هذا الفهم

      هذه العبارات التي اهتم المُصنِّف هنا بشرحها، وبرد الجانب الآخر الباطل الذي فهمه منها بعض الشرّاح، لأن الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ عندما استخدم هذه العبارات فنفاها عن الله؛ قَالَ: [وتعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات] وذلك بغرض تنزيهه لله تعالى.
      لكن جَاءَ الشُرَّاح المؤولون من الماتريدية وغيرهم فأولوا كلام الطّّحاويّ على أنه موافق للعقيدة التي يعتقدونها، وهي نفي صفات الله عَزَّ وَجَلَّ، لذلك اهتم المُصنِّف بأن يثبت هذه الصفات وأن يبين خطأ استخدام هذه الألفاظ التي قد تؤدي إِلَى نفي الصفات، ولهذا يقول: [وأما لفظ الأركان والأعضاء والأدوات فيستدل بها -أي بنفيها- النفاة عَلَى نفي بعض الصفات الثابتة بالأدلة القطعية].
      فهم يقولون: نَحْنُ ننزه الله عَزَّ وَجَلَّ عن الأعضاء والجوارح والأركان والجهات، فإذا أقررت لهم بذلك، استدلوا عليك بأنه لا يجوز أن تثبت أن لله يداً ولا وجهاً، ولا أنه فوق المخلوقات إِلَى آخر ما يثبت له من الصفات.
      قالوا: لأن هذه أعضاء أو أدوات أو جوارح، وأنت قد سلمت أن الله عَزَّ وَجَلَّ ينزه عن ذلك، إذاً فنحن ننفيها عن الله عَزَّ وَجَلَّ، وينسبون ذلك إِلَى الإمام أبي حنيفة، وإلى عامة السلف ولاسيما أبي حنيفة لأن صاحب المتن حنفي وصاحب الشرح حنفي، والذين شرحوا المتن شرحاً ماتريدياً هم أيضا حنفية

      فيريد المُصنِّف أن يبين بطلان ما ذهبوا إليه، ولهذا بدأ بالاستدلال عَلَى ذلك بكلام الإمام أبي حنيفة نفسه في كتاب الفقه الأكبر، الذي جمعه أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي الحنفي كما سبق بيانه وهو من حيث الرواية ضعيف بل نسب إِلَى الوضع، والحنفية كمذهب فقهي يقولون: إن هذا الكتاب صحيح فيصححون نسبته إِلَى أبي حنيفة ويعتقدون أن أبا مطيع البلخي لم ينقل شيئاً غير الحقيقة، فهم من الناحية المذهبية يثبتون هذا الكلام للإمام أبي حنيفة.
      كما أننا نعلم جميعاً أن المغني لـابن قدامة أو العمدة وما أشبهها من الكتب في الفقه الحنبلي لم يؤلفها الإمام أَحْمَد، وقد يكون فيها من الأقوال ما لا يصح نسبتها إِلَى الإمام أَحْمَد، لكن الحنابلة يقولون: هذا فقه الإمام أَحْمَد فمن الناحية المذهبية أي حنفي يسلم لك إذا استدللت عليه بما في كتاب الفقه الأكبر لأنه يعتقد أن نسبة هذا الكتاب إِلَى الإمام صحيحة.
      فنحن الآن لسنا في مقام تقرير إثبات الكتاب أو عدم إثباته بقدر ما نَحْنُ في مقام إلزام الحنفية بما في هذا الكتاب، لأنهم يقرون به ويعتمدونه في المذهب، ويقولون: نأخذ فروع ديننا من كتب الفروع المعروفة ككتاب القدوري أو الهداية وفتح القدير، ويقولون: نأخذ أصول ديننا من كتاب الفقه الأكبر، فنقول: قال الإمام أبو حنيفة في الفقه الأكبر: له -أي لله عز وجل- يد ووجه ونفس، فما ذكر الله في القُرْآن من ذكر اليد والوجه والنفس فهو له صفة بلا كيف "ولا يقَالَ: إن يده قدرته ونعمته لأن فيه إبطال الصفة" انتهى.
  2. أدلة إثبات صفة اليد والوجه والنفس

     المرفق    
    يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [وهذا الذي قاله الإمام رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ثابت بالأدلة القاطعة، من الكتاب والسنة قال تعالى: [((مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ))[صّ: 75].] هذا استدلال عَلَى اليد أو اليدين.
    [وقال تعالى: ((وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ))[الزمر:67]] وهذا أيضاً فيه إثبات اليد.
    [وقال تعالى:((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)) [القصص: 88] ((وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ)) [الرحمن:27]] وهذا إثبات لصفة الوجه.
    [وقال تَعَالَى - عَلَى لسان المسيح عَلَيْهِ السَّلام -: ((تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)) [المائدة:116]، وقال تعالى:((كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)) [الأنعام:54]، وقال تعالى: ((وَاصطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)) [طـه:41]، وقال تعالى: ((وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)) [آل عمران:28] وقال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الشَّفَاعَة لما يأتي النَّاس آدم فيقولون له: {خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء} الحديث].
    هذه الآيات وكذلك الحديث صريحة في إثبات هذه الصفات لله عَزَّ وَجَلَّ وهي الصفات التي ينكرها المبتدعة بدعوى أنها جوارح، أو أعضاء، أو أركان، أو ما أشبه ذلك، لكن الصفات التي في القُرْآن أثبتها الإمام أبو حنيفة لأنها ثابتة في القرآن، والمصنف جَاءَ بهذه الآيات ليستدل بها عَلَى ما ذكره الإمام أبو حنيفة

    فكل ما ثبت لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الصفات في كتابه، أو في سنة رسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإننا نثبته، وهذا هو الواجب، وإن قال من قَالَ: إن هذا يقتضي الجسمية، أو يقتضي التحيز، أو يقتضي أنه عضو، أو أنه ذو أجزاء وأنه مركب! فأي اقتضاء يأتون به نَحْنُ لا نلتزم بما يلزموننا به ولا نبالي بهم، وإنما نثبت ما أثبته الله ورسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    1. تأويل الصفات بناءً على توهم التعارض بين العقل والنقل

      ولهذا أخذ المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ يرد عَلَى الذين يقولون بتأويل هذه الصفات الثابتة في الكتاب والسنة، الذين يقولون: ننفي الأعضاء والجوارح والأركان عن الله عَزَّ وَجَلَّ بزعمهم فيقول القائل: هل تريدون بذلك إنكار اليد والوجه والعين فيقولون: نعم، نَحْنُ ننكر ذلك، فيقول لهم: فما تقولون في آيات الله عَزَّ وَجَلَّ قالوا: يجب أن تؤول، ولماذا يجب أن تؤول؟ قالوا: حسب القاعدة التي ذكرنها في معارضة ظواهر الأدلة للبراهين العقلية، وظواهر الأدلة عندنا هنا هي الآيات.
      يقولون: هذه الآيات ظواهر نقلية، يعني: ظواهر من النقل، والمعارض العقلي لها هو: كونه تَعَالَى ليس له شبيه ولا مثيل، وليس له أعضاء ولا جوارح ولا أدوات هكذا يقولون، هذا معارض عقلي راجح وقوي وقاطع عندهم، فنعرض ظواهر النقل عَلَى العقل والبراهين العقلية، فما أثبته أثبتناه وما نفاه نفيناه، كلهم يقولون هذا!
      ولذا وضع الفخر الرازي القانون الكلي في تعارض العقل والنقل، وقد ذكره مَنْ قبله؛ لكنه ذكره كقانون في كتاب أساس التقديس، الذي نقضه ورد عليه شَيْخ الإِسْلامِ في كتابه نقض التأسيس أو بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية.

      وقد ألف شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ كتاب درء تعارض العقل والنقل، وهو أعظم كتاب عقلي كتب في الإسلام، حتى قال بعض العلماء: إنه لم يكتب في تاريخ الفكر العالمي كتاب أدق وأعمق من هذا الكتاب؛ لأنه ما بقي من أنواع الفسلفات والآراء والنظريات التي يمكن أن تصعب أو يدق فهمها ولا يستطيع كل عقل أن يخوض فيها؛ إلا وتعرض لها شَيْخ الإِسْلامِ في هذا الكتاب بإسهاب عظيم، ويبقى هذا الكتاب حجة قائمة إِلَى قيام الساعة.
      فأي نظرية تأتي بعدها نظريات لا تخلو عن أن يُقَالَ: إنها براهين أو قواطع عقلية، فهي من وضع عقول البشر فهو يبين كيف أنه لا يمكن أبداً أن يتعارض الوحي الصحيح الصريح مع العقل الصحيح الصريح، ويرد عَلَى كل الأقوال التي أوردها أُولَئِكَ النَّاس في هذا التعارض.
  3. تأويلات فاسدة

     المرفق    
    ابتدء شَيْخ الإِسْلامِ كتابه بذكر هَؤُلاءِ المؤولين الذين يقولون بهذا القانون الكلي؛ " قانون التعارض "، ثُمَّ أخذ في بسط الكلام في هذه المسائل بما يشفي ويكفي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
    فإذا نَحْنُ نقول: هذه التأويلات المبنية عَلَى هذا الزعم باطلة تردها النصوص الصريحة وتردها أيضاً العقول الصريحة
    1. تأويلات المبتدعة وتلبيساتهم في اليد

      قولهم في اليد: ليس لله يد، وما ورد من إطلاق اليد فإنما المراد به القدرة، وقولهم مركب من جملتين قالوا أولاً: ليس لله يد، ثُمَّ قالوا: ما ورد في اليد فإنا نفسره بالقدرة.
      وإنما قلنا من جملتين لأننا قد نجد أنه منسوب إِلَى بعض السلف أنهم فسروا اليد بالقدرة.
      لكن لا يمكن أبداً أن ينقل عن أحد من السلف نفي اليد، ولا نفي صفة العين عن الله - عَزَّ وَجَلَّ - لكن قد تجد من قال في تفسير قوله تعالى: ((بِأَعْيُنِنَا))[هود:37] من قَالَ: بحفظنا أو برعايتنا أو بعنايتنا إِلَى آخر ذلك، وهنا قضية مهمة جداً يجب أن نعلمها أن أهل البدع يقولون: أنتم تقولون: إننا أهل بدعة، وأهل ضلال وخارجون عن السنة وعن الطريق القويم؛ لأننا ننفي صفة اليد أو نؤولها.
      فانظروا إِلَى ما قاله مجاهد -مثلاً- وهو تلميذ ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين - في قوله تعالى: ((تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)) [الملك:1] قال قدرتهفقالوا: إما أن تقولوا: إن مجاهداً ضال وخارج عن السنة والجماعة إِلَى آخره.
      وإما أن نكون نَحْنُ مثله، ونفي اليد وتفسيرها بالقدرة صحيح ولا منازعة فيه، وهكذا في صفة العين والوجه وغيرها من الصفات، فلذلك قلنا يجب أن نفهم هذه القضية.
    2. الفرق بين هؤلاء المؤولة وبين ما ورد عن السلف في تفسير بعض الآيات

      المبتدعة ينفون اليد ثُمَّ يفسرون اليد الواردة في النصوص بالقدرة والنعمة والقوة والنصر، كما في قوله تعالى: ((يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ))[الفتح:10] نصره وتأييده إِلَى آخره، أما مجاهد أو سفيان أو ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وأمثالهم ممن ورد عنهم أمثال هذا الكلام الذين وردت عنهم ألفاظ قليلة في تفسير بعض الآيات، فإنهم لم ينفوا أي صفة من صفات الله عَزَّ وَجَلَّ -فـمجاهد لم يقل ليس لله يد، وأن المراد باليد: النعمة والقدرة، إنما فسر قوله سبحانه: ((تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ))[الملك:1] بالملك في قدرته، وهل أخطأ مجاهد في المعنى؟!
      لو تأملنا كلامه لوجدنا أنه لم يخطئ ولم يؤول؛ لأن إثبات اليد قضية مفروغ منها، لكن معنى:((بِيَدِهِ الْمُلْكُ))[الملك:1] أن السماوات السبع تحت قدرته لا تخرج عن أمره، وأي معنى من هذه المعاني صحيح ولا غبار عليه، وقوله تعالى: ((يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ))[الفتح:10] معناها ينصرهم ويؤيدهم، ويجعل الغلبة لهم.
      فالمعنى صحيح وحق وهذا هو المراد بهذه الآية، وهذا المعنى الذي يريد أن يقوله الله عَزَّ وَجَلَّ للكفار، وهذا هو الذي فهمه الصحابة من هذه الآيات، ولا يعني هذا نفي صفة اليد عن الله تعالى، فالمعنى الإجمالي للعبارة وللاستعمال شيء، ونفي الصفة التي تدل عليها لفظة من الألفاظ في هذه العبارة شيء آخر، فإذا قلنا مثلاً: المملكة بيد الملك أو الجامعة بيد المدير، المقصود بذلك أنها تحت أمره وتحت قدرته، فنقول: نعم كلامكم هذا صحيح يفهمه أي عربي أن المقصود بـ"المملكة بيد الملك": أن المملكة في ملكه وفي قدرته وتحت أمره، لكن من فهم من هذه العبارة -من قولك: إن المملكة بيده أو الجامعة بيده- أنه أقطع ليس له يدان، نقول: هذا فهم خاطئ جداً، فهم المجانين لأن هذا لا يمكن أن يُفهم من هذه العبارة.
      وهم يقولون: ليس لله يدان، لأن معنى:((بِيَدِهِ الْمُلْكُ)) [الملك:1] وما أشبهها مثل قوله تعالى: ((يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)) [الفتح:10] معناها القدرة أو النصرة أو الحفظ فهذا خطأ، فمع أن للملك يده، وللمدير يده، لكن أيضاً الجامعة بيده والمملكة بيده، بمعنى: أنها تحت أمره وتحت حكمه وتحت قدرته هذا معنى واضح ولا تختلف العقول فيه؛ فكذلك نفهم هذا عَلَى ضوء لغة العرب.

      ويقولون: إن القُرْآن نزل بلسان عربي مبين، كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ، نقول: نعم، ونحن لا نتهم لغة العرب، ولا نخطئها، بل نتهم أفهامكم أنتم، فلغة العرب لا تقتضي نفي صفات الله عَزَّ وَجَلَّ، ولكن أنتم فهمتم منها ما يقتضي نفي صفات الله عَزَّ وَجَلَّ، وهكذا حتى في باب الكناية إذا قالوا -مثلاً-: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طـه:5] يقولون: هذا كناية عن القهر والغلبة والتمكن إِلَى آخره، فنقول لهم: الكناية لا تنفي الحقيقة في لغة العرب، والبيت الذي يأتون به في البلاغة دائماً في الدلالة عَلَى الكناية بيت الخنساء، وهي ترثي أخاها صخراً تقول:
      كثير الرماد رفيع العماد طويل النجـاد             فتى ساد في قومه أمردا
      رفيع العماد، طويل النجاد، كثير الرماد، وما أشبه هذه الاصطلاحات كناية عن كرمه وعن شجاعته وعن قوته هذا الذي تريد أن تقوله عن أخيها، لكن لا يعني هذا أنه ليس عنده نجاد، أو بنية طويلة أو رمح طويل أو ليس كثير الرماد، فلا تنفي المعنى، فكثير الرماد تقصد أنه كريم، ولا ينفي أنه كثير الرماد فعلاً أنه يطبخ كثيراً ونتيجة الطبخ يكون الرماد، فالكناية لا تمنع الحقيقة.
      إذاً هم يخطئون في فهم الأساليب العربية ويحملونها مالا تحتمل من أجل نفي صفات الله عَزَّ وَجَلَّ.
    3. الرد على نفاة صفة اليد

      يقول المصنف: [ولا يصح تأويل من قَالَ: إن المراد باليد: القدرة، فإن قوله: ((لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ))[صّ:75] لا يصح أن يكون معناه: بقدرتي] والمصدر في لغة العرب لا يثنى فمثلاً كلمة الضرب تطلق عَلَى أي ضرب في أي زمان وفي أي مكان من أي إنسان صدر، فهي كلمة تستغرق كل الحدث الذي تدل عليه هذه الكلمة، والقدرة مثلاً: تستغرق كل ما يدل عَلَى ذلك المعنى؛ ولا يصح في لغة العرب بأي حال من الأحوال أن يثنى المصدر، وهذا شيء معلوم في لغة العرب.
      ولو قال قائل: وكلمة " بيع " مصدر، فلماذا يقولون في كتب الفقه كتاب البيوع، وهذا جمع للمصدر فيجاب عنه: بأن هذا الاصطلاح حادث في اللغة العربية، فالأصل أن تقول: كتاب البيع، ثُمَّ تقول: والبيع أنواع، ولو كانت ألف نوع أو أكثر، فكلها تدخل تحت كلمة البيع، لأن البيع يشملها، وأيضاً فهذا الجمع باعتبار الأنواع، مثلاً -بيع النقد بالنقد هذا بيع، والبيع المحرم والجائز، وبيع الغرر، فيقول المصنفون:كتاب البيوع، كأنه يقول لك: هذا الباب أو هذا الكتاب يشمل بيع كذا وبيع كذا، فهذه ألفاظ اصطلاحية وهي ليست مما يحتج به في لغة العرب، وقيلت للدلالة عَلَى غرض معين وهو التنوع والتعدد، لأن كل بيع منها مصدر، ويستغرق كل ما يقع تحته لفظ ذلك المصدر.
      فالمقصود: أنه لا يصح بأي حال من الأحوال أن تفسر قول الله: ((لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ))[صّ:75] بأنها لما خلقت بقدرتيّ لأنه إن كَانَ المقصود الحصر فهل ليس له إلا قدرتان، فلماذا لا تكون ثلاث أو أربع، أو أكثر؟
      وإن أردنا أنها واحدة فلا يصح أن نقول: قدرَتَي بالتثنية وهي قدرة واحدة، ولو صح ذلك، وسلمنا جدلاً أنها قدرة، وأن المعنى ما منعك يا إبليس أن تسجد لما خلقت بقدرتي، لقال إبليس: وأنا أيضاً خلقتني بقدرتك، وكل المخلوقات مخلوقة بقدرة الله، فإذاً ينتفي الاختصاص.
      ولا يصح لغة ولا يصح معنىً وتفسيراً أن يُقَالَ: إن اليد بمعنى القدرة؛ لأن القدرة صفة أخرى من صفات الله عَزَّ وَجَلَّ وهو عَلَى كل شيء قدير ومن أسمائه القدير، وكذلك فإن اليد من صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا تفسر هذه بهذه ولا نلغي تلك أبداً.
  4. الجهمية

     المرفق    
    1. إبليس أعرف بربه من الجهمية

      قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [فإبليس -مع كفره- كَانَ أعرف بربه من الجهمية]، يعني: هو يعرف أن لربه يدين، والجهمية لا يقولون بذلك إذاً هو أعرف بربه منهم.
      والمقصود بـالجهمية هنا: من ينفون هذه الصفات فليس الأمر خاصاً بـالجهمية الذين هم أصحاب جهم.
    2. حقيقة الجهمية في هذا الموضوع بالذات

      الجهمية تطلق عَلَى جميع نفاة الصفات؛ لأن أصل نفي الصفات إنما هو من جهم، وقد سمى شَيْخ الإِسْلامِ رده عَلَى الرازي بـ"بيان تلبيس الجهمية".
      مع أن الرازي يقول: نَحْنُ لا ننتسب إِلَى جهم إنما نَحْنُ أشعرية ولسنا جهمية، لكنهم في الحقيقة جهمية لأنهم ينفون الصفات، والتجهم درجات كما سبق.
      وتلخيص ذلك: أن نفاة صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الذين يطلق عليهم الجهمية في كلام السلف الصالح، فممن كتب من المؤلفين من السلف في الرد عَلَى الجهمية كالإمام البُخَارِيّ في صحيحه، كتب كتاب التوحيد والرد عَلَى الجهمية والإمام أبو داود ذكر في سننه كتاب الرد عَلَى الجهمية، والإمام أَحْمَد شيخ البُخَارِيّ وأبو داود له كتاب الرد عَلَى الجهمية، والإمام عثمان بن سعيد الدارمي له كتاب الرد عَلَى الجهمية وغيرهم كثير.
      المهم أنهم درجات المقصود أنه يطلق عَلَى نفاة الصفات جهمية لكنهم درجات.
    3. درجات الجهمية

      الدرجـة الأولى: الذين ينفون جميع الأسماء وجميع الصفات، وهم الباطنية وغلاة الجهمية، وهَؤُلاءِ فرق كثيرة يقولون: لا نثبت له لا اسماً ولا صفة، حتى أنهم قالوا: لا نقول موجود ولا غير موجود، فالباطنية يقولون: ننفي الصفة وننفي ضدها، فالنفي عندهم شامل للسلب والإيجاب معاً، لا نقول موجود ولا غير موجود، فلا يوصف الله بشيء، وهذا أعلى درجات الكفر، وهم بلا شك خارجون من الملة.
      الدرجـة الثانية: المعتزلة: وهَؤُلاءِ يثبتون الأسماء وينفون جميع الصفات، يقولون -مثلاً-: عزيز بلا عزة، حكيم بلا حكمة، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عليم بلا علم.
      الدرجـة الثالثة: الذين يثبتون الأسماء ويثبتون بعض الصفات وينكرون بعضها، وهَؤُلاءِ هم الأشاعرة وهم مضطربون فـالباقلاني -مثلاً- وهو من أقدم أئمتهم يثبت بعض الصفات كالوجه واليد والعين، لكن أتى من بعده الجويني إمام الحرمين فنفى ذلك.
      ثُمَّ استمر من بعده يتدرجون في النفي والتجهم، إِلَى أن جَاءَ الرازي، الذي يكاد أن يكون معتزلياً، ثُمَّ بعد ذلك يأتي الإيجي صاحب المواقف فيصبح المذهب مذهباً فلسفياً وكذا الآمدي والأرموي وأمثالهم، فهم يتدرجون ويتفاوتون.
      المقصود: أنهم كمجموعة يثبتون الأسماء ويثبتون بعض الصفات وينكرون البعض الآخر أو يؤولونه، ومما يثبتونه من الصفات سبع وبعضهم يجعلها أحد عشرة وبعضهم ثلاثة عشر، وبعضهم عشرين، مع التفريعات والتشققات، والباقي يؤولونه.

      والاستواء والوجه وأمثالهما مما يطلقون عليه أنه جوارح وأعضاء وأركان هذا من أعظم ما تنفيه الأشعرية وبالتالي ينفيه المعتزلة بطبيعة الحال؛ لأنهم ينفون جميع الصفات، وبطبيعة الحال تنفيه الجهمية لأنهم ينفون الكل وكذلك الباطنية، فكل النفاة وكل المؤولين يشتركون جميعاً في نفي الصفات.
      قال المصنف: [فإبليس -مع كفره- كَانَ أعرف بربه من الجهمية]، هذا القول إذاً ينطبق عَلَى جميع هَؤُلاءِ، وإن كَانَ إبليس قد كفر به ولكن كفره من كفر الكبر والإباء ((إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)) [البقرة:34].
    4. الكفرة ملة واحدة وأسبابه تختلف

      فالكفر أنواع: كفر يتعلق بالطاعة، وكفر يتعلق بالمعرفة، وهَؤُلاءِ الجهمية وغيرهم من نفاة الصفات كَفَرُوا بمايتعلق بالمعرفة، " أي: معرفة الله " لأنهم جحدوا أسماء الله وجحدوا صفاته، والكفر يختلف في سببه ودافعه فإبليس أبى واستكبر أن يقر بالأمر في ذاته ونفاه ونفى حكمته.
      واليهود كفرهم من باب الحسد وهو قريب من كفر إبليس، لأن إبليس حسد آدم عَلَى المنزلة من حيث الدافع، لكن اليهود لا ينكرون النبوة في ذاتها بل يقرون بالنبوة والأنبياء، لكنهم كانوا يريدون أن يكون النبي من بني إسرائيل، فكفروا بمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال أبو جهل: من بني هاشم إذاً كفرنا، فليست القضية قضية حق أو باطل، بل ما دام أنه من بني هاشم إذاً كفرنا، لأننا كنا وإياهم كفرسي رهان، ولأنهم قالوا: منا نبي ولا نستطيع أن نأتي بنبي وهكذا.
      إذاً فأبواب الكفر مختلفة،
      والمقصود هنا: أن إبليس في باب المعرفة أعرف بربه من نفاة الصفات.
    5. شبهة في إثبات صفة اليد وردها

      يأتي هنا إشكال قال المصنف: [ولا دليل لنفاه الصفات فيه، وهو في قوله تعالى: ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ)) [يـس:71]].
      فيقولون: ليس لله يد عَلَى الحقيقة، ولا يتصف الله باليد كما تقولون؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر في هذه الآية أنه خلق الأنعام فقال:((مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا)) [يـس:71] فَجَمَعَ اليد، وأنتم تقولون: إن لله يدين، وتقولون: إن المصدر لا يُثَنّى ولا يجمع.
      المقصود هنا هو قوله: ((أَيْدِينَا)) فَقَالُوا: أنتم تقولون: إن لله يداً وتقولون: إن لله يدين وتقولون: إن لله أيدي، وهذا ما وردت به النصوص، فكيف تقولون: إن الله يدين كما ذكر، فنحن نقول لهم: ما ذكره الله في الآية: ((لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ))[صّ:75] فنحن نقول لهم: هذا فيه إثبات أن لله تَعَالَى يدين، كما يقول في الآية الأخرى رداً عَلَى اليهود في قولهم: ((يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة)) [المائدة:64] فلما كَانَ المقام مقام رد عليهم من جهة إثبات الصفة لله عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: ((بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)) [المائدة:64] فعلمنا بذلك قطعاً وصراحة أن لله تَعَالَى يدين، وأن الصفة بلفظ اليدين، ولم يَقُل أيديه مبسوطة.
      وكما جَاءَ في الأحاديث الصحيحة {وكلتا يديه يمين} أي: هما يدان، ويأتي في لغة العرب إطلاق المفرد وهو في الحقيقة مثنى وهذا معروف، ولأن جميع النَّاس لكل واحد منهم يدان من حيث العدد، فإذا قال رجل: أخذت بيدي أو عملت بيدي؛ فإنه لا يعني بذلك أنه ليس له إلا يد واحدة، وهذا واضح جداً، ولله المثل الأعلى.

      وإذا استخدم الجمع فما معناه وكيف نفهمه؟
      نقول: بما أن القُرْآن جَاءَ بأرقى وأفصح الأساليب العربية بلا شك، ولا ينازع في ذلك أحد من هَؤُلاءِ المناظرين، فالإضافة لمَّا جاءت إِلَى ضمير الجمع جُمع المضاف، لأن أول الآية ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا)) [يّـس:71] بلفظ الجمع.((لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا))[يّـس:71] لأن المضاف إليه ضمير الجمع "نا" فيجمع إذاً المضاف لمناسبة المضاف إليه، فليس في ذلك نفي لكون اليدين اثنتين وهذا باب معروف في اللغة العربية، كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ ((إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)) [التحريم:4] وهذا لا يناقشون فيه من جهة اللغة.
      والمصنف هنا قَالَ: [لأنه تَعَالَى جمع الأيدي لما أضافها إِلَى ضمير الجمع ليتناسب الجمعان، فاللفظان للدلالة عَلَى الملك والعظمة -كلاهما- ولم يقل "أيديَّ"] لأنه إذا أراد أن يجمع المضاف والمضاف إليه مفرد، كما لو كَانَ التعبير هكذا لقَالَ: "أيدي" فهذا المضاف جمع والمضاف إليه مفرد "أيديَّ" فليس هذا هو المراد بذلك، وإلا لو قال "أيدي" لفهمنا أنها أيدي، فلم يقل "أيديَّ" مضافاً إِلَى ضمير المفرد، ولم يقل ((يدينا)) بتثنية اليد مضافة إِلَى ضمير الجمع [فلم يكن قوله: ((مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا))[يّـس:71] نظير قوله تعالى: ((لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ))[صّ:75]].
      أي: ليست آية ((مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا)) [يّـس:71] مما ينفي دلالة ((لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ)) [صّ:75] أو ((بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)) [المائدة:64] وأمثال ذلك مما ورد في إثبات اليدين، لأنها وردت بهذا اللفظ في المقام الذي لا يحتمل التأويل في الآيات، وكذلك في الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما.
  5. أدلة إثبات صفة الوجة

     المرفق    
    ثُمَّ انتقل المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ إِلَى إثبات صفة الوجه لله تعالى، وقد سبق أن ذكر الآيات الدالة عَلَى إثبات الوجه كقوله تعالى: ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه)) [القصص:88]((وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ))[الرحمن:27] وغير ذلك مما يدل عَلَى إثبات الوجه لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه صفة له تعالى، ولا نقول: إنه ذاته، ولا نقول: إن ذلك يقتضي أن له أعضاء أو جوارح، أو أركاناً، وإنما هو صفة عَلَى الحقيقة بلا كيف، كما قال الإمام أبو حنيفة: "له وجه ويد ونفس، وقَالَ: كل ذلك فهو له صفة بلا كيف" يعني: أننا نجهل الكيفية.
    ويستدل عَلَى ذلك بالحديث الذي رواه الإمام أَحْمَد ومسلم وغيرهما {إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه} وورد في رواية {حجابه النار} والمعنى واحد ولا منافاة بينهما، لأنه قَالَ: {لو كشفه لأحرقت سبحات} أي: لأحرقت أنوار وجهه {ما انتهى إليه بصره من خلقه}، لأن المخلوقات لا تصمد ولا تقف أمام نور الله عَزَّ وَجَلَّ، فهو نار محرق بالنسبة لها فحجابه النور أو حجابه النار، لا منافاة بينهما

    ولو كشف سبحانه هذا الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، وهذا دليل عَلَى عظمة الله عَزَّ وَجَلَّ، وعلى أنه لا يستطيع البشر أن يتخيلوا ولا أن يدركوا كنه ذاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو كما قَالَ: ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)) [طـه:110] وهو أقوى في الدلالة عَلَى النفي من ((لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ)) [الأنعام:103]، لأن الإدراك العلمي أوسع من الإدراك الحسي البصري، فإن كثيراً من الأشياء نسلم بها علمياً وذهنياً، وإن كنا لا نستطيع أن نراها لأن هذا مجال أوسع.
    فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نفى الإحاطة به علماً في الدنيا وفي الآخرة، ولما كَانَ سيرى في الآخرة عَلَى الحقيقة نفى الإدراك مع إثبات النظر والرؤية فقال: ((لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصار))[الأنعام:103] مع أنه ثابت أن المؤمنين يرونه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    1. لا يقال لصفات الوجه واليدين وغيرها أعضاء وتعليل ذلك

      وبعد إثبات هذه الصفات قَالَ: [ولكن لا يُقال لهذه الصفات إنها أعضاء] فنحن نثبت الوجه واليد والعين وكل هذه صفات، ولا نقول: إنها أعضاء أو جوارح أوأركان أو أدوات، ثُمَّ أخذ يعلل لهذا، يقول: [لأن الركن جزء الماهية] يعني في حق الماهيات المعروفة، أي: في المخلوقات المعروفة الركن هو جزء الماهية الذي إذا ذهب ذهبت الماهية، وهو معروف، فمثلاً:
      نحن نقول: الركوع ركن في الصلاة، فلوصلى أحد ولم يركع فليس له صلاة، وكذلك الفاتحة ونحوها من الأركان إذا لم يأتي بها فلا صلاة له، لأن الركن هو الجزء من الماهية، وكذلك لو قلنا بالتعريف المنطقي المجرد أن الإِنسَان حيوان ناطق، فيقولون: الركنان هما الحيوانية والناطقية، فإذا انتفت الحيوانية انتفى ركن الماهية، فلم يعد هناك شيء اسمه إنسان، فمثلاً النباتات ليست إنساناً لانتفاء أحد أركان الماهية، وإذا انتفى ركن منها انتفت الماهية، لكن المقصود أننا لا نقول عن الصفات الإلهية هذه أركان، ويكفينا أنه لم يرد في حق الله عَزَّ وَجَلَّ إثبات كلمة الركن فلا نقولها، والله تَعَالَى هو الأحد الصمد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      يقول: [والأعضاء فيها معنى التفريق والتعضية] ونقول في كلمة العضو مثلما قلنا في كلمة الركن، لأن معنى العضية: التفريق [ومن هذا المعنى قوله تعالى: ((الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ)) [الحجر:91]] يعني: أعضاء، ففرقوا القُرْآن آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه، فجعلوه عضين أي: أعضاء، فالشيء العضوي هو الذي يتكون من عناصر أو عدة أشياء يمكن أن يوجد البعض منها وننفي البعض منها، فنحن لا نطلق ذلك في حق الله عَزَّ وَجَلَّ. [والجوارح فيها معنى الاكتساب والانتفاع] ((وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ)) [الأنعام:60] ما جرحتم أي: اكتسبتم وعملتم، وفيها نوع من معنى الاكتساب،
      فنقول: اليد الجارحة فيها أيضاً معاني الاكتساب فنلاحظ أن هناك معاني لهذه الألفاظ ودلالات لا تليق بالله عَزَّ وَجَلَّ، مثلاً معنى الاكتساب ومعنى الانتفاع.
      ويكفينا أنها لم ترد لكن لا بد أنها لا تخلو من خطأ، وكذلك الأدوات، لماذا؟ لأن الأدوات بالنسبة للإنسان كما هو معلوم هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة أو دفع المضرة، فالسيف آلة والرمح آلة والمحراث آلة، فهل نقول: نثبت آلات لله عَزَّ وَجَلَّ وننفي آلات عن الله عَزَّ وَجَلَّ؟ نقول: هذه الألفاظ لم ترد ولهذا نَحْنُ نتجنبها.
      يقول: [وكل هذه المعاني منتفية عن الله، ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله تَعَالَى] وهكذا العبرة عندنا بالورود [فالألفاظ الشرعية -التي جاءت في الكتاب والسنة- صحيحة المعنى، سالمة من الاحتمالات الفاسدة] دائماً [فلذلك يجب أن لا يعدل عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً لئلا يثبت معنى فاسد، أو ينفي معنى صحيح وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل].
      وهذا التلخيص من المُصنِّف في الأخير هو الذي يردنا إِلَى أصل القضية، وهو أن كل لفظ مجمل في حق الله عَزَّ وَجَلَّ لا نستخدمه ولا نستعمله، لأنه ما دام يحتمل معنيين أحدهما حق والآخر باطل، فإننا لابد أن نخطأ إذا أثبتناه بالكلية، أو نفيناه بالكلية، ولهذا لا نطلقه بالمرة، وإنما نقف عندما ورد، ونثبت ما ورد.

      هذه هي القاعدة الأساسية، وقد استثنى من ذلك -كما سبق- أنه قد يُوضح المعنى الشرعي بكلام آخر، أو بعبارات أخرى، المراد منها إيضاح دلالته مثل ما قلنا: استوى بذاته، ثُمَّ وضحناه وقلنا مباين لخلقه، من غير اختلاط ولا ممازجة، وهذه العبارات يستخدمها بعض السلف بقصد إيضاح المعنى الأساسي لا بقصد استخدام معنى جديداً له دلالة مجملة، فنقف حيث وقف السلف الصالح وهو أن ما ورد به النص قلناه وما نفاه نفيناه.
  6. مذاهب الناس في إثبات صفة العلو

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
    [وأما لفظ الجهة، فقد يراد به ما هو موجود، وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق، فإذا أريد بالجهة أمرٌ موجودٌ غير الله تَعَالَى كَانَ مخلوقاً، والله تَعَالَى لا يحصره شيء، ولا يحيط به شيء من المخلوقات، تَعَالَى الله عن ذلك.
    وإن أريد بالجهة أمر عدمي، وهو ما فوق العالم، فليس هناك إلا الله وحده، فإذا قيل: إنه في جهة بهذا الاعتبار، فهو صحيح، ومعناه: أنه فوق العالم، حيثُ انتهت المخلوقات، فهو فوق الجميع، عال عليه، ونفاة لفظ "الجهة" الذين يريدون بذلك نفي العلوّ يذكرون من أدلتهم: أن الجهات كلها مخلوقة، وأنه كَانَ قبل الجهات، وأن من قَالَ: إنه في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم، أو أنه كَانَ مستغنياً عن الجهة ثُمَّ صار فيها، وهذه الألفاظ ونحوها إنما تدل عَلَى أنه ليس في شيء من المخلوقات، سواء سمي جهة أو لم يسم، وهذا حق، ولكن الجهة ليست أمراً وجوديَّاً؛ بل أمر اعتباريّ، ولا شك أن الجهات لا نهاية لها، وما لا يوجد فيما لا نهاية له فليس بموجود] إهـ.

    الشرح:
    موضوع الجهة وما يتعلق به لا يخرج عما سبق؛ لكن لعلاقته بإثبات صفة العلو لله تَعَالَى -وهي ستأتي وقد سبقت أيضاً- فنحن نقدم للكلام فيها ببيان مذاهب النَّاس في إثبات هذه الصفة.
    1. مذهب السلف وهو إثبات صفة العلو

      المذهب الأول: إثبات صفة العلو لله سبحانة وتعالى، وصفة العلو دل عليها القُرْآن والسنة، ودل عليها إجماع السلف الصالح وتدل عليها العقول والفطر السليمة جميعاً، عند المؤمنين وعند الكفار، بل ذكر بعضهم أن ذلك حتى عند الحيوان لمن تأمل، وهو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فوق المخلوقات.
      وكل ما يمكن أن تتصور من الأدلة فإنه يدل بوضوح وجلاء عَلَى علو الله تَعَالَى فوق مخلوقاته،وأما استواؤه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى العرش فهذا دل عليه الوحي، ولو لم يأتنا نص لما علمنا أنه استوى أو لم يستو؛ لكن نَحْنُ نعلم أنه فوق المخلوقات، لكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أخبرنا بالوحي أن له عرشاً هو أعظم من جميع المخلوقات، وأنه سبحانه مستو عَلَى ذلك العرش بكيفية لا نعلمها والعرش فوق جميع المخلوقات والله فوق العرش الذي هو أكبر من جميع المخلوقات؛ هذا المذهب الجلي الواضح الذي لا ينكره عقل ولا فطرة إلا إذا تلوث العقل أو فسدت الفطرة.
    2. مذهب بعض الخلف وهو إنكار العلو

      المذهب الثاني: هو مذهب الذين أنكروا علو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى خلقه، وقد انقسموا في هذه الصفة إِلَى قسمين أساسيين:-
      (أ) أهل الحلول والاتحاد.
      وهم الذين يقولون: إن الله في كل مكان -والعياذ بالله- وأنه يحل في كل شيء، وهو حقيقة كل شيء، وأن الكون ما هو إلا مظاهر له، وهذا كفر صريح باتفاق فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ، وهذا مذهب الاتحادية والحلولية الذي أصله من المجوس والبوذيين في الهند ثُمَّ انتقل إِلَى بعض من ينتسبون إِلَى الإسلام كـابن عربي وابن الفارض والتلمساني وابن سبعين وأمثالهم.
      ويستدلون بما يُنسب إِلَى أبي حنيفة من مناظرة مكذوبة ومع الأسف أنها رائجة، حتى أن بعض النَّاس يطبعها ويتركها في برواز، وهي أن الإمام أبو حنيفة ناظره دهري زنديق لا يؤمن بالله واتفقوا أن يكون موعد المناظرة في مسجد معين ومكان معين، وتأخر الإمام أبو حنيفة ثُمَّ لما وصل إليه قالوا له: ما الذي أخرك يا أبا حنيفة؟ قَالَ: كنت واقفاً وجاء خشب وتجمع ثُمَّ تكونت منه سفينة، ثُمَّ كذا ثُمَّ قادتنا السفينة إليك فتأخرتُ، فَقَالَ له الرجل: كيف يتجمع بذاته؟ وكيف يمشي بذاته؟ قَالَ: فكيف بهذا الكون من يسيره ويدير شؤونه؟! ثُمَّ يقول الدهري الزنديق للإمام أبي حنيفة أين الله؟! قَالَ: الله في كل مكان، قال له: كيف يكون في كل مكان؟ قَالَ: مثل الزبدة في اللبن.
      هذا الكلام لا يصح، ولا تصح القصة من أصلها.
      وهل يمكن لأحد في زمن الإمام أبي حنيفة أن يأتي يناظر النَّاس وينكر وجود الله علناً؟! وإذا كنا الآن في زمن السوء الذي نعيش فيه لا يستطيع أحد أن يأتي ويقول: أنا أنكر وجود الله، فإن العوام يقتلونه قبل أن يصل إليه العلماء، فكيف بذلك الزمن؟ فلا يمكن حصول هذه القصة أصلاً، ثُمَّ كيف ينكر وجود الله، ثُمَّ يقول له: أين الله؟! فَيَقُولُ: هو كالزبدة في اللبن.
      وكيف يقول الإمام أبو حنيفة هذا، وهو الذي يقول كما في الفقه الأكبر وفي طرق أخرى غير الفقه الأكبر: من أنكر أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى العرش فقد كفر، هذا ثابت عنه في عدة كتب من كتب المناقب، مثل مناقب أبي حنيفة.
      فالمقصود أن الذين يقولون: إن الله في كل مكان بهذا المعنى، فإنه مخالف ومنافٍ لما عليه السلف الصالح، فإنهم أجمعوا عَلَى أن الله فوق العرش، كما أجمع عَلَى ذلك المفسرون، ونقل الإجماع ابن كثير وغيره؛ أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فوق العرش وأنه وفي كل مكان بعلمه.
      نعم علم الله تَعَالَى في كل مكان، فهو يعلم ما يدور في هذا الكون في أي مكان كان، ولو كَانَ في باطن الأرض، كما ذكر العبد الصالح لقمان: ((يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ)) [لقمان:16] وقوله: ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ))[الأنعام:59] وأمثال ذلك كقوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) [الحديد:4] أي: بعلمه، لكن ذاته سبحانه في السماء، كما أقر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجارية عندما قالت في السماء.
      ويستدلون أيضاً بما ذكرنا سابقاً يقولون مثلاً قال الله تعالى: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ)) [الأنعام:3] وما أشبه ذلك من الأدلة المجملة التي لا دليل لهم فيها، والمقصود هنا عرض المذهب إجمالاً لا تفصيل الرد عليها.
      (ب) الفلاسفة والباطنية والأشاعرة ينفون عن الله جميع الجهات.
      والفرقة الثانية من نفاة العلو: الذين يقولون: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا قدامه ولا وراءه، ولا عن يمينه ولا عن شماله، فينفون جميع الجهات، وهذا مذهب حكماء اليونان -كما يسمونهم - أو فلاسفة اليونان أو بعضهم.
      ثُمَّ قال به الباطنية وأمثالهم من الذين غلو في النفي فيقولون: لا نقول داخل العالم ولا خارجه، وهذا هو مذهب الأشعرية الذي ذكر في كتاب المواقف، الكتاب المعروف الذي يُدرس الآن في الجامعات خارج المملكة عَلَى أنه كتاب العقيدة، فيقولون: قالت الحشويةأنه فوق المخلوقات، ونقول نحن: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، وقد ذكر شَيْخ الإِسْلامِ عبارة عظيمة، وهي: "عند العقلاء سواء أن تقول، فتشت عنه في كل مكان، وفي كل جهة فلم أجده، أو تقول: هو معدوم" أي: إذا قلت لك ما رأيك في كون هذا الشيء لا يوجد لا داخل العالم ولا خارجه؛ لفهمت كلامي هذا أنني أنفي وجوده نفياً مطلقاً.
      إذاً: أنا قصدي ليس موجود عَلَى الإطلاق، فنقول لك: أي عاقل لا يفرق بين قولك: إن الشيء معدوم نهائياً، وبين أنك تقول: لا داخل العالم ولا خارجه، إذاً ليس له وجود، وحقيقة قولهم نفي وجوده، ولكنهم يريدون تنزيهه كما يزعمون أو كما يعتقدون.