وهكذا لا ينبغي الآن إضاعة الوقت في الخوض في الاحتمالات، مثل: هل سيكون مشروع التقسيم أو لا ؟ وهل يريدون النفط وسيلة أو غاية في إعادة تركيب بنية المنطقة ؟ فكل هذا سيتضح من خلال طبيعة العدوان على
العراق وطبيعة المقاومة له، والمهم هو: أن كل الاحتمالات ممكنة، والذي يحدد في النهاية هو وضع إسرائيل ورغبة إسرائيل، وماذا سوف تستقر عليه الأمور في إسرائيل.
أما
أمريكا في ذاتها فلا يوجد لها أي مشكلة في المنطقة، نعم. لا يوجد لها أي مشكلة في المنطقة:
لا شيء من مصالحها يتعرض للأذى من قبل الحكومات العربية، ولا شيء من مطالبها يقابل بالرد، وما من مشكلة بينها وبين أي دولة من دول المنطقة لو كان الأمر يتعلق بها وحدها .. بل إن المشكلات الكبرى والعواقب الوخيمة على مصالحها وعلاقاتها إنما تأتي أو تكبر بعد تدخلها وعدوانها المرتقب على المنطقة!!
فمثلاً: مشروع التقسيم والاحتلال المباشر لمنابع النفط لا يضمن لها تدفق النفط بل قد يمنع تدفقه المضمون حالياً، و كل الدراسات الاستراتيجية الأمريكية في هذا الخصوص -التي نشرت منذ ثلاثة عقود ولا تزال- تنبه إلى أن هذا العمل قد يقود إلى نتائج بالغة الخطورة! مثل:
1- تعرض حقول النفط وأنابيبه وموانئه لهجمات إرهابية لا يمكن مقاومتها: فالمنطقة النفطية تمتد من جنوب الربع الخالي إلى شمال
العراق، وأكثر المنشآت النفطية مكشوفة؛ مما يجعلها أهدافاً سهلة للإرهابيين، والإرهابيون حينئذ لن يكونوا تنظيماً معيناً .. بل إن الشعب كله سيقاوم العدو المحتل بأي وسيلة، بما في ذلك العمال والحراس أنفسهم، وأقل ما يمكن تصوره .. حدوث عصيان مدني مستمر، أو فوضى لا يمكن معها استمرار إنتاج النفط وشحنه، وما حدث أخيراً في
فنـزويلا ليس إلا نموذجاً مبسطاً لما قد يقع في هذه المنطقة الملتهبة بطبيعتها.
هذا ما قالوا .. ولدينا الآن تجربة قائمة في هذا، وهي ما حدث في
أفغانستان التي قيل: إن سبب احتلالها هو النفط أيضاً.
فلا يشك أحد اليوم -من شركات النفط وغيرها- أن استغلال نفط
بحر قزوين، وإنشاء إمداداته على الأرض الأفغانية، كان ممكناً بالاتفاق مع حكومة طالبان؛ نظراً لسيطرتها الأمنية، لكنه الآن أصبح شبه محال مع الاحتلال الأمريكي، حيث لا يستطيع الأمريكيون التنفس خارج قواعدهم المحاطة بالأسوار المتوالية.
وهكذا فالاحتلال لا يضمن النفط، والنفط لا يعلل لهذه الحرب الهائلة الآثار سياسياً وعسكرياً واقتصادياً!!
2- إيجاد بؤر كثيرة للإرهاب والفوضى ضمن التركيبة المعقدة للمنطقة - جغرافياً وبشرياً ودينياً ومذهبياً- مما يجعل تغيير الأوضاع القائمة، والانتقال إلى هذا الوضع مغامرة بلا فائدة، بل هو حماقة كبرى إذا علمنا أن الحكومات القائمة تتسابق في إرضاء
أمريكا، وتتنافس في تنفيذ مطالبها -ولا نعني حكومات الخليج فقط- بل إن
صدام حسين مستعد أن يعطيها ثروات
العراق على طبق من ذهب لكي ترضى عنه!!
إذن: لماذا يقتل الأمريكان الدجاجة وبيضها من الذهب يأتيهم يومياً؟!
ولماذا الاحتلال والتقسيم لدول قابلة للتطويع؟!
ومَن الطرف المستفيد منه إن حدث؟!
الجواب قطعا هو: أن ذلك يأتي من أجل ضمان أمن إسرائيل ورفاهيتها وقوتها، فهي المستفيد الوحيد من أي احتمال.
ولإيضاح ذلك أكثر: نفترض أن هذه المنطقة خالية من كل ثروة - النفط وغيره - ولا أهمية لها استراتيجياً، لكن شعوبها تكره إسرائيل، وتتعاطف مع الانتفاضة، وتضغط على الحكومات لتأييدها، وتطالب
أمريكا بالعدل ... أكانت
أمريكا تتركها أم تعاقبها؟
ثم نعكس القضية: نفترض أن المنطقة قبلت المشروع الصهيوني، وأن الانتفاضة لم تحدث، فهل كانت
أمريكا ستفكر في احتلالها؟
إذا أردنا مزيد إيضاح: فلنقارن بين تعامل
أمريكا مع
كوريا الشمالية وبين تعاملها مع
العراق:
فـ
كوريا تعترف بأسلحة الدمار الشامل، وقلعت عيون
الأمم المتحدة
وآذانها -كما قال الأمين العام- من المواقع المراقبة .. بل هددت
أمريكا تهديداً صريحاً مباشراً، ومع ذلك فـ
أمريكا لم تتجاوز الطرق الدبلوماسية لحل المشكلة! في الوقت الذي تحشد فيه مئات الطائرات، وتبني القواعد الكبرى، وتستنفر الرأي العالمي لمعاقبة
العراق المتجاوب مع أغلظ القرارات، والذي لم يثبت حتى الآن أنه يملك ما يدّعون لا باعترافه ولا بتفتيشهم!!
إن حلّ هذه المعادلة يوصل إلى مفتاح أسرار الصراع:
-
كوريا تعلن تهديدا مباشرا صريحا لـ
أمريكا لكنها لا تهدد إسرائيل!
-
العراق لا يهدد
أمريكا لكن نبوءات التوراة تشير إلى أنه يهدد إسرائيل!
-
أمريكا تعلن الحرب على
العراق، وتلاطف
كوريا بالدبلوماسية!
- لم تعد السياسة الأمريكية قائمة على جدلية الصقور والحمائم .. بل على جدلية الثعالب (الصهاينة الأربعة في الإدارة) والوحوش (لوبي صناعة السلاح).
ومن الواضح أن زمام المبادرة والقرار في يد الفريق الأول، مع أن الشعور القومي يقف مع الفريق الآخر. فليس هناك فرصة لتنفيق السلاح من جهة، وإثارة النعرة القومية وغريزة الهيمنة والاستعلاء من جهة أخرى - أفضل من إعلان دولة شيوعية تهديداً مباشراً للإمبراطورية العمياء.
فلماذا تأخر هؤلاء وتقدم أولئك؟
ولماذا تعاقب الإمبراطورية إحدى الدولتين مرتين، وتداري الأخرى وهما شقيقتان في محور الشر ؟!
ولماذا يرضى الوحوش بفتات فريسة قديمة يقف الرأي العام العالمي معها، والفريسة الأخرى المنبوذة تستعرض أمامهم؟!
إن هذا كله يوضح أن منطق الحرب هو -بالأساس- ديني توراتي وليس نفعياً استراتيجياً.
أي أنه يبرهن على أن قاعدة "فتّش أولاً عن إسرائيل " صحيحة!
وهذا مثال حي واحد من أمثلة كثيرة للمنهج الأمريكي الذي عبر عنه أحد مندوبي الاتحاد الأوربي في الأمم المتحدة حيث يقول:-
" الواقع أن إسرائيل هي العضو الدائم السادس في مجلس الأمن؛ فالفيتو الأمريكي يستخدم لصالحها أكثر من أي شيء آخر " وكلامه مطابق للحقيقة، والمفكر اليهودي الشهير "
نعوم تشومسكي " يؤكد ذلك، و يكثر من الاستشهاد به في مقابلاته.
بل الملاحظ أن أي مشكلة لـ
أمريكا مع الاتحاد الأوربي، أو
روسيا، أو
الصين يمكن التفاهم فيها بالدبلوماسية الهادئة، إلا إذا كان الأمر له علاقة بإسرائيل، مثل قضية هجرة اليهود إليها، أو بيع السلاح لها، فهنا تختفي لغة الحوار، ويظهر التشدد الأمريكي لتحقيق ما تريده إسرائيل من هذه الدول.
وكم مرة وقفت إسرائيل في مواجهة العالم فوقفت
أمريكا معها ولم تبالِّ بالعالم كله ؟!
فإذا كان هذا منهج
أمريكا مع الأصدقاء أو غير الأعداء فما بالك به معنا نحن الأعداء؟! أغنياءً كنا أم فقراء! عندنا نفط أو ليس عندنا شيء؟!
لقد قرأنا للمرشح الديمقراطي السابق للرئاسة الأمريكية "
لاروش" قوله بعد أحداث الحادي عشر من أيلول:
"إن هناك بعض أشخاص يملكون سلطة هائلة، يقفون وراء الكواليس في حكومات مختلفة، في
بريطانيا و
أمريكا وإسرائيل، وهؤلاء مصممون على أن تنقل
الولايات المتحدة الصراع الحالي بين إسرائيل وجيرانها إلى مستوى أعلى تدخل
الولايات المتحدة فيه في حرب جيوبوليتيكية في الشرق الأوسط".
ونحن الآن لا نستدل بهذا الكلام لما سبق .. بل نستدل عليه بالأحداث التالية والحقائق الماثلة، تلك الحقائق التي جعلت الرأي العام العالمي يقف في جهة، والإدارة الصهيونية في
واشنطن تقف في الجهة الأخرى وليس معها سوى الدولة المجذومة إسرائيل، والتابع المطيع "
بلير ". وهذا الوصف لإسرائيل ليس من عندي بل هو لكاتب إسرائيلي بارز سيرد بنصه.
وقبله قرأنا كتاب "
يد الله؛ لماذا تضحي الولايات المتحدة بمصالحها من أجل إسرائيل؟! " للكاتبة الأمريكية "
غريس هالسل " مؤلفة كتاب "
النبوءة والسياسة "، وفيه تنقل الكاتبة عن أحد موظفي الخارجية الأمريكية سابقاً ورئيس تحرير "
تقرير واشنطن عن شئون الشرق الأوسط " سنة (1995) قوله:
"إن ما قدمته
أمريكا لإسرائيل حتى تلك السنة أكثر من (83) مليار دولار، أي ما يعادل أكثر من (14000) دولار سنوياً لكل إسرائيلي".
والسؤال هو: لماذا تضحي
أمريكا بهذه المليارات؟! وفي أي شيء تنفقها إسرائيل؟!
والجواب: -بلا ريب- أن هناك ماهو أعظم من العلاقة المصلحية والتعامل النفعي، وذلك هو النوع الخاص من العلاقة الذي عبّر عن الإيمان به سبعة رؤساء أمريكيين في جملة واحدة دينية:
"من يبارك إسرائيل يباركه الله، ومن يلعن إسرائيل يلعنه الله" ثم جاء ثامنهم (...) ليعلنها حرباً صليبية.
وقد جاهر المؤتمر العام للاتحاد الأوربي قبل أيام بانتقاده الشديد لاستخدام الرئيس الأمريكي للشعارات الدينية، وقال بعضهم: إنه يعيد الناس إلى ذكريات حرب المائة عام في
أوروبا.
والشواهد هنا لا تُحصر، والمقصود: أنه إذا اتضحت حقيقة العلاقة الدينية الحميمة بين
أمريكا وإسرائيل، واتضحت كذلك العلاقة العميقة بين المشروعين الصهيوني والصليبي وبلوغها درجة التطابق؛ فلننطلق بناء على ذلك إلى تقييم الانتفاضة ووضعها في مكانها اللائق بها في المعركة الطويلة المستمرة بين دين التوحيد وكفر أهل الكتاب!
إن هذه الانتفاضة تخرج عن كونها حلقة في الصراع العربي الإسرائيلي لتكون معلماً فاصلاً في الصراع الإسلامي الكتابي الذي يمتد إلى يوم القيامة!!
وحين يعلن بعض منظري الحملة الصليبية التتارية على
العراق أن
بغداد ما هي إلا بداية الطريق إلى
القدس فإنهم لا يعلموننا شيئاً جديداً، أو قل: هكذا يجب أن يكون!