البيان: ما هو الجانب الذي ترون ضرورة التركيز عليه في مواجهة العلمانية في المرحلة الراهنة؟
الجواب: في هذه المرحلة -وفي كل مرحلة- ولمواجهة العلمانية وغيرها نحتاج أولاً إلى الإيمان الصادق والعلم النافع، وتزكية النفس بالعمل الصالح، والتقرب إلى الله تعالى بما يحب ويرضى، والرغبة فيما عند الله والزهد في الدنيا. ويجمع ذلك منهج للتزكية مستمد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته وحياة السلف الصالح تعاد فيه صياغة النفس المسلمة كما جاء في القرآن الكريم، ولا تكون القدوة ما وجدنا عليه آباءنا أو شيوخنا، أو يكون عملنا ردود أفعال لما في واقعنا من انحراف؛ بل نضع كتاب الله تعالى نصب أعيننا، وإمام سبيلنا، والسنة شارحة ومبيّنة؛ فما جعله القرآن أصلاً قطعياً جعلناه كذلك، وما أجمل فيه أجملنا، وما زجر عنه بشدة ننـزجر عنه بشدة، وما عفى عنه لا نتكلف فيه، نستعين بمصنفات المـتأخِّرين لكن لا نجعلها كل شيء؛ فكل مؤلف يكتب متأثراً بواقع عصره، وبعض البدع أو مظاهر الانحراف تكون رائجة في عصر، ثم يأتي عصر يروج فيه غيرها، ومنهج العقيدة والتزكية يجب أن يساير كل مرحلة توجيهاً وتقويماً وضبطاً على جادة التوسط والاستقامة.
ولنضرب مثلاً واحداً لهذا: فقد مر على الأمة قرون كانت الغلبة فيها للتصوف والتقليد المذهبي، فلا يكون علاج ذلك بالجفاف الروحي والاهتمام بالإيمان الظاهر وكيفيات العبادة، مع إغفال الإيمان الباطن الذي هو روح كل عبادة، ولا يكون بالغلو في محاربة التقليد بحيث يؤدي ذلك إلى تنقص الأئمة المتبوعين، وتعالم المتطفلين وفوضى في منهج البحث العلمي.
وهناك جانب مهم يتعلق بالأولويات من جهة والمحكمات من جهة أخرى، وهو أن منهج القرآن والسنة وما كان عليه أئمة السلف البدء والاهتمام بالأصول القطعية والجمل الكلية والشرائع المحكمة، مثل أركان الإسلام والإيمان في الجملة، والتزام السنة جملة، وترك الفواحش عامة، وحسن الخلق مع الناس... ونحو ذلك مما يجب التزامه وإلزام المخالف به، ثم تأتي بعد ذلك مسائل الفروع فتتدرج تبعاً لأدلتها إلى أن تأتي مواضع الاجتهاد التي لا يجوز لأحد أن يلزم غيره فيها أو يهدر حقاً قطعياً ثابتاً -مثل حق المسلم على المسلم- لمجرد الخلاف فيها، ولنا في منهج الخلفاء الراشدين فمن بعدهم من أئمة الصبر واليقين وتعاملهم أسوةٌ؛ فقد قرروا حقائق الإيمان وأظهروا شعائر الدين، وجاهدوا الكفار، وحاربوا البدع، وشددوا النكير على ترك الواجبات، مع سعة الصدر للخلاف في الفروع والمواقف الاجتهادية، وقد وقع بينهم الخلاف في فروع العقيدة من غير تبديع ولا تكفير، مثل رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج، وتعذيب الميت ببكاء أهله عليه، وسماع الموتى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم وغير ذلك.
تلاحظون يا أخي الكريم! أنني ابتعدت عن أصل السؤال؛ ليس هذا مجرد استطراد، بل هو توكيد لأصل المنهج؛ فلدي اعتقاد جازم بأن مشكلتنا في الأصل هي مِنْ فَقْدِ المنهج الصحيح أو التذبذب فيه أو اختفاء بعض معالمه، سواء في العلم أو العبادة أو الجهاد أو التعامل مع المخالف، لا أعني بالمنهج مجرد العلم والعقيدة النظرية، بل الالتزام الكامل علماً وعملاً والتخلق بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح؛ فإن أعمال القلوب التي أفاض فيها القرآن بما لم يفض في غيرها تكاد تفتقد من حياة الدعاة فضلاً عن غيرهم، وذلك مثل الصبر، واليقين، والإخلاص، والصدق، والتوكل، والإخبات، والإنابة، والخشوع، والتواصي بالمرحمة، والتواضع، وحسن الخلق مع الناس، وسلامة الصدر، وانتفاء الغل والحسد، والرفق في الأمور كلها، كل الدعاة والجماعات يشكون من تفرق الأمة وتباغضها؛ لكن كم منهم من يفطن إلى أساس المشكلة، ويبدأ معالجتها بنفسه ومن معه؟
وكثير منهم إذا قلت له: إنك تفرح بمعصية الله ينكرون ذلك، ولكنه لو بلغه ذنب أو بدعة عن أحدٍٍ يخالفه لطار به فرحاً بل قد يتكلف ذلك ويتمحَّله، وبمثل هذه الأمراض الخفية لا تشفى الصدور ولا تسلم القلوب ولا يستقيم منهج الدعوة أبداً.