لعل من المناسب أن ننتقل إلى جانب آخر للانفتاح على الحقيقة والحرية المنضبطة في الإسلام، وهو الانفتاح الفكري والمعرفي، ونضرب لها مثلاً لـه حساسيته وطرافته معاً، ونعني به الحديث عن الجنس وشئونه، فقد ظلت القيم والقوانين الأمريكية تحظر مجرد ذكر الألفاظ الجنسية الصريحة، وتسمية الأعضاء التناسلية إلى مطلع القرن العشرين، أما الروايات الأوروبية التي تصرح بذلك فقد ظل بعضها محظوراً إلى الستينيات، ومن هنا أبان تقرير كينزي الشهير وغيره من التقارير الطبية والاجتماعية -وإلى هذا اليوم- أن كثيراً من الأمريكيين يعانون من جهل شديد بمسائل الجنس!!
هذا في حين أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أعف الناس لساناً، وأجلَّهم أدبا، بيَّن -تفصيلاً- ما يتعلق بذلك؛ بل إن القرآن نفسه يتحدث عن الأمر حديثاً يجمع بين الوضوح والوقار معاً، فالإسلام لا يجعل ذلك في دائرة المباح فقط، بل يجعله من آداب الدين نفسه، ومن المعرفة النافعة التي يحث على الحصول عليها، ولذلك تجده في كتب الفقه كما في كتب الطب سواء، إذ ليس في الإسلام أدنى منافاة بين العلم النافع والدين.
وقد أفرد عدد من المؤلفين المسلمين لذلك كتباً -أو فصولاً من كتبٍ- في القديم والحديث هي في متناول الجميع، وقد أثار مضمونها دهشة المتخصصين من الأطباء المعاصرين؛ حيث وجدوا جمعاً بين الحقائق العلمية في البيولوجيا والفسيولوجيا والتشريح، وبين التوجيه النفسي والسلوكي السليم، مسَطّراً في أسلوب بياني رفيع من غير تزمت ولا إسفاف!!
إن الغرب يعيش ما بين كبت مطبق مستمد من الرهبانية، وإثارة مطلقة مستبدة من الفرويدية وأشباهها، في حين يخلو المجتمع الإسلامي في الجملة من هذين معاً.
  1. الفكر في الحضارة الإسلامية

    وعموماً لم تعرف الحضارة الإسلامية حجراً على العقول أو التأليف في أي شأن بل إن قلة الحوادث التي أحرقت فيها بعض الكتب المخالفة دليل على صحة القاعدة، ولو أن جردانو برونو أو جاليلو وأضرابهم استطاعوا الهجرة إلى أقرب بلد إسلامي لأمكنهم التأليف الحرّ والحياة الآمنة بدلاً من الحرق أو قرار الحرمان، أما سبينوزا فيمكن مقارنته بنظيره في الدين موسى بن ميمون.
    لم يعرف التاريخ الإسلامي ما يشبه المكارثية الأمريكية إلا في مرحلة قصيرة تسلط فيها المعتزلة وهي الفرقة التي تأثرت بالفكر الإغريقي، وسرعان ما انقلبت على تسلطهم الدولة والأمة، أما فكرهم فقاومه أهل السنة بالحجة والبرهان.
    وبما أن إسرائيل هي النموذج الديمقراطي في نظر كثير من الأمريكيين، فنحن ندعو إلى استفتاء يهود "الفلاشا" المهاجرين إليها، عن أيهما أفضل: تعامل المسلمين معهم -في بلادهم وفي داخل إسرائيل- أم تعامل بني دينهم؟
    ولكي نزيد الأمر وضوحاً لا بأس بالإشارة إلى ما حدث ويحدث في دول البحيرات الأفريقية: لقد شكل الإسلام الملاذ الآمن لكلا طرفي الحرب العنصرية المقيتة هناك، وذهل المنصرون الغربيون من دخول نحو أربعة ملايين من كلا القبيلتين المتناحرتين في الإسلام بعد الحرب!
    وفي خطابه الذي ألقاه في مناسبة قومية سنة (2000م) عبَّر الرئيس الراوندي عن إعجابه الشديد بالإسلام، ودهشته البالغة بعظمته وسرعته في نزع فتيل العداوة والبغضاء بين البشر!
    لقد قال لي مفتي رواندا- الذي ترجم لي خطاب الرئيس: "كان الرئيس على وشك أن يعلن إسلامه وأنا أنتظر هذا منه كل يوم".
    وإذا عدنا إلى تاريخ المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية فسوف نجد الأمر مختلفاً جداً:
    فـالولايات المتحدة الأمريكية أسست على تناقض صارخ بين الأخلاق التطهرية -الكالفينية نموذجاً- وبين النـزعة الإبادية التي ذهب ضحيتها ملايين البشر من السكان الأصليين، الأمر الذي يؤكد - وبمساعدة شواهد أخرى - أن المؤسسين استلهموا شريعة التوراة المحرفة في هذه الإبادة الوحشية، بأن ساروا على نفس المبادئ التي تدعي أن الله أمر يوشع أن يسير عليها في محاربة الفلسطينيين.
    وحين تشكَّلَ من المجموعات المهاجرة قوة وطنية، انتقل العنف تلقائياً إلى مواجهة الشعوب نفسها التي قدم منها المهاجرون، ولا سيما الإنجليز، فكانت حرب الاستقلال الأمريكية ثورة البروتستنتي الأبيض على الحكومة البروتستنتية البيضاء، ومن هنا لم يكن لها أي معنى قيمي إلا اطراد مبدأ التوسع والتسلط، ذلك المبدأ المشترك بين الحكومة والمهاجرين.
    ولو كانت المسألة مسألة قيم - كالحرية والديمقراطية - لكان أجدر حكومات الغرب بالطاعة هي الحكومة الإنجليزية! فهي بلا جدال أقدم الحكومات الاستعمارية ديمقراطية، وأكثرها تفهماً للحوار، ومن غير مدح للاستعمار البريطاني: نقول إن الشعوب الأخرى المستعمَرة في العالم استبشرت بانتصار البريطانيين على البرتغاليين والأسبان لهذا السبب. فلماذا إذن ثار الفرع على الأصل؟
    إن الذي أشعل فتيل الثورة هو قانون السكر الصادر سنة (1764م) وضريبة الشاي، واقتتل الطرفان على أرض ليست حقاً لأي منهماً، ولم يكن لحقوق الإنسان من ذكر ولا أثر!!
  2. المساواة ... إلا السود!!

    والضلع الثالث -عدا إبادة الملايين من الشعب الأصلي ومحاربة الحكومة الأم على أساس انفصالي استعماري- هو أبشع الأضلاع التي شكلت الوجود القومي الأمريكي، وهو اصطياد البشر واستعبادهم أرقاء لمجرد أن الله خلقهم بلون آخر!!
    ولا أدري لماذا فات المثقفين الستين الإشادة بالقيم الأمريكية في تحرير العبيد، مع أن هذه الدعوى تشبه دعوى القيم الكونية والحرب العادلة، في أن كلاً منهما يبرر تبريراً متأخراً لواقع مؤلم طويل، لا يمكن تبريره إلا إذا أمكن حجب الشمس براحة اليدين!!
    إن عبارة أن الناس جميعاً خلقوا سواسية، التي صدر بها جيفرسون بيان إعلان الاستقلال،لم تكن في سياق تأسيس أو اكتشاف قيم كونية، إنما كانت ذريعة احتجاجية لمساواة الرجل الأبيض في المستعمرات الأمريكية بالرجل الأبيض في البلد الأم، ولم يدخل فيها أبداً الملونون ولا النساء ولا اليهود، فقد احتاج الأمريكيون إلى قرابة قرنين لكي يصدر قانون الحقوق المدنية وإلغاء التمييز في عهد جونسون.
    وعندما كان المطالبون بإلغاء التمييز العنصري يسعون للحصول على هذا القانون - الذي هو نظري بطبيعة الحال بشهادة الأحداث اللاحقة والمستمرة- كانوا يسعون إلى إلغاء قوانين عنصرية سارية المفعول، يدعمها ركام نفسي هائل، وعلى سبيل التمثيل العاجل نذكر دستور ولاية ميسيسبي:
    (الفصل الثامن، في التربية والتعليم، الفقرة (207):
    "يراعى في هذا الحقل أن يفصل أطفال البيض عن أطفال الزنوج؛ فتكون لكل فريق مدارسه الخاصة".
    الفصل العاشر، في الإصلاحيات والسجون، الفقرة (225):
    "للمجلس التشريعي أن يهيئ الأسباب المؤدية إلى فصل المساجين البيض عن المساجين السود بقدر الطاقة والإمكان"
    الفصل الرابع عشر، أحكام عامة، الفقرة (263):
    "إن زواج شخص أبيض من شخص زنجي أو خلاسي أو من شخص ثُمن الدم الذي في عروقه دم زنجي يعتبر غير شرعي وباطلاً"
    ولعل أعجب ما في قوانين ولاية ميسيسبي النص التالي:
    "كل من يطبع -أو ينشر أو يوزع- منشورات مطبوعة، أو مضروبة على الآلة الكاتبة، أو مخطوطة باليد، تحض الجمهور على إقرار المساواة الاجتماعية، والتزاوج بين البيض والسود، أو تقدم إليه حججاً واقتراحات في هذا السبيل، يعتبر عملُه قباحةً يعاقب عليها القانون، ويحكم عليه بغرامة لا تتجاوز خمسمائة دولار، أو بالسجن مدة لا تتجاوز ستة أشهر، أو بالعقوبتين معاً".
    وفي وثيقة قدمت في شهر شباط (1947م) إلى الأمم المتحدة تحت عنوان (نداء إلى العالم) "نصت (الجمعية الوطنية لترقية الشعب الملون) على أن تشريعات مماثلة لتشريعات ولاية ميسيسبي تطبق في فريجينيا، وكارولينا الشمالية، وكارولينا الجنوبية، وجورجيا، والأباما، وفلوريدا، ولويزيانا، وآركانساس، وأوكلاهوما، وتكساس،. ومثل تلك التشريعات -ولكنها أقل قسوة- تطبق في ديلاوار، وفرجينيا الغربية، وكنتاكي، وتنيسي، وميزوري....
    وهناك ثماني ولايات شمالية تحرم التزاوج بين البيض والسود وهي كاليفورنيا، وكولورادو، وإيداهو، وانديانا، ونبراسكا، ونيفادا، وأوريغون، وأوته..." ويتابع النداء بسط المظالم التي يعانيها الملونون في الولايات المتحدة فيقول:
    "وفي عشرين ولاية من ولايات البلاد يفصل ما بين الطلبة البيض والطلبة السود في المدارس فصلاًُ إلزامياً، أما ولاية فلوريدا فتقضي قوانينها بأن تخزن الكتب المدرسية الخاصة بالطلاب الزنوج بمعزل عن الكتب الخاصة بالطلاب البيض".
    "وفي أربع عشرة ولاية من ولايات البلاد يفرض القانون عزل ركاب القطر الحديدية البيض عن ركابها السود...؛ في حين يفرض القانون إقامة غرف مستقلة للبيض والسود في ثماني ولايات.
    أما في سيارات الأتوبيس فالعزل مطلوب في إحدى عشرة ولاية...".
    "وثمة قوانين تقضي بالفصل ما بين المرضى البيض والمرضى السود في المستشفيات، وفي إحدى عشرة ولاية يفصل ما بين المصابين بالأمراض العقلية على أساس اللون والعرق أيضاً..." " والفصل مطلوب بين البيض والسود في السجون والمؤسسات الإصلاحية في إحدى عشرة ولاية من ولايات الاتحاد"
    ''وثمة قوانين تقضي بعزل البيض عن السود في شؤون كثيرة لا مجال لتعدادها هاهنا، ولكن إيراد بعض الأمثلة قمين بأن يوضح مدى الظلم اللاحق بالعناصر الملونة بقوة القانون.
    ففي أوكلاهوما يفرض القانون إقامة غرف تلفونية مستقلة للزنوج، وفي تكساس يحظر على المصارعين البيض أن ينازلوا المصارعين السود، وفي كارولينا الجنوبية لا يسمح للعمال الزنوج والبيض بأن يقيموا على صعيد واحد في مصانع النسيج القطني، ولا يجوز للزنوج أن يدخلوا أو يخرجوا من الأبواب عينها التي يدخل منها البيض ويخرجون .
    قبل أحداث (11 سبتمبر 2001م) كان لأمريكا سبتمبر آخر له أحداث تاريخية سنة (1957م) حين أمر الرئيس ايزنهاور الفرقة المشئومة (101) باحتلال ولاية أركنساس، وإلغاء جيشها المحلي البالغ (10.000)، وأعلن للشعب أنه اتخذ هذه الإجراءات لرفع وصمة العار التي كشفت للعالم عامة - والعالم الشيوعي خاصة - أن حقوق الإنسان في أمريكا مهدرة؛ حين أصر حاكم الولاية على رفض دخول السود مدارس البيض، وتمرد على حكم المحكمة الاتحادية متذرعاً بأن قرار الاختلاط سيؤدي إلى إشعال الفتنة وإراقة الدماء في الولاية، وقد احتاجت الولاية إلى وضع فترة انتقالية مدتها خمس سنوات ليبدأ قرار الاختلاط في روضة الأطفال سنة 1963م.
    وفي عهد الرئيس بوش (الأب) حدثت واقعة مماثلة لكن في كاليفورنيا كان شرارتها ما وقع للبائس رودني كنغ، حيث اعترف بوش بنفسه بفظاعة ما حدث له حين شاهده مسجلاً في فلم، واجتاحت لوس أنجلوس موجة من الشغب لم تشهد أمريكا لها نظير منذ الستينات، وتكررت المآسي في عهد كلنتون في سنسناتي ونيويورك بما تغني إستفاضته عن ذكره.
    كل حادثة تقع تثير تاريخاً طويلاً من العنصرية المتأصلة التي تدل على أن القيم الأخلاقية شعار ما أسرع ما يُنسى؛ لأن أساس تلك القيم ليس الإيمان الحق بالله تعالى، ومن هنا نقارن بالحال في الإسلام:
    في أكبر حشد عرفه التاريخ العربي القديم حج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجة الوداع التي حضرها ملوك العرب وزعماء قبائلها، وكان الجمع كله حريصاً على رؤية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا سيما ملوك اليمن الذين أسلموا وقدموا من بعيد، وكانت دهشتهم عظيمة حين رأوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأول مرة - لقد رأوا وجه نبي لا وجه ملك ولا هيئته - وكان مردفاً خلفه على راحلته مولاه الفتى الأسود أسامة بن زيد، وهو أمر يستنكف عنه أي سيد عربي -ولو كان الراكب غير عبد- حتى أن أحد الملوك وائل بن حجر رفض قبل ذلك بسنة أن يردف معاوية بن أبي سفيان الذي أصبح خليفة فيما بعد.
    هناك خطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم خطبة عرفها التاريخ عن الحقوق بين الناس تعظيماً وتوكيداً وتفصيلاً.
    ثم أعادها بنحوها اليوم الثاني "العيد"، وفي اليوم الثالث كان مما جاء فيها:
    { أيها الناس! ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى } رواية الإمام أحمد في المسند
    وكان لملك اليمن الشهير ذي يزن حلة فاخرة اشتراها أحد زعماء قريش -قبل إسلامه- وأهداها إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبى أن يأخذها إلا بحقها، فلما اشتراها أهداها لمولاه أسامة بن زيد، وكانت دهشة العرب بالغة حين رأوا حلة ذي يزن يلبسها مولى، وانطلق البائع يعلم الكبراء بهذا الأمر العجيب ، وتحدثت الروايات أن ملوك اليمن أعتقوا آلاف العبيد في ذلك الموسم إيماناً بالله واقتداءً برسول الله، وهكذا نقل الإسلام العرب وغيرهم نقلة هائلة في عالم القيم وذابت الفروق كلها بدون ضجة، فأصبح الذين كانوا عبيداً بالأمس القريب ولاة وعلماء وقادة لهم من الشأن والشرف ما ينافسهم عليه الخلفاء وأبناؤهم، ولو أراد مؤلف أن يجمع ذلك لاحتاج إلى مجلدات عدة. قبل الإسلام كان قانون الغاب هو السائد بين الناس، وبمقتضاه يكون الكف عن العدوان ضعفاً يعاب فاعله، وقد هجا شاعر قبيلة فقال:
    قُبيّلة لا يخفرون بذمة            ولا يظلمون الناس حبة خردل
    لكن القرآن الذي تربى عليه أصحاب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علّمهم أن القوة في الثبات على الحق (( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ )) [الاحقاف:35]
    وفي التحكم في النوازع قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} متفق عليه.
    وهكذا أصبح العدل والإحسان والانتصار للمظلوم هي الأسس التي يتركب منها معيار الحكم على المجتمعات.
    لقد هاجرت طائفة من المسلمين الأوائل إلى الحبشة هرباً من اضطهاد المشركين فلما عادوا -بعد غياب طويل- سألهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحدثوه بأعجب ما رأوا في تلك البلاد فقالوا:
    { يا رسول الله! بينما نحن جلوس مرت علينا عجوز من عجائزهم تحمل على رأسها قلة من ماء، فمرت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها على ركبتها، فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت (قامت) التفتت إليه ثم قالت: ستعلم ياغُدَر إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون -فسوف تعلم أمري وأمرك عنده غداً، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقتْ ثم صدقت! كيف يقدّس الله قوما لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم}.
  3. لا يستويان

    هل كان عدد الجماجم البشرية التي قامت عليها (الامبراطورية الرومانية المعاصرة ) من الهنود والمستعبدين عشرة ملايين أو عشرين؟
    وإذا أضفنا من هلك من المستعبدين في الطريق أو أثناء اصطيادهم فهل يبلغون (40مليوناً) أو (100مليون)؟
    تختلف التقديرات، ونحن لا يهمنا الرقم لذاته فإن كتاب الله تعالى قد قرر حكماً قاطعاً أنه من قتل نفساً واحدة بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً!!
    إن العذر الجاهز لدى الأمريكيين عن هذه الفظائع الهائلة هو أن بعض الأمريكيين دعا إلى تحرير العبيد وحارب دعاة الرق وانتصر في النهاية.
    ويغالطون عمداً في تفسير دوافع التحرير!
    إنها ليست الاعتقاد بالمساواة والكرامة كما يزين ذلك بعضهم، فإن أياً من الطرفين لم يجادل في كون العبيد أحط من البيض!! ولكن الاختلاف هل هذا الجنس المنحط يستحق أن ينال استقلالاً؟
    وهل الأنفع لسمعة البلاد واقتصادها أن يعطى ذلك؟
    إن هذه النظرة المقيتة وصلت -وبقيت إلى حد يصعب على المسلمين- خاصة تصديقه، وهو قيام دور العبادة نفسها على التميـيز لكل طرف كنائسه، أما وجود قسيس أسود لكنيسة بيضاء فهو ضرب من الخيال.
    وهناك حقائق واقعية أشكل على المسلمين تفسيرها، فقد لاحظ الدعاة المسلمون في السجون الأمريكية -وعملهم شاهد قائم بذاته على عظمة القيم الإسلامية وضرورتها لإصلاح البشر- ارتفاع نسبة المسجونين من السود في قضايا الإدمان، وهو ما يناقض المعلومات الرسمية من وزارة الصحة الأمريكية، التي تقول: إن مدمني المخدرات من البيض خمسة أضعاف السود، وانحل الإشكال جزئياً حين علموا أن دوريات الأمن تجوب الأحياء لهدف مزدوج: حماية حرية البيض، وكشف جرائم السود، لكن كيف يمكن فهم ما جاء في الإحصاءات من أن المعتقلين السود -في السبعينيات- كانوا ضعف البيض ثم أصبحوا في التسعينيات خمسة أضعافهم؟!
    هنا جاء الجواب: أن السود من حيث هم فقراء يتعاطون نوعاً رخيصاً من المخدرات بخلاف البيض الذين يتعاطون نوعاً غالياً، وقرر المشرعون في الكونغرس أن تكون العقوبة على تعاطي الرخيص أغلظ.
    وبهذا الظلم القانوني -إن صح التعبـير- أضيف سبب آخر لزيادة عدد السود وانحل الإشكال.
    عندما أصبحت رواية جذور فيلماً أكدت الإحصائيات أن الذين شاهدوه كانوا مائة وثلاثين مليوناً من الأمريكيين! لماذا؟
    لم يكن ذلك لمجرد أن المأساة بالغة الفظاعة؛ بل بسبب الصدمة، لأن مأساة بهذا الحكم كانت مغلّفة بشعارات رنّانة ردحاً من الزمن!!
    لقد نكأ الفيلم جرحاً غائراً في الضمير الإنساني الذي سرعان ما يمزق أغشية التضليل والزيف عند بزوغ فجر الحقيقة.
    وفقاً للرواية اكتشف الكاتب أنه مسلم -لأن جده الذي اصطاده المتحضرون البيض كان مسلماً- واستطاع أن يجمع خيوط القضية حتى اجتمع بقرابته المسلمين في غمبيا بعد سبعة أجيال، وحدثوه عن جده المخطوف نفس الحديث الذي حدثته عنه جدته في أمريكا!!
    حين وصل كولومبس إلى شاطئ مورو في كوبا رأى مئذنة فصاح: "يا إلهي حتى اليابان فيها مساجد!! ".
    نعم لقد كانت مساجد على الطراز الأندلسي مكتوب على محاريبها "لا غالب إلا الله".
    لقد كان المسلمون أول ضحايا الإبادة العرقية على ضفتي الأطلسي، على الضفة الشرقية كانوا يُصطادون ويُستعبدون، وعلى الضفة الغربية كان المسلمون الهنود يُبادون ضمن حملة الإبادة على السكان الأصليين.
    واليوم يعتقد ملياران من البشر تختلف ألوانهم ويتفق دينهم أن أمريكا تأمل أن تستعبدهم وتسعى لذلك -لكن بوسائل وشعارات أكثر تطوراً- وأن أحفادهم يوماً ما سيتذكرون ذلك وربما ينتقمون؟
    وفي أفغانستان من هم أقرب أملاً من ذلك، إنهم يعتقدون أن الملا محمد عمر سيعود كما كان، ويصبح جورج بوش لا شيء في بضع سنين ولله الأمر من قبل ومن بعد.