المادة    
من الأئمة من روى حديث أبي رزين مختصراً، ومنهم من رواه مطولاً، وسوف نشرح الحديث الطويل لما فيه من الحكم والعظات البليغة.
  1. قدوم بني المنتفق على رسول الله صلى الله عليه وسلم

    يقول ابن القيم :
    "فصل في قدوم وفد بني المنتفق على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    روينا عن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في مسند أبيه"، وهو في (4/11، 12) وذكره أيضاً في كتاب السنة بتحقيق الدكتور محمد بن سعيد القحطاني رقم (1120).
    "قال: كتب إليَّ إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزبير الزبيري، قال: كتبتُ إليك بهذا الحديث وقد عرضته وسمعته على ما كتبتُ به إليك، فحدِّث بذلك عني، قال: حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي "، فقد قال الإمام عبد الله بن الإمام أحمد كتب إليَّ فلان، لكن غيره كالإمام أبي بكر بن خزيمة وابن أبي عاصم في السنة روياه بسند مباشر بصيغة التحديث، فلم يقولا: كتب إلينا، لكن أسانيدهم تلتقي عند عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي.
    قال: "حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي، حدثنا عبد الرحمن بن عياش السمعي الأنصاري، عن دَلْهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي، عن أبيه، عن عمه لقيط بن عامر، قال دلهم : وحدثنيه أيضاً أبي الأسود بن عبد الله، عن عاصم بن لقيط، أن لقيط بن عامر .."، وكنيته أبو رزين العقيلي، وهو من زعماء بني المنتفق، وهم من قبائل اليمن، من مذحج، قريباً من قبائل خثعم، وقد جاء على وفد قومه.
    قال: "أن لقيط بن عامر خرج وافداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه صاحب له يقال له: نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق، قال لقيط : فخرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافيناه حين انصرف من صلاة الغداة، فقام في الناس خطيباً، فقال: {أيها الناس! ألا إني قد خبأت لكم صوتي منذ أربعة أيام، ألا لتسمعوا اليوم، ألا فهل من امرئ بعثه قومه}، وقد كانت الوفود في تلك الأيام تقدم المدينة، وذلك عندما دخل الناس في دين الله أفواجاً، فجاءت الوفود تلو الوفود ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخطب مدة أربعة أيام، حتى تجتمع الوفود ليخطب فيهم بموعظة بليغة عامة فيسمع الجميع.
    قال: {ألا لتسمعوا اليوم، ألا فهل من امرئ بعثه قومه}، أي: فليسمع وليبلغ قومه.
    {فقالوا له: اعلم لنا ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا ثَمَّ رجل لعله يلهيه حديثُ نفسه، أو حديث صاحبه، أو يلهيه ضال، ألا إني مسئول، هل بلغت؟ ألا اسمعوا تعيشوا، ألا اجلسوا}، يحذرهم النبي صلى الله عليه وسلم من الاشتغال بغيره عندما يتكلم بهذا الكلام العظيم، وبهذه الموعظة البليغة.. أن لا يشغل أحداً منهم حديثُ نفسه أو حديث صاحبه، فلا يعي ما يقوله صلى الله عليه وسلم، أو يلهيه ضال شيطان من شياطين الجن أو الإنس فلا يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    قال: {ألا اجلسوا، فجلس الناس، وقمت أنا وصاحبي، حتى إذا فرغ لنا فؤاده ونظره}، لقد كانوا متشوفين متطلعين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقام هو وصاحبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (حتى إذا فرغ لنا فؤاده ونظره)، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ركز فؤاده وصوب نظره على هذين الرجلين.
  2. مفاتيح الغيب التي استأثر الله بعلمها

    {قلت: يا رسول الله! ما عندك من علم الغيب؟ فضحك لعَمْرُ الله وعلم أني أبتغي السقطة}، أي: أسأل في الشيء الذي لا ينبغي أن أسأل عنه ولا أتكلم فيه، وعلم أني أريد أن أرى جوابه صلى الله عليه وسلم.
    فقال: {ضن ربك عز وجل بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله}، أي: استأثر الله عز وجل بمفاتيح خمسة أمور لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى.
    {وأشار صلى الله عليه وسلم بيده -يعني: خمساً- فقلت: وما هن يا رسول الله؟ قال: علم المنية، قد علم متى منية أحدكم، ولا تعلمونه}، قال تعالى: ((وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ))[لقمان:34]، فلا يدري أحد كيف تكون منيته؟ ولا متى يكون موته وأجله؟ فإن علم المنية مما استأثر الله بعلمه، فلا يعلمه أحد غيره، قال: {وعلم المنيّ حين يكون في الرحم، قد علمه وما تعلمونه}، أي: علم مآل صاحبه في السعادة والشقاء، والهداية والضلال، وعلم عمره ورزقه، وعلم خلقته وخاتمته، كما ورد {أن الملك يؤمر بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد}، وهذه الأمور التي لا يمكن أن يعلمها أحد إلا الله سبحانه وتعالى وليس الأمر مقتصراً على معرفة أذكر هو أم أنثى؟! كما يظن بعض الناس، بل إن الله سبحانه وتعالى يعلم عنه كل شيء.
    قال: {وعلم ما في غدٍ، قد علم ما أنت طاعم ولا تعلمه}.
    انظر إلى هذا المربي العظيم والمعلم الجليل صلى الله عليه وسلم! كيف يضرب مثلاً بالشيء الواقعي! فمهما كان هذا الإنسان مثقفاً كبيراً، أو جاهلاً عادياً، فإنه يحتاج إلى الطعام، وكل الناس يحتاجون إليه، حتى الكفار الذين يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام، يحتاجونه، وهم غافلون عنه، فيقول: إن الذي يعلم الغيب هو الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك أنك لا تعلم أمر مستقبلك، فما تدري ماذا ستجني غداً؟ وماذا سيعرض لك؟ وماذا ستأكل؟ وقد لا تأكل.
    قال: {وعلم يوم الغيث، يشرف عليكم أزلين مشفقين}.
    (أزلين): أي: قانطين يائسين هلعين مترقبين.
    و(مشفقين): أي: وجلين ليس عندهم شيء، فهم يشتكون القحط، ويتضرعون ويلجئون إلى الله؛ وذلك لعدم الغيث، وهم في سنة قحط مجدبة، وفي حالة ضنك، ومع ذلك فالغيث قريب، لكن من يعلم أنه قريب؟ إنه الله سبحانه وتعالى، فإذا أنزل الغيث فإذا هم يستبشرون بعد أن كانوا قانطين مشفقين.
    يقول: {فيظل يضحك، قد علم أن غوثكم إلى قريب}، فالله تعالى يضحك من قنوط الناس، في حالة قحطهم وجدبهم، وكان عليهم أن لا يقنطوا؛ لأنه سبحانه سيغيثهم عما قريب.
    قال لقيط {فقلت: لن نعدم من رب يضحك خيراً يا رسول الله!}، الله أكبر! هذه هي نظرة العرب الأصيلة، وهي من مكارم الأخلاق عندهم، فكيف بالله سبحانه وتعالى الذي له صفات الكمال؟ فالإنسان الكامل الخُلُق يستقبل ضيوفه بالفرح والبشاشة، أو إذا رأى حالهم ضحك لهم، وهذا دليل على أنه سوف يعطيهم ويجود عليهم، فكيف بمن له صفة الكمال سبحانه وتعالى ولا يملكها أحد سواه؟ فيقول: (لن نعدم من رب يضحك خيراً)؛ لأن رحمته عز وجل سبقت غضبه، فإذا كان الله عز وجل يضحك فلن نعدم منه خيراً، وإن قنطنا وجزعنا وأجدبنا، فالخير قادم ورحمته واسعة.
    قال: {وعلم يوم الساعة}، فيوم الساعة لا يمكن أن يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. {قلنا: يا رسول الله! علمنا مما تُعلِّم الناس وتعلم، فإنا من قبيل -أي: من قبيلة- لا يصدقون تصديقنا أحداً. من مذحج التي تربو علينا، وخثعم التي توالينا، وعشيرتنا التي نحن منها}، أي: أن هذه الثلاث القبائل لا تصدق أحداً مثلما تصدقنا؛ وذلك لما لنا عندهم من مكانة ومعرفةٍ وشهرة بالصدق والأمانة، وبالخصال الشريفة، يقول: علَّمنا وسننقل ذلك إلى هذه القبائل الثلاث: إلى قومنا بني المنتفق، وإلى خثعم ومذحج، فإن هذا الخير سوف يعم بإذن الله هذه القبائل كلها.
    وهكذا كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، يتعلمون عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرجعون لينذروا عشيرتهم وقومهم، قال تعالى: (( وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ))[التوبة:122] ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ يخبرهم بهذه الأمور العجيبة الغريبة.