سبق إيضاح أن حقيقة الإيمان هي أنه: (قول وعمل) وأن ذلك مجمع عليه بين السلف، متواترة على تأييده النصوص، متضافرة عليه الأدلة، لم يخالف فيه إلا مبتدع متنكب طريق الحق، معرض عن دلالات نصوص الوحي وشواهد العقل والفطرة إلى ما نضحت به أذهان الفلاسفة والمناطقة، وتعمقت فيه أوهام المتكلمين والمجادلين.
كما سبقت الإشارة -أو الإشارات- إلى أن هذين الركنين -أوالشطرين- " القول والعمل " تتكون منهما حقيقة واحدة جامعة لأمور متعددة، مثلما تتركب حقيقة الإنسان من الجسد والروح، بحيث يكون فقدان أحدهما بالكلية نفياً للحقيقة ذاتها.
ومن هنا كان القول والعمل -بالمعنى الذي سبق شرحه في موضعه- شطرين متمازجين متساويين في ضرورة الوجود وقوة الاشتراط، فكما أنه لا يصح وجود عمل لا قول معه قط، لا يصح كذلك وجود قول لا عمل معه قط.
وهذا ما تضمنته الفصول التي عقدت لبيان علاقة عمل القلب بقول اللسان، وعلاقة عمل الجوارح بأعمال القلب، وأثر كل منهما على الآخر، وهو ما نريد إيضاحه هنا منفرداً، فنقول:
إن أصل الخلاف بين أهل السنة والمرجئة في موضوع العمل هو أن المرجئة لا يقرون بهذه العلاقة التركيبية، بل يعتقدون أن الإيمان شيء واحد؛ هو تصديق القلب دون سائر أعمال القلب والجوارح -كما سبق مراراً- وهم يوافقون على أن من أتى بجميع أعمال الجوارح الواجبة والمستحبة ظاهراً، لكن قلبه مع ذلك خال من الإيمان أنه لا يكون مؤمنا، وذلك باستثناء الخلاف اللفظي الذي شذت به الكرامية، حيث تطلق عليه اسم الإيمان مع إقرارها أنه كافر مخلد في النار، فخالفوا في الاسم لا في الحكم ولكنهم يخالفون في عكس هذه القضية وهي أن أحداً لم يعمل عملاً من الأعمال الواجبة الظاهرة قط، حتى إنه لم ينطق بكلمة الشهادة؛ هو مع ذلك مؤمن كامل الإيمان.
وهي القضية التي ينفي أهل السنة وجودها في الواقع أصلاً -كما سنرى- والفرق بينها وبين القضية الأولى التي يقر بها المرجئة من حيث الوجود والعدم يرجع إلى الفرق بين مفهوم الإيمان المفترض وجوده عند الطائفتين، فلما كان الإيمان عند المرجئة هو التصديق على النحو الذي فسروه به، لم يصعب عليهم تصور وجوده مع فقد كل الأعمال الواجبة، لكنه لما كان عند أهل السنة له معنى آخر مركب، لم يتصوروا أن يوجد باطن الإيمان ولا يوجد شيء من ظاهره؛ لأن ذلك من قبيل افتراض وجود الأصل اللازم والعلة التامة، مع انتفاء الملزوم والمعلول، فهو نفي لتلك العلاقة التركيبية المزجية.
وهذا ما قرره السلف كثيراً؛ كقول أبي ثور في إلزام المرجئة : '' أرأيتم لو أن رجلاً قال: أعمل ما أمر الله به ولا أقر به، أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: لا. قيل لهم: فإن قال: أقر بجميع ما أمر الله به ولا أعمل منه شيئاً أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: نعم، قيل لهم: ما الفرق وقد زعمتم أن الله عز وجل أراد الأمرين جميعاً، فإن جاز أن يكون بأحدهما مؤمناً إذا ترك الآخر جاز أن يكون بالآخر مؤمناً -إذا عمل ولم يقر- لا فرق بين ذلك ''.
وسيأتي ما يؤيده من نصوص وآثار، والمقصود هو بيان أصل النزاع في المسألة، ويمكن تحرير ذلك باستخدام السبر والتقسيم فيقال:

إن تعلق العمل بالإيمان منحصر في أربع حالات لا خامس لها:
1- أن يجتمعا معاً، أي: إيمان القلب وعمل الجوارح.
2- أن ينتفياً معاً.
3- أن توجد أعمال الجوارح مع انتفاء إيمان القلب.
4- أن يوجد إيمان القلب مع انتفاء عمل الجوارح.
فأما القضية الأولى فمتفق عليها (مؤمن).
وأما القضية الثانية فمتفق عليها (كافر).
وأما القضية الثالثة فمتفق عليها (منافق).
وأما القضية الرابعة فهي المختلف فيها.
فـالمرجئة يلحقون حكمها بحكم الأولى، بل يقولون: إن إيمان من تنطبق عليه القضية الأولى كإيمان من تنطبق عليه الرابعة سواء بسواء؛ إذ الأعمال عندهم خارجة عن الإيمان، والإيمان شيء واحد، لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل الناس فيه -كما سبق بيانه- فهو لدى الاثنين سواء، بل قالوا ما هو أسوأ من ذلك؛ وهو أن ارتكاب جميع المحرمات، وترك جميع الطاعات لا يذهب شيئاً من الإيمان؛ إذ لو ذهب منه شيء لم يبق منه شيء.
وهذا القدر المشترك بينهم كاف في الرد عليهم جميعاً رداً واحداً، أي: من يعتبر النطق ومن لا يعتبره .
وأما أهل السنة والجماعة فينفون وجود الحالة الرابعة في الواقع أصلاً؛ بناء على مفهومهم الخاص للإيمان.
فتبين أن فساد تصور المرجئة للإيمان أدى بهم إلى تصور هذه الحالة، وعليه: فبيان خطأ قولهم هذا يستلزم فساد تصورهم للإيمان بلا ريب، وأن الإيمان الذي يتكلمون عنه ويصفونه ليس هو الإيمان الشرعي بحال.
كما أنه يدل على تناقض من وافقهم من الفقهاء المنتسبين إلى السنة والأئمة في بعض الأحكام الظاهرة، كالقول بأن تارك الصلاة المصر على تركها حتى ضربت عنقه بالسيف إنما قتل حداً؛ إذ إن مذهب المرجئة في حكم تارك الصلاة يتفق ومفهوم الإيمان عندهم، لكن من يعتقد أن الإيمان قول وعمل -ويكون ذلك مذهب إمامه- كيف يوافقهم على أن تارك جميع العمل لا يكفر، إلا إذا انتفى منه تصديق القلب -أي: كان مستحلاً أو غير مقر بالوجوب- ويوافقهم على أن شاتم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومهين المصحف عمداً وقاتل النبي كافر ظاهراً، ويجوز أن يكون مؤمناً في الباطن؟!
و أهل السنة حين يقرون أن ترك العمل ترك لركن الإيمان الذي لا يكون إلا به، لا يعتمدون على تفلسف أو نظريات ذهنية، وإنما ينطلقون من منطلق واقعي وعلمي في غاية الوضوح؛ وهو أن هذه الحالة الرابعة لا وجود لها في واقع الجيل الأول، ولا في تصوره، وكذا لا وجود لها في الواقع النفسي المحسوس، كما لا يمكن أن تتفق مع حقيقة الإيمان الشرعية التي تشهد النصوص بأنها مركبة من القول والعمل معاً، كما لا تتفق مع النصوص الأخرى الكثيرة في حكم التولي عن طاعة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وترك الامتثال لأوامره، والتخاذل عن القيام بفرائضه.
وهو كذلك مناقض لما ورد عن السلف الأخيار، والأئمة الأعلام في هذا الأمر.
ومع تقدم إيضاح بعض هذه الاستدلالات نزيد هنا بإيضاح البعض الآخر -مع التذكير بما سبق- فنقول:
  1. أولاً: ترك العمل في ضوء واقع الجيل الأول، وحقيقة النفس الإنسانية

    إنه مع غض النظر مطلقاً عن جدل الفرق في النصوص، وتعارضها -في نظرهم- وخلافات الفقهاء المتأخرين في فهمها، يظل المعيار الحقيقي للحكم على أي حالة هو معيار الصدر الأول، وواقع السلف الصالح قبل اختلاف الأمة، بل في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    وهذا المعيار -على وضوحه- هو أيسر المعايير وأصدقها، والفطرة الإيمانية تعرفه أكثر مما يعرف الذهن الجدل الكلامي والخلافات المتشعبة.
    وذلك أن ينظر المؤمن إلى الحالة المراد معرفة حكمها، متصوراً أنها وقعت في الصدر الأول، ويفكر ويتدبر ماذا يمكن أن يحكم به عليها ذلك الجيل القدوة، أو ماذا يمكن أن يكون وضعها لو وجدت فيه وعاشت معه؟
    وسيجد الجواب بإذن الله أيسر وأقرب مما يجده في عويص الخلافات ودقائق الترجيحات التي لا يستطيع أن يخوض غمارها كل أحد.
    فما حكم ترك العمل في ضوء ذلك؟
    أي: ما حكم رجل عاش في ذلك الجيل الحي العامل المجاهد منتسباً إليه بالاسم، مقراً بصدق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باللسان ولكنه مع ذلك لا يؤدي فريضة من فرائض الله، ولا يجتنب معصية من معاصيه، ولا يحكم بما أنزل الله، ولا يتبع ما أنزل الله فيما يأتي ويدع من أعمال، فلا يصلي، ولا يصوم، ولا يزكي، ولا يحج، ولا يوالي المؤمنين ولا يجاهد معهم، ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا يشارك بأي مشاركة إيمانية في ذلك المجتمع الأول، إلا أنه رأى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآيات صدق نبوته الباهرة، فأقر في قلبه، وزاد على ذلك بالتلفظ بالشهادتين بلسانه؟
    الحق أنه لا يصح أن يُسأل عن موقع هذا الرجل في صفوف المؤمنين، بل الصحيح أن يُسأل أيمكن أن يوجد في صفوف المنافقين؟!
    فالمنافقون -كما أشرنا سلفاً، وكما هو صريح القرآن- كانوا يجاهدون وينفقون ويصلون، ويشهدون مواقف الرعب والهول التي تكتنف الجماعة المسلمة الناشئة، فهل عاش أو يتصور أن يعيش بينهم هذا الذي لا صلاة له، ولا جهاد، ولا نفقة، ولا مشاركة للمؤمنين في عمل قط، ولو في الظاهر؟
    بل نقول: إنه وجدت حالة أفضل من حالة هذا الرجل بكثير، وهي حالة رجل دافع عن الدعوة وحمى صاحبها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشاركه في مواقف الصبر والاضطهاد، معترفاً في قرارة نفسه بصدق نبوته وصحة ما جاء به في شعره، ومع ذلك مات كافراً، وهو من أهل النار بنص الخبر الصحيح -أعني: أبا طالب عمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
    فإن قالت المرجئة : إنما كفر أبو طالب لامتناعه عن قول الشهادة عند الموت، وقوله: هو على ملة عبد المطلب.
    قلنا: ما تزال الحجة قائمة عليكم، وذلك أنه لو كان مؤمناً من قبل، ناجياً عند الله في الآخرة -كما تقولون في حكم من لم ينطق الشهادة- لما احتاج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعرض عليه ذلك قائلاً: {يا عم قل: لا إله إلا الله. كلمة أشهد لك بها عند الله}
    فلما عرض عليه ذلك وألح عليه علمنا أنه لم يكن قبل ذلك مؤمناً ولا موعوداً بالنجاة قط، ولو كان كذلك لكان امتناعه عن الشهادة معصية فقط، كما قد صرح بعضكم في حق الممتنع عنها!!
    فإذا كان هذا حاله، فكيف حال من لم يعمل شيئاً قط إلا التصديق القلبي بصدق الرسول، أو أضاف إلى ذلك كلمة الشهادة مجردة عن أعمال القلب والجوارح؟!
    وإن في أقسام الناس على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يدل على ما قررناه بجلاء؛ وذلك أنهم لم يكونوا سوى ثلاثة أقسام:
    1- عامل بجوارحه مؤمن بقلبه وهم المؤمنون.
    2- عامل بجوارحه كافر بقلبه وهم المنافقون.
    3- كافر بجوارحه وبقلبه وهم الكافرون.
    روى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في كتاب الإيمان بسند صحيح إلى أبي قلابة التابعي أنه قال: [[ حدثني الرسول الذي سأل عبد الله بن مسعود فقال: أنشدك بالله أتعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ثلاثة أصناف:
    مؤمن السريرة مؤمن العلانية.
    وكافر السريرة كافر العلانية.
    ومؤمن العلانية كافر السريرة.
    فقال عبد الله: اللهم نعم
    ]]
    فلم يكن في واقع الجيل الأول ولا في تصوره وجود لمؤمن السريرة كافر العلانية، أي التارك للإيمان بجوارحه المؤمن بقلبه -كما تزعم المرجئة
    وانطلاقاً من هذا يقول الخطابي: ''قد يكون المرء مستسلماً في الظاهر غير منقاد في الباطن، ولا يكون صادق الباطن غير منقاد في الظاهر'' .
    ولهذا ينقد شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية بقوة العبارة التي يستخدمها بعض الفقهاء في حق من صدرت منهم أعمال كفرية صريحة، وهي قولهم: " كافر ظاهراً مؤمن باطناً " مبيناً أنها لوثة من لوثات الإرجاء .
    وأما حقيقة النفس الإنسانية، فغني عن البيان والإعادة أن نقول: إن الإنسان لا يمكن أن ينفصل عمله عن همه وإرادته بحال؛ إذ الأعمال ما هي إلا الأثر الظاهر للهم والإرادة، ولا يتصور منافاتها لذلك مطلقاً.
    غير أن من المهم هنا أن نعرج على الحالة المعاكسة - أي: حالة المنافق الذي يستسلم ظاهراً وهو غير منقاد باطناً؛ لنبين أن ذلك لا يتعارض مع هذه الحقيقة؛ وذلك أن أعمال المنافق هي بلا ريب أثر ما في قلبه؛ فقد يقال: لِمَ لَم يتلازم الظاهر والباطن في حقه، إذ نراه على ظاهر يخالف باطنه؟
    والجواب: إن القاعدة صحيحة، وإن التلازم ثابت؛ فإن الالتواء أو التذبذب الخارجي هو أثر الالتواء والتذبذب الباطني المطابق له، والمنافق في الواقع ونفس الأمر ليس منقاداً لا ظاهراً ولا باطناً، فهذا هو حكمه عند الله الذي يعلم الأمور على حقائقها.
    ومخالفة ظاهره لباطنه إنما هي في عملنا البشري القاصر، حيث يمكن أن يحجبنا بتصنعه وتكلفه أعمال الإيمان الظاهرة عما في قلبه من الكفر، ومع ذلك فليس الأمر على إطلاقه، فبصيرة المؤمن لها أثر في معرفة المنافق، ولحن القول لا ينفك ينبئ عن المنافقين بين الحين والحين، كما أن اعوجاج المظهر من لوازمهم المعلِمة عن حقيقة المخبر، ولولا وجود ضعاف الإيمان من غير المنافقين لكان أمرهم أجلى حداً، فأعمال المنافقين لا تشتبه وأعمال السابقين، وإنما تشتبه بأعمال هؤلاء.
  2. ثانياً: بعض النصوص الشرعية في حكم ترك العمل

    وردت آيات وأحاديث كثيرة في أن العمل لا ينفك عن الإيمان الباطن، وأن العمل الصالح هو مناط النجاة في الدنيا والآخرة، فهو الذي ينجي في الدنيا من سيف أهل الإيمان، وينجي يوم القيامة من عذاب النيران، ولم يعلق ذلك بأحد ركني الإيمان دون الآخر، إلا أن المنافق ينجو من السيف ما دام نفاقه سراً، فإذا أظهره فهو الزنديق الذي تكلم العلماء في أحكامه بما لا يسعه المقام، وهذا دليل على التلازم والتركيب.
    وأنا أذكر بعض ما استدل به السلف في ذلك -فهم أعلم الناس بدلالات النصوص- فمن ذلك قوله تعالى: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ))[البينة:5] وبهذه الآية استدل عليهم التابعي المشهور عطاء بن أبي رباح، وتبعه الشافعي والحميدي والإمام أحمد.
    ففي قصة سالم الأفطس المرجئ، التي نقلناها سابقاً ''يقول الراوي: فدخلت على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابي، قلت: إن لنا حاجة فأدخِلْنا، ففعل، فأخبرته أن قوماً قبلنا قد أحدثوا، وتكلموا وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين.
    فقال: أوليس الله يقول:
    ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)).
    فالصلاة والزكاة من الدين.
    وتبعه الشافعي، فقال للحميدي: ما يحتج عليهم -يعني: أهل الإرجاء- بآية أحج من قوله تعالى: (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ... )) الآية '' .
    وتبعه الحميدي والإمام أحمد، فقد روى الخلال عن عبد الله بن حنبل عن ابن إسحاق بن حنبل قال: قال الحميدي : '' وأخبرت أن أقواماً يقولون: إن من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج، ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، ويظل مسنداً ظهره مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن -ما لم يكن جاحداً- إذا علم أن ترك ذلك فيه إيمانه، إذا كان مقراً بالفرض واستقبال القبلة.
    فقلت: هذا الكفر بالله الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعل المسلمين، قال الله عز وجل: (( حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ))[البينة:5].
    قال حنبل: قال أبو عبد الله ( يعني: الإمام ): من قال هذا فقد كفر بالله، ورد على الله أمره، وعلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما جاء به '' .
    فانظر إلى هذا الحزم والوضوح، مع تصريحهم بأنه مقر غير جاحد، ومع أن الكلام ليس فيمن عرض على السيف فأصر على الترك!!
    وقال الإمام الآجري رحمه الله: ''فالأعمال بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان، فمن لم يصدق الإيمان بعمله؛ مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه، ورضي لنفسه بالمعرفة والقول دون العمل لم يكون مؤمناً، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيباً منه لإيمانه، وكان العمل بما ذكرنا تصديقاً منه لإيمانه، فاعلم ذلك.
    هذا مذهب علماء المسلمين قديماً وحديثاً، فمن قال غير هذا فهو مرجئ خبيث، احذره على دينك، والدليل على هذا قول الله عز وجل: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ))[البينة:5] '' .
    2- ومما استدل به السلف عليهم قوله تعالى: ((لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ))[البقرة:177].
    كما سبق في الاستدلال بها، وقد جعلها البخاري عنواناً لباب أمور الإيمان وقوله تعالى: (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ )) وذكر الآية.
    3- ومما استدلوا به آيات سورة التوبة، ومعلوم أنها من آخر ما نزل، وهي قوله تعالى: ((فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ))[التوبة:5].
    ثم قال بعدها: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ))[التوبة:11-12].
    فجعل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع الإيمان بالله وترك الشرك شرطاً في تخلية السبيل، وعصمة الدم، واستحقاق الأخوة من المؤمنين، وجعل نقض ذلك موجباً للقتال على الكفر.
    ولهذا قال أنس -رضي الله عنه- وهو ممن أدرك ظهور المرجئة: [[ هو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم، قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء؛ وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل الله، قال الله: (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ))...إلى أن قال: توبتهم خلع الأوثان وعبادة ربهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم قال في آية أخرى: (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ))[التوبة:11] ]]
    قال الحافظ ابن كثير في تفسيرها: '' ولهذا اعتمد الصديق -رضي الله عنه- في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها؛ حيث حَرَّمت قتالهم بشرط هذه الأفعال، وهي الدخول في الإسلام والقيام بأداء واجباته، ونبه بأعلاها على أدناها، فإن أشرف الأركان بعد الشهادة الصلاة التي هي حق لله عز وجل، وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء أو المحاويج، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين، ولهذا كثيراً ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة.
    وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة...} الحديث.
    وقال أبو إسحاق: عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: [[ أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن لم يُزكِّ فلا صلاة له ]] .
    وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: [[ أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه...]] .
    إلى آخر ما ذكر -رحمه الله- من أحاديث وآثار؛ هي مستند الإجماع الذي انعقد بين الصحابة بعد المناظرة الوجيزة بين الفاروق والصديق، ثم ظل من أعظم آحاد الإجماع ثبوتاً، حتى لقد قال الصحابة: [[ لو أطاعنا أبو بكر كفرنا ]]
    لقد كان الصحابة رضي الله عنهم أجلّ وأفقه من أن يقولوا: نسألهم، فإن كانوا مقرين بوجوبها مع الامتناع عن أدائها بالكلية فهم مسلمون، وإن كانوا جاحدين لوجوبها فهم مرتدون، ولكل حالة أحكامها!!
    فقد انعقد إجماعهم على أن الامتناع عن أدائها بالكلية -وهو الواقع من المرتدين- وليس عن دفعها للإمام هو ردة صريحة، تتضمن إسقاط حق الله في المال، والتفريق بين الصلاة والزكاة، وهم لم يخالف أحد منهم قط في تكفير تارك الصلاة- ولذا ألزمهم الصديق رضي الله عنه وعنهم، حتى انعقد إجماعهم على هذه، كما انعقد على تلك، وبناءً على ذلك سمو الممتنعين عن أداء الزكاة مرتدين في كل النصوص الواردة عنهم، وقاتلوهم قتال سائر المرتدين - أي: كمن ادعى نبوة مسيلمة وسجاح والأسود، دون تفريق بينهم في شيء من أحكام القتال، وشهد لهذا فقهاء السلف، كما قال الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلامّ رحمه الله:
    '' والمصدق لهذا: جهاد أبي بكر الصديق -رحمه الله تعالى- بالمهاجرين والأنصار على منع الزكاة، كجهاد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل الشرك سواء، لا فرق بينهما في سفك الدماء وسبي النساء واغتنام المال، فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها '' .
    قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: '' والصحابة لم يقولوا: أأنت مقر لوجوبها أو جاحد لها؟ هذا لم يعهد عن الخلفاء والصحابة، بل قد قال الصديق لـعمر رضي الله عنه: والله لو منعوني عقالاً أو عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقاتلتهم على منعها. فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب، وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعاً سيرة واحدة، وهي قتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم والشهادة على قتلاهم بالنار، وسموهم جميعاً أهل الردة '' .
    وهذه المعاملة في القتال هي أشد أنواع معاملة المنتسبين للإسلام ممن يجب قتاله أو يجوز؛ لأنه قتال ردة، وكل قتال دونه فهو دون ذلك في المعاملة، حتى إن الخوارج الذين تواترت النصوص في قتالهم بأعيانهم وصفاتهم الجلية - كان حكم الصحابة فيهم ومعاملتهم لهم ألا يتبع من أدبر منهم، ولا يجهز على جريح، ولا تسبى نساؤهم، أو تخمس أموالهم.
    قال شَيْخ الإِسْلامِ: ''وأما قتال مانعي -إذا كانوا مانعين عن أدائها بالكلية أو عن الإقرار بها- فهو أعظم من قتال الخوارج '' .
    ومن الأدلة على فساد مذهب المرجئة في أن تارك العمل لا يكفر: أن من دخلت عليه شبهة الإرجاء من الفقهاء وشراح كتب السنة لما لم يجعلوا قتال الصديق والصحابة لهم قتال ردة وكفر، جعلوه من باب قتال البغاة، ومنهم من يسمي قتال أهل القبلة بكل أنواعه قتال بغاة، فكأن الصديق إنما قاتلهم لامتناعهم عن دفع الزكاة إليه، وهو إمام المسلمين وبيده بيت المال، والرد على هؤلاء واضح من وجوه:
    1- أنه لم يثبت أن امتناعهم مخصوص بأدائها إلى الإمام، بل الثابت بالنصوص الصحيحة امتناعهم عن أدائها مطلقاً، أما ما ذكر من امتناع بعضهم هذا الامتناع المخصوص، فغايته إن ثبت أن تكون فئة منهم كذلك وليس عامتهم، والحكم إنما هو للأغلب والأعم.
    2- أن وصفهم بالردة والكفر بإطلاق -كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة- يدل على الامتناع المطلق لا على ما ذكروا.
    3- أن هذه المعاملة الشديدة لهم ومساواتهم بأصحاب مسيلمة والأسود ونحوهما لا تناسب إلا الامتناع المطلق.
    4- أن هؤلاء الفقهاء والشراح لا يلتزمون الحكم على من لم يدفع الزكاة للإمام بالكفر والردة ووجوب قتاله ومساواته بمدعي النبوة إلى آخر ما فعل الصحابة، بل غاية حكمه عند بعضهم جواز مقاتلته قتال بغي لا قتال ردة، فهم إما أن يقروا بأن المناط مختلف -وهو الصحيح- وإما أن يلتزموا مخالفة إجماع الصحابة، وهو تناقض!!
    قال شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله: '' فإن الصديق إنما قاتلهم على طاعة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا على طاعته، فإن الزكاة فرض عليهم، فقاتلهم على الإقرار بها وعلى أدائها، بخلاف من قاتل ليطاع هو، ولهذا قال الإمام أحمد وأبو حنيفة وغيرهما: من قال: أنا أؤدي الزكاة ولا أعطيها للإمام، لم يكن للإمام أن يقاتله، وهذا فيه نزاع بين الفقهاء؛ فمن يجوز القتال على ترك طاعة ولي الأمر جوز قتال هؤلاء، وهو قول طائفة من الفقهاء ويحكى هذا عن الشافعي -رحمه الله- ومن لم يجوز القتال إلا على ترك طاعة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا على ترك طاعة شخص معين؛ لم يجوّز قتال هؤلاء.
    وفي الجملة، فالذين قاتلهم الصديق رضي الله عنه كانوا ممتنعين عن طاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإقرار بما جاء به، فلهذا كانوا مرتدين، بخلاف من أقر بذلك ولكن امتنع عن طاعة شخص معين'' أ هـ.
    أقول: فإذا انعقد الإجماع على عدم التفريق بين الصلاة والزكاة، وهما عملان ظاهران يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر من وجوه عدة، وقال الصديق : [[ والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ]]، وأقره عليه الصحابة كلهم قولاً وعملاً، فما بالك بمن يفرق بين ركني الإيمان الظاهر والباطن، وجزئي الحقيقة الواحدة المركبة؛ فيفرق بين الإيمان القلبي والعمل الظاهر؟!
    وسيأتي في شرح حديث جبريل -عليه السلام- ما يتعلق ببقية الأركان، ويزيد الأمر وضوحاً.
    وبهذا يتبين لطالب الحق أن ترك الأركان الأربعة وسائر أعمال الجوارح كفر ظاهراً وباطناً؛ لأنه ترك لجنس العمل الذي هو ركن الحقيقة المركبة للإيمان، التي لا وجود لها إلا به، وهذا مما لا يجوز الخلاف فيه، ومن خالف فيه فقد دخلت عليه شبهة المرجئة شعر أو لم يشعر.
    وتتميز الأركان الأربعة عن سائر الواجبات، بأن من لم يلتزم فعلها بقلبه ولم يعزم على ذلك لا يكون مؤمناً أبداً -أي: في الباطن- ؛ لأنه تارك لعمل القلب الذي هو ركن الإيمان، وعنه ينشأ العمل الظاهر، وأما من يضعف عزمه وينخرم التزامه، فهو على حرف الكفر وحافة النفاق.
    وما ورد عن فقهاء الأمة من اختلاف بشأن تارك الصلاة -أو غيرها من الأركان- لا يؤثر على ما سبق، وذلك لأمور:
    * الأول: أن ترك جنس العمل شيء وترك بعض آحاده شيء آخر، ولا سيما عند من لا يرى كفر تارك الصلاة؛ إذ هي عنده من جملة الواجبات، فيصح لديه أن يأتي العبد ببعض الواجبات وتنفعه عند الله مع تركه للصلاة، فلا يلزم من قولهم: إن تاركها لا يكفر أنه لا عمل صالحاً له، وهذا هو ما يهمنا هنا، وإن كان ثبوت كفره واستلزامه لإحباط سائر عمله هو الحق كما سنبين .
    * الثاني: أنه من خالف في تكفير تارك أحد المباني الأربعة -ولا سيما الصلاة- لا ينبغي الاعتداد بخلافه بعد ثبوت الإجماع من الصحابة رضي الله عنهم في تكفير تارك الصلاة والزكاة، وما أشرنا إليه بالنسبة للصيام والحج، فمع كثرة المخالفين من المتأخرين لم يستطع أحد منهم الإتيان بنقل ثابت صريح عن صحابي أو تابعي يخالف ذلك؛ وذلك أن أول من قال به هم المرجئة، ثم تبعهم من تبعهم، ومتى عرف المرء ذلك تبين له أن هذا القول خارج عن أقوال أهل الاجتهاد إلى أهل البدع، وإن لم يكن كل من قال به من أهل البدع، وإيضاح ذلك في الفقرة التالية.
    * الثالث: أن ما تنقله كتب الفقهاء المتأخرين عن بعض الأئمة من خلاف في هذا، لا يخلو من أحوال:
    1- إما أن النقل عنه غير ثابت، وإن ثبت فهو إحدى الروايات عنه، والموافقة للإجماع هي الأولى بالأخذ.
    2- وإما أن يكون كلامه في مسألة فرعية، كمن ترك فريضة واحدة وليس في التارك المطلق، وسنوضح أهمية التفريق بينهما في البند الرابع.
    3- وإما أن يكون كلامه ليس صريحاً في الترك، بل في التساهل والتضييع وترك المحافظة، كما سنبين أيضاً.
    4- وإما أن يكون كلامه في حالات مخصوصة، كقول حذيفة رضي الله عنه: [[ تنجيهم من النار ]] أي عند دروس الإسلام واضمحلاله، فجعله الناقل قولاً عاماً مطلقاً .
    5- وإما أن يكون المخالف لم يبلغه الإجماع، أو قال بخلافه قبل أن يبلغه، أو لم يره إجماعاً ونظر إلى النصوص المطلقة؛ كحديث: {من قال لا إله إلا الله دخل الجنة} ونحو ذلك، وهذا لا يؤثر في ثبوت الإجماع وقوته.
    6- وإما أن يكون المنسوب للإمام المتبوع - هو قول مجتهدي المذهب كلهم أو بعضهم لا قول الإمام نفسه، ولا سيما إذا اعتقد التابع أن القول بالتكفير هو مذهب الخوارج والمعتزلة، فينفي عن إمامه القول به، وهذا ما وقع فيه كثير من فقهاء المذهب، بل وقع فيه من يحارب المذهبية كالشيخ الألباني
    7- وإما أن يكون الناظر في قول الإمام من الأتباع لم يره التزم لازم القول، فظن أن ذلك رجوع عنه أو تناقض ينبغي تبرئته منه، وربما استدل بعضهم بترك لازم اللازم وذلك مثل استدلال بعضهم بكون الصحابة وسائر المسلمين بعدهم لم يخصصوا مقبرة لتاركي الصلاة، وفاته أن تخصيص مقبرة لازم لإجراء الحكم الظاهر في الدنيا، وإجراء الحكم لازم للقول بالتكفير.
    ولا يشترط التزام اللازم فضلاً عن لازمه؛ فإن العالم قد يقول بالتكفير لكن لا يجري الحكم الظاهر - حتى لو كان قاضياً أو إماماً لمانع من الموانع، وقد يجري الحكم الظاهر ولا يرى لازمه؛ كتخصيص مقبرة، فما أبعده من استدلال!!
    * الرابع: أن الخلاف في ذلك ليس على إطلاقه وإجماله كما تنقل كتب الخلاف ونحوها، بل تحرير القول وتفصيله في مناط النزاع يظهر حقائق لا يجوز إغفالها، ومن ذلك:
    1- أن المخالف ربما كان كلامه في الحكم الظاهر وكلام غيره في الحكم الباطن، وأكثر كلام السلف إنما هو في الحكم الباطن، بعكس كلام الفقهاء المتأخرين -كما سنبين- ولهذا كان الإجماع على تكفير تارك الصلاة أشهر وأظهر، والتمثيل بذلك في كتب العقيدة أكثر؛ لأن المسألة إذا كانت حكمية، فالصلاة هي الركن الوحيد الذي يمكن الحكم على تاركه بيقين؛ بما تختص به من الظهور والتكرار، وعموم وجوبها في سائر الأحوال والأوقات.
    ولهذا يقولون: (تارك الصلاة) ولا يقولون (تارك الزكاة) غالباً، بل (الممتنع عن أدائها) لأنه لا يمكن معرفة ذلك إلا بالامتناع، والصيام أخفى من الزكاة، والحج إنما يجب في العمر مرة.
    2- أن لفظ (الترك) وشبهه هو من الألفاظ التي وقع فيها الإجمال والالتباس. وكثير من الخلاف سببه إجمال الألفاظ وإطلاق الأحكام، كما بين شَيْخ الإِسْلامِ وغيره تبعاً للإمام أحمد، ومتى وجد التفصيل والتقييد ارتفع الخلاف، ومن ذلك أن كتب العقيدة التي صنفها أهل السنة تعني بالتارك تارك الالتزام بالأمر، أي: تارك عمل القلب التارك تبعاً لذلك عمل الجارحة، لأنها كلها تقرر أن الإيمان قول وعمل بالقلب والجوارح -كما أسلفنا- وعليه فالتارك عندهم هو من يستحق الاسم بإطلاق، ولذلك لم تختلف هذه الكتب في حكم تارك الصلاة مثل كتب الفروع، وذلك لأن مقصود مصنفيها بيان الحقائق الشرعية في ذاتها، وبيان ما يضادها من البدع، ودفع اللبس بينهما.
    أما كتب الفروع فلكونها تبحث في أحكام أعيان المكلفين وتفصيل أحوالهم، ومقصودها غالباً إجراء الحكم الظاهر - كان التارك عند مصنفيها اسماً عاماً يتناول آحاداً كثيرة، فيتكلمون عن التارك الجاحد للوجوب، والتارك المتكاسل، والترك لفريضة واحدة فيشمل كلامهم من جهة الباطن تارك عمل القلب، وضعيفه، والمتردد بين ضعف الإيمان والنفاق المحض.
    والآيات الواردة في ترك الصلاة إنما هي في الكفار، كقوله تعالى: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ))[المرسلات:48].
    وقوله: ((فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى))[القيامة:31-32].
    وقوله: ((مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ))[المدثر:42-44].
    وفي هذا دليل على أن من تركها كافر لا حظ له في الإسلام وإن ادعاه، وأيضاً أن التارك هو من لا يصلي بإطلاق؛ لأن الكافر كذلك، فقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { من تركها فقد كفر } وغيره من الأحاديث؛ يفسر هذا.
    فمن ترك الصلاة بالكلية فهو من جنس هؤلاء الكفار، ومن تركها في أكثر أحيانه فهو إليهم أقرب، وحاله بهم أشبه، ومن كان يصلي أحياناً ويدع أحياناً فهو متردد متذبذب بين الكفر والإيمان، والعبرة بالخاتمة.
    وقد يلتبس على بعضهم ما جاء في ذلك من ألفاظ النصوص، مثل: ( الإضاعة ) و( ترك المحافظة ) بالترك الكلي، فالإضاعة كما في قوله تعالى: ((فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ))[مريم:59]، ولذلك نص ابن مسعود وغيره على أن الإضاعة هي التأخير، ولو تركوها لكانوا كفاراً.
    وترك المحافظة - كما في حديث عبادة بن الصامت { من لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة}
    وهو غير الترك الكلي الذي هو الكفر.
    ومن ذلك لفظة ( الجحد )، فهي لا تعني أحياناً عند السلف إلا الترك - كما تقدم، فيخطئ بعض المتأخرين فيجعلها مقابل التارك ويفترض الخلاف، والواقع أن لا خلاف، وكل تفريق لم يرد في النصوص لا يصح اعتباره، والنصوص المطلقة لا يجوز حملها على أحد المعنيين دون الآخر، ولهذا قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله:
    ''وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها، فليس لهم حجة إلا وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم عند الجاحد كان جواباً لهم عن التارك، مع أن النصوص علقت الكفر بالتولي '' يعني: الآيات، والأحاديث أكثرها جاء بلفظ الترك، ولفظ الجحد لم يأتِ غالباً إلا في كلام السلف، ويقصدون به الترك والتولي لا عدم الإقرار بالوجوب.
    وكذلك الكسل والتهاون والسهو عنها لا يعني الترك المطلق، ولهذا تعجب لمن يقول: " إذا تركها كسلاً وتهاوناً حتى يقتل " ونحوه، إذ يستحيل عقلاً وواقعاً أن يفضل السيف على الصلاة لمجرد الكسل ونحوه، فأي كسل يبقى والسيف على رأسه؟!
    فإن هذا تارك للإقرار والالتزام بها، وليس متكاسلاً عن الأداء، والمتكاسل هو المتخاذل المهمل في العمل، الذي متى توفر الداعي للأداء عمل، وإذا ضعف الداعي فتر أو انقطع، كما قال تعالى: ((وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى))[النساء:142]، وقال: ((وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى))[التوبة:54] وهذا من ضعف الهمة في العمل، فإذا اشتد به ضعفها ترك العمل نفسه أو أخره عن وقته ونقرها نقر الغراب، والمقصود: أن هذا شيء وترك الالتزام بالأداء شيء آخر.
    ومن ذلك لفظة (الامتناع) فإنها تطلق على من يعتذر أو يتخلف أو يتلكأ، بخلاف ما يقوله العلماء في الطائفة الممتنعة، وهي التي تجتمع على ترك واجب أو فعل محرم، فهذا الاجتماع والمقاتلة دليل على عدم الالتزام بالأمر، ومن هنا كان قتالها قتال ردة كما سبق.
    * الخامس: أن حقيقة الخلاف هي بين من يرى قتل تارك الصلاة كفراً وبين من يرى قتله حداً؛ لأن القول بأنه يحبس ويضرب مهما أصر على الترك قول شاذ، وصلته بالإرجاء جلية؛ سواء من جهة القائلين به أو من جهة مضمونة.
    وعليه إذا تأمل الفقيه وجد أن كل ما استدل به من يرى قتله حداً يصلح دليلاً لمن يرى قتله كفراً ولا عكس، فاجتمع للقائل بقتله كفراً أدلته وأدلة غيره، وإن شئت فقل: إن الأدلة في قتله والأدلة في تكفيره تجتمع بلا تعارض، فثبت أن قتله كفراً هو وحده الصحيح، لا سيما مع ما سبق من بيان استحالة أن يرضى مؤمن بأن يقتل ولا يصلي، فهذا لا يفعله إلا كافر معاند.
    وعلى هذا يقاس غيرها من الأركان.
    ومثل ما جاء من الوعيد في ترك المحافظة على الصلوات -كحديث عبادة- أو إضاعتها أو السهو عنها ما جاء من الوعيد في ترك الزكاة؛ كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تنطحه بقرنها وتطؤه بأظلافها، كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها، حتى يقضى بين الناس }.
    وقد جاء في بعض الروايات: {حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار} فقد يستدل به مستدل على أن تارك الزكاة بإطلاق داخل تحت المشيئة، فلا يكون كافراً، أو على التفريق بين تارك الصلاة والزكاة، وليس الأمر كذلك لوجوه:
    أولاً: أنه لا يدل على ترك الزكاة أو ترك حق المال بالكلية، ولا بد من جمع الأحاديث والروايات في هذه المسألة، وبمجموعها يتضح أن المقصود منه ليس تارك الالتزام، بل المفرط المتهاون أو المضيع كما في الصلاة.
    ثانياً: أن هذه الرواية أشبه بالمختصر، ولفظ الرواية التامة: {ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها...ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم ورودها، ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها...}.
    وقال في الخيل: {ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها} وفي هذه الرواية التامة قال: {حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار} وفي الرواية الأخرى قال في الإبل والبقر والغنم: {لا يفعل فيها حقا} ثم قال: {ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه} ولم يذكر: {حتى يقضى} إلى آخره.
    وفي رواية أخرى في الصحيح: {من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثِّل له يوم القيامة شجاع أقرع...} الخ، وليس فيها {حتى يقضى} الخ، فهذا لا يعني أنه لا يدخل النار ولا يخلد فيها، بل هي على إطلاقها، فدل مجموع هذا على أن الوعيد وارد في ترك حق الله عامة لا في الزكاة المفروضة خاصة، وقوله: {ومن حقها حلبها يوم ورودها} وقوله في الخيل ما سبق- صريح في ذلك .
    والمسلمون جميعاً متفقون على أن في المال حقاً سوى الزكاة لا يجوز تركه، كنفقة من تجب عليه نفقته، وإطعام الملهوف، وعابر السبيل، والضيف إذا تعين ذلك عليه، هذا هو المراد .
    ويبين ذلك أن الوعيد ورد في حق المكتنـز المدخر، الذي يؤدي فعله إلى حبس المال وتعطيل منافعه - وإن لم يكن مما تجب فيه الزكاة، كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الرجل الذي اكتنز ديناراً أو دينارين: " كية أو كيتان "، وكقوله للمرأة ذات المسكتين {أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار} وما أشبهه، ومعلوم أن هذا دون النصاب المقدر للزكاة، فلا بد أن تكون العلة أمراً آخر سوى ترك الزكاة المفروضة.
    وبهذا تجتمع الأحاديث التي كثر فيها الاختلاف منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم، ويوضح ذلك حال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكثير من أصحابه، فإنه لم يكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكنز المال وينتظر حتى يحول الحول فيؤدي القدر المعلوم من النصاب المعلوم؛ بل ثبت عنه أنه قال: {ما أحب أن لي مثل أحد ذهباً إلا أنفقته كله} فكان هو وكثير من أصحابه ينفقون بالليل والنهار سراً وعلانية في نوائب الحق، ويسارعون فيما لا يتعين عليهم، ويتنافسون فيه مثلما كانوا يبادرون إلى صلاة التطوع ويحرصون عليها سواء.
    فمن تأمل حالهم ومجموع النصوص في الباب لم يرد منها حديثاً أو يصعب عليه توجيهه وفهمه، وأما من التزم طريقة أكثر الفقهاء المتأخرين، فلا بد أن يرد البعض، أو يخطئ في توجيهه، أو يتعسف في تخريجه، كقولهم: إن هذا مخالف للأصول، أو إنه منسوخ نزل قبل تحديد الأنصبة، ونحو ذلك مما هو إلى الظن أقرب، والله أعلم.
    ولنعد إلى أصل موضوعنا عن الحقيقة المركبة، فنقول: في كتاب الإيمان الأوسط، الذي هو في الحقيقة شرح مستفيض لحديث جبريل عليه السلام فصل شَيْخ الإِسْلامِ القول في هذا، وأظهر -بما لا يدع ريبة ولا شكاً- حقيقة الإيمان المركبة، وكفر من ترك العمل الظاهر، بل كفر من ترك الالتزام بأحد الأركان الأربعة؛ الصلاة والزكاة والصوم والحج، وعزم على ألا يفعلها.
    فإنه رحمه الله قال:
    ''وأما الفرائض الأربع -يعني: ما عدا الشهادتين- فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواترة تحريمها...''
    قال: ''وأما مع الإقرار بالوجوب، إذا ترك شيئاً من هذه الأركان الأربعة ففي التكفير أقوال للعلماء '' .
    ثم قال: ''وهذه المسألة لها طرفان:
    أحدهما: في إثبات الكفر الظاهر.
    والثاني: في إثبات الكفر الباطن.
    فأما الطرف الثاني فهو مبني على مسألة كون الإيمان قولاً وعملاً كما تقدم، ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويعيش وهو لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح '' .
    ثم ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على أن الامتناع عن الطاعة إنما هو من صفات الكفار لا المسلمين، وألزم المفرقين بين جاحد الوجوب والتارك بإلزام قوي وحجة برهانية؛ فقال: '' وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها، فليست لهم حجة إلا وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم عن الجاحد كان جواباً لهم عن التارك '' .
    وذلك أن النصوص لم تفرق، والصحابة رضي الله عنهم لم يفرقوا كما فصلنا ذلك من قبل، وسنزيده وضوحاً إن شاء الله في الصفحات التالية.
    والمقصود هنا: أن شَيْخ الإِسْلامِ -رحمه الله- نصر القول بكفره باطناً، وفند شبهات القائلين بخلافه في بقية كلامه.
    وأوضح أن من '' عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب '' .
    وأن إجراء الأحكام الظاهرة عليه أمر آخر- كما هو الشأن في المنافقين، وكذلك في المتأولين الذين يعتقدون عقيدة هي كفر، ولكن إجراء الحكم الظاهر عليهم له شروط -إقامة الحجة والاستتابة- وقال:
    '' وبهذا تزول الشبهة في هذا الباب، فإن كثيراً من الناس، بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس، ولا هم تاركيها بالجملة، بل يصلون أحياناً ويدعون أحياناً، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة في المواريث ونحوها من الأحكام، فإن هذه الأحكام إذا جرت على المنافق المحض كـابن أُبيّ وأمثاله من المنافقين، فلأن تجري على هؤلاء أولى وأحرى '' .
    وختم كلامه بقوله: '' وبالجملة، فأصل هذه المسائل أن تعلم أن الكفر نوعان:
    كفر ظاهر وكفر نفاق، فإذا تكلم في أحكام الآخرة كان حكم المنافق حكم الكفار، وأما في أحكام الدنيا فقد تجري على المنافقين أحكام المسلمين.
    وقد تبين أن الدين لا بد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه ولسانه ولم يؤدِ واجباً ظاهراً، ولا صلاة ولا زكاة ولا صياماً، ولا غير ذلك من الواجبات...''.
    كما فصل القول في أن عمل القلب هو إرادة جازمة، والإرادة الجازمة يستحيل تخلف الفعل عنها.
    فثبت أن تارك عمل القلب بالنسبة للأركان الأربعة أو أحدها، وهو تارك الالتزام بها والعقد الجازم على فعلها كافر على الحقيقة؛ لأنه إما أنه ليس لديه عمل القلب -الذي هو الإرادة الجازمة المستلزمة للفعل- ولا قوله -الذي هو الإقرار بالوجوب- فهذا لا شك في كفره.
    وإما أن يكون لديه قول القلب، ولكنه إذ لم يستلزم فعل القلب لا يكفي في ثبوت الإيمان، فهو معرفة مجردة أو علم مجرد -كما تقدم إيضاحه- وهو من جنس إقرار أهل الكتاب بأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول واجب الاتباع ولكن لم يتبعوه، بل إقرار إبليس بأن الله أمره بالسجود ولكن لم يطعه.
    وهكذا فإطلاق القول بتكفير تارك الصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج صحيح موافق لقاعدة أهل السنة في الإيمان كل الموافقة، وهو ليس من جنس تسمية بعض العصاة كفاراً وتسمية بعض المعاصي كفراً، والقول بأن المسألة خلافية هكذا بإطلاق غير صحيح، إلا أن يراد عموم الأمة لا خصوص السلف ومن اتبعهم، وسيأتي في شرح حديث جبريل عليه السلام وشرح حديث وفد عبد القيس- ما يزيد ذلك إيضاحاً .
  3. ثالثاً: ما ورد من الآيات في حكم التولي عن الطاعة

    ولا شك أن تارك جنس العمل متولٍ عن الطاعة معرض عن الامتثال؛ فالآيات الدالة على أن تارك الركن تارك للإيمان هي دليل على تركب حقيقة الإيمان من هذين الركنين معاً، ومنها:
    1- قوله تعالى: ((قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ))[آل عمران:32].
    2- قوله تعالى: ((وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ))[النور:47].
    3- قوله تعالى في حق الكافر: ((فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى))[القيامة:31-32].
    4- قوله تعالى: ((لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى))[الليل:15-16].
    5- قوله تعالى على لسان موسى وهارون: ((إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى))[طه:48].
    يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: ''فعلم أن التولي ليس هو التكذيب، بل هو التولي عن الطاعة؛ فإن الناس عليهم أن يصدقوا الرسول فيما أخبر ويطيعوه فيما أمر، وضد التصديق التكذيب، وضد الطاعة التولي، فلهذا قال: ((فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى))[القيامة:31-32] وقد قال تعالى: ((وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ))[النور:47] فنفى الإيمان عمن تولى عن العمل وإن كان قد أتى بالقول...''
    إلى أن يقول: "ففي القرآن والسنة من نفي الإيمان عمن لم يأتِ بالعمل مواضع، كما نفى فيها الإيمان عن المنافق، وأما العالم بقلبه مع المعاداة أو المخالفة الظاهرة، فهذا لم يُسمَّ قط مؤمناً، وعند الجهمية إذا كان العلم في قلبه مؤمن كامل الإيمان، إيمانه كإيمان النبيين، ولو قال أو عمل ماذا عسى أن يقول ويعمل، ولا يتصور عندهم أن ينتفي الإيمان إلا إذا زال ذلك العلم من قلبه''.
    ويستمر رحمه الله في مناقشة الأشعرية في ذلك، ناقلاً عن كبار أئمتهم، ناقداً مذهبهم في صفحات طويلة.
  4. رابعاً: الآيات في اقتران العمل بالإيمان

    وهذا ما استدل به السلف قديماً، وإن كان للمرجئة عليه اعتراض سنورده إن شاء الله ونرده، وممن استدل بذلك الإمام أبو بكر محمد بن الحسين الآجري الشافعي، قال:
    '' اعلموا -رحمنا الله تعالى وإياكم- يا أهل القرآن ويا أهل العلم، يا أهل السنن والآثار، ويا معشر من فقههم الله عز وجل في الدين بعلم الحلال والحرام، أنكم إن تدبرتم القرآن كما أمركم الله عز وجل علمتم أن الله عز وجل أوجب على المؤمنين بعد إيمانهم به وبرسوله العمل.
    وأنه عز وجل لم يُثن على المؤمنين بأنه قد رضي عنهم وقد رضوا عنه، وأثابهم على ذلك الدخول إلى الجنة والنجاة من النار إلا بالإيمان والعمل الصالح، وقرن مع الإيمان العمل الصالح، لم يدخلهم الجنة بالإيمان وحده حتى ضم إليه العمل الصالح الذي قد وفقهم إليه، فصار الإيمان لا يتم لأحد حتى يكون مصدقاً بقلبه وناطقاً بلسانه، وعاملاً بجوارحه.
    لا يخفى أن من تدبر القرآن وتصفحه وجده كما ذكرت.
    واعلموا -رحمنا الله تعالى وإياكم- أني قد تصفحت القرآن، فوجدت فيه ما ذكرته في تسعة وخمسين موضعاً من كتاب الله عز وجل، وأن الله تبارك وتعالى لم يدخل المؤمنين الجنة بالإيمان وحده، بل أدخلهم الجنة برحمته إياهم، وبما وفقهم له من الإيمان به والعمل الصالح.
    وهذا رد على من قال: الإيمان المعرفة، ورد على من قال: " المعرفة والقول، وإن لم يعمل "، نعوذ بالله من قائل هذا...''.
    ثم شرع رحمه الله في سرد هذه المواضع من قوله تعالى في سورة البقرة:
    ((وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ))[البقرة:25]. إلى قوله ((وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ))[العصر:1-3]
    أقول: إنه رحمه الله لم يستكمل كل الآيات في اقتران العمل بالإيمان، بل اقتصر على ما كان فيه تقديم ذكر الإيمان على العمل، أما ما تقدم فيه العمل على الإيمان فلم يذكره، ومعلوم أن ذكر النوعين أدل على التلازم.
    ومن ذلك قوله تعالى في سورة طه: ((وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى))[طه:75] وقد ذكرها، فإذا ضممنا إليها آية أخرى في السورة نفسها لم يذكرها، وهي: ((وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً))[طه:112] كان أدلَّ في أنه لا عمل بلا إيمان ولا إيمان بلا عمل.
    وإنما كثر تقديم الإيمان؛ لأن المراد به قول القلب وعمله، وهو الأصل، فالباطن أصل للظاهر -كما سبق- لكن ورود بعض مواضع يتقدم فيها ذكر العمل عليه، يدل على التلازم، وعلى أهمية المقدم من بين أعمال الإيمان في ذلك السياق.
    ومن ذلك قوله تعالى: ((وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ))[الإسراء:19].
    وقد استدل بها عطاء في مناظرته لـسالم الأفطس المرجئ التي سبق إيرادها نقلاً عن ابن بطة - قال: " فألزم الاسم العمل والعمل الاسم ".
    وفي هذا تنبيه على مواضع أخرى تماثلها، مع قصد أهمية المقدم -كما سبق- ومنها:
    ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ))[آل عمران:110].
    فلا يقال: إن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ليسا من الإيمان، أو يصحان بدونه؛ لأنه عطف الإيمان عليهما، والعطف يقتضي المغايرة.
    بل المقصود التنبيه على أهمية هذه الميزة الإسلامية، بإفرادها عن سائر أعمال الإيمان، وتقديمها عليه، وإلا فمعلوم قطعاً أن الإيمان لا يتقدم عليه شيء، إذ لا يقبل شيء بدونه.
    وقد ورد تقديم التوبة والتقوى والشكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على الإيمان في آيات أخرى.
    أما التوبة، ففي أربعة مواضع، منها: ((وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى))[طه:82].
    مع ورود التوبة بمعنى الإيمان نفسه في الآية السالفة: (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ))[التوبة:5].
    وأما الشكر، ففي قوله تعالى: ((مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ))[النساء:147].
    وأما التقوى، ففي قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ))[الحديد:28].
    وأما الصلاة والزكاة، ففي قوله تعالى: ((لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ))[المائدة:12].
    وورد عكس ذلك، وهو ذكر الإيمان ثم العطف عليه بذكر شيء من أعماله، تنبيهاً على أهميته أيضاً، مثل قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ))[البقرة:218].
    والمهاجرون هم من المؤمنين، وكل المؤمنين يرجون رحمة الله، ومواضع هذا كثيرة.
    وبالجملة، فالإيمان في هذه النصوص، إما أنه الإيمان كله باطنه وظاهره، لكن يعطف عليه بعضه، ويقدم عليه بعضه، وهذا واضح الدلالة.
    وإما أن يكون المقصود باطن الإيمان، أي: الإيمان المذكور في حديث جبريل.
    ويكون عطف الأعمال عليه، أو عطفه على أعمال هي أجزاء ظاهرة من الإيمان، ولا تصح بدون الإيمان الباطن، ودلالته لا خفاء فيها أيضاً.
    وأقل المواضع دلالة على التركيب، هي التي يذكر فيها الإيمان مطلقاً، ومع ذلك فإن الإيمان المطلق هو بمعنى " الدين "، والدين يشمل أعمال الإيمان جميعها، وهذا لا يقتصر على لفظ الإيمان، بل له ألفاظ أخرى، كلفظ " البر " المذكور في آية البقرة السابقة: (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ))[البقرة:177].
    ولفظ (الدين) ولفظ (التقوى) ولفظ (العبادة) ولفظ (الهدى) ولفظ (الطاعة) ولفظ (المعروف) ولفظ (الخير) ونحوها من الألفاظ العامة التي تدخل فيها شعب الإيمان جميعاً.
    ونختم هذا المبحث بذكر موضع مهم من المواضع التي قرن فيها العمل بالإيمان، للدلالة على التركيب والتلازم، وهو قوله تعالى:
    ((وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً))[النساء:124].
    ووجه الأهمية أن الله تعالى ذكر ذلك ضمن الرد على دعوى الإيمان بالتسمي والقول، دون إصلاح العمل، ورد على من يزعم هذه الدعوى سواء أكان كتابياً أم حنيفياً، فقال قبلها:
    ((لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً))[النساء:123].
    وقال بعدها: ((وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً))[النساء:125].
    فبين أن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، بل ما وقر في القلب وصدقه العمل، وأنه لا أحد أحسن ديناً ممن أسلم؛ أي انقاد وأطاع بلا حرج ولا منازعة، وهذه هي ملة إبراهيم، التي لا يقبل الله ديناً غيرها مهما كثرت الأماني والدعاوى.
  5. خامساً: الأحاديث الدالة على حقيقة الإيمان المركبة

    وردت أحاديث صحيحة كثيرة تدل على حقيقة الإيمان المركبة، وقد سبق أن أوردنا منها ما يدل على أن العمل إيمان، والإيمان عمل، وهذه أهمها:
    1- حديث جبريل عليه السلام المشهور:
    وهو حديث صحيح رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر عن أبيه، وعن أبي هريرة، والأول أتم، وهذه رواية مسلم:
    قال عبد الله بن عمر - بعد مقدمة عن القدرية التي هي سبب الحديث -:
    حدثني أبي -عمر بن الخطاب- قال: {بينما نحن عند الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه.
    وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟
    فقال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً.
    قال: صدقت.
    قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه.
    قال: فأخبرني عن الإيمان؟
    قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره.
    قال: صدقت.
    قال: فأخبرني عن الإحسان؟
    قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
    قال: فأخبرني عن الساعة؟
    قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل.
    قال: أخبرني عن أمارتها؟
    قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان.
    قال: ثم انطلق فلبثت ملياً، ثم قال لي: يا عمر: أتدري من السائل؟
    قلت: الله ورسوله أعلم.
    قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم
    } .
    وعند ابن مندة من رواية على شرط مسلم، أنه سأله بعد ذكر أركان الإسلام: { فإن فعلت هذا فأنا مسلم؟
    قال: نعم.
    ...وبعد ذكر أركان الإيمان: فإن فعلت هذا فأنا مؤمن؟
    قال: نعم
    }.
    وفي طريق آخر عنده:
    ( لقد حدثني عمر أن رجلاً في آخر عُمْر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...الحديث ) .
    قال الحافظ: ''آخر عمره، يحتمل أن يكون بعد حجة الوداع؛ فإنها آخر سفراته، ثم بعد قدومه بقليل دون ثلاثة أشهر مات، وكأنه -يعني: جبريل عليه السلام- إنما جاء بعد إنزال جميع الأحكام؛ لتقرير أمور الدين التي بلغها متفرقة في مجلس واحد لتنضبط'' .
    وقال شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية:
    ''إن جبريل لما سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإسلام والإيمان والإحسان، كان في آخر الأمر بعد فرض الحج، والحج إنما فرض سنة تسع أو عشر... '' .
    فهذا نص الحديث وزمانه الذي بمعرفته نعرف أموراً تأتي في الشرح.
    2- والحديث الثاني: هو حديث شعب الإيمان:
    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الإيمان بضع وسبعون -أو: بضع وستون شعبة- فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق} وفي رواية: { والحياء شعبة من الإيمان} .
    عن ابن عباس رضي الله عنهما، { أن وفد عبد القيس أتوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: من الوفد؟ أو من القوم؟
    قالوا: ربيعة.
    فقال: مرحباً بالقوم -أو: بالوفد- غير خزايا ولا ندامى.
    قالوا:إنا نأتيك من شقة بعيدة، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مُضَر، ولا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر نخبر به من وراءنا ندخل به الجنة.
    فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع: أمرهم بالإيمان بالله وحده
    قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟
    قالوا: الله ورسوله أعلم.
    قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وتعطوا الخمس من المغنم.
    ونهاهم عن الدُّباء، والحنتم، والمزفت.
    قال: شعبة: ربما قال: النقير، وربما قال: المقيّر. .
    قال: احفظوه وأخبروه من وراءكم
    }
    وهذه الأحاديث من أعظم الأحاديث في الإيمان، وقد اكتفيت بها؛ لأنها تشير إلى ما سواها، وأهمها وأشرفها وآخرها هو حديث جبريل وتقدم القول في وقته.
    أما حديث الشعب، فيحتمل أنه بعد نزول الفرائض واكتمال الشعب، ويحتمل أن يكون الله تعالى أطلعه على عددها، قبل أن ينزلها عليه كلها، والأول أقرب، والله أعلم.
    وأما حديث وفد عبد القيس فمتقدم؛ ولذلك لم يذكر فيه الحج، وما ذكر فيه من كون مضر ما تزال على الكفر، يدل على ذلك.
    ولكن أهميته ظاهرة في أنه فسر الإيمان بالأركان الأربعة، فدل على أن الإيمان إذا انفرد عن الإسلام يشمل باطن الدين وظاهره؛ أي: مجموع ما ذكر في حديث جبريل من أركان الإسلام وأركان الإيمان.
    وكذلك حديث الشعب؛ فإن أركان الإسلام الخمسة داخلة في الشعب، بدليل أنه جعل كلمة الشهادة أفضل الشعب وأعلاها.
    فالإيمان بهذا المفهوم العام -لا بمفهومه الخاص- الذي هو مرتبة من مراتب الدين، كما في حديث جبريل- مرادف لكلمة الدين كما بينها آخر حديث جبريل.
    وهذا الإيمان يشمل الظاهر والباطن معاً، كما دلت هذه الأحاديث الثلاثة، فمضمونها يدل على أن الإيمان حقيقة مركبة من الأعمال الظاهرة، والأعمال الباطنة معاً، لا يصح تصور أحدهما بدون الآخر في تحقيق الإيمان.
    ومن ترك العمل الظاهر فقد ترك ركن الإيمان، ومن زعم أن الإيمان يتحقق لأحد بدون العمل الظاهر، وأنه ينجو بمجرد ما يسمونه التصديق القلبي، فضلاله بيِّن.
    وعلى هذا نص علماء الإسلام وشراح السنة، لا سيما في شرحهم لحديث جبريل، الذي سنورد طرفاً من كلامهم فيه، ودلالة ذلك على التركيب:
    " قال إسماعيل بن سعيد: '' وسألت أحمد عمن قال في الذي قال جبريل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ سأله عن الإسلام: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ فقال: نعم، فقال قائل: وإن لم يفعل الذي قال جبريل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو مسلم أيضاً؟ فقال -أي الإمام-: هذا معاند للحديث '' .
    والإمام أحمد هو في أكثر الروايات عنه أوفقها لأصوله ممن يرى أن تارك أحد الأركان الأربعة عدا الشهادتين متعمداً كافر.
    فتكفيره لمن لم يأتِ بشيء من العمل الظاهر متيقن، وكذا تارك الأربعة جميعاً.
    ووجه استدلاله بهذه الرواية، أن حديث جبريل اشتمل على أركان العمل الظاهر ( الإسلام ) وأركان الاعتقاد الباطن ( الإيمان )، وهو لتأخره قاضٍ على كل ما سبق من أحاديث فيها إطلاق دخول الجنة بمجرد الشهادة، أو نقص في عدد الأركان، ونحو ذلك.
    وقد صرح فيه بأنه إذا فعل الأركان الظاهرة فهو مسلم، وإذا فعل الأركان الباطنة فهو مؤمن، ومن هذين يتركب الدين وتتكون حقيقته.
    ومعلوم أنه لو ترك أركان الإيمان كان كافراً اتفاقاً، فكذا إذا ترك أركان الإسلام لا يكون مسلماً، فمن قال: إنه مسلم مع من ترك الأركان الأربعة، التي هي رأس العمل الظاهر، فقد عاند الحديث في قوله: { فإن فعلت هذا فأنا مسلم؟ قال: نعم }.
    وهذه الأعمال الظاهرة التي سماها إسلاماً في حديث جبريل، سماها إيماناً في حديث الشعب، وحديث وفد عبد القيس، فدل هذا على ما هو معلوم بالضرورة، من أن ما ذكره في حديث جبريل من الأعمال الظاهرة، ليس المقصود به عمله بلا إيمان باطن، وإلا فهذا حال المنافق، وكذا ما ذكره من الأعمال الباطنة، التي سماها إيماناً، ليس المقصود منه أن لا عمل ظاهراً معها، بل هي درجة ومرتبة من الدين فوق مرتبة الإسلام، كما بين ذلك شراح الحديث قاطبة.
    يقول الإمام الخطابي في قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الإيمان بضع وسبعون شعبة} ''في هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء، له أدنى وأعلى، والاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع شعبه، وتستوفي جملة أجزائه؛ كالصلاة الشرعية، لها شعب وأجزاء، والاسم يتعلق ببعضها، والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها'' .
    وقال الإمام البغوي في شرح حديث جبريل:
    ''جعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة، هي كلها شيء واحد، وجماعها الدين؛ ولذلك قال: { ذلك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم }، والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإيمان والإسلام جميعاً، ويدل عليه قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ))[آل عمران:19] و((وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً))[المائدة:3]، و((وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ))[آل عمران:85] فأخبر أن الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام، ولن يكون الدين في محل القبول والرضا إلا بانضمام التصديق إلى العمل'' .
    ويقول أبو طالب المكي في كلام نفيس له -على طوله- وننقل بعضه:
    ''مثل الإسلام من الإيمان؛ كمثل الشهادتين؛ إحداهما من الأخرى في المعنى والحكم؛ فشهادة الرسول غير شهادة الوحدانية، وهما شيئان في الأعيان، وأحدهما مرتبط بالآخر، فهما كشيء واحد لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له؛ إذ لا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه، ولا يخلو المؤمن من إسلام به يحقق إيمانه، من حيث اشتراط الله للأعمال الصالحة الإيمان، واشتراط الإيمان للأعمال الصالحة، فقال في تحقيق ذلك: ((فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ))[الأنبياء:94].
    ((وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى))[طه:75].
    فمن كان ظاهره أعمال الإسلام، ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب، فهو منافق نفاقاً ينقل عن الملة، ومن عنده الإيمان بالغيب ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام، فهو كافر كفراً لا يثبت معه توحيد...''.
    قال: ''ومثل الإيمان في الأعمال كمثل القلب في الجسم، لا ينفك أحدهما؛ شيئان منفردان وهما في الحكم والمعنى منفصلان''.
    '' ومثلهما أيضاً مثل حبة لها ظاهر وباطن، وهي واحدة، ولا يقال حبتان لتفاوت صفتهما، فكذلك أعمال الإسلام من الإسلام هو ظاهر الإيمان وهو من أعمال الجوارح، والإيمان باطن الإسلام، وهو من أعمال القلوب.
    روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {الإسلام علانية، والإيمان في القلب}.
    وفي لفظ: {الإيمان سر} فالإسلام أعمال الإيمان، والإيمان عقود الإسلام، فلا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بعقد.
    ومثل ذلك العمل الظاهر والباطن؛ أحدهما مرتبط بصاحبه من أعمال القلوب وعمل الجوارح، ومثله قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنما الأعمال بالنيات} أي: لا عمل إلا بعقد وقصد؛ لأن " إنما " تحقيق للشيء ونفي لما سواه فأثبت بذلك عمل الجوارح من المعاملات وعمل القلوب من النيات.
    فمثل العمل من الإيمان كمثل الشفتين من اللسان، لا يصح الكلام إلا بهما؛ لأن الشفتين تجمع الحروف، واللسان يظهر الكلام، وفي سقوط أحدهما بطلان الكلام، وكذلك في سقوط العمل ذهاب الإيمان، ولذلك حين عدد الله نعمه على الإنسان بالكلام، ذكر الشفتين مع اللسان في قوله: ((أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ))[البلد:8-9] بمعنى: ألم نجعله ناظراً متكلماً، فعبر عن الكلام باللسان والشفتين؛ لأنهما مكان له، وذكر الشفتين؛ لأن الكلام الذي جرت به النعمة لا يتم إلا بهما.
    ومثل الإيمان والإسلام أيضاً، كفسطاط قائم على الأرض، له ظاهر وأطناب، وله عمود في باطنه، فالفسطاط الإسلام له أركان من أعمال العلانية والجوارح، وهي الأطناب التي تمسك أرجاء الفسطاط، والعمود الذي في وسط الفسطاط مثله كالإيمان؛ لا قوام للفسطاط إلا به، فقد احتاج الفسطاط إليها؛ إذ لا قوام له ولا قوة إلا بها، كذلك الإسلام في أعمال الجوارح، لا قوام لها إلا بالإيمان، والإيمان من أعمال القلوب، ولا نفع له إلا بالإسلام وهو صالح الأعمال '' .
    وقال: ''وعلى مثل هذا أخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإيمان والإسلام من صنف واحد فقال في حديث ابن عمر: {بني الإسلام على خمس } وقال في حديث ابن عباس عن وفد عبد القيس: إنهم سألوا عن الإيمان، فذكر هذه الأوصاف، فدل بذلك على أنه لا إيمان باطن إلا بإسلام ظاهر، ولا إسلام ظاهر علانية إلا بإيمان سر، وأن الإيمان والعمل قرينان، لا ينفع أحدهما بدون صاحبه '' .
    قال: ''فأما تفرقة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث جبريل بين الإيمان والإسلام؛ فإن ذلك تفصيل أعمال القلوب وعقودها على ما توجب هذه المعاني التي وصفناها أن تكون لاعقوداً، من تفصيل أعمال الجوارح، مما يوجب الأفعال الظاهرة التي وصفها علانية، لا أن ذلك يفرق بين الإسلام والإيمان في المعنى باختلاف وتضاد؛ إذ ليس فيه دليل أنهما مختلفان في الحكم '' .
    قال: ''ويجتمعان في عبد واحد مسلم مؤمن فيكون ما ذكره من عقود القلب وصف قلبه، وما ذكره من العلانية وصف جسمه '' .
    قال: ''وأيضاً، فإن الأمة مجمعة أن العبد لو آمن بجميع ما ذكره من عقود القلب في حديث جبريل، من وصف الإيمان، ولم يعمل بما ذكره من وصف الإسلام، أنه لا يُسمى مؤمناً، وأنه إن عمل بجميع ما وصف به الإسلام، ثم لم يعتقد ما وصفه من الإيمان، أنه لا يكون مسلماً، وقد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الأمة لا تجتمع على ضلالة '' .
    ويقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في شرح حديث جبريل أيضاً - بعد أن ذكر اشتماله على مراتب الدين الثلاث:
    '' والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسر الإسلام والإيمان بما أجاب به، كما يجيب عن المحدود بالحد إذا قيل: ما كذا؟ قال: كذا وكذا، كما في الحديث الصحيح لما قيل: {ما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره}، وفي الحديث الآخر: {الكبر: بطر الحق وغمط الناس...}.
    ثم بين أن أجوبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلها حق وإن تنوعت، وقال: " ولكن المقصود أن قوله: { بني الإسلام على خمس كقوله: الإسلام هو الخمس كما ذكر في حديث جبريل؛ فإن الأمر مركب من أجزاء تكون الهيئة الاجتماعية فيه مبنية على تلك الأجزاء، مركبة منها؛ فالإسلام مبني على هذه الأركان.
    وسنبين إن شاء الله اختصاص هذه الخمس بكونها هي الإسلام، وعليها بني الإسلام، ولم خصت بذلك دون غيرها من الواجبات.
    وقد فسر الإيمان في حديث وفد عبد القيس بما فسر به الإسلام هنا ولكنه لم يذكر فيه الحج '' .
    وإذا تلمسنا الحكمة من مجيء جبريل -عليه السلام- وتعليمه للمسلمين مراتب دينهم في مجلس واحد في آخر عمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإننا نجد أن هذا التعليم لم يكن إعلاماً بأمر مبتدأ جديد ولا بسبب خفاء معنى الإسلام والإيمان عندهم، بل ليتبينوا حقيقة المراتب الكاملة بعد نزول الأحكام واكتمال الدين، ومن ثم بنى السلف على ذلك نفي الإسلام والإيمان عمن لم يأتِ بهذه الأركان أو بعضها.
    وهذا ما فصله -رحمه الله- قائلاً: ''وإنما سأل جبريل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك وهم يسمعون وقال: { هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم } ليبين لهم كمال هذه الأسماء وحقائقها التي ينبغي أن تقصد لئلا يقتصروا على أدنى مسمياتها.
    وهذا كما في الحديث الصحيح أنه قال: {ليس المسكين هذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس إلحافاً}؛ فهم كانوا يعرفون المسكين وأنه المحتاج، وكان ذلك مشهوراً عندهم فيمن يظهر حاجته بالسؤال، فبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الذي يظهر حاجته بالسؤال والناس يعطونه تزول مسكنته بعطاء الناس له والسؤال له بمنزلة كفايته؛ لم يبق مسكيناً، وإنما المسكين المحتاج الذي لا يسأل ولا يُعرف فيعطى، فهذا هو الذي يجب أن يقدم في العطاء فإنه مسكين قطعاً، وذاك مسكنته تندفع بعطاء من يسأله '' وكذلك قوله: ''الإسلام هو الخمس يريد أن هذه كلها واجب داخل في الإسلام؛ فليس للإنسان أن يكتفي بالإقرار بالشهادتين، وكذلك الإيمان يجب أن يكون على هذا الوجه المفصل لا يكتفى فيه بالإيمان المجمل؛ ولهذا وصف الإسلام بهذا.
    وقد اتفق المسلمون على أنه من لم يأتِ بالشهادتين فهو كافر، وأما الأعمال الأربعة فاختلفوا في تكفير تاركها، ونحن إذا قلنا: أهل السنة متفقون على أنه لا يكفَّر بالذنب فإنما نريد به المعاصي كالزنا والشرب، وأما هذه المباني ففي تكفير تاركها نزاع مشهور '' .
    ثم ذكر الروايات عن أحمد في ذلك وقال: ''قال الحكم بن عتيبة : من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر، ومن ترك الزكاة متعمداً فقد كفر، ومن ترك الحج متعمداً فقد كفر، ومن ترك صوم رمضان متعمداً فقد كفر''.
    وقال سعيد بن جبير : [[من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر بالله، ومن ترك الزكاة متعمداً فقد كفر بالله، ومن ترك صوم رمضان متعمداً فقد كفر بالله، لا ترفع الصلاة إلا بالزكاة]].
    وقال عبد الله بن مسعود : [[من أقام الصلاة ولم يأت بالزكاة فلا صلاة له]].
    رواها أسد بن موسى
    وقال عبد الله بن عمرو: [[من شرب الخمر ممسياً أصبح مشركاً، ومن شربها مصبحاً أمسى مشركا. فقيل لـإبراهيم النخعي: كيف ذلك؟ قال: لأنه يترك الصلاة]].
    قال أبو عبد الله الأخنس في كتابه: ''من شرب المسكر فقد تعرض لترك الصلاة، ومن ترك الصلاة فقد خرج من الإيمان'' .
    وبهذا يتبين من الأحاديث وما شرحها به الأئمة أن الإيمان الذي هو قول وعمل هيئة جامعة لأمور، أو حقيقة مركبة من أمور هي الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة معاً، ولكل منهما أركان ترجع إلى أصل واحد.
    فالأعمال الباطنة هي (الإيمان) -الذي يشمل قول القلب وعمله- وقد سميت أصول الأجزاء الباطنة من الدين أركاناً، وهذه الأركان ترجع إلى أصل واحد هو الإيمان بالله، فما جاء في القرآن والسنة من ذكر الإيمان بالله فهو هذا الأصل الذي يشمل الأركان الأخرى كالإيمان بالملائكة والكتب والرسل، والأركان تتفرع عنها سائر تفصيلات الاعتقاد.
    والأعمال الظاهرة هي الإسلام الذي يشمل قول اللسان وعمل الجوارح، وأصول الأجزاء الظاهرة من الإيمان هي أركان الإسلام الخمسة، وهذه الأركان ترجع في الأصل إلى ركن واحد هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والباقي حقوق لها وفروع منها.
    فكل ما ورد من نصوص في أحكام المسلمين أو أصحاب التوحيد أو أهل القبلة، وما أطلق من تعليق النجاة في الدنيا والآخرة على الإقرار بالشهادتين فالمقصود به هو هذا، أي: من شهد بها قائماً بحقوقها فهو المسلم الموحد الذي يعد من أهل القبلة وتجري عليه أحكامهم وحقوقهم في الدنيا والآخرة؛ فحديث جبريل قاضٍ على ما سبقه بما فيه من زيادة أركان أو تفصيل إجمال.
    ومن تبين نصوص الشرع وواقع النفوس تبين له: '' أن كل قول وعمل لا بد له من ظاهر وباطن، فظاهر القول لفظ اللسان، وباطنه ما يقوم من حقائق الإيمان بالجنان، وظاهر العمل حركات الأبدان، وباطنه ما يقوم بالقلب من حقائقه ومقاصد الإنسان '' .
    وقد سبق تفصيل ذلك في حقيقة النفس الإنسانية، ومنه نعلم أن '' الظاهر لا بد له من باطن يحققه ويصدقه ويوافقه، فمن قام بظاهر الدين من غير تصديق بالباطن فهو منافق، ومن ادعى باطناً يخالف ظاهراً فهو كافر منافق، بل باطن الدين يحقق ظاهره ويصدقه ويوافقه، وظاهره يوافق باطنه ويصدقه ويحققه، فكما أن الإنسان لا بد له من روح وبدن وهما متفقان فلا بد لدين الإنسان من ظاهر وباطن يتفقان، فالباطن للباطن من الإنسان، والظاهر للظاهر منه'' .
    فشهادة أن لا إله إلا الله كلمة ظاهرة باللسان وباطنها الإيمان بالله، والإيمان بالله اعتقاداً باطن بالقلب، وظاهره شهادة أن لا إله إلا الله، فلا انفكاك لأحدهما عن الآخر في تحقيق الإيمان أبداً، ثم عنهما تتفرع الأركان ومنها تتشعب الشعب كما سبق.
    فأبعد الناس عن معرفة دين الإسلام وحقائقه من قال: إن الإيمان يتم والنجاة تحصل بدون شهادة أن لا إله إلا الله، فضلاً عن ترك سائر الأركان، وإن هذه الشهادة ما هي إلا علامة على الإيمان، وإن تركها مجرد علامة ظاهرة على عدم الإيمان من جهة إجراء الأحكام الدنيوية، وإلا فقد يكون الإيمان حاصلاً في القلب في الواقع ونفس الأمر.
    فجعلوا أعظم أركان الإسلام -التي هي الجزء الظاهر من الإيمان بالله- بمنزلة شهادة الشهود أو القرائن الظاهرة التي قد يكون الواقع مخالفاً لها، حتى إنهم قالوا: إن مَنْ سب الله أو قتل الرسول يجوز أن يكون مؤمناً في الباطن، ولا يكون كافراً قط إلا إذا انتفى العلم الباطني من قلبه.
    فإذا قيل لهم: قد جاء الكتاب والسنة بتكفير من كان لديه علم وتصديق باطن بدون انقياد بالقلب وإقرار باللسان، قالوا: من ورد فيه النص علمنا انتفاء الإيمان عنه بالنص لا بالنظر والفهم، وما سوى ذلك لا نجزم بكفره وإن أقمنا عليه أحكامه الظاهرة.
    وهذا الخطأ العظيم كان سبباً لما أحدثه المرجئة المعاصرون من أصول أكثر ضلالاً وخطأً في بعض الوجوه من متقدميهم، ولا سيما في مسألة التكفير التي ضل فيها أكثر الدعاة بين طرفي الإفراط والتفريط، وكان خوارج عصرنا رد فعل لمرجئتهم؛ فقد تولد التكفير الغالي في أحضان المرجئة الغالية، عكس ما حصل في القرن مِنَ تولد الإرجاء في أحضان الخروج.
    ولو أن علاقة الظاهر بالباطن وحقيقة كل منهما بالآخر كانت واضحة لدى هؤلاء؛ لسلموا من هذا التخبط الشديد.
    فكما أن المرجئة القدامى تصوروا وجود الإيمان في قلب من عاش دهره كله لم يسجد لله سجدة، ولا صام له يوماً، ولا أدى من زكاة ماله درهماً، ولا عقد النية على حج بيته، بل ربما كان معلناً بسب الله ورسوله مهيناً للمصحف عمداً، حتى لو قتلناه على شيء من ذلك قالوا: إن كان مقراً في نفسه فإنه يموت مسلماً عاصياً، وإذا امتنع عن التوبة يقتل حداً لا كفراً!!
    كما تصوروا ذلك جاء المرجئة المعاصرون فقالوا: إن من كان لا يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يقيم من شريعة الله إلا جزءاً قد يقل أو يكثر، لا يقيمه لأنه من أمر الله وامتثالاً له وإيماناً بدينه، بل لأنه موافق للهوى والمصلحة الذاتية، ومقر ممن يملك حق الإقرار والتشريع سواء كان شخص الزعيم أو الحزب أو المجلس التشريعي؛ فإنه لا يكفر إلا إذا علمنا أنه في قلبه يفضل شرائع البشر على شريعة أحكم الحاكمين، وما لم نطلع على ذلك فكل أعماله هي على سبيل المعصية، حتى وهو يصدر القوانين تلو القوانين ويترصد للمطالبين بتطبيق الشريعة ويلاحقهم بصنوف الأذى، ويظهر الموالاة الصريحة للكفار، ويلغي ما شرعه الله من الفروق الجلية بين المؤمنين والكفار من الرعية، ويرخص بإقامة أحزاب لا دينية، كل ذلك معاصٍ لا تخرجه من الإسلام ما لم نطلع على ما في قلبه فنعلم أنه يفضل شرعاً وحكماً غير شرع الله وحكمه على شرع الله وحكمه، أو يصرح بلسانه أنه يقصد الكفر ويعتقده، وأنه مستحل للحكم بغير ما أنزل الله!!
    فـمرجئة عصرنا أكثر غلواً من جهة أنهم لم يحكموا له بشيء من أحكام الكفر لا ظاهراً ولا باطناً، وأولئك لم يخالفوا في إجراء الأحكام الظاهرة عليه، لكن جوزوا إيمانه باطناً، فقالوا: لو قتلناه لأنه سب الله ورسوله فهذا السب دليل على كفره، وهو يوجب علينا تكفيره وقتله في أحكام الدنيا، لكن إن كان في قلبه مقراً بصدق الرسول فهو مؤمن ناج عند الله، أما هؤلاء فيحكمون بإيمان من ذكرنا مثاله ظاهراً وباطناً ولا يرونه مستوجباً لحد فضلاً عن تكفيره، بل يصرحون له بالموالاة والتأييد!!
    وهذا من أعظم المصائب التي ابتليت بها الدعوة الإسلامية في عصرنا، ومن أشدها مدعاة لإيضاح عقيدة أهل السنة والجماعة وبيانها للعامة والشباب لا سيما معرفة حقيقة الإيمان المركبة من الاعتقاد والامتثال، وتطبيق لوازم ذلك ومقتضياته على الواقع، وهي الحقيقة التي نرجو أن نكون قد أوضحنا الأدلة عليها فيما سبق.
    وقد أوجزها العلامة ابن القيم في كلمات ميسرة فقال: ''الإيمان حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علماً، والتصديق به عقداً، والإقرار به نطقاً، والانقياد له محبة وخضوعاً، والعمل به باطناً وظاهراً، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان، وكماله في الحب لله والعطاء لله والمنع لله'' .
    وإذ قد بينا حقيقة الإيمان المركبة من جهة دلالة النصوص، فقد بقي أن نكمل ذلك فنبين صحة ذلك وصوابه من جهة البراهين النظرية الواضحة مناقشين لشبه المخالفين فيها، وهذا على قسمين:
    الأول: بيان فساد مذهب المعتزلة والخوارج والمرجئة بالتفريق بين الحقيقة الواحدة المشتركة التي ادعوها، وبين الحقيقة المركبة التي أوضحناها، وحكم المعصية عند كلٍ بحسب ذلك.
    الثاني: بيان مأخذ السلف البرهاني في قولهم بأن تارك العمل مطلقاً لا إيمان له.
    وبيان الأول أن نقول: إن حقيقة الإيمان المركبة بالتقريب والتمثيل النظري كبناء أساسه شهادة أن لا إله إلا الله، ثم له أركان هي: المباني الأربعة، ثم تتفرع منه أجزاء أقلها إماطة الأذى عن الطريق، هذا من جهة الشمول.
    وهو من جهة قوة التركيب مثل الملح المركب من الكلور والصوديوم بحيث لو انتفى أحدهما انتفت حقيقته.
    وأفضل من ذلك أن نشبهه بالشجرة التي لها جذور وجذع وأغصان وورق أخذاً من قوله تعالى:
    ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ))[إبراهيم:24].
    وهو من جهة عدد أجزائه بضع وسبعون كما في الحديث. هذا عند أهل السنة والجماعة.
    وأما المعتزلة والخوارج من جهة والمرجئة من جهة أخرى؛ فقد اتفق جميعهم على أن الإيمان حقيقة واحدة مشتركة بين جميع المؤمنين في جميع الأعصار والأحوال، أي: هو ماهية معينة إما أن توجد وإما أن تفقد فلا أبعاض له بحيث يذهب بعضه ويبقى بعضه.
    وهذا ما سبق إيضاحه فيما مضى من مباحث.
    وعلى هذا قالوا: إن الإيمان لا يكون حقيقة مركبة من أمور أو هيئة جامعة لأمور؛ لأن زوال جزء من أجزاء الحقيقة المركبة أو الهيئة الجامعة يلزم منه زوال الاسم وانتفاء الماهية، وضربوا لذلك مثالاً بالعدد عشرة فقالوا: إن العشرة تتركب من آحاد يكون مجموعها عشرة، فإذا نقص منها واحد انتفى اسم العشرة. وهاهنا تظهر ثمرة الخلاف -أي: في صاحب الكبيرة وتارك الواجب أو النفل- بين هاتين وبين أهل السنة.
    فقالت الخوارج والمعتزلة: يلزمكم على هذا أن تنفوا الإيمان عمن ترك واجباً بل نفلاً؛ لأن الإيمان عندكم يشمل هذا كله ويلزمكم أن تحكموا بكفره -كما تقول الخوارج- أو تجعلوه في منزلة بين المنزلتين كما تقول المعتزلة .
    وقالت المرجئة: بل العكس هو الصواب؛ فلما كنتم لا تنفون الإيمان عن صاحب الكبيرة لزمكم ألاّ تقولوا: إن الإيمان حقيقة مركبة؛ لأن الحقيقة المركبة يلزم من زوال بعض أجزائها زوال الاسم، ونحن وأنتم متفقون على إثبات اسم الإيمان لصاحب الكبيرة؛ فلا يكون العمل من الإيمان إذن، ولا وجود للحقيقة المركبة، بل الإيمان هو القدر المشترك، أي: التصديق القلبي فقط.
    والجواب عن ذلك:
    أن قولنا: إن الإيمان حقيقة مركبة من القول والعمل الظاهر والباطن يتفق -ولله الحمد- مع النصوص، ومع الأمثلة العقلية كذلك في حكم العاصي وسائر الأحكام، وهذه الشبهة نقلبها عليكم؛ فنقول للمعتزلة والخوارج: أنتم جعلتم مرتكب الكبيرة خارجاً عن اسم الإيمان مطلقاً، فعلى مثالكم يكون من أنقص من العشرة واحداً مثل من لم يأتِ بشيء منها مطلقاً؛ فجعلتم التسعة والصفر سواء، وهذا ما تأباه البدائه والعقول!
    ونحن نقول: إن الإيمان أبعاض فمن أتى بتسعة أو ثمانية أو أقل فهو ناقص الإيمان، ولا نزيل عنه اسم الإيمان مطلقاً بسبب ذلك، ولكننا نزيل عنه -كما ورد في النصوص- اسم الإيمان المطلق - أي: غير المقيد بقيد، فنقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، كما نقول في هذا المثال: هو لديه عشرة إلا واحداً. وهذا الاستثناء صحيح لغة وشرعاً؛ قال الله تعالى: ((أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً))[العنكبوت:14]. أي: تسعمائة وخمسون.
    ونقول للمرجئة: أنتم قد جعلتم من جاء بواحد كمن جاء بالعشرة؛ حيث قلتم: إن العاصي كامل الإيمان.
    على أن التشبيه بالعشرة ليس من كل وجه إذ يفرقه أمران:
    أ- أن الرقم عشرة مجرداً تتساوى فيه أفراد العشرة، أما الإيمان فالأول من أفراده وهو شهادة أن لا إله إلا الله، يختلف جداً عن الأخير منها وهو إماطة الأذى عن الطريق؛ فبزوال الأول يزول اسم الإيمان ولا يزول بالأخير، فتبين أن المثال تقريـبـي فقط.
    ب- أن المركبات تختلف؛ فمنها ما يكون التركيب شرطاً في إطلاق الاسم كالملح، وكالإيمان بالنسبة لتركبه من القول والعمل معاً، ومنها ما لا يكون شرطاً وهو أكثر المركبات والهيئات المجتمعة سواء الشرعي منها واللغوي، فالأول كالطاعة والعبادة والخير والصدقة والإحسان والقرآن والحديث ونحو ذلك؛ فإن هذه الأسماء تطلق على القليل، وعند وجود البعض وزوال البعض، فالقرآن كله قرآن والسورة منه قرآن، وكذلك مجموع الطاعات إيمان، وكل طاعة منه إيمان، ولا يلزم من انتفاء بعض الأجزاء زوال الاسم.
    واللغوي: مثل البحر والكلام والتراب والجبل والقرية ونحو هذا؛ فإن الاسم يطلق على البحر كله وعلى الطرف منه والجزء من مائه، ولا يلزم من ذهاب بعضه ألا يطلق الاسم على الباقي.
    فالإيمان بالنسبة لتركبه من مجموع الطاعات هو كهذا، والمثال الأوضح -كما سبق- هو مثال الشجرة:
    فعلى مذهب المعتزلة والخوارج يكون قطع غصن من الشجرة إزالة لها ولاسمها بالكلية، وهذا واضح البطلان بالعقل والبديهة.
    وعلى مذهب المرجئة يكون استئصال الجزء الظاهر من الشجرة كله حتى لا يرى منه شيء لا يذهب اسم الشجرة وحقيقتها، لاحتمال أن يكون الجذر موجوداً، والاسم عندهم إنما يطلق على الجذر وحده - أعني قولهم: إن اسم الإيمان إنما يطلق على التصديق القلبي وحده.
    وأما أهل السنة والجماعة فهداهم الله للحق في المنقول والمعقول معاً؛ فإن الشجرة يبقى اسمها شجرة لكن يختلف الإطلاق، فالشجرة يعتريها النقص والقطع، فإذا أريد الشجرة الكاملة الممدوحة - قيل: هذه ليست كذلك بل هي ناقصة مع عدم زوال اسم الشجرة عنها، وإن أريد مطلق شجرة فهي شجرة فعلاً، ونعني بذلك: أن الإيمان المطلق لا يقال للعاصي، وأما مطلق الإيمان فيقال له ولا ينفى عنه.
    وقول المرجئة: إن من أتى بالمكفرات الظاهرة يمكن أن يكون مؤمناً في الباطن، هو كما لو رأى إنسان صخرة ثابتة في الأرض فقيل له: يمكن أن يكون أصلها الذي في الأرض جذر شجرة، وهذا ما لا يصدقه عاقل قط!!
    وبهذا يظهر فساد شبهة المرجئة وأنهم يعارضون النقل الصحيح والعقل الصريح بما لا حجة فيه، حتى إن إمام الأشعرية في عصره وأحد كبارهم بإطلاق الفخر الرازي صعب عليه التوفيق بين ما نقله واعتقده إمامه الشافعي من إجماع السلف على أن الإيمان قول وعمل، وبين شبهتهم هذه عن الحقيقة المركبة، فقال وهو يتحدث في مناقب الإمام الشافعي: '' قد نقلنا عن الشافعي -رضي الله عنه- أن الإيمان قول واعتقاد وعمل، وقال المتكلمون: الإيمان ليس إلا التصديق بالقلب واحتجوا عليه بوجوه '' .
    وذكر كلامهم المعروف بالاستدلال باللغة وشبهة العطف، ثم قال: ''واعلم أن قول الشافعي رضي الله عنه: لا يمكن جعله من المعايب؛ فإن الذي ذهب إليه مذهب قوي في الاستدلال والاحتجاج، إلا أن الذي اختاره علماء الأصول من أصحابنا هو هذا القول الثاني.
    واعلم أن القوم قد يقررون العيب من وجه آخر فيقولون: قد تقرر في بدايه العقول أن مسمى الشيء إذا كان مجموع أشياء فعند فوات تلك الأشياء لا بد أن يفوت المسمى، فلو كان العمل جزء مسمى الإيمان لكان عند فوات العمل وجب ألا يبقى الإيمان، لكن الشافعي رضي الله عنه يقول: العمل داخل في مسمى الإيمان، ثم يقول: الإيمان باق مع فوات العمل؛ فكان هذا مناقضة... '' .
    إلى أن يقول: '' وللشافعي أن يجيب فيقول: أصل الإيمان هو الإقرار والاعتقاد، فأما الأعمال فإنها من ثمرات الإيمان وتوابعه، وتوابع الشيء قد يطلق عليها اسم الأصل على سبيل المجاز، وإن كان يبقى الاسم مع فوات تلك التوابع، كما أن أغصان الشجرة قد يقال: إنها من الشجرة، مع أن اسم الشجرة باق بعد فناء الأغصان فكذلك هاهنا.
    واعلم أن على هذا التقدير يكون اسم الإيمان حقيقة في الإقرار والاعتقاد، ويكون إطلاق اسم الإيمان على الأعمال ليس إلا على سبيل المجاز، ولكن فيه ترك لذلك المذهب '' .
    فانظر كيف استشكل القضية، ثم أورد الشبهة، ثم أجاب بما يراه الصواب، ثم أقر بأن الجواب يلزم منه ترك مذهب إمامه الذي هو مذهب السلف قاطبة، ولو أنه تأمل مثاله الذي ذكره " الشجرة "؛ لذهب عنه الاضطراب.
    فإن قوله: '' إن أغصان الشجرة قد يقال: إنها من الشجرة '' ظاهر الخطأ من جهة الاحتمال؛ إذ لا احتمال فيه، بل هي منها على الحقيقة في اللغة والعقل وكلام الشارع كما في الآية السابقة.
    ويقال له: كيف يصح أن يكون إطلاق الشجرة على الجذع هو الحقيقة، وإطلاقه على الأغصان مجازاً، والاسم يطلق على الكل بلا تفريق؟!
    فهذا التكلف سببه انقداح الشبهة وعزل الأدلة اليقينية من النقل والعقل، وبذلك يظهر صدق مذهب أهل السنة وصحته، وسقوط شبهات المخالفين في مفهوم الحقيقة المركبة.
    وبعدها نبين الأمر الثاني وهو:
    مأخذ السلف في نفي الإيمان عن تارك جنس العمل من جهة النظر والواقع:
    ذكرنا فيما مضى نقولاً كثيرة عن السلف في أن ترك العمل مناف للإيمان، ونكمل هنا بذكر نقلين مهمين عن إمامين عظيمين من أئمة أهل السنة والجماعة: هما الإمام أحمد، وشيخه سفيان بن عيينة رضي الله عنهما:
    1- أما سفيان بن عيينة فقد روى عنه الإمام عبد الله بن الإمام أحمد قال: ''حدثنا سويد بن سعيد الهروي قال: سألنا سفيان بن عيينة عن الإرجاء فقال: يقولون: الإيمان قول وعمل. والمرجئة أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مصراً بقلبه على ترك الفرائض ( وجعلوه ) ذنباً بمنزلة ركوب المحارم وليسا سواء؛ لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمداً من غير جهل ولا عذر هو كفر '' .
    وبيان ذلك في أمر آدم وإبليس وعلماء اليهود.
    أما آدم فنهاه عن أكل الشجرة وحرمها عليه، فأكل منها متعمداً ليكون ملكاً أو يكون من الخالدين؛ فسمي عاصياً من غير كفر.
    وأما إبليس فإنه فرض عليه سجدة واحدة فجحدها متعمداً؛ فسمي كافراً.
    وأما علماء اليهود فعرفوا نعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه نبي رسول، كما يعرفون أبناءهم، وأقروا به باللسان ولم يتبعوا شرائعه؛ فسماهم كفاراً.
    فركوب المحارم مثل ذنب آدم وغيره من الأنبياء، وتركها على معرفة من غير جحود فهو مثل كفر علماء اليهود.
    فهذا الكلام الموجز الواضح هو تفصيل لأنواع من الكفر، وبيان لمناط تكفير تارك الفرائض.
    2- وأما الإمام أحمد فقد روى عنه الخلال رسالته إلى أبي عبد الرحيم الجوزجاني جواباً لسؤاله عن المرجئة، وفي آخرها يرد عليهم قائلاً: ''إن من يقول: إن الإيمان هو مجرد الإقرار يلزمه أن يقول: هو مؤمن بإقراره، وإن أقر بالزكاة في الجملة ولم يجد ( أو يَحُد ) في كل مائتين خمسة - أنه مؤمن.
    ويلزمه أن يقول: إذا أقر ثم شد الزنار في وسطه، وصلَّى للصليب، وأتى الكنائس والبيع، وعَمِل عَمَل أهل الكتاب كله، إلا أنه في ذلك يقر بالله؛ فيلزمه أن يكون عنده مؤمناً. وهذه الأشياء من أشنع ما يلزمهم '' .
    فهذا إلزام قوي يعرف به حكم تارك الالتزام بالطاعات، وهو إبطال لمذهب من يقول: إن انتفاء الإيمان الظاهر لا يكون معه عدم الإيمان إلا بانتفاء الإيمان الباطن؛ فجعلوا ترك جزء الحقيقة الباطن شرطاً في انتفاء الحقيقة بترك الجزء الظاهر، مع أن التركيب ينتفي -وتنتفي الحقيقة بانتفائه- إذا ذهب أحد الركنين سواء أكان هذا أم ذاك.
    وقد بين شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية المأخذ الواقعي والنظري لأئمة السلف في تكفير تارك الالتزام المصر بقلبه على ألاّ يعمل الفرائض، وإن كان مقراً بصدق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قرارة نفسه أو مدعياً الإقرار بها بلسانه، وأن من خالف ذلك من الفقهاء فقد دخلت عليه شبهة الإرجاء شعر أم لم يشعر؛ فقال -مكرراً ذلك بمعناه في مواضع أخرى كثيرة:
    '' إنه لا يتصور في العادة أن رجلاً يكون مؤمناً بقلبه مقراً بأن الله أوجب عليه الصلاة، ملتزماً لشريعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما جاء به؛ يأمره ولي الأمر بالصلاة فيمتنع حتى يقتل، ويكون مع ذلك مؤمناً في الباطن قط، لا يكون إلا كافراً، ولو قال: أنا مقر بوجوبها غير أني لا أفعلها؛ كان هذا القول مع هذه الحالة كذباً منه كما لو أخذ يلقي المصحف في الحش، ويقول: أشهد أن ما فيه كلام الله...أو جعل يقتل نبياً من الأنبياء ويقول: أشهد أنه رسول الله، أو نحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب. فإذا قال: أنا مؤمن بقلبي مع هذه الحال كان كاذباً فيما أظهره من القول.
    فهذا الموضع ينبغي تدبره، فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء: إنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يقتل أو يقتل مع إسلامه؛ فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية ... ''.
    وقال في أول كلامه: ''من الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويعيش وهو لا يسجد لله سجدة ولا يصوم من رمضان ولا يؤدي زكاة ولا يحج إلى بيته، فهو ممتنع ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة'' .
    واحترز في آخر كلامه ممن قد يعمل أعمال الإيمان لكن بغير قصد التعبد والإيمان فقال: '' قد تبين أن الدين لا بد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقلبه ولسانه ولم يؤد واجباً ظاهراً ولا صلاة ولا زكاة ولا صياماً ولا غير ذلك من الواجبات، (إلا أن يؤديها) لا لأجل أن الله أوجبها، مثل: أن يؤدي الأمانة أو يصدق الحديث، أو يعدل في قسمه وحكمه، من غير إيمان بالله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يخرج بذلك من الكفر؛ فإن المشركين وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...'' .
    وقد فصّل هذا القول في الإيمان كما فصله ابن القيم " في الصلاة " ونحن ننقل كلامه في الإيمان الذي قاله تعقيباً على ما قاله علماء السلف كـعطاء ونافع والحميدي والشافعي وأحمد من تكفير تارك جنس العمل - قال: '' وإنما قال الأئمة بكفر هذا؛ لأن هذا فرض ما لا يقع؛ فيمتنع أن يكون الرجل لا يفعل شيئاً مما أمر به من الصلاة والزكاة والصيام والحج ويفعل ما يقدر عليه من المحرمات، مثل الصلاة بلا وضوء وإلى غير القبلة ونكاح الأمهات، وهو مع ذلك مؤمن في الباطن، بل لا يفعل ذلك إلا لعدم الإيمان الذي في قلبه... ولهذا فرض متأخروا الفقهاء مسألة يمتنع وقوعها، وهو أن الرجل إذا كان مقراً بوجوب الصلاة فدعي إليها وامتنع واستتيب ثلاثاً مع تهديده بالقتل، فلم يصل حتى قتل هل يموت كافراً أو فاسقاً؟ على قولين.
    وهذا الفرض باطل فإنه يمتنع في الفطرة أن يكون الرجل يعتقد أن الله فرضها عليه، وأنه يعاقبه على تركها، ويصبر على القتل ولا يسجد لله سجدة من غير عذر له في ذلك؛ هذا لا يفعله بشر قط، بل ولا يُضرب أحد ممن يقر بوجوب الصلاة إلا صلّى، لا ينتهي الأمر به إلى القتل، وسبب ذلك أن القتل ضرر عظيم لا يصبر عليه الإنسان إلا لأمر عظيم، مثل لزومه لدين يعتقد أنه إن فارقه هلك فيصبر عليه حتى يقتل، وسواء كان الدين حقاً أو باطلاً، أما مع اعتقاده أن الفعل يجب عليه باطناً وظاهراً، فلا يكون فعل الصلاة أصعب عليه من احتمال القتل قط.
    ونظير هذا: لو قيل: إن رجلاً من أهل السنة قيل له: ترض عن أبي بكر وعمر فامتنع عن ذلك حتى قتل مع محبته لهما واعتقاده فضلهما، ومع عدم الأعذار المانعة من الترضي عنهما؛ فهذا لا يقع قط.
    وكذلك لو قيل: إن رجلاً يشهد أن محمداً رسول الله باطناً وظاهراً، وقد طلب منه ذلك، وليس هناك رهبة ولا رغبة يمتنع لأجلها، فامتنع منها حتى قتل؛ فهذا يمتنع أن يكون في الباطن يشهد أن محمداً رسول الله.
    ولهذا كان القول الظاهر من الإيمان الذي لا نجاة للعبد إلا به عند عامة السلف والخلف الأولين والآخرين، إلا الجهمية -جهماً ومن وافقه- فإنه إذا قُدِّر أنه معذور لكونه أخرس، أو لكونه خائفاً من قوم إن أظهر الإسلام آذوه، ونحو ذلك، فهذا يمكن ألا يتكلم مع إيمان في قلبه كالمكره على كلمة الكفر. قال الله تعالى: (( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ))[النحل:106].
    وهذه الآية مما يدل على فساد قول جهم، فإنه جعل من تكلم بالكفر من أهل وعيد الكفار، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان '' .
    ولما رأى المرجئة أن النصوص الشرعية، والآثار السلفية الواردة في تكفير من ترك العمل، أو عمل الكفر غير متسقة فيما ذهبوا إليه من الحكم بإيمان تارك العمل، ونفي وقوع الكفر بالعمل الظاهر مطلقاً، وليس لديهم حيلة أو جواب عنها قالوا: إنها واردة فيمن يستحل ذلك، أو كان جاحداً للوجوب، وهذا تأويل منقوض بفهم السلف الصالح للنصوص كما سبق عن الإمام أحمد والأوزاعي -رحمهم الله تعالى- وغيرهم، وحصر الكفر في الاستحلال فهم ناقص، ومجانب للصواب، ومخالف لأصول أهل السنة والجماعة من عدة أمور:
    أولاً: إن الكفر يكون:
    أ- بالاعتقاد في القلب كمن اعتقد أن لله نداً أو شريكاً أو مثيلاً، أو أنه لا يعلم كل شيء، أو لا يقدر على كل شيء، أو أن الساعة غير آتية وأن الله لا يبعث من في القبور، أو اعتقد أن القرآن اشتمل على باطل أو أن شيئاً مما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير حق، أو أن شريعة الإسلام لا تصلح لهذا العصر، أو أن الأولياء يتصرفون في الكون، أو يستجيبون لمن دعاهم واستغاث بهم.
    ومن ذلك النفاق الأكبر بكل ألوانه وصوره، وهو باب واسع.
    ب- ويكون بالقول باللسان كمن سب الله ورسوله ومدح الأصنام وهجا الأنبياء واستهزأ بالدين ودعا إلى الكفر والردة وسخر من بعض أحكام الشرع وصنف في ذلك أو قاله بأي وسيلة.
    جـ- ويكون بالعمل الظاهر كمن يقاتل الأنبياء ويعذب أتباعهم ويهدم المساجد ويحرق المصاحف ويذبح لغير الله ويسجد للأصنام، ويتعلم السحر أو يعلمه، ويقاتل المؤمنين مع الكافرين أو ينصرهم بالمال والسلاح على المؤمنين، ويكرم المرتدين ويعظمهم ويهين المؤمنين ويحتقرهم ويتحاكم إلى الطاغوت ويذهب إلى الكاهن ويصدقه ونحو ذلك، وعلى هذا تدل نصوص قطعية من الكتاب والسنة وعليه إجماع المسلمين قبل ظهور البدع وتبعهم كبار فقهاء الملة في أبواب حكم المرتدين من كتبهم - مما يطول نقله إلا من دخلت عليه شبهة الإرجاء أو تناقض فاتبع كلام إمامه في تصانيفه الفقهية وتبع المتكلمين في تصانيفه أو آرائه العقدية.
    فَحصر الكفر في قول القلب وحده ضلال عظيم، وخطأ بيِّن إن لم يكن كفراً صريحاً كما هو حال من صرح به أو التزم لوازمه، ولهذا ونحوه كفّر بعض السلف الجهمية ولم يعدوهم من فرق أهل القبلة، ونص شَيْخ الإِسْلامِ على أن من جوَّز أن يكون من تكلم بالتكذيب والجحد وسائر أنواع الكفر من غير إكراه - مؤمناً في الباطن " فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ".
    ثانياً: أن الاستحلال كفر برأسه: سواء فعل صاحبه ما أحل من المحرمات أو لم يفعل، ولهذا قال شَيْخ الإِسْلامِ في من سب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن اعتقاد حل السب كفر سواء اقترن به السب أو لم يقترن" .
    ولذلك فمن شرَّع الزنا أو الربا أو شرب الخمر وأصدر لها المراسيم والقوانين التي ترخص بها، وتحدد لها الأنظمة في عملها وعين المحاكم التي تختص بفض النزاع فيها ورتب حراستها وألزم بمقتضى ذلك فقد كفر، وإن لم يزن مرة واحدة أو يشرب من الخمر قطرة أو يأكل من الربا درهماً.
    ثالثاً: أن الكفر أعظم المعاصي بإطلاق: والاستحلال ينقل المعصية التي دون الكفر إلى مرتبة الكفر بإجماع أهل السنة والمرجئة سواء، فإذا ثبت ذلك فإلى أي مرتبة ينقل الاستحلال الكفر وليس وراءه مرتبة أخرى بل هو بذاته كفر، فدل ذلك على أن موضوعه المعاصي التي هي دون الكفر لا الكفر.
    فإن اقترن بالكفر كان زيادة فيه كمن يكفر بالبعث ثم يكفر بالله.
    رابعاً: أنه لا يجوز أن يقال: لا بد أن يكون المستحل مكذباً بالدين حتى يكفر كما لا يجوز أن يقال في المكذب بالدين: أن يكون مستحلاً للتكذيب فكذلك المعاند المستكبر والشاك وغيره فتبين أنه لا يصح جعل أحد أنواع الكفر شرطاً في الأنواع الأخرى أو قيداً فيها.
    خامساً: أن الاستحلال نفسه يكون بالاعتقاد والقول والعمل:
    فالاعتقاد واضح، والقول كمن يقول: إن الزنا أو الربا أو شرب الخمر حلال، ومن ذلك قصة قدامة بن مظعون ومن معه في شرب الخمر، والعمل كقصة الرجل الذي تزوج امرأة أبيه فأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتله وتخميس ماله، ولم يأمر بسؤاله أأنت مستحل أو مقر؟
    قال ابن القيم رحمه الله: '' روى الإمام أحمد والنسائي وغيرهما عن البراء رضي الله عنه قال: لقيت خالي أبا بُردة ومعه الراية فقال: أرسلني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله.
    وذكر ابن أبي خيثمة في تاريخه من حديث معاوية بن قرة عن أبيه عن جده رضي الله عنهم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه إلى رجل عرس بامرأة أبيه فضرب عنقه وخمَّس ماله.
    قال يحيى بن معين: هذا حديث صحيح.
    وفي سنن ابن ماجه من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من وقع على ذات محرم فاقتلوه}.
    وذكر الجوزجاني: أنه رفع إلى الحجاج رجل اغتصب أخته على نفسها، فقال: احبسوه وسلوا من هاهنا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألوا عبد الله بن مطرف -رضي الله عنه- فقال سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {من تخطى حرم المؤمنين فخطو وسطه بالسيف}.
    وقد نص أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد في رجل تزوج امرأة أبيه أو بذات محرم، فقال: يقتل ويدخل ماله في بيت المال.
    وهذا القول هو الصحيح وهو مقتضى حكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ '' أهـ.
    وقال ابن كثير في تفسير الآية: ((وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ...))[النساء:22]:
    ''فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئاً لبيت المال، كما رواها الإمام أحمد وأهل السنن من طريق البراء بن عازب...'' وذكر الحديث!! اهـ.
    وهذا لا علة له إلا الاستحلال بالفعل.
    سادساً: أن حصر الكفر في الاستحلال يقتضي أن لا يكفر أحد، يقول: أنا غير مستحل، وأنا أعتقد أن هذا حرام مهما عمل من المكفرات حتى من سب الله ورسوله، وأهان المصحف، ونجَّس المسجد، ونصر الكفار على المؤمنين، وشرع الكفر بكل أنواعه، ما دام لم يصرح بالاستحلال أو صرح باعتقاد أن ذلك حرام في الشرع.
    بل على هذا لا يكاد يكفر من الناس إلا القليل فإن أبا طالب مات على دينه وهو يعتقد أنه باطل وأن دين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الحق، وهرقل أقام على دينه مع اعتقاده أن ذلك حرام عليه ولكن شهوة الملك غلبت داعي الحق، وكذلك أحبار أهل الكتاب الذين اعتقدوا بقلوبهم وجوب اتباعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكن لم يتبعوه بل كثير من كفار قريش لم يكونوا يعتقدون صحة عبادة الأصنام وأنها خير من التوحيد وأن الله لم يحرم عبادتها!!
    وهكذا فأكثر كفر الخلق هو من جهة الإباء والاستكبار وترك الانقياد والاتباع لا من جهة اعتقاد أن الكفر حلال، فإن أكثر المتدينين في العالم يرتكبون المحرمات في دينهم، ولا يقولون: نعتقد أنها حلال فكيف إذا ارتكبوا الكفر؟ ولا سيما أهل الإسلام الذين يعلمون أن الخروج من الإسلام أكبر الذنوب بإطلاق فيندر أن تجد مسلماً لا يعتقد أن الكفر حرام وأن عاقبته النار.
    ولنضرب لذلك مثالاً لكفر العمل وآخر لكفر القول:
    أ- مثال كفر العمل: السحر:
    فإن الله تعالى قد بين حال أهله فقال: ((وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ))[البقرة:102].
    فإن الله تعالى حكم عليهم بالكفر وبين أن كفرهم هو تعليم السحر وبين أنهم يعلمون أن ذلك كفر، ويقولون للمتعلم: إنما نحن فتنة فلا تكفر، ويعتقدون أن عاقبة عملهم هذا هي الخسارة الكبرى في الآخرة، فلم يجعل علمهم بأنه كفر وتحذيرهم المتعلم منه واعتقادهم سوء عاقبته مانعاً من تكفيرهم.
    فهؤلاء لم يكفروا لأنهم كذَّبوا بالله ورسوله واليوم الآخر، ولا لأنهم كذَّبوا الرسل في قولهم: إن الله حرم السحر، ولا لأنهم اعتقدوا حل السحر أو فضلوه على كتاب الله، ولكنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كما في الآية التي قبلها، أي: تركوا العمل به واختاروا ما يعلمون ويعتقدون قطعاً أنه مفضول بل كفر وخيم العاقبة على ما يعلمون قطعاً أنه فاضل بل حق محض، وبهذا حكم الله عليهم بالكفر ونفى عنهم الإيمان والتقوى.
    قال شَيْخ الإِسْلامِ: '' فهؤلاء الذين اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون أنه لا خلاق لهم في الآخرة ومع هذا فيكفرون '' .
    فلو قدّرنا أن من يحكمون بالقوانين الوضعية لم يزيدوا على هؤلاء شيئاً، بل غاية فعلهم أنهم تركوا العمل بكتاب الله واتبعوا ما تقرره شياطين التشريع في الشرق والغرب وحذروا الناس من التحاكم إلى هذه القوانين وبينوا لهم أنها كفر، واعتقدوا أن مصيرهم إلى النار إن فعلوا ذلك لكنهم ظلوا يشرعونها ويحكمون بها؟ فهل يكون حكمهم شيئاً سوى الكفر!!
    فكيف وهؤلاء كما يعلم الناس بالتواتر لا يحذِّرون من قوانينهم، بل ولا يقولون: إن أصحابها من أهل النار ولا أن الشريعة أفضل منها -مجرد قول مع أنه غير نافع- بل يفخرون بإصدارها ويجعلون ذلك عيداً أو شبه عيد ويحاربون من دعاهم إلى تحكيم الشرع أيما محاربة، ويقولون بأنفسهم أو بأبواقهم: إن الشريعة قاصرة عن ملائمة الحياة، وإن أحكامها لا تصلح لهذا العصر، ويقولون: إن تحكيم هذه القوانين يحقق المصلحة الوطنية والخير والتقدم وحسن العاقبة... إلخ ما يتردد على ألسنة الزعماء وأعضاء المجالس التشريعية والصحفيين وسائر وسائل الإعلام!!
    فكيف يقال مع هذا: إن هؤلاء لا يكفرون إلا إذا كذَّبوا أو جحدوا الوجوب أو استحلوا، أو فضلوا أو ساووا...ونحو ذلك من العبارات التي تدل على شيء واحد، وهو أن يضموا إلى هذا النوع من الكفر نوعاً آخر منه.
    ورحم الله الشيخ محمد بن إبراهيم حيث فصل هذه الأنواع وجعل كلا منها كفراً بذاته، كما هو في كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومذهب السلف الصالح أجمعين، ثم أفرد القسم غير المكفر عنها جميعاً.
    وقال -أجزل الله مثوبته-: '' لو قال من حكَّم القانون: أنا أعتقد أنه باطل، فهذا لا أثر له بل هو عزل للشرع كما لو قال أحد: أنا أعبد الأوثان وأعتقد أنها باطل '' .
    ب- ومثال كفر القول: النطق بالكفر من غير إكراه، ودليل ذلك قوله تعالى: ((مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ))[النحل:106-107]. وذلك من جهتين:
    إحداهما: أن الله تعالى بين سبب استحقاقهم الوعيد بقوله: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ)) [النحل:107] الآية، فهم لم يستحبوا الكفر على الإيمان ولم يكذبوا الرسل في ذلك ولم يعتقدوا أن الكفر حلال لكنهم تكلموا بذلك مستحبين الحياة الدنيا على الآخرة.
    والأخرى: أنه استثنى المكره دالاً على أن من تكلم بالكفر من غير إكراه فإن صدره منشرح به، بدون اشتراط أو تقييد.
    يقول شَيْخ الإِسْلامِ بعد ذكر الآيات: ''فقد ذكر الله -تعالى- من كفر بالله من بعد إيمانه وذكر وعيده في الآخرة، ثم قال: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ))[النحل:107]، وبين تعالى أن الوعيد استحقوه بهذا، ومعلوم أن باب التصديق والتكذيب والعلم والجهل ليس هو من باب الحب والبغض، وهؤلاء -يعني المرجئة- يقولون: إنما استحقوا الوعيد لزوال التصديق والإيمان من قلوبهم...، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل استحباب الدنيا على الآخرة هو الموجب للخسران، واستحباب الدنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتصديق بأن الكفر يضر في الآخرة وبأنه ما له في الآخرة من خلاق، وأيضاً فإنه سبحانه استثنى المكره من الكفار ولو كان الكفر لا يكون إلا بتكذيب القلب وجهله لم يستثنِ منهم المكره لأن الإكراه على ذلك ممتنع، فعلم أن التكلم بالكفر كفر إلا في حال الإكراه'' .
    وختم بقوله: ''فمن تكلم بدون الإكراه لم يتكلم إلا وصدره منشرح به'' .
    وقال في الصارم المسلول عن الآية نفسها: ''ومعلوم أنه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط لأن ذلك لا يكره الرجل عليه، وهو قد استثنى من أكره ولم يرد من قال واعتقد لأنه استثنى المكره وهو لا يكره على العقد والقول وإنما يكره على القول فقط، فعلم أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم وأنه كافر بذلك إلا من أكره وهو مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدراً من المكرهين فإنه كافر أيضاً، فصار من تكلم بالكفر كافراً إلا من أكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان.
    وقال في المستهزئين: ((لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ))[التوبة:66]، فبين أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته''.
    سابعاً: أن حصر الكفر في " الاستحلال " قد لا يلزم حتى على مذهبهم وذلك لأن كلمة " الاستحلال " لا تدل على اعتقاد حل محرم، إلا بحسب الاصطلاح، أما في اللغة بل وفي كلام الشرع فإن المستحل هو المستمرئ للحرام الذي لا يعبأ بالتحريم ولا يبالي به كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { يستحلون الحر والحرير } فإذا احتاج المصطلح إلى قيد ليدل على المراد فكذلك يحتاج إلى النصوص الأخرى، فهذا اللفظ الذي لا يدل على الكفر بذاته كيف يجعلونه هو وحده مناط الكفر المناقض للإيمان دون ما سواه ويعدلون عما ورد صريحاً في الشك والنفاق والاستكبار والإعراض والتولي ونحوها مما في الكتاب والسنة؟!
    إذا تبين هذا بقي أن نعلم أن المرجئة -ومن اتبعهم وهو لا يشعر- لمّا أن حكموا بإيمان تارك العمل ونفوا وقوع الكفر بالعمل الظاهر مطلقاً لم يبق لهم غالباً من جواب أو حيلة يدفعون بها احتجاج أهل السنة عليهم بالنصوص الواردة في تكفير من ترك العمل أو عمل الكفر إلا القول بأن هذا في المستحل أو الجاحد للوجوب.
    فجعلوا جنس ترك العمل وارتكاب المكفرات من جنس ترك سائر الفرائض وارتكاب سائر المحرمات، وجعلوا الفاعل داخلاً تحت المشيئة موعوداً بالشفاعة، واستدلوا بما ورد من النصوص عاماً مطلقاً مثل: {من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة} وحديث الشفاعة -الجهنميين- الآتي بيانه، وضموا إلى ذلك الاستدلال بقول أهل السنة: " ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله " على إطلاقها فاستنتجوا من ذلك كله أن من كفّر أحداً -بترك ما تركه كفر أو فعل ما فعله كفر وهو غير مستحل لذلك- خرج عن قاعدة أهل السنة هذه ووقع في مذهب الخوارج أو بعضه!!
    وهذا خطأ بيِّن لا يخفى على من اطلع على ما سبق ونزيد هنا فيما يتعلق بهذه العبارة فنقول:
    1- الاستحلال عند أهل السنة والجماعة إنما متعلقه الذنوب التي دون الشرك أو الكفر -كما سبق- ولذلك يذكرون هذه العبارة في باب الرد على الخوارج والمعتزلة الذين يكفرون بالكبائر العملية التي هي من جنس المعاصي كالزنا وشرب الخمر كما هو معلوم - ولو كان جنس ارتكاب المكفر من جنس فعل المعصية وكان لا بد لكل من ورد فيه أنه كافر أن يقيد بالمستحل أو الجاحد مطلقاً كما يقولون لجاز أن نقول: (الزاني كافر) و(شارب الخمر كافر) بإطلاق، فإذا اعترضوا علينا قلنا: إنما نعني به المستحل أو الجاحد، كما تقولون: تارك الصلاة كافر، والحاكم بغير ما أنزل الله كافر، وتعنون المستحل أو الجاحد.
    والحق أن الإطلاق في الكل باطل كما وأن التقييد في الكل باطل، وأن الحق في اتباع النصوص كما في الفقرة (4) الآتية:
    يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: '' ونحن إذا قلنا أهل السنة متفقون على أنه لا يكفر بالذنوب، فإنما نريد به المعاصي كالزنا والشرب، وأما هذه المباني ( يعني: الأركان ) ففي تكفير تاركها نزاع مشهور '' .
    وقد سبق إيراد كلام الإمام سفيان بن عيينة في هذا التفريق.
    2- أن العبارة نفسها لا تدل على مرادهم بإطلاق، فإن فيها التقييد بكلمة " أهل القبلة " ومعلوم أن من ترك الصلاة التي هي رأس العمل الظاهر، بل من كفر بأي مكفر كان لا يسمّى عندهم من أهل القبلة.
    3- أن العبارة فيها إطلاق تنبه أهل السنة له وإن اشتبه الأمر على بعضهم، ولهذا تكلموا في تقييدها بما يدفع اللبس، ويزيل الإشكال، مثل أن تصبح " ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بكل ذنب ما لم يستحله " وفي نظري أن قولنا: ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بعمل دون الكفر ما لم يستحله " أوضح في المراد -وإن كانت تلك أجود في العبارة- كما أن هذه تزيل الإشكال الناشئ من كون الذنوب الاعتقادية قد تدخل في الصيغة الأولى، وهي لا يقال: يكفر صاحبها بالاستحلال، بل يقال: يكفر بالرد والإنكار، فتأمل.
    4- أن أهل السنة والجماعة متبعون لنصوص الشرع في كل شيء فما جعله الشرع كفراً بإطلاق فهو عندهم كفر بإطلاق -كمن ترك الصلاة أو تعاطى السحر أو حكم بشرع غير ما أنزل الله- وسموا فاعله كافراً بإطلاق، وما جعله من جنس المعصية لكن سماه كفراً سموه كفراً كذلك، ولم يكفروا فاعله بل جعلوه مرتكباً لعمل من أعمال الكفر وشعبة من شعبه، كقتال المسلم الوارد في الحديث: {...وقتاله كفر}، وحديث: {لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض} وما جاء في حديث: {اثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت} وبين هذا وما قبله فوارق من القرائن اللفظية والمعنوية يعلمها علماؤهم.
    ومن نفى -عنه الإيمان بفعل- ما هو من جنس المعصية ينفون عنه الإيمان لكن لا يخرجونه من الإسلام، وهذا هو معنى قولهم: " نثبت له مطلق الإيمان لا الإيمان المطلق "، وذلك كما ورد في حديث: { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...} الخ.
    ومن ارتكب ذنباً لم يجعله الشرع كفراً بإطلاق فهو مرتكب الكبيرة الذي وقع الخلاف فيه قديماً بينهم وبين الخوارج وحكمه عندهم -في الآخرة- أنه إن لم يقم به مانع من موانع إنفاذ الوعيد كالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية . ونحوها فهو تحت مشيئة الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، ولهذا فهم يجزمون بأن بعض أهل الكبائر سيدخلون النار، وأن بعضهم لن يدخلها - كما هو مقتضى الجمع بين الأدلة في هذه المسألة.
    كل ذلك باتباع مطرد للنصوص وجمع متسق بينها، وفق منهج منضبط لا خلل فيه ولا اضطراب.
    فلو قال قائل من أهل السنة: " ولا نكفر أحداً بذنب ما لم يستحله " وجب حمله على هذه الأصول وفهمه وفق ذلك المنهج.
    أما الخوارج والمعتزلة فيجزمون بأنه لن يدخل أحد من مرتكبي الكبائر الجنة وينكرون حديث الشفاعة وشبهه.
    أما المرجئة فيجوزون أنه لا يدخل أحد منهم النار، ولما كان الخوارج والمعتزلة ينبزون أهل السنة والجماعة بالإرجاء، وكان المرجئة ينبزونهم بالخروج بينوا الفوارق بينهم وبين كل من الطائفتين، ومن ذلك: أنهم يكفرون من ارتكب ما هو من جنس المكفرات، ولو كانت أعمالاً أو تركاً للعمل فليسوا إذن مرجئة.
    ولا يكفرون من ارتكب ما هو من جنس المعاصي ما لم يستحل ذلك فليسوا إذن خوارج.
    فمن هنا جاءت هذه العبارة؛ فتوسيع مفهومها أو وضعها في غير موضعها غير مقبول.
    على أن لهذه العبارة قرينة وضميمة ما كنت لأوردها هنا لولا أن محدث العصر الشيخ الألباني -رحمه الله- استشهد بكلام لقائلها متضمناً الخطأ نفسه في فهم العبارة السابقة، وأقره عليه بل أثنى على كلامه، وإلا فموضعها مبحث الشبهات النقلية؛ لأن بعضهم جعلها حديثاً.
    وهذه العبارة هي: '' لا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه '' .
    قال الإمام الطحاوي -رحمه الله- في استدلاله على أن تارك الصلاة لا يكفر: '' والدليل على ذلك أنَّا نأمره أن يصلي ولا نأمر كافراً أن يصلي، ولو كان بما كان منه كافراً لأمرناه بالإسلام فإذا أسلم أمرناه بالصلاة.
    وفي تركنا لذلك وأمرنا إياه بالصلاة ما قد دل على أنه من أهل الصلاة، ومن ذلك أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أفطر في رمضان متعمداً بالكفارة التي أمره بها، وفيها الصيام ولا يكون الصيام إلا من المسلمين.
    ولما كان الرجل يكون مسلماً إذا أقر بالإسلام قبل أن يأتي بما يوجبه الإسلام من الصلوات الخمس ومن صيام رمضان كان كذلك، ويكون كافراً بجحوده لذلك ولا يكون كافراً إلا من حيث كان مسلماً، وإسلامه كان بإقراره بالإسلام فكذلك ردته لا تكون إلا بجحوده الإسلام!! ''.
    وهذا الكلام يستحق ما قاله شَيْخ الإِسْلامِ في كلام القاضي أبي يعلى المشابه له '' زلة منكرة وهفوة عظيمة '' .
    وإنما قاله تبعاً لمذهب المرجئة الحنفية الذين يقولون: إن الإيمان هو التصديق، والإقرار والكفر هو ضد ذلك وهو التكذيب والجحود، أي: جحود الإقرار كما سبق تفصيل مذهبهم.
    ولو وقفنا على ما في هذا الكلام تفصيلاً لطال المقام لكننا نكتفي ببيان الخطأ الأكبر فيه، وهو أنه لا يخرج أحد من الإسلام إلا بترك الإقرار؛ لأنه يدخل في الإسلام بالإقرار فكيف يخرج منه بغير ما دخل به فيه!!
    ومعنى ذلك أن من لم يجحد الشهادتين لا يكفر مطلقاً لا باعتقاد ولا بعمل، بل هو من أهل ذلك الركن الذي جحد أو ترك، ألا تراه يقول في تارك الصلاة: '' وفي تركنا لذلك وأمرنا إياه بالصلاة ما قد دل على أنه من أهل الصلاة !! ''
    ولازم ذلك وطرده أن يقال: من كفر بالقرآن مع إقراره بالشهادتين فإن دعوتنا إياه للإيمان بالقرآن وتركنا دعوته للشهادتين دليل على أنه من أهل القرآن!!
    وقل مثل ذلك فيمن كفر بالملائكة أو الجنة أو النار..، وغيرها من أمور الاعتقاد.
    وفي العمل: يلزم منه أن الصحابة قد أخطأوا أو ضلوا حين سموا تاركي الزكاة كفاراً ومرتدين وقاتلوهم على ذلك، لأنهم حسب كلامه مسلمون من أهل الزكاة!! وهكذا.
    وهذا لا يشك في خطئه بل بطلانه لمن قرأه فضلاً عمن تأمله، وذلك أن القول بأن من تكلم بالشهادتين لا يكفر إلا بترك الإقرار بهما هو نوع من الإرجاء الغالي المذموم جدّاً عند السلف، والذي لا يفوقه غلواً إلا إرجاء الجهمية -أي: اشتراط ترك الإقرار القلبي الذي هو التصديق عندهم- وكلاهما معلوم الفساد والبطلان بالاضطرار من الدين وقد ذكر شَيْخ الإِسْلامِ: أن كل من تأمل كلام هؤلاء المرجئة يعلم بالاضطرار '' أنه لو قدر أن قوماً قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك -أي: لم يجحدوا الوجوب- ونقر بألسنتنا بالشهادتين -أي: لم يجحدوا الإقرار- إلا أنا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه؛ فلا نصلي، ولا نصوم، ولا نحج، ولا نَصدُق الحديث، ولا نؤدي الأمانة، ولا نفي بالعهد، ولا نصل الرحم، ولا نفعل شيئاً من الخير الذي أمرت به -أي: نترك جنس العمل- ونشرب الخمر، وننكح ذوات المحارم، بالزنا الظاهر، ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك ونأخذ أموالهم بل نقتلك أيضاً. ونقاتل مع أعدائك -أي: يفعلون جنس المحرم مطلقاً- هل كان يتوهم عاقل أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملوا الإيمان، وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة، ويرجى لكم أن لا يدخل أحد منكم النار؟
    بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به، ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك '' .
    فالعجب أن يقول الشيخ الألباني بعد أن نقل كلام الطحاوي هذا: '' قلت: وهذا فقه جيد، وكلام متين، لا مرد له ''.