سبق إيضاح أن حقيقة الإيمان هي أنه: (قول وعمل) وأن ذلك مجمع عليه بين السلف، متواترة على تأييده النصوص، متضافرة عليه الأدلة، لم يخالف فيه إلا مبتدع متنكب طريق الحق، معرض عن دلالات نصوص الوحي وشواهد العقل والفطرة إلى ما نضحت به أذهان الفلاسفة والمناطقة، وتعمقت فيه أوهام المتكلمين والمجادلين.
كما سبقت الإشارة -أو الإشارات- إلى أن هذين الركنين -أوالشطرين- " القول والعمل " تتكون منهما حقيقة واحدة جامعة لأمور متعددة، مثلما تتركب حقيقة الإنسان من الجسد والروح، بحيث يكون فقدان أحدهما بالكلية نفياً للحقيقة ذاتها.
ومن هنا كان القول والعمل -بالمعنى الذي سبق شرحه في موضعه- شطرين متمازجين متساويين في ضرورة الوجود وقوة الاشتراط، فكما أنه لا يصح وجود عمل لا قول معه قط، لا يصح كذلك وجود قول لا عمل معه قط.
وهذا ما تضمنته الفصول التي عقدت لبيان علاقة عمل القلب بقول اللسان، وعلاقة عمل الجوارح بأعمال القلب، وأثر كل منهما على الآخر، وهو ما نريد إيضاحه هنا منفرداً، فنقول:
إن أصل الخلاف بين أهل السنة والمرجئة في موضوع العمل هو أن المرجئة لا يقرون بهذه العلاقة التركيبية، بل يعتقدون أن الإيمان شيء واحد؛ هو تصديق القلب دون سائر أعمال القلب والجوارح -كما سبق مراراً- وهم يوافقون على أن من أتى بجميع أعمال الجوارح الواجبة والمستحبة ظاهراً، لكن قلبه مع ذلك خال من الإيمان أنه لا يكون مؤمنا، وذلك باستثناء الخلاف اللفظي الذي شذت به الكرامية، حيث تطلق عليه اسم الإيمان مع إقرارها أنه كافر مخلد في النار، فخالفوا في الاسم لا في الحكم ولكنهم يخالفون في عكس هذه القضية وهي أن أحداً لم يعمل عملاً من الأعمال الواجبة الظاهرة قط، حتى إنه لم ينطق بكلمة الشهادة؛ هو مع ذلك مؤمن كامل الإيمان.
وهي القضية التي ينفي أهل السنة وجودها في الواقع أصلاً -كما سنرى- والفرق بينها وبين القضية الأولى التي يقر بها المرجئة من حيث الوجود والعدم يرجع إلى الفرق بين مفهوم الإيمان المفترض وجوده عند الطائفتين، فلما كان الإيمان عند المرجئة هو التصديق على النحو الذي فسروه به، لم يصعب عليهم تصور وجوده مع فقد كل الأعمال الواجبة، لكنه لما كان عند أهل السنة له معنى آخر مركب، لم يتصوروا أن يوجد باطن الإيمان ولا يوجد شيء من ظاهره؛ لأن ذلك من قبيل افتراض وجود الأصل اللازم والعلة التامة، مع انتفاء الملزوم والمعلول، فهو نفي لتلك العلاقة التركيبية المزجية.
وهذا ما قرره السلف كثيراً؛ كقول أبي ثور في إلزام المرجئة : '' أرأيتم لو أن رجلاً قال: أعمل ما أمر الله به ولا أقر به، أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: لا. قيل لهم: فإن قال: أقر بجميع ما أمر الله به ولا أعمل منه شيئاً أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: نعم، قيل لهم: ما الفرق وقد زعمتم أن الله عز وجل أراد الأمرين جميعاً، فإن جاز أن يكون بأحدهما مؤمناً إذا ترك الآخر جاز أن يكون بالآخر مؤمناً -إذا عمل ولم يقر- لا فرق بين ذلك ''.
وسيأتي ما يؤيده من نصوص وآثار، والمقصود هو بيان أصل النزاع في المسألة، ويمكن تحرير ذلك باستخدام السبر والتقسيم فيقال:

إن تعلق العمل بالإيمان منحصر في أربع حالات لا خامس لها:
1- أن يجتمعا معاً، أي: إيمان القلب وعمل الجوارح.
2- أن ينتفياً معاً.
3- أن توجد أعمال الجوارح مع انتفاء إيمان القلب.
4- أن يوجد إيمان القلب مع انتفاء عمل الجوارح.
فأما القضية الأولى فمتفق عليها (مؤمن).
وأما القضية الثانية فمتفق عليها (كافر).
وأما القضية الثالثة فمتفق عليها (منافق).
وأما القضية الرابعة فهي المختلف فيها.
فـالمرجئة يلحقون حكمها بحكم الأولى، بل يقولون: إن إيمان من تنطبق عليه القضية الأولى كإيمان من تنطبق عليه الرابعة سواء بسواء؛ إذ الأعمال عندهم خارجة عن الإيمان، والإيمان شيء واحد، لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل الناس فيه -كما سبق بيانه- فهو لدى الاثنين سواء، بل قالوا ما هو أسوأ من ذلك؛ وهو أن ارتكاب جميع المحرمات، وترك جميع الطاعات لا يذهب شيئاً من الإيمان؛ إذ لو ذهب منه شيء لم يبق منه شيء.
وهذا القدر المشترك بينهم كاف في الرد عليهم جميعاً رداً واحداً، أي: من يعتبر النطق ومن لا يعتبره .
وأما أهل السنة والجماعة فينفون وجود الحالة الرابعة في الواقع أصلاً؛ بناء على مفهومهم الخاص للإيمان.
فتبين أن فساد تصور المرجئة للإيمان أدى بهم إلى تصور هذه الحالة، وعليه: فبيان خطأ قولهم هذا يستلزم فساد تصورهم للإيمان بلا ريب، وأن الإيمان الذي يتكلمون عنه ويصفونه ليس هو الإيمان الشرعي بحال.
كما أنه يدل على تناقض من وافقهم من الفقهاء المنتسبين إلى السنة والأئمة في بعض الأحكام الظاهرة، كالقول بأن تارك الصلاة المصر على تركها حتى ضربت عنقه بالسيف إنما قتل حداً؛ إذ إن مذهب المرجئة في حكم تارك الصلاة يتفق ومفهوم الإيمان عندهم، لكن من يعتقد أن الإيمان قول وعمل -ويكون ذلك مذهب إمامه- كيف يوافقهم على أن تارك جميع العمل لا يكفر، إلا إذا انتفى منه تصديق القلب -أي: كان مستحلاً أو غير مقر بالوجوب- ويوافقهم على أن شاتم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومهين المصحف عمداً وقاتل النبي كافر ظاهراً، ويجوز أن يكون مؤمناً في الباطن؟!
و أهل السنة حين يقرون أن ترك العمل ترك لركن الإيمان الذي لا يكون إلا به، لا يعتمدون على تفلسف أو نظريات ذهنية، وإنما ينطلقون من منطلق واقعي وعلمي في غاية الوضوح؛ وهو أن هذه الحالة الرابعة لا وجود لها في واقع الجيل الأول، ولا في تصوره، وكذا لا وجود لها في الواقع النفسي المحسوس، كما لا يمكن أن تتفق مع حقيقة الإيمان الشرعية التي تشهد النصوص بأنها مركبة من القول والعمل معاً، كما لا تتفق مع النصوص الأخرى الكثيرة في حكم التولي عن طاعة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وترك الامتثال لأوامره، والتخاذل عن القيام بفرائضه.
وهو كذلك مناقض لما ورد عن السلف الأخيار، والأئمة الأعلام في هذا الأمر.
ومع تقدم إيضاح بعض هذه الاستدلالات نزيد هنا بإيضاح البعض الآخر -مع التذكير بما سبق- فنقول:
  1. أولاً: ترك العمل في ضوء واقع الجيل الأول، وحقيقة النفس الإنسانية

  2. ثانياً: بعض النصوص الشرعية في حكم ترك العمل

  3. ثالثاً: ما ورد من الآيات في حكم التولي عن الطاعة

  4. رابعاً: الآيات في اقتران العمل بالإيمان

  5. خامساً: الأحاديث الدالة على حقيقة الإيمان المركبة