قبل الشروع في عرض حقيقة الإيمان المركبة، ننبه إلى أن لازم ذلك وهو انتفاء الإيمان عن تارك جنس العمل المعين ليس هو المقصود منه بالذات، فهذه المسألة على أهميتها ليست من صلب موضوعنا، وإنما يهمنا بيان الحقيقة المركبة للإيمان، ولوازمها، ومعرفتها كما هي في مذهب أهل السنة والجماعة، أي: أن يعلم الحق في ذلك ويعتقده، مثل سائر الأمور الاعتقادية العلمية التي يجب معرفة الحق فيها واعتقاده، بغض النظر عما ينبني على ذلك من أحكام وآثار تتعلق بأعيان العباد، وعما يشذ عن ذلك من خصوصيات أو حالات عارضة؛ إذ كثير من هذه الأمور هي مجال للاجتهاد ومحل للنظر، ونحن غرضنا إثبات الحكم الشرعي لا تحقيق مناطه.
* نقول ذلك احترازاً من أمرين:
1- الحكم على المعين الذي لا بد فيه من تحقق شروط وانتفاء موانع -كما هو من أصول مذهب أهل السنة والجماعة الذين هم أعدل الناس وأرحم الناس، واستيفاء ذلك خارج عن موضوعنا هنا، لكن غير مؤثر في معرفة الحكم النظري المجرد.
فالواقع أن إجراء الأحكام الظاهرة من أهم أسباب توقف بعض المنتسبين للعلم والدعوة قديماً كما بين شَيْخ الإِسْلامِ، وحديثاً كما نرى عند القول بكفر تارك العمل كله، مع ثبوت الإجماع على كفر تارك الصلاة عن الصحابة رضوان الله عليهم، وسبب ذلك ظنهم أن هذا القول واعتقاده يوجب إجراء أحكام الردة على كل من علموه أو ظنوه كذلك، والحال أن في الأمر تفصيلاً هذا موجزه:
تارك جنس العمل قبل أن يستتاب وتقام عليه الحجة هو في حقيقة الأمر موضع دعوة، وموضوع بحث ونظر، ولا إشكال في إجراء أحكام الإسلام الظاهرة عليه، ولمن عرف حقيقة حاله أن يدع الصلاة عليه، وأن يمنعه حقوق المسلم المعروفة، لكن ليس عليه إعلام كل أحد بذلك وإلزامه به إلا لمصلحة شرعية، مع الالتزام بالمنهج الصحيح في الدعوة والهجر وقواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحقيق أعلى المصلحتين ودفع أكبر المفسدتين، وفي معاملة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرءوس النفاق أعظم القدوة وخير الأسوة.
فإذا أقيمت عليه الحجة، وعرضت عليه التوبة، فلا يخلو أمره حينئذٍ من حالين:
* الأول: أن يلتزم بأداء ما فرض الله عليه من العمل -لا سيما الصلاة- ويعمل حالاً ما يتعين عليه عمله منها في الحال.
فهذا يحكم له بالإسلام ظاهراً، ونكل أمره إلى الله، فإن كان صادقاً في الباطن، وإلا فليس بأعظم من رءوس المنافقين الذين كانت تجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة مع كونهم كفاراً، في الدرك الأسفل من النار، فهو ممن يصلي أحياناً ويدع أحياناً -كما هو حال كثير من المنتسبين للإسلام- فهؤلاء تجري عليهم الأحكام الظاهرة، حتى تقوم البينة على المعين منهم أنه مصر على الترك، وسيأتي إيضاح ذلك إن شاء الله.
* الثاني: أن يأبى التزام ذلك، ويعرض على السيف حتى يقتل وهو مصر، يرضى أن تزهق روحه ولا يؤدي من فرائض الله شيئاً، فهذا كافر ظاهراً وباطناً على القول الصحيح الذي ليس في مذهب أهل السنة والجماعة غيره، وإن كان في المنتسبين إليهم من دخلت عليهم شبهة المرجئة في ذلك، فقال: هو عاص ويقتل حداً.
2- الحالات العارضة أو الخاصة التي لا تناقض الأصول الكلية والقواعد القطعية في الشرع ولا تعارضها، بل غايتها؛ أن تعلق الحكم وتخصصه بوجه من وجوه التخصيص، وذلك خلاف ما فعلته المرجئة، حين عارضت ذلك بمثل قولهم: إن الأخرس لا يجب عليه الإقرار باللسان، فلا يكون القول ركناً في الإيمان ولا جزءاً من ماهيته.
وإن الذي أسلم ثم مات عقب ذلك قبل أن يعمل يسمى مؤمناً، ومثله من مات من المسلمين قبل نزول بعض الفرائض، وإن الله يخرج من النار أقواماً لم يعملوا خيراً قط، ونحو ذلك.
وخلاف ما قاله الخوارج والمعتزلة حين ردوا النصوص الصحيحة في مثل هذه الأمور لمعارضتها الأصول عندهم.
فإذا وضعنا هذا في الاعتبار وتذكرنا ما سبق إيراده من أصول المرجئة، وأهمها أن الإيمان شيء واحد؛ لا يزيد ولا ينقص ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتفاضل أهله فيه، وأنهم تبعاً لهذا الأصل أخرجوا أعمال الجوارح وأعمال القلوب منه.
  1. أهم شبهات المرجئة في حكم تارك العمل

    بقي أن نعرف أهم شبهاتهم في حكم تارك العمل، ونرد عليها بالتفصيل، مع بيان حكمه عند أهل السنة والجماعة وأدلتهم بالتفصيل أيضاً.
    وقد رأيت أن أجمل هذه الشبهات بالذكر، ثم أرد عليها مبثوثة ضمن بيان الحق من معتقد أهل السنة والجماعة في ذلك، فيكون همنا ومرادنا الأساس في هذا الباب هو إيراد الحق وتفصيله، ثم مناقشة الشبهات وإبطالها؛ وذلك لأن الشبهات والأجوبة متداخلة والتيسير والإيضاح مطلوب حسب الإمكان، والله المستعان.
    فنقول: إن أهم هذه الشبهات هي:
    1- اعتقادهم أن الكفر هو التكذيب المجرد، إذ هو ضد الإيمان الذي هو عندهم التصديق المجرد -كما رأيت من كلامهم- مع أن الكفر في الشرع منه كفر تكذيب، وكفر استهزاء، وكفر إباء وامتناع وإعراض، وكفر شك، ويتفرع عن هذا كلامهم في " الاستحلال " كما سنبين إن شاء الله.
    2- عدم فهمهم لعلاقة الظاهر بالباطن وارتباطه به، ومن هنا كانت ضرورة بيان حقيقة الإيمان المركبة، كما سنبين تفصيلاً بإذن الله.
    3- أنهم جعلوا كفر القلب شرطاً في كفر الجوارح -على مفهومهم للكفر- والحال أن الكفر يكون باللسان وبالجوارح وبالقلب، أي: يدخل في الأعمال كما يدخل في الاعتقادات، وذلك كالسجود للصنم وإهانة المصحف عمداً ونحوها.
    4- خطؤهم في فهم معنى الجحود الوارد في الشرع، أو إطلاقه على غير ما وضع له شرعاً واستعمله فيه السلف، أو حصره في معنى واحد من معانيه.
    فالجحود في اللغة وعُرف السلف يطلق على الامتناع عن أداء الحق الواجب، وأوضح مثال: تسمية المرتدين جاحدين للزكاة، ومعلوم أنهم لم ينكروا أن الله فرض الزكاة، ويقولون إنها ليست من الدين، ولو قالوا ذلك لسموا جاحدين للدين والقرآن، ولما اختلف الصحابة في شأنهم قط، ولما احتيج في الاستدلال على كفرهم إلى قياس ولا غيره، إنما جحدوا الالتزام بها، أي: أصروا على ألا يدفعوها- مع الإقرار بأنها من الدين- ولهذا عرضت الشبهة لـعمر وغيره في قتالهم، حتى استدل الصديق بما هو مجمع عليه بينهم من تكفير تارك الصلاة (لا جاحد وجوب الصلاة).
    فمناط الاختلاف في أمرهم أولاً، ثم مناط الاتفاق على قتالهم وتسميتهم مرتدين أخيراً كان المنع والإباء، وقد بلغ الأمر بالصحابة من زوال الشبهة إلى أن قالوا: [[لو أطاعنا أبو بكر كفرنا]] .
    كما أن أصل الخلاف بين السلف والمرجئة القدماء إنما كان في ترك الطاعات لا في إنكار وجوبها، لكن مع تطور الظاهرة وتداخل الشبهة، ودخول شبهة الإرجاء على بعض الأئمة من الفقهاء أو أتباعهم حصل ما حصل مما سيأتي بيانه وتفصيل الأجوبة عليه بإذن الله.
    ومثل " الترك " غيره من الألفاظ، كما سيأتي بيانه.
    5- شبهات نقلية أفردنا لها مبحثاً خاصاً كما سترى.