ونبدأ ذلك ببيان موجز لما تعرض له عمل القلب من إعراض أو إسقاط أو خفاء لدى الأمة الإسلامية في عصور الانحراف، فنقول:
  1. أعمال القلوب عند بعض الطوائف

    1- المتكلمون:
    وهؤلاء أهملوا أعمال القلب بالكلية جاعلين الإيمان قضية عقلية بحتة ولم يثبتوا من أعمال القلب سوى التصديق الخبري الذي هو في الحقيقة أشبه بالعمل الذهني الخالص -وإن نسبوه للقلب-.
    وأصل هذا المذهب هو ذلك المبتدع الضال الجهم بن صفوان والمؤسف جداً أن أكثرية متكلمي الأمة -وهم الأشاعرة والماتريدية- اعتنقوا هذا المذهب مع إطباق أئمة السلف المعاصرين لنشأته على تكفير جهم وأصحابه واعتبار الجهمية فرقة خارجة عن فرق أهل القبلة الثلاث والسبعين.
    ومن أغرب التناقضات عند هؤلاء أن يكون ما نقله أبو الحسن الأشعري نفسه في المقالات عن جهم والصالحي وبشر المريسي اليهودي هو ذات عقيدتهم التي صرح بها الباقلاني والجويني وسائر أئمتهم إلى الإيجي ومن جاء بعده.
    وليس هذا موضع المقارنة بين الجهمية والأشاعرة وحسبنا أن ننقل مذهب جهم كما سطره الأشعري نفسه، ثم نقارنه بكلام أكبر أئمة الأشاعرة المتقدمين وناشر مذهبهم القاضي الباقلاني
    يقول الأشعري في أول حديثه عن فرق المرجئة واختلافهم: ''فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن الإيمان بالله هو المعرفة بالله وبرسله، وبجميع ما جاء من عند الله فقط، وأن ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب والمحبة لله ولرسوله والتعظيم لهما والخوف منهما (كذا) والعمل بالجوارح فليس بإيمان...قال: وهذا قول يحكى عن الجهم بن صفوان ''
    ويقول الباقلاني -في بيان ما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به-: ''وأن يعلم أن الإيمان بالله عز وجل هو التصديق بالقلب...والدليل على أن الإيمان هو الإقرار بالقلب والتصديق قوله عز وجل: ((ومَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ولَوْ كُنَّا صَادِقِينَ))[يوسف:17]... وقد اتفق أهل اللغة قبل نزول القرآن وبعث الرسول عليه السلام على أن الإيمان في اللغة هو التصديق دون سائر أفعال الجوارح والقلوب'' .
    فهذا اتفاق بينهما على أن أعمال القلب والجوارح غير داخلة في الإيمان.
    صحيح أن الجهمية تقول: إن الإيمان المعرفة والأشاعرة يقولون: الإيمان التصديق، ولكن ما تمحله الأشاعرة وتكلفوه من التفريق بين المعرفة وبين التصديق المجرد أمر لا يقبله العقلاء، ولهذا رد عليهم شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية قائلاً: ''إن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالي عن الانقياد -الذي يُجعل قول القلب- أمر دقيق وأكثر العقلاء ينكرونه، وبتقدير صحته لا يجب على كل أحد أن يوجب شيئين لا يتصور الفرق بينهما، وأكثر الناس لا يتصورون الفرق بين معرفة القلب وتصديقه ويقولون: إن ما قاله ابن كلاب والأشعري من الفرق كلام باطل لا حقيقة له وكثير من أصحابه اعترف بعدم الفرق...''.
    إلى أن يقول: ''والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه عسر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صادق وبين تصديق قلبه تصديقاً مجرداً عن الانقياد وغيره من أعمال القلب بأنه صادق'' .
    وأيضاً فلو أضاف المتكلمون إلى التصديق شيئاً آخر -من أعمال القلب- لا نَجْزم أصلهم وفسدت قاعدتهم التي هي: أن الإيمان شيء واحد لا يتركب ولا يزيد ولا ينقص، ولهذا ألزمهم الإمام أحمد رحمه الله إلزاماً لا محيص لهم عنه حين قال في رسالته إلى الجوزجاني: ''وأما من زعم أن الإيمان: الإقرار، فما يقول في المعرفة هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار؟
    وهل يحتاج إلى أن يكون مصدقاً بما أقر؟
    قال محمد بن حاتم: وهل يحتاج أن يكون مصدقاً بما عرف؟
    فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد زعم أنه من شيئين، وإن زعم أن يكون مقراً ومصدقاً بما عرف فهو من ثلاثة أشياء، فإن جحد وقال: لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق، فقد قال قولاً عظيماً ولا أحسب أحداً يدفع المعرفة.
    قال المروزي: ولا أحسب أحداً يدفع المعرفة والتصديق'' .
    ففي هذه الأسطر الموجزة ألزم الإمام أحمد إلزاماً مفحماً كل طوائف المرجئة -المتكلمين منهم والفقهاء- الذين يشتركون جميعاً في أصل واحد هو: عدم إدخال أعمال القلب في الإيمان، واعتباره عملاً واحداً فقط؛ إما الإقرار ( الفقهاء ) وإما التصديق والمعرفة ( المتكلمون: الجهمية والأشاعرة والماتريدية ) وهو أَلزم شيءٍ للمتكلمين الأشاعرة والماتريدية الذين يفرقون بين مذهبهم ومذهب جهم بالتفريق بين المعرفة -التي هي قول جهم- وبين التصديق الذي هو مذهبهم.
    فهذا التفريق نفسه يوقعهم في هذا الإلزام ولا مناص، فإما أن يلتزموا القول بأن الإيمان هو التصديق المجرد عن المعرفة -وهو ما لا يتصور أن أحداً يقوله- وإما أن يقولوا: إنه المعرفة مع التصديق، فيبطل أصلهم الثابت، وهو: أنه شيء واحد لا يتركب ولا يتعدد، وحينئذٍ يلزمهم إدخال سائر أعمال القلب كما أدخلوا المعرفة.
    والحاصل أن هؤلاء لو تجردوا من لوثة التقيدات المنطقية والتكلفات النظرية التي نقلوها عن الفلاسفة ونظروا لآيات الوحي المبين -التي عرضنا بعضها- لأثبتوا أعمال القلب جميعها أجزاء من الإيمان القلبي الذي هو أهم شَطْري الإيمان.
    2- المتصوفة:
    كان ضَلال المتصوفة في أعمال القلب من نوع آخر، فالقوم مع اهتمامهم الشديد بها وتسميتها أحوالاً ومقامات وتفصيل دقائقها، أوقعهم الهوى والابتداع ومتابعة أسلافهم من صوفية الوثنيين الهنود واليونان في تناقضات وتخبطات أخرجت طائفة منهم عن الدين كله.
    فمن ذلك ضلالهم في الرضا -الجامع للانقياد والقبول- فقد خرجوا فيه عما كان عليه السلف إلى معنى فلسفي وثني هو: الرضا المطلق بكل ما في الوجود لأنه من إرادة الله وقدره، حتى اعتقدوا وجوب الرضا بالكفر والفسوق والعصيان ووقعوا في الجبر المحض تحت ستار ما أسموه شهود الحقيقة الكونية!! والاستبصار بسر الله في القدر!!
    وضلوا في الرجاء والمحبة؛ حيث افتعلوا بينهما تناقضاً؛ فاحتقروا الرجاء واعتبروه أضعف مقامات المريدين، وغلوا في المحبة حتى أسقطوا ما يقابلها من الخوف، وجعلوا همهم -بزعمهم- عبادة الله لذاته لا طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره وجعلوا ذورة المحبة: الفناء في المحبوب، ولهذا قال فيهم السلف: ''من عَبَد الله بالحب وحده فهو زنديق'' وأفضى بهم هذا إلى احتقار الجنة والنار، واحتقار مقام الأنبياء، بل اعتقاد الحلول والوحدة عياذاً بالله!!
    ومن الناحية العلمية وضعوا قاعدة: (المحبة نار في القلب تحرق ما سوى المحبوب) واتخذوها ذريعة للتنصل من التعبدات التي تشغلهم عن المحبوب -بزعمهم- كالاشتغال بجهاد أعدائه وتعلم دينه وتعليمه، ونشر دعوته بين العالمين.
    وضلوا في التوكل؛ فجعلوه سلبية مطلقة، وتواكلاً رخيصاً، وتسولاً للمعطين، وتعمداً لإلحاق الضرر بالنفس، وتركاً للأسباب المشروعة، بل تركاً لأعظم التعبدات -كالدعاء مثلاً- فأسقطوا به وبالمحبة من أعمال القلوب الشيء الكثير، فضلاً عن أنهم غفلوا عن أعظم درجات التوكل وهو: التوكل على الله في إقامة دينه والجهاد في سبيله ومقاومة الكفر والفساد، كما هو توكل الأنبياء.
    وضلوا في الزهد؛ فأخرجوه من عمل قلبي إيجابي إلى مظهر سلبي، حتى إنهم حَرَّموا به طلب العلم؛ لأن ذلك كما قالوا: يؤدي إلى تقدير الناس للعالم، وهذا -بزعمهم- ينافي الزهد، وعبّدوا الأمة للفقر، حتى سمُّوا أنفسهم الفقراء وسموا الله تعالى الفقر!!
    وبالجملة فلا تكاد تجد شرطاً من شروط لا إله إلا الله، ولا عملاً من أعمال القلب، إلا ولهم فيه ضلال وانحراف، مما كان له أثره العميق في انتشار الظاهرة واقعياً، ولولا أن غرضنا هنا تتبع الظاهرة في الفكر وآراء الفرق لتوسعنا في تفصيل ذلك الذي هو أليق بالواقع والحياة.
    3- المرجئة الفقهاء: .
    وهؤلاء يثبتون أعمال القلب في ذاتها ولا ينكرون أهميتها، لكنهم يجعلونها شيئاً آخر سوى الإيمان، كما يخرجون منه أعمال الجوارح، فإذا سئلوا عن علاقتها بالإيمان قالوا: هي من لوازمه أو ثمراته.
    وتأتي خطورة مذهبهم -لا سيما في العصور الأخيرة- من جهة أن الإخلال بشيء من أعمال القلوب -التي يعد الإخلال بها كفراً أو معصية في نظر الشارع- لا يكون -على مذهبهم- إخلالاً بالإيمان -الذي هو الإقرار والتصديق- إلا باللازم والتبع وحسبك بهذا ذريعة إلى التساهل في ذلك - ولو بمرور الزمن وتطور الظاهرة، ولهذا ألزمهم أهل السنة إلزاماً لا محيص لهم عنه كما سبق في كلام الإمام أحمد.
    وكذلك يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: ''والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، والأعمال ليست منه، وكان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها، ولم يكن قولهم مثل قول جهم، فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمناً إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه، وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم -أي: بخلاف قول الأشاعرة في هاتين القضيتين- ، لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضاً'' .
    وهنا ينبغي التنبيه على أمر مهم وهو: أن ما ورد عن كثير من التابعين وتلامذتهم في ذم الإرجاء وأهله والتحذير من بدعتهم، إنما المقصود به هؤلاء المرجئة الفقهاء؛ فإن جهماً لم يكن قد ظهر بعد، وحتى بعد ظهوره كان بـخراسان ولم يعلم عن عقيدته بعض من ذم الإرجاء من علماء العراق وغيره، الذين كانوا لا يعرفون إلا إرجاء فقهاء الكوفة ومن اتبعهم، حتى إن بعض علماء المغرب كـابن عبد البر لم يذكر إرجاء الجهمية بالمرة.
    ثم حصل في القرن الرابع فصاعداً ما يشبه الاندماج بينهم وبين الأشاعرة ولم يبق لهم اليوم من وجود إلا بعض الحنفية ومن هؤلاء من يرى الخلاف بينهم وبين السلف لفظياً فقط، اعتماداً على كلام شارح الطحاوية وبعض مواضع من كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وقد تقدم بيان الحق في ذلك.
    4- طائفة رابعة ليست كأحد من هذه الفرق البدعية:
    ولكن خفي عليها مأخذ السلف، فظهرت بمظهر العجز عن إثبات عقيدتها، ونسبت للتقليد المحض، وأعني بذلك كثيراً من متأخري أهل السنة الذين لم يقوموا بعمل كافٍ لصد تيار الإرجاء العصري؛ بسبب عدم إدراكهم لبعض أسس العقيدة ومنطلقاتها، ومن ذلك موضوع أعمال القلوب، فقد أعياهم الجواب أمام مطالبة المرجئة بدليل على شروط لا إله إلا الله من انقياد وقبول ويقين وصدق وإخلاص...إلخ وزعمهم أن هذا من ابتداع ابن تيمية أو محمد بن عبد الوهاب الذي لا أصل له في كلام السلف وهذا ما يعيدنا إلى قضية أهمية أعمال القلوب وضرورة بعث الحديث عنها وبيان منزلتها من الإيمان، فلقد ترتب على إهمالها وإغفالها من الآثار المدمرة في حياة الأمة الشيء الكثير، ومن أعظم ذلك انحسار مفهوم العبادة وتضييقه وانتقاص توحيد الألوهية ووقوع الأمة في الشرك الأكبر، حتى أصبحت المرجئة في القرون الأخيرة تجاهر بإنكار دخول هذه الأعمال في العبادة والتأله، فقالوا: إن الرجاء والخوف والمحبة والتعظيم والرضا والتسليم والانقياد والطاعة ونحوها من تعبدات القلب -بل الدعاء والاستغاثة بالمخلوقين- لا علاقة لها بالشرك ولا يسمى فاعلها لغير الله مشركاً ما دام يقول: لا إله إلا الله ويعتقد بقلبه صدق الرسول فيما جاء به!!
    وإنما الشرك بزعمهم اعتقاد القلب أن هذا المخلوق إله أو رب معبود، والكفر أن يعتقد بقلبه أن ما يفعله من الأعمال كفر، أما إذا عمل أعمال الكفر مع اعتقاده أن ذلك لا يخرجه من الملة فليس بكافر!!
    وقد اصطدمت هذه الفكرة بالعقيدة السلفية بطبيعة الحال، وجرى بين المنهجين جولات ومعارك، أبرزها المعركة التي دارت أيام شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، ثم الجولة التي دارت بظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما تزال المعركة قائمة على أشدها وما يزال مذهب المرجئة هو الطاغي على أكثر بقاع العالم الإسلامي.
    وهكذا ظلت هذه القضية هي جوهر كل الدعاوى التي أشهرها المؤلفون الإرجائيون على عقيدة أهل السنة والجماعة باسم الرد على ما أسموه الوهابية، كما أنها ظلت كذلك بعد استفحال شرك التشريع، وظهور الدعاة الذين أعلنوا أن تحكيم غير شرع الله كفر أكبر ينافي شهادة أن لا إله إلا الله.
  2. تفصيل الكلام عن بعض أعمال القلوب

    ومن هنا اقتضى الأمر تفصيل الحديث عن بعض أعمال القلوب وهو ما سنشرع فيه بإذن الله.
    1- الرضا:
    كلمة الرضا تجمع بين شرطين من الشروط التي ذكرها بعض العلماء لشهادة أن لا إله إلا الله وهما القبول والانقياد بل الرضا أعلى منهما وأشمل، وقد آثرته لذلك، ولكونه لفظاً شرعياً ورد في الكتاب والسنة.
    وحسبك في تعظيمه قوله تعالى:
    ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً))[المائدة:3]
    فما رضيه الله لنا وهو الغني الحميد؛ فنحن أولى أن نرضى به وأحق.
    فالرضا بالدين هو ''أساس الإسلام وقاعدة الإيمان، فيجب على العبد أن يكون راضياً به بلا حرج ولا منازعة ولا معارضة ولا اعتراض، قال الله تعالى: ((فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً))[النساء:65].
    فأقسم أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله وحتى يرتفع الحرج من نفوسهم من حكمه، وحتى يسلموا لحكمه تسليماً، وهذا حقيقة الرضا بحكمه'' .
    وليس هذا الرضا على درجة واحدة، بل هو -كما في الآية- على ثلاث مراتب ''فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، والتسليم في مقام الإحسان '' .
    فمن لم يرض بتحكيم ما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أصول الدين وفروع الشريعة ويتحاكم إليه، فهو معترض بنوع من أنواع الاعتراض الآتي تفصيلها، فلهذا لا يكون مسلماً -وإن زعم ذلك- كما قال تعالى في الآيات التي قبلها:
    ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ومَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ))[النساء:60].
    وكيف لا وأول كفر وقع في هذا العالم إنما نشأ ''من عدم الرضا؛ فإبليس لم يرض بحكم الله الذي حكم به كوناً -من تفضيل آدم وتكريمه- ولا بحكمه الديني من أمره بالسجود لآدم '' مع تصديقه بالله واليوم الآخر، وأن الله هو الإله دون ما سواه.
    ومن رضي بأصل التحكيم لكن لم ينتف الحرج عن نفسه، بل ربما زعزعته شبهة أو لحقه شك، فهذا كالأعراب الذين أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم.
    ومن انتفى عنه الحرج لكن لم يرق إلى درجة التسليم المطلق للوحي أمراً ونهياً وخبراً، فهو ناقص عن مرتبة الإحسان التي كان عليها الصحابة رضي الله عنهم والتي كان التصديق في ذروتها حتى في أشق المواقف؛ كموقف الحديبية .
    وهذا هو الرضا الذي قال عنه ابن القيم: ''إن الرضا من أعمال القلوب نظير الجهاد من أعمال الجوارح؛ فإن كل واحد منهما ذروة سنام الإيمان، قال أبو الدرداء: ذروة سنام الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر'' .
    والرضا يشمل التوحيد كله، ربوبية وألوهية، طاعة وتقرباً، ومن هنا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً} وقال: {من قال حين يسمع النداء: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً؛ غفرت له ذنوبه}.
    '' وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين وإليهما ينتهي، وقد تضمنا الرضا بربوبيته سبحانه وألوهيته والرضا برسوله والانقياد له والرضا بدينه والتسليم له.
    فالرضا بإلاهيته يتضمن الرضا بمحبته وحده وخوفه ورجائه والإنابة إليه والتبتل إليه وانجذاب قوى الإرادة والحب كلها إليها وذلك يتضمن عبادته والإخلاص له.
    والرضا بربوبيته: يتضمن الرضا بتدبيره لعبده، ويتضمن إفراده بالتوكل عليه والاستعانة به والثقة به والاعتماد عليه وأن يكون راضياً بكل ما يفعل به.
    فالأول: -أي: رضا الألوهية- يتضمن رضاه بما أمر به.
    والثاني: يتضمن رضاه بما يقدر عليه.
    وأما الرضا بنبيه رسولاً: فيتضمن كمال الانقياد له، والتسليم المطلق إليه بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره ألبتة، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكام ظاهرة وباطنة.
    لا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه، فإن عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة والدم، وأحسن أحواله أن يكون من باب التراب الذي إنما يتيمم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور.
    وأما الرضا بدينه: فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى رضي كل الرضا ولم يبق في قلبه حرج من حكمه وسلم له تسليماً، ولو كان مخالفاً لمراد نفسه أو هواها أو قول مقلده أو شيخه وطائفته '' .
    ولهذا جاء هذا الرضا بأنواعه مبيناً في سورة الأنعام التي هي سورة التوحيد العظمى؛ فقد اشتملت على ثلاثة أنواع من الرضا هي جماع التوحيد كله:
    1- الرضا بالله رباً لا شريك له في التقرب والتأله والتعبد:
    (( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْء ))[الأنعام:164].
    2- الرضا بالله حكماً لا شريك له في التشريع والطاعة:
    ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً))[الأنعام:114].
    3- الرضا بالله ولياً لا شريك له في محبته وموالاته:
    ((قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ ولِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ))[الأنعام:14].
    وقد شرح ذلك الإمام ابن القيم فقال: ''الرضا بالله رباً: ألا يتخذ رباً -غير الله تعالى- يسكن إلى تدبيره وينزل به حوائجه، قال تعالى:
    ((قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ))[الأنعام:164].
    قال ابن عباس رضي الله عنهما: سيداً وإلهاً، يعني فكيف أطلب رباً غيره وهو رب كل شيء؟ وقال في أول السورة:
    ((قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ ولِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ))[الأنعام:14].
    يعني: معبوداً وناصراً ومعيناً وملجأ وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة.
    وقال في وسطها:
    ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً))[الأنعام:114].
    أي: أفغير الله أبتغي من يحكم بيني وبينكم فنتحاكم إليه فيما اختلفنا فيه؟ وهذا كتابه سيد الحكام، فكيف نتحاكم إلى غير كتابه؟ وقد أنزله مفصلاً مبيناً كافياً شافياً؟!
    وأنت إذا تأملت هذه الآيات حق التأمل، رأيتها هي نفس الرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً ورأيت الحديث يترجم عنها ومشتقاً منها، فكثير من الناس يرضى بالله رباً ولا يبغي رباً سواه، لكنه لا يرضى به وحده ولياً وناصراً، بل يوالي من دونه أولياء ظناً منه أنهم يقربونه إلى الله، وأن موالاتهم كموالاة خواص الملك وهذا عين الشرك، بل التوحيد: ألا يتخذ من دونه أولياء والقرآن مملوء من وصف المشركين بأنهم اتخذوا من دونه أولياء.
    وهذا غير موالاة أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين فيه، فإن هذا من تمام الإيمان ومن تمام موالاته؛ فموالاة أوليائه واتخاذ الولي من دونه لون، ومن لم يفهم الفرقان بينهما فليطلب التوحيد من أساسه، فإن هذه المسألة أصل التوحيد وأساسه.
    وكثير من الناس يبتغي غيره حَكماً يتحاكم إليه ويخاصم إليه ويرضى بحكمه، وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد: ألا يتخذ سواه رباً ولا إلهاً ولا غيره حكماً.
    وتفسير الرضا بالله رباً: أن يسخط عبادة ما دونه، هذا هو الرضا بالله إلهاً، وهو من تمام الرضا بالله رباً، فمن أعطى الرضا به رباً حقه سخط عبادة ما دونه قطعاً؛ لأن الرضا بتجريد ربوبيته يستلزم تجريد عبادته، كما أن العلم بتوحيد الربوبية يستلزم العلم بتوحيد الإلهية...
    فالحاصل: أن يكون الله وحده المحبوب المعظم المطاع، فمن لم يحبه ولم يطعه ولم يعظمه فهو متكبر عليه، ومتى أحب معه سواه وعظم معه سواه وأطاع معه سواه فهو مشرك، ومتى أفرده وحده بالحب والتعظيم والطاعة فهو عبد موحد والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم '' .
    ومنافي الرضا ومقابله هو الاعتراض والكراهية لما أنزل الله -بعضه أو كله- وإذا فسرناه بالقبول والانقياد، فضدهما الرد والاعتراض والإباء.
    وكل هذا مما وقعت فيه الأمة كلياً أو جزئياً، فوقع فيها الاعتراض على توحيد المعرفة والإثبات، والاعتراض على الأمر الشرعي بالتحليل والتحريم والاعتراض على الأمر الكوني، فاعترض كثير منهم على صفاته وشريعته وقضائه وقدره.
    وأصل هذه الاعتراضات التلقي عن غير الله ورسوله، والاستمداد من غير الوحي وتحكيم غيره، فمنهم من حكم العقل -بزعمه- فنقل فلسفات الوثنيين وحثالة فكر التائهين، وهؤلاء هم أصحاب الكلام.
    ومنهم من حكم الذوق والوجد والكشف وانتكس بالعقل المسلم إلى حضيض الخرافة والوهم وهؤلاء هم الصوفية.
    ومنهم من حكم الأقيسة العقلية والأعراف السياسية بحجة تحقيق المصلحة الشرعية ومراعاة الأصول العقلية -بزعمهم- فأحلوا -من الدماء والأموال والفروج- ما ورد النص الصريح بتحريمه، وكان ذلك مع وقوعه في دائرة الاجتهاد الخطأ أو التطبيق المتعسف ممهداً لما وقعت فيه الأمة في العصر الحديث من الشرك الأكبر والاعتراض الأطم بتحكيم القوانين الوضعية وإحلالها محل الشريعة، بل الكراهية الصريحة لكثير مما أنزل الله، وبخاصة في الجهاد والحجاب والموالاة والسياسة، ولندع الإمام ابن القيم يفصل لنا صورة الاعتراض التي وصلت إليها الأمة في عصره وحسبك أن تقول بعدها: كيف لو رأى زماننا هذا؟!
    يقول رحمه الله: ''الاعتراض ثلاثة أنواع سارية في الناس والمعصوم من عصمه الله منها.
    * النوع الأول: الاعتراض على أسمائه وصفاته بالشبهة الباطلة:
    التي يسميها أربابها قواطع عقلية وهي في الحقيقة خيالات جهلية ومحالات ذهنية، اعترضوا بها على أسمائه وصفاته عز وجل، وحكموا بها عليه، ونفوا لأجلها ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأثبتوا ما نفاه، ووالوا بها أعداءه وعادوا بها أولياءه وحرفوا بها الكلم عن مواضعه ونسوا بها نصيباً كثيراً مما ذكروا به، وتقطعوا لها أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون.
    والعاصم من هذا الاعتراض: التسليم المحض للوحي، فإذا سلم القلب له رأى صحة ما جاء به، وأنه الحق بصريح العقل والفطرة، فاجتمع له السمع والعقل والفطرة وهذا أكمل الإيمان، ليس كمن الحرب قائمة بين سمعه وعقله وفطرته.
    * النوع الثاني: الاعتراض على شرعه وأمره:
    وأهل هذا الاعتراض ثلاثة أنواع:
    الأول: المعترضون عليه بآرائهم وأقيستهم المتضمنة تحليل ما حرم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتحريم ما أباحه، وإسقاط ما أوجبه، وإيجاب ما أسقطه وإبطال ما صححه، وتصحيح ما أبطله، واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وتقييد ما أطلقه، وإطلاق ما قيده.
    وهذه هي الآراء والأقيسة التي اتفق السلف قاطبة على ذمها، وصاحوا على أصحابها من أقطار الأرض وحذروا منهم ونفروا عنهم.
    الثاني: الاعتراض على حقائق الإيمان والشرع بالأذواق والمواجيد والخيالات والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله وإبطال دينه الذي شرعه على لسان رسوله، والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان وحظوظ النفوس الجاهلة.
    والعجب أن أربابها ينكرون على أهل الحظوظ وكل ما هم فيه فحظ، ولكن حظهم متضمن مخالفة مراد الله، والإعراض عن دين الله واعتقاد أنه قربة إلى الله، فأين هذا من حظوظ أصحاب الشهوات المعترفين بذمها، المستغفرين منها، المقرين بنقصهم وعيبهم وأنها منافية للدين؟!
    وهؤلاء في حظوظ اتخذوها ديناً وقدموها على شرع الله ودينه واغتالوا بها القلوب واقتطعوها عن طريق الله، فتولد من معقول أولئك وآراء الآخرين وأقيستهم الباطلة وأذواق هؤلاء خراب العالم وفساد الوجود وهدم قواعد الدين وتفاقم الأمر وكاد، لولا أن الله ضمن أنه لا يزال يقوم به من يحفظه ويبين معالمه ويحميه من كيد من يكيد.
    الثالث: الاعتراض على ذلك بالسياسات الجائرة التي لأرباب الولايات التي قدموها على حكم الله ورسوله، وحكموا بها بين عباده وعطلوا لها وبها شرعه وعدله وحدوده.
    فقال الأولون: إذا تعارض العقل والنقل، قدمنا العقل.
    وقال الآخرون: إذا تعارض الأثر والقياس، قدمنا القياس.
    وقال أصحاب الذوق والكشف والوجد: إذا تعارض الذوق والوجد والكشف وظاهر الشرع، قدمنا الذوق والوجد والكشف.
    وقال أصحاب السياسة: إذا تعارضت السياسة والشرع، قدمنا السياسة.
    فجعلت كل طائفة قبالة دين الله وشرعه طاغوتاً يتحاكمون إليه.
    فهؤلاء يقولون: لكم النقل ولنا العقل والآخرون: أنتم أصحاب آثار وأخبار ونحن أصحاب أقيسة وآراء وأفكار، وأولئك يقولون: أنتم أرباب الظاهر ونحن أهل الحقائق، والآخرون يقولون: لكم الشرع ولنا السياسة.
    * النوع الثالث: الاعتراض على أفعاله وقضائه وقدره:
    وهذا اعتراض الجهال وهو ما بين جلي وخفي وهو أنواع لا تحصى.
    وهو سار في النفوس سريان الحمى في بدن المحموم، ولو تأمل العبد كلامه وأمنيته وإرادته وأحواله، لرأى ذلك في قلبه عياناً، فكل نفس معترضة على قدر الله وقسمه وأفعاله إلا نفساً قد اطمأنت إليه وعرفته حق المعرفة التي يمكن وصول البشر إليها، فتلك حظها التسليم والانقياد والرضا كل الرضا'' .
    2- المحبة:
    المحبة أساس كل عمل من أعمال الدين والإيمان، كما أن التصديق أساس كل قول من الأقوال؛ وذلك أن كل عمل يعمله الإنسان لا بد أن يكون عن إرادة قلبية -كما أوضحنا سلفاً- وهذه الإرادة إما أن تكون حباً أو كرهاً، فدافع العمل لا يخرج عن أن يكون رغبة وطواعية أو رهبة وإجباراً.
    '' وأعمال الدين قسمان:
    * أولاً: التعبدي المحض كالصلاة والصيام والحج.
    * والآخر: ما كان تابعاً للنية؛ كالأكل والنوم بنية الاستعانة على الطاعة، والإنفاق على الأهل بنية القربة ونحوه .
    فالأول لا يصلح إلا بالنية، والآخر لا يكون مأجوراً عليه ومتقرباً به إلا بها، فاتضح أن النية أساس في الأعمال كلها.
    وهذه النية هي بمعنى الإرادة والغاية، وهي التي لا تخلو من أن تكون حباً أو كرهاً، أما النية الخاصة التي يذكرها الفقهاء في الأحكام فشيء آخر.
    وقد أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن اختلاف حالي المؤمن والمنافق وعاقبتيهما بحسب اختلاف نية كل منهما - مع اتفاق عملهما في الصورة والمظهر؛ كالإنفاق مثلاً، فقال تعالى:
    ((وسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * ومَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * ولَسَوْفَ يَرْضَى))[الليل:17-21].
    وقال: ((ومَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وبِرَسُولِهِ ولا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وهُمْ كُسَالَى ولا يُنْفِقُونَ إِلَّا وهُمْ كَارِهُونَ))[التوبة:54].
    فالمؤمن يعمل الطاعة محباً لها راضياً بها، فكان جزاؤه القبول والرضا، والمنافق يعملها كارهاً كسلان، فكان جزاؤه الرد والإحباط.
    والمؤمنون أنفسهم تتفاوت درجات إيمانهم بحسب المحبة والرضا؛ فكم بين إسلام أبي ذر الذي تحمل المشاق حتى بلغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما أسلم أعلن إسلامه بين ظهراني الكفار مستعذباً ضربهم وأذاهم يوماً بعد يوم، وبين إسلام الأعرابي الذي { جاءَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: أسلم، فقال: أجدني كارهاً، فقال: أسلم وإن كنت كارهاً } .
    بل كم بين إسلام سلمان الذي قضى السنين الطوال بحثاً عن الدين الحق وانتقل من خدمة راهب إلى آخر حتى وقع في الرق وبلغه خبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على النخلة، فكاد يسقط فرحاً وشوقاً ، وبين إسلام المؤلفة قلوبهم من جفاة الأعراب الذين دخلوا في الإسلام بذل ذليل.
    ومن هنا كانت المحبة أصل أعمال القلوب، وشرطاً من شروط لا إله إلا الله؛ فإن الإسلام هو الاستسلام بالذل والحب والطاعة لله؛ فمن لا محبة له لا إسلام له ألبتة، بل هي حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، فإن (الإله) هو: الذي يألهه العباد حباً وذلاً وخوفاً ورجاءً وتعظيماً وطاعة له، بمعنى (مألوه) وهو: الذي تألهه القلوب، أي: تحبه وتذل له.
    وأصل (التأله) التعبد، والتعبد آخر مراتب الحب، يقال: عَبده الحب وتيمه إذا ملكه وذللـه لمحبوبه.
    فالمحبة حقيقة العبودية وهل تُمكن الإنابة بدون المحبة والرضا والحمد والشكر والخوف والرجاء؟ وهل الصبر في الحقيقة إلا صبر المحبين؟ (وهل التوكل إلا توكل المحبين) فإنه إنما يتوكل على المحبوب في حصول محابه ومراضيه .
    وكذلك الزهد في الحقيقة هو زهد المحبين، فإنهم يزهدون فيما سوى محبوبهم لمحبته وكذلك الحياء في الحقيقة إنما هو حياء المحبين، فإنه يتولد من بين الحب والتعظيم وأما ما لا يكون عن محبة فهو خوف محض'' .
    وهكذا في سائر أعمال القلب التي لا يكون العبد شاهداً أن لا إله إلا الله بدونها.
    وقد جعل الله تعالى إخلاص المحبة فرقاناً بين المؤمنين والكافرين، فمن أشرك مع الله غيره في المحبة وسواه به فهو المشرك المتخذ من دون الله نداً معبوداً، فضلاً عمن خلا قلبه من محبة الله ورسوله ودينه بالمرة وكره ذلك، فهذا كافر كفر إبليس وفرعون، مهما كان في قلبه من تصديق مجرد.
    يقول الله تعالى: ((ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ))[البقرة:165].
    فأخبر أن من أحب من دون الله شيئاً -كما يحب الله تعالى- فهو ممن اتخذ من دون الله أنداداً، فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية، فإن أحداً من أهل الأرض لم يثبت هذا الند في الربوبية، بخلاف ند المحبة، فإن أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أنداداً في الحب والتعظيم.
    ''وهذه هي التسوية المذكورة في قوله تعالى حكاية عنهم وهم في النار، يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي محضرة معهم في العذاب: ((تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ))[الشعراء:97-98] ومعلوم أنهم لم يسووهم برب العالمين في الخلق والربوبية وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم والطاعة والتشريع.
    وهذا أيضاً هو العدل المذكور في قوله تعالى: ((ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ))[الأنعام:1]. أي يعدلون به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم....'' .
    وإذا كان تجريد المحبة وإخلاصها هو متعلق الشطر الأول من شطري الشهادة وهو شهادة (أن لا إله إلا الله) فإن تجريد المتابعة والتحكيم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو تحقيق المحبة المتعلق بالشطر الآخر (شهادة أن محمداً رسول الله) يقول الله تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ))[آل عمران:31-32].
    فهذه هي آية المحبة وهي آية المحنة، قال بعض السلف: ''ادعى قوم محبة الله، فأنزل آية المحنة: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ )) ".
    يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: ''هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأعماله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}.
    (( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا )) أي: تخالفوا عن أمره: (( فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ )) فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر والله لا يحب من اتصف بذلك -وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله '' ويقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين} .
    ونواصل مع ابن القيم رحمه الله حيث يقول: ''فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم، فيستحيل إذاً ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله.
    ودل على أن متابعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي حب الله ورسوله وطاعة أمره، ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما، فلا يكون عنده شيء أحب إليه من الله ورسوله ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه ألبتة ولا يهديه الله، قال الله تعالى:
    ((قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ وإِخْوَانُكُمْ وأَزْوَاجُكُمْ وعَشِيرَتُكُمْ وأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ))[التوبة:24].
    فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله، أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه، أو معاملة أحدهم على معاملة الله؛ فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإن قال بلسانه فهو كذب منه وإخبار بخلاف ما هو عليه.
    وكذلك من قدَّم حكم أحد على حكم الله ورسوله؛ فذلك المقدم عنده أحب إليه من الله ورسوله، لكن قد يشتبه الأمر على من يقدم قول أحد، أو حكمه، أو طاعته، أو مرضاته، ظناً منه أنه لا يأمر ولا يحكم ولا يقول إلا ما قاله الرسول، فيطيعه ويحاكم إليه ويتلقى أقواله كذلك، فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك.
    وأما إذا قدر على الوصول إلى الرسول وعرف أن غير من اتبعه هو أولى به مطلقاً، أو في بعض الأمور ولم يلتفت إلى الرسول ولا إلى من هو أولى به، فهذا الذي يخاف عليه وهو داخل تحت الوعيد، فإن استحل عقوبة من خالفه وأذله ولم يوافقه على اتباع شيخه، فهو من الظلمة المعتدين وقد جعل الله لكل شيء قدراً'' .
    ويقول -رحمه الله- في بيان بعض لوازم محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الأدب معه: ''رأس الأدب معه: كمال التسليم والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولاً، أو يحمله شبهة أو شكاً، أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم.
    فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل.
    فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا يحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه، فإن أذنوا له نَفَذَ وقِبَل خبره، وإلا فإن طَلب السلامة أعرض عن أمره وخبره وفوضه إليهم، وإلا حرفه عن مواضعه وسمى تحريفه: تأويلاً وحملاً، فقال: نؤوله ونحمله، فلئن يلقى العبد ربه بكل ذنب على الإطلاق -ما خلا الشرك بالله- خير له من أن يلقاه بهذه الحال.
    ولقد خاطبت يوماً بعض أكابر هؤلاء، فقلت له: سألتك بالله لو قدر أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي بين أظهرنا وقد واجهنا بكلامه وبخطابه، أكان فرضاً علينا أن نتبعه من غير أن نعرضه على رأي غيره وكلامه ومذهبه، أم لا نتبعه حتى نعرض ما سمعناه منه على آراء الناس وعقولهم؟!
    فقال: بل كان الفرض المبادرة إلى الامتثال من غير التفات إلى سواه، فقلت: فما الذي نسخ هذا الفرض عنا وبأي شيء نسخ؟! فوضع إصبعه على فيه وبقي باهتاً متحيراً وما نطق بكلمة.
    هذا أدب الخواص معه، لا مخالفة أمره والشرك به ورفع الأصوات وإزعاج الأعضاء بالصلاة عليه والتسليم ، وعزل كلامه عن اليقين وأن يستفاد منه معرفة الله أو يتلقى منه أحكامه '' .
    ويقول: '' {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار}
    وليست محبة الله ورسوله دعوى يمكن أن تلوكها ألسنة الزنادقة أو المبتدعين، أو شعاراً يرفعه المنافقون، بل هي تحقيق توحيد الله وطاعته باتباع ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمحبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي لا يكون العبد شاهداً أن محمداً رسول الله إلا بها لا تتحقق إلا باتباعه وتعزيره وتوقيره وتعظيم سنته والتخلي عن التقديم بين يدي أمره ونهيه - كما جاء في حديث: {لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به } '' .
    يقول الإمام ابن القيم في بيان هذا الأصل العظيم ''أصل العبادة: محبة الله، بل إفراده بالمحبة وأن يكون الحب كله لله، لا يحب معه سواه، وإنما يحب لأجله وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه، فمحبتهم من تمام محبته وليست محبة معه، كمحبة من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحبه.
    وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها، فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه، فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله علماً عليها وشاهداً لمن ادعاها، فقال تعالى: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ))[آل عمران:31].
    فجعل اتباع رسوله مشروطاً بمحبتهم لله، وشرطاً لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه وتحققه بتحققه، فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة.
    بل المعول في باب معرفة الله، على العقول المتهوكة المتحيرة المتناقضة وفي الأحكام: على تقليد الرجال وآرائها والقرآن والسنة إنما نقرؤهما تبركاً لا أنا نتلقى منهما أصول الدين ولا فروعه ومن طلب ذلك ورامه عاديناه وسعينا في قطع دابره واستئصال شأفته...'' .
    انظر إلى كلام هذا الإمام وهو يتحدث عن واقع عصره حين كان الانحراف في توحيد الله بالعبادة وتوحيد الرسول بالمتابعة -مع دعوى المحبة لله ورسوله- محصوراً في الضلالات الكلامية والبدع السلوكية، كقول الأشاعرة: إن الظواهر النقلية لا بد من عرضها على القواطع العقلية؛ لأنها يقين وظواهر النقل ظنون بزعمهم.
    وكقول المتصوفة بعرض النصوص الشرعية على الكشف والذوق والحال، وكقول المتفقهة بعرض الأحاديث الصحيحة على كلام إمام المذهب ونحو ذلك من الانحرافات المغلفة بالتأويلات الفاسدة.
    أقول: ذلك الانحراف على خطورته أين منه ما وقع في العصور الأخيرة؛ من تحكيم صريح لقوانين الكفار ومناهجهم وطرق حياتهم وتقديم ذلك على الكتاب والسنة ومحاربة الداعين إلى التمسك بالدين وتحكيم الشريعة واستئصال شأفتهم؟! ومع هذا يدعي أصحاب هذا الكفر المبين ورجال دينهم محبة الله ورسوله ويعبرون عن هذا الحب المزعوم بالمظاهر والاحتفالات البدعية وأعمال -الضرار- الأخرى ويستدرجون بها عقول بعض العلماء الناصحين، فيتورعون عن الحكم عليهم بما حكم الله عليهم به متذرعين بأنهم غير مستحلين!!
    إن الصورة العصرية المناقضة لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -أي: لتوحيد العبادة وتوحيد المتابعة- تتجرد عن التأويلات والأقيسة وتتعرى عن قصد المصلحة والإخلاص وتتجلى في صورة افتئات صارخ على مقام الألوهية وتحكم مقنن في حكم الله ورسوله.
    هذه الصورة التي من مظاهرها المتكررة الدائمة عرض حكم الله ورسوله وتوقف إقراره على موافقة السلطة التي منحها القانون حق التشريع المطلق.
    مثال ذلك: تحريم الخمر، هو حكم قطعي ضروري في الشريعة الإسلامية، يتوسل الدعاة والعلماء الطيبون إلى السلطة الحاكمة أن تقره لكي يصبح تشريعاً رسمياً ملزماً، فإن تكرمت السلطة وقبلت الطلب عرضته على المجلس التشريعي -الذي أعطي بحكم الدستور حق التشريع المطلق- ليبدي رأيه بالموافقة أو عدمها!
    ثم في المجلس تدور معركة الأصوات بين المؤيدين والمعارضين الذين يعترضون بكل ثقة وبكل جرأة؛ لأنهم يمارسون عملهم الطبيعي وسلطتهم المشروعة.
    وفي أحسن الحالات -بل على أحسن الافتراضات- يحصل القرار على الأغلبية وهنا -فقط- يصبح حكماً ملزماً ويدرج ضمن مواد التشريع الوضعي على أنه فقرة من فقراته.
    ومع ذلك يظل حق السلطة التشريعية الثابت في إلغاء هذه المادة -متى شاءت- محفوظاً بحكم الدستور.
    أي إنه لو فرضنا أن دولةً ما طبقت بعض أحكام الشريعة؛ كجلد شارب الخمر -مثلاً- فهذا الحكم لم يكتسب صفة القانون والإلزام والتنفيذ لصدوره عن الله عز وجل، بل لصدوره عن السلطة التشريعية الرسمية التي أقرته بعد عرضه عليها!!
    فالله جل جلاله -عندهم- ليس من حقه التشريع لذاته، ولا هو أهل لأن يطاع، وليس لحكمه صفة الإلزام لذاته، وإنما ينتقى ويختار من أحكامه بناءً على موافقة مصدر السلطات ومالك حق التشريع؛ وهم البشر!!
    ونحن نسأل هؤلاء المدعين للإسلام السؤال نفسه الذي سأله الإمام ابن القيم أسلافهم، فنقول: لو قدر أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي بين أظهرنا وواجهنا بكلامه وبخطابه وتلا علينا حكم الله في أي أمر، أكان فرضاً علينا أن نتبعه ونطيعه رأساً، أم نعرض ما يأتينا به على تلك المجالس؟
    فسيقولون: بل لا بد من الامتثال والطاعة تواً، فنقول: أغياب شخص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع بقاء دينه غضاً طرياً كما نزل هو السبب إذن في إعراضكم عن شرع الله وتطاولكم على مقام الألوهية وجلوسكم على عرش الربوبية؟!
    ورحم الله الشيخ محمد بن إبراهيم حين قال في بيان النوع الخامس من أنواع الحكم بغير ما أنزل الله التي تخرج صاحبها من الملة وتناقض الشهادتين:
    ''الخامس: وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية؛ إعداداً وإمداداً وإرصاداً وتأصيلاً وتفريعاً وتشكيلاً وتنويعاً وحكماً وإلزاماً ومراجع مستمدات.
    فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات؛ مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي والقانون الأمريكي والقانون البريطاني ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين للشريعة وغير ذلك.
    فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حاكمها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به وتقرهم عليه وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة؟!!'' .
    وإذا كانت حقيقة المحبة هي بهذه المنزلة بالنسبة لأصل التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإنها أيضاً من أعظم أعمال القلوب المتعلقة بتحقيق توحيد الألوهية والعبادة ومن هنا كان الانحراف الكبير الذي وقع فيه المتصوفة والكلاميون ونحوهم، ممن غفل عن حقيقة المحبة ومعناها ولوازمها ومقتضياتها، فأنكر شيئاً من ذلك، أو صرفه في غير موضعه المشروع.
    وتفصيل هذه القضايا مما لا يتسع له المجال هنا ولكن لم أر بداً من التعرض لشيء من ذلك، لا سيما وقد وجدت كلاماً عظيماً لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في رسالته: التحفة العراقية في الأعمال القلبية، هذه مقتطفات منها:
    يقول رحمه الله: محبة الله، بل محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان وأكبر أصوله وأجل قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين، كما أن التصديق به أصل كل قول من أقوال الإيمان والدين، فإن كل حركة في الوجود إنما تصدر عن محبة، إما عن محبة محمودة أو عن محبة مذمومة...
    فجميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن المحبة المحمودة، وأصل المحبة المحمودة هي محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ إذ العمل الصادر عن محبة مذمومة عند الله لا يكون عملاً صالحاً، بل جميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن محبة الله، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، كما ثبت في الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: يقول الله تعالى: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو كله للذي أشرك }
    وثبت في الصحيح حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار القارئ المرائي والمجاهد المرائي والمتصدق المرائي.
    بل إخلاص الدين لله هو الذي لا يقبل الله سواه وهو الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل وأنزل به جميع الكتب واتفق عليه أئمة أهل الإيمان وهذا هو خلاصة الدعوة النبوية وهو قطب القرآن الذي تدور عليه رحاه...إلى أن يقول:
    فإذا كان أصل العمل الديني هو إخلاص الدين لله وهو إرادة الله وحده، فالشيء المراد لنفسه هو المحبوب لذاته وهذا كمال المحبة، لكن أكثر ما جاء به المطلوب مسمى باسم العبادة، كقوله: (( ومَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ))[الذاريات:56] وقوله: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ والَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ))[البقرة:21] وأمثال هذا.
    والعبادة تتضمن كمال الحب ونهايته وكمال الذل ونهايته، فالمحبوب الذي لا يعظم ولا يذل له لا يكون معبوداً والمعظم الذي لا يحب لا يكون معبوداً ولهذا قال تعالى: ((ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ))[البقرة:165].
    فبين سبحانه أن المشركين بربهم الذين يتخذون من دون الله أنداداً وإن كانوا يحبونهم كما يحبون الله، فالذين آمنوا أشد حباً لله منهم؛ لأن المؤمنين أعلم بالله والحب يتبع العلم؛ ولأن المؤمنين جعلوا جميع حبهم لله وحده وأولئك جعلوا بعض حبهم لغيره وأشركوا ببينه وبين الأنداد في الحب ومعلوم أن ذلك أكمل قال تعالى: ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ورَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ))[الزمر:29].
    واسم المحبة فيه إطلاق وعموم، فإن المؤمن يحب الله ويحب رسله وأنبياءه وعباده المؤمنين وإن كان ذلك من محبة الله وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره ولهذا جاءت محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مذكورة بما يختص به سبحانه من العبادة والإنابة إليه والتبتل له ونحو ذلك، فكل هذه الأسماء تتضمن محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    ثم إنه كما بين أن محبته أصل الدين، فقد بين أن كمال الدين بكمالها ونقصه بنقصها؛ فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، فأخبر أن الجهاد ذروة سنام العمل وهو أعلاه وأشرفه وقد قال تعالى: (( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ وجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ )) إلى قوله: (( أَجْرٌ عَظِيمٌ )) [التوبة:19-22] والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة.
    وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد والجهاد دليل المحبة الكاملة، قال تعالى: (( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ وإِخْوَانُكُمْ وأَزْوَاجُكُمْ وعَشِيرَتُكُمْ )) الآية[التوبة:24].
    وقال تعالى في صفة المحبين والمحبوبين: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ))[المائدة:54].
    فوصف المحبوبين المحبين بأنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين وأنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، فإن المحبة مستلزمة للجهاد لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق له في ذلك وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم، إذ هم إنما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب له'' .
    أقول: شَيْخ الإِسْلامِ هنا يلتفت للرد على مزاعم الصوفية المدعية للحب الكامل والولاية لله مع تركهم الجهاد والعمل والله تعالى أخبر أنه إنما يكره ذلك المنافقون فقال: ((فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))[التوبة:81].
    فالكارهون للجهاد لا يمكن أبداً أن يكونوا محبين لله ورسوله، ولا أولياء له ولرسوله.
    ثم يقول الشيخ: ''ولهذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح فيما يرويه عن ربه: {ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد له منه...} ''
    قال: ''والمحب التام لا يؤثر فيه لوم اللائم وعذل العاذل، بل ذلك يغريه بملازمة المحبة كما قد قال أكثر الشعراء في ذلك .
    وهؤلاء هم أهل الملام المحمود وهم الذين لا يخافون من يلومهم على ما يحب الله ويرضاه من جهاد أعدائه؛ فإن الملام على ذلك كثير، وأما الملام على فعل يكرهه الله أو ترك ما أحبه فهو لوم بحق وليس من المحمود الصبر على هذا الملام، بل الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
    وبهذا يحصل الفرق بين الملامية الذين يفعلون ما يحبه الله ورسوله ولا يخافون لومة لائم في ذلك وبين الملامية الذين يفعلون ما يبغضه الله ورسوله ويصبرون على الملام في ذلك''.
    أقول: يطول الحديث في التفصيل في هذا العمل القلبي العظيم , وبيان درجات وأدلة كل درجة، وأثر ذلك في أعمال الإيمان من صلاة وزكاة ونحوها ولكن ضيق المجال والرغبة في الاختصار لا تسمح بتجاوز ما قد سطر، ولعل في الحديث عن الأعمال القلبية الأخرى ما يكمل الفائدة مجتمعة والله المستعان.
    3- اليقين:
    لليقين معنيان وإن شئت فقل: هو معنى واحد منظور له من جهتين:
    1- اليقين من حيث هو أصل للإيمان، إذ لا إيمان مع الشك.
    2- اليقين من حيث هو درجة عليا من درجات الإيمان.
    فبالنظر للمعنى الأول يكون كل مؤمن موقناً وإلا لم يستحق اسم الإيمان وبالنظر للمعنى الآخر - ليس كل مؤمن موقناً، بل الموقنون طائفة خاصة من المؤمنين.
    فأما اليقين بالمعنى الأول فهو شرط من شروط شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أي أن الإيمان المجمل -قول القلب واعتقاده- لا يتحقق إلا به، فمن شك في الله أو في رسوله وما جاء به عن الله، فهو كافر لا شهادة له ولا إيمان.
    بذلك أخبر الله تعالى عن الكفار حين قالوا لرسلهم: ((إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ))[إبراهيم:9-10].
    وأخبر أنهم إذا طلب منهم الإيمان بالبعث قالوا: ((مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً ومَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ))[الجاثية:32].
    لكن إذا كان يوم القيامة يقولون:
    ((رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ))[السجدة:12].
    ولهذا جاء في وصف القرآن أكثر من مرة بأنه (لا رَيْبَ فِيهِ).
    وفي حديث جابر رضي الله عنه يقول: أنا من شهد معاذاً حين حضرته الوفاة، يقول: اكشفوا عني سجف القبة، أحدثكم حديثاً سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يمنعني أن أحدثكموه إلا أن تتكلوا، سمعته يقول: {من شهد أن لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه -أو: يقيناً من قلبه- لم يدخل النار، أو دخل الجنة -وقال مرة- دخل الجنة ولم تمسه النار} .
    وروى الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه -في قصة تبوك- أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة -وفي رواية- فيحجب عن الجنة}.
    وعنه في حديث آخر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: {اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة}
    وهذا اليقين -بهذا المعنى- هو حقيقة العلم بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن ثَم ذكر بعض العلماء العلم شرطاً مستقلاً من شروط الشهادتين مستدلين بقوله تعالى: ((فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ))[محمد:19] .
    وقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة }
    وعقد الإمام البخاري باباً بعنوان: باب قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا أعلمكم بالله وأن المعرفة فعل القلب، لقوله تعالى: ((ولَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ))[البقرة:225] ثم روى حديثاً آخره: {إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا} .
    لكن لم أر أن أفرده هنا -أي: العلم- لأن الحديث عن اليقين يشمله ويتضمنه ولأن الحديث عن ضده؛ وهو الجهل بالتوحيد -كلياً أو جزئياً- يحتاج لتطويل يخرج عن دائرة موضوعنا هنا.
    وأما اليقين بالمعنى الآخر -أي: اليقين الدرجة- فهو لب الإيمان وخلاصته وزبدته، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "اليقين الإيمان كله" وفي المسند: { أفضل الأعمال عند الله إيمان لا شك فيه وغزو لا غلول فيه وحج مبرور .
    وهو يقابل الإيمان الكامل المفصل، كما أن ذاك يقابل الإيمان المجمل ولهذا جاء في القرآن شرطاً للإمامة في الدين، فقال تعالى: ((وجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ))[السجدة:24].
    ومن ارتباطه بالصبر قوله تعالى: ((فَاصْبِرْ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ولا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ))[الروم:60].
    وأخبر الله تعالى عن إمام الموحدين، فقال: ((وكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ))[الأنعام:75].
    فقد كان الإيمان متحققاً عنده، كما أخبر الله عنه في الآية التي قبلها: ((وإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ))[الأنعام:74] فرقاه الله إلى درجة القين، مثلما كان مؤمناً بأن الله يحيي الموتى لكن طلب الرؤية لتحصيل الطمأنينة التي هي برد اليقين.
    وهذا اليقين هو الذي عبر عنه بعض السلف بقوله: ''لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً'' .
    وقال الآخر: ''رأيت الجنة والنار حقيقة، قيل له: كيف؟ قال: رأيتهما بعيني رسول الله ورؤيتي لهما بعينيه آثر عندي من رؤيتي لهما بعيني، فإن بصري قد يطغى ويزيغ، بخلاف بصره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ'' .
    واليقين بهذا المعنى نظير الإحسان الوارد في حديث جبريل، لكن الإحسان في عمل الجوارح واليقين في عمل القلب والله أعلم.
    فاليقين في الجملة متعلقه الاعتقاد، وذلك أن مجمل الإيمان القلبي هو الإيمان بالغيب فإذا رسخ هذا الإيمان وارتقى عن الشكوك حتى يصبح كالمعاينة فهو اليقين.
    ولهذا جاء أعظم الغيبيات -بعد الإيمان بالله- وهو الإيمان بالآخرة مقروناً باليقين أكثر مما سواه، فقال تعالى: (( وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ )) في أول البقرة والنمل ولقمان.
    فإن الإيمان بالآخرة -مع دلالة الفطرة السوية والعقل السليم عليه- ليس في قوة الإيمان الفطري بالله، كما أن تفصيلاته مصدرها الوحي وحده.
    واليقين نوعان:
    1- يقين في خبر الله.
    2- يقين في أمر الله الشرعي والكوني.
    فاليقين بخبر الله هو الإيمان بصدقه وتحققه ووقوعه -إن كان مما له الوقوع- إيماناً لا شك فيه وهذا هو الإيمان بالغيب يقيناً ومن الأدلة عليه قوله تعالى: ((وإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي))[البقرة:260] فطلب الخليل من ربه مثالاً للبعث يزيد إيمانه حتى يصبح يقيناً خالصاً، وقريب منه طلب الحواريين المائدة، فمع إيمانهم بقدرة الله طلبوا ما تطمئن به قلوبهم كذلك.
    وهذا اليقين قد بلغ ذروته النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس فيما أخبر الله به من أمور الدين والإيمان فحسب، بل في كل خبر ووعد حتى إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان موقناً بأن الله سينصره ويظهره على العالمين، وهو ما يزال في أقسى مواقف الاضطهاد والتشريد والأذى، ولم يستبطئ النصر كما استبطأه رسل من قبله فقالوا: ((مَتَى نَصْرُ اللَّهِ))[البقرة:214] ولم يستيئس كما استيأس بعضهم.
    وأما اليقين بأمر الله، فهو امتثاله برضا وطمأنينة وتسليم إن كان شرعياً، والرضا به والتسليم إن كان كونياً.
    وذروته ما فعله إمام الموحدين من الامتثال لذبح ابنه الوحيد، وما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواقف من أعظمها يوم الحديبية حين قال: {إني عبد الله، لن أخالف أمره ولن يضيعني} أو نحوها.
    وهذا في حقيقته هو الاستسلام لحكمه استسلاماً يرتقي لدرجة الإحسان، كما في قوله تعالى: ((فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً))[النساء:65].
    وهو تحقيق دين الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله التي هي العروة الوثقى، كما قال تعالى: ((ومَنْ يُسْلِمْ وجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى))[لقمان:22]و مع قوله: ((فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ويُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى))[البقرة:256].
    ولهذا جاءت الآيات المحكمات الدالة على اتباع شريعة الله والتحاكم إليها وحدها مذيلة بوصف اليقين لمن امتثل، فدل على شك من خالف وارتيابه، قال تعالى: ((وأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ومُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجاً ولَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ولَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ واحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ))[المائدة:48-50].
    وقال جل ذكره: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ واللَّهُ ولِيُّ الْمُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وهُدىً ورَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ))[الجاثية:18-20].
    فكما سبق بيانه من أن تحكيم شرع الله هو الإسلام، فإذا بلغ من العبد إلى حد انتفاء الحرج والمعارضة بالرضا الكامل فهو الإحسان، فكذلك اعتقاد بطلان ما عداه وأنه وحده الحق الذي لا أحسن منه ولا أهدى هو درجة الإسلام، فإذا رسخ هذا حتى لا تزعزعه شبهة ولا يعتريه شك فهو اليقين.
    وقد ضرب الصحابة -رضي الله عنهم- من اليقين في أمر الله أعظم الأمثال، مما لا يتسع المقام للتطويل به، وحسبك أن ينزل الله تحريم الخمر والقوم مدمنون على شربها، مدخرون لها، مغالون في أثمانها، فما يكاد الأمر ينزل حتى تسيل بها أزقة المدينة أنهاراً!!
    وأن ينزل الله الأمر بالحجاب والقوم مختلطون متعارفون، فما يكاد ذلك يبلغهم حتى تغدو نساؤهم كأنهن الغربان.
    فهاتان عادتان إحداهما نفسية والأخرى اجتماعية وهما من أشد العادات وطئاً وأشقها تغييراً، تذهبان دفعة واحدة وتستأصلان من أعماق النفوس في لحظة واحدة، وما ذلك إلا باليقين الذي ليس وراءه في الأمم يقين.
    4- الصدق والإخلاص:
    هذان عملان قلبيان من أعظم أعمال القلوب وأهم أصول الإيمان.
    فأما الصدق فهو الفرقان بين الإيمان والنفاق، وأما الإخلاص فهو الفرقان بين التوحيد والشرك، في قول القلب واعتقاده، أو في إرادته ونيته.
    والأعمال -التي رأسها وأعظمها شهادة أن لا إله إلا الله- لا تقبل إلا بتحقيق الصدق والإخلاص.
    ومن هنا كانا شرطين من شروطها وأكذبَ الله المنافقين في دعوى الإيمان وقول الشهادة؛ لانتفاء الصدق، فقال:
    ((إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ واللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ واللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ))[المنافقون:1].
    وقال: ((ولَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ))[العنكبوت:3].
    ثم قال بعد آيات: ((ولَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ولَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ))[العنكبوت:11].
    وقال: ((لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ ويُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ))[الأحزاب:24].
    كما أبطل سبحانه زعم أهل الكتاب والمشركين أن دينهم هو الحق بانتفاء الإخلاص، فقال: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ والْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ))[البينة:1]
    إلى أن يقول: ((ومَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ وذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ))[البينة:5].
    وقال: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ والْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ومَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً واحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ))[التوبة:31].
    وكرر منافاة الشرك للإخلاص في مواضع كثيرة، منها ما في سورة الإخلاص الكبرى الزمر: ((تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى...))[الزمر:1-3].
    ثم قال: ((قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ))[الزمر:11-15].
    ثم قال: ((قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * ولَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ولَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ))[الزمر:64-66].
    فعلى محك الصدق والإخلاص بطلت أكثر دعاوى العابدين وهلك أكثر الثقلين، فالصدق يخرج كل من ادعى الإيمان -أو شيئاً من أعماله- وأظهره وهو يبطن خلافه والإخلاص يخرج كل من عبد مع الله غيره أو أراد غيره معه في عمل من أعمال العبادة كما في الحديث الصحيح: {قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه}
    ومن هنا كانت شهادة أن لا إله إلا الله هي كلمة الصدق، وكلمة الإخلاص واقترن الصدق والإخلاص وحل كل منهما محل الآخر في الأحاديث، كأحاديث الشفاعة التي وردت بها روايات كثيرة، منها:
    {أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصة من قبل نفسه}.
    وفي رواية {شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصاً يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه}.
    وفي رواية: {رب من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله مصدقاً لسانه قلبه أدخله الجنة}.
    وفي رواية: {ثم يشفع الأنبياء في كل من كان يشهد أن لا إله إلا الله مخلصاً فيخرجونهم، ثم يتحنن الله برحمته على من فيها، فما يترك فيها عبداً في قلبه مثقال حبة من الإيمان إلا أخرجه منها}.
    وكحديث مالك بن الدخُشم الذي كان متهماً بالنفاق، فأخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يخالف ذلك في روايات، منها: {أَمَا شهد أن لا إله إلا الله بها مخلصاً؟ فإن الله حرم على النار من شهد بها}.
    وفي رواية البخاري: {يبتغي بذلك وجه الله} مكان -مخلصاً- وفي رواية: {والذي بعثني بالحق لئن قالها صادقاً من قلبه لا تأكله النار أبداً} وهي تقيد الإطلاق الوارد في رواية مسلم: {أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟}
    والصدق والإخلاص -مع تقاربهما ومع ترادفهما أحياناً- يعرف التمييز بينهما بضد كل منهما؛ فالصدق ضده انتفاء إرادة الله بالعمل أصلاً كمن آمن أو صلّى كاذباً، لم يرد الإيمان والصلاة وإنما فعل ذلك لسبب آخر، كما فعله المنافقون حفظاً لأنفسهم وأموالهم من السيف وجبناً عن تحمل أعباء المواجهة الصريحة للإيمان.
    والإخلاص ضده انتفاء إفراد الله بالإرادة والتوجه، كمن آمن أو صلّى صارفاً ذلك لأحد من دون الله، وهذا هو الشرك الذي وقع فيه أكثر العالمين ومنهم أهل الكتاب والمشركون الذين اتخذوا من دون الله أولياء؛ من الأنبياء أو غيرهم وعبدوهم زاعمين أنهم يقربونهم إلى الله زلفى.
    ومما يميز بينهما أن الصدق لا يختص بالاعتقاد، بل يكون في الأعمال أيضاً، بخلاف الإخلاص فإنه عمل قلبي محض، لكن تظهر آثاره على الجوارح، كما سبق فيما أوضحنا في العلاقة بين عمل القلب وعمل الجوارح، وهذا يشبه ما سبق من القول في اليقين والإحسان والله أعلم.
    وعلى قدر تحقيق العبد لشعب الإيمان وأعماله يكون حظه من الصدق، حتى يصل إلى درجة الصديقين، يقول الله تعالى: ((لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ ولَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ والْمَلائِكَةِ والْكِتَابِ والنَّبِيِّينَ وآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى والْيَتَامَى والْمَسَاكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ والسَّائِلِينَ وفِي الرِّقَابِ وأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ والْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا والصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ وحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ))[البقرة:177].
    ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ))[الحجرات:15].
    وقال: ((والَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ))[الحديد:19].
    كما أن الإخلاص بالنسبة للأعمال كالروح للجسد، فالفرق بين عمل بإخلاص وعمل لا إخلاص فيه، كالفرق بين البشر السوي والتمثال الشاخص.
    وعلى قدر ما يحقق العبد في الإخلاص لربه يكون ترقيه في (الْمُخْلَصِينَ)، الذين صرف الله عنهم غواية الشيطان وأثنى عليهم في كل أمة وبين نجاتهم حين هلاك أممهم.
    قال تعالى حكاية عن إبليس: ((إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ))[ص:83] وقال في سورة الصافات تعقيباً على إهلاك الأمم عامة: ((فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ))[الصافات:73-74] وعن قوم إلياس خاصة، قال فيها: ((فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ))[الصافات:127-128].
    وكرر ذلك في مواضع من هذه السورة وغيرها، كقوله عن يوسف لما عصمه من الفاحشة: ((كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ))[يوسف:24].
    ولهذا كثر الحديث عن الصدق والإخلاص في كتاب الله، وجاء الحديث عن الصدق في السور التي تعرضت للنفاق وأهله؛ كسورة براءة والأحزاب والمنافقون والقتال ( محمد ) والحجرات والحشر.
    وجاء الحديث عن الإخلاص في السور التي تحدثت عن الشرك والمشركين؛ كسورة الأعراف والزمر وغافر والبينة والكافرون، بل في سورة الأنعام وإن لم يذكر فيها صريحاً.
    وارتباط عمل الجوارح بالصدق والإخلاص -كارتباطه بالرضا والمحبة واليقين- أمر محسوس ظاهر، يدل على ارتباط أجزاء الحقيقة الإيمانية الواحدة كما أسلفنا.
    هذا ما يسر الله به واتسع له المجال من الحديث عن أعمال القلوب ولقد تركت أعمالاً أخرى قد لا تقل أهمية عن هذه؛ كالتوكل والصبر والتوبة والإنابة والخوف والرجاء، على أن ما ذكرنا يتضمنها أو يدل عليها ويشير إليها، بل كثير مما نذكر مما يسميه بعضهم مقامات هو كالوسائل لهذه الغايات والفروع لهذه الأصول؛ إذ كانت هذه المذكورة جميعها متعلقة بشطر (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وأما التوكل والصبر ونحوها فمتعلقة بشطر (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ومعلوم أن الاستعانة وسيلة للعبادة وفرع منها.
    ولا يفوتني أن أختم الحديث عن أعمال القلب بذكر فائدتين من فوائد كثيرة منّ الله تعالى بها عليّ وأنا أطيل التأمل والتفكر في هذا الجزء العظيم من أجزاء الإيمان:
  3. فوائد تتعلق بأعمال القلوب

    إحداهما: تتعلق بتلك الأعمال عامة.
    والأخرى: تختص بموضوع المرض الأكبر الذي يعتري القلوب وهو مرض النفاق.
    فالأولى: هي أن من تأمل ما سبق شرحه من أعمال القلوب المعدودة شروطاً للشهادتين -أعني الرضا واليقين والمحبة والصدق والإخلاص- كما وردت في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطابق ذلك بأحوال المخلوقين وطرائق العابدين يجد أن كل شرط من هذه الشروط يخرج طائفة من طوائف الضلال بخصوصها عن الصراط المستقيم وإن كان قد يعم سائرها؛ إذ التلازم بينها لا يخفى وهذا يشمل أمم الكفر والشرك والطوائف الملحقة بها من هذه الأمة.
    * فالرضا: يخرج المستكبرين عن أمر الله وشرعه ودينه، إما بسبب الحسد والمنافسة، كحسد أبي جهل أن تكون النبوة في بني عبد مناف، وكحسد اليهود أن تكون النبوة في ذرية إسماعيل، وما حصل لـعبد الله بن أبي بن سلول حين أضاع قدوم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة أحلامه في الملك ونحو ذلك، وأصل ذلك كله حسد إبليس لآدم عليه السلام.
    وإما بسبب التمسك بما كان عليه الآباء والأجداد وما ورثوه من الشأن والأمجاد واستكبار النفوس أن تتركه لأجل أناس من البشر لا سلطان لهم ولا أبهة: ((إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * ويَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ))[الصافات:35-36].
    وإما الاعتداد بما هم عليه من الحضارة والرقي والعلم، الذي يحملهم على احتقار دين الله واستصغاره: ((فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ))[غافر:83].
    وغير ذلك من الأسباب المانعة من الانقياد والاستسلام والقبول، الذي عبرنا عنه بالرضا كما عبر الشارع .
    ومن أعظم مظاهر ذلك في المنتسبين للإسلام اتباع المناهج الفلسفية - والتحاكم إلى القوانين الوضعية والتماس الهدى والعدل من غير كتاب الله تعالى وسنة رسوله، ونحوها مما يعلن عن عدم الرضا بما أنزل الله والاكتفاء به.
    * والمحبة: تخرج الكارهين لأمر الله وشرعه ودينه كله أو بعضه والمشركين في محبته المعظمين لغير الله وغير شرعه الذين اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله واتخذوا من غير الإسلام مناهج يعظمونها كتعظيمه - كما كان الفلاسفة كـابن سينا وابن رشد يعتقدون أنه ما طرق العالم ناموس أعظم من ناموس الإسلام، لكن ما عند الحكماء والفلاسفة القدماء من الناموس فيه خير عظيم وهدى مبين وأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أعظم الحكماء والمصلحين كـأرسطو وأفلاطون وكما قال طاغوت التتار زمن شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: رجلان عظيمان محمد وجنكيزخان!!
    وكما يعتقد كثير من المعاصرين ويرددونه -المنتسبين للإسلام وغيرهم- من أن الإسلام من أعظم العوامل في بناء الحضارة الإنسانية في القرون الوسطى وما يزال فيه كثير من الإيجابيات التي يمكن أن تسهم في الحضارة المعاصرة، أو أنه ميزة ما يسمونه العالم الثالث، الذي يمكن أن يصل بشعوبه إلى ما وصل إليه المعسكران الكبيران والالتحاق بركب الحضارة والتقدم.
    والمتحذلقون منهم يقولون: إن ما في الإسلام من نظم ومبادئ تغني المسلمين عن الاقتباس من الشرق أو الغرب، لكن لا يغضون من قيمة ما عند الشرق والغرب من النظم والمبادئ ولا يرونهم في حاجة إلى الإسلام.
    وأمثال ذلك كثير وخصوصاً على أفواه رجال الضرار ومنابره، ومن المظاهر العادية للتسوية في التعظيم -إن لم يكن تعظيم الكفر أعظم- أن هؤلاء الناس يتحرجون من تسمية الأمم المتحضرة كفاراً، وبل ربما نفروا ممن يطلق عليهم ذلك - حتى لقد قام بعض كتاب المدرسة العصرية بالسخرية العلنية ممن يزعمون أن المسلمين وحدهم سيدخلون الجنة وأن أديسون، وباستور وفلان وفلان من رواد الحضارة والعلم سيدخلون النار!!
    * واليقين: يخرج الفلاسفة والملاحدة والمتعمقين في الكلام وأصحاب النظريات عن الكون ونشأته والإنسان ومهمته ومن يلحق بهم من علماء ما يسمى علم الاجتماع أو علم النفس السائرة على غير هدى الله، فهؤلاء لا يصلون إلى اليقين ولا يستقر لهم قدم بحال في كل ما يبحثون فيه مما ليس داخلاً في نطاق العقل البشري، وحسبك أن الله تعالى قال فيهم: ((مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ ولا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ومَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً))[الكهف:51].
    ولولا خشية التطويل لذهبنا في سرد اعترافاتٍ من اعترافات هؤلاء بالعجز والجهل والشك والحيرة، سواء الكفار منهم أو المشتغلون بذلك من المسلمين؛ كـالرازي والجويني والشهرستاني.
    ويلحق بهؤلاء جهال الأرض وهم أكثر العالم الذين لا دين لديهم ولا هدى.
    * والصدق: يخرج الكاذبين في دعوى الإيمان؛ وهم المنافقون وهم كثير في هذه الأمة ومرضهم وبيل، ولذا سنخصه بالحديث في الفقرة التالية.
    * والإخلاص: يخرج المشركين العرب وأهل الكتاب وكل من يزعم أن دينه خير الأديان وهو لا يخلص التوحيد لله تعالى -إلا في حال الشدة والكرب- ويلحق بهم من المنتسبين للإسلام كل من تعلق بالأموات من الأنبياء والصالحين ودعاهم ورجاهم ونذر لهم معتقداً أنهم يقربونه إلى الله زلفى -كما كان المشركون يعتقدون في آلهتهم ومن يعتقد من الشيعة والصوفية أن أئمتهم وأولياءهم يتصرفون في الكون ويعلمون الغيب ويسبغ عليهم ما هو من خصائص الألوهية.
    كما يخرج به المشركون في الطاعة والاتباع، الخارجون على مقتضى قوله تعالى: ((اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُو وأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ))[الأنعام:106] من المتبعين للمناهج البشرية والقوانين الوضعية، فكل هؤلاء لم يخلصوا لله ولم يحققوا شهادة أن لا إله إلا الله.
    كما يلحق بهم -من وجه- المشركون في الإرادة كأصحاب الأهواء والحظوظ العاجلة وهو الشرك الخفي الذي قل من ينجو منه.
    فلا عجب إذن أن يكثر الحديث في الكتاب والسنة عن هذه الأعمال، منبهاً أصحاب الصراط المستقيم على أهميتها ومبيناً هلاك من ضل فيها أو أعرض عنها، ولا عجب أن يكون من أعظم عوامل انتشار الإرجاء بل عوامل تقهقر الأمة وانحطاطها وإخفاق الدعوات الإسلامية وفشلها، إهمالها في تحقيق هذه الأعمال وتفريطها فيها.
    الفائدة الأخرى: وهي تنبيه ضروري يتعلق بأعظم مرض من أمراض القلوب وهو النفاق، فكما أخطأ كثير من الناس في مفهوم الكفر ومعناه وحصروه في صورة واحدة هي إنكار وجود الله، أو إنكار أنه الخالق الرازق المدبر ونحو ذلك -أخطأ كثير من الناس أيضاً- في مفهوم النفاق الأكبر وحصروه في صورة واحدة كذلك؛ هي أن يظهر الإسلام وهو يبطن اعتقاد كذب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل ما جاء به وعدم الإيمان بدين الإسلام كله وعدم الرضا بشيء منه.
    وهذه -وإن كانت أجلى صورة وأكبرها- ليست الصورة الوحيدة، بل النفاق الأكبر كالكفر الأكبر له صور كثيرة جداً، فكما أن الإنسان قد يكون مؤمناً ويخرج من الإسلام بكلمة أو فعل، فكذلك قد يكون منافقاً النفاق الأكبر بسبب قول أو فعل من أقوال القلب وأعماله مع اعتقاده بقية الدين وإظهاره للشرائع والشعائر.
    والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر في كتابه للمنافقين أحوالاً متفاوتة في النفاق الأكبر؛ فمنها الصورة الكاملة - كحال المذكورين أول البقرة: ((ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ومَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ والَّذِينَ آمَنُوا ومَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ومَا يَشْعُرُونَ))[البقرة:8-9].
    أو أول المنافقون: ((إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ واللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ واللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ))[المنافقون:1].
    ومنها صور دون ذلك، كحال المذكورين في سورة القتال (محمد): ((إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ))[محمد:25-26].
    أو حال المستهزئين بقراء الصحابة يوم تبوك، الذين أنزل الله فيهم: ((ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وآيَاتِهِ ورَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ))[التوبة:65-66].
    فلا شك أن بين من يبطن الكفر بالله واليوم الآخر جملة واحدة -المتضمن تكذيب الرسول وبطلان القرآن- وبين من يقول للكفار سنطيعكم في بعض الأمر أو يستهزئ بشيء مما عظمه الله فرقاً وإن اتحد الحكم عليهما بالردة والكفر، فإن بعض الكفر أغلظ من بعض، كما قال الله تعالى: ((إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ))[التوبة:37].
    وقال: ((الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً ونِفَاقاً))[التوبة:97].
    فجعل بعض الكفر والنفاق أشد من بعض.
    والمقصود أن نعلم أن الرجل قد يكون في باطنه مؤمناً بالدين في الأصل والجملة ولكنه يكره شيئاً مما أنزل الله، أو لا يقر به في قلبه ولا يعتقد الالتزام به، فيكون حكمه حكم الكافر بالدين كله، وذلك كمن يكره بقلبه تحريم الربا ويرى ذلك مخالفاً للمصلحة وغير مستقيم مع العقل إذا كان الطرفان متراضيين عليه ونحو ذلك.
    ومن يكره ما أنزل الله بشأن الحجاب وستر النساء عن الاختلاط بالرجال ويراه نوعاً من الظلم والامتهان للمرأة، أو يراه عائقاً عن التنمية مخالفاً لمصلحة المجتمع.
    أو من يعتقد أن أحكام الجهاد ومقاتلة الكفار وسبي نسائهم وغنم أموالهم لا يليق بكرامة الإنسان وحريته ولا يتناسب مع المساواة الإنسانية.
    ومن يكره أن يقول أو يعتقد أن هؤلاء الكفار العصريين، أو أصحاب الحضارات المنقرضة -ومنهم الحكماء والأدباء والمخترعون- يحاسبهم الله يوم القيامة ويعذبهم بالنار ولا يقبل منهم أي عمل أو إحسان.
    ومن يعتقد أن من حق أتباع أي دين أن يدعوا إلى دينهم وأن ينشروه في كل مكان بتفاهم مع دعاة الإسلام ووئام بين جميع الأديان.
    ومن يكره ما أنزل الله بشأن معاملة الكفار وأحكام العلاقة بهم ويعتقد أن الأوفق والأصلح هو مداهنتهم ومجاملتهم - بمقتضى الاتفاقيات الدبلوماسية والأعراف الدولية التي ارتضاها العالم المتحضر والأمم المتحدة.
    ومن يكره ما شرعه الله من أحكام أهل الذمة ويرى أنه آن الأوان لإلغاء الجزية وتحقيق الأخوة الوطنية.
    ومن يكره ما جاء في القرآن والسنة من أخبار الأمم الكافرة وذمها وهلاكها بسبب معاصيها، أو يرى أن تاريخ الحضارات يجب أن يدرس وفق المنهج الذي يسير عليه المنهج الغربي تحليلاً واستنتاجاً.
    وصور كثيرة مشابهة كلها تفصح عما في قلب صاحبها من نفاق أكبر، وإن كان لا يكره بقية الأحكام ومظهراً لشعائر الإسلام.