المادة    
ثم ينتقل المصنف رحمه الله إلى معنى الإحاطة، فيقول: "أما كونه محيطاً بكل شيءٍ فقال تعالى: ((وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ))[البروج:20]، وقال تعالى: ((أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ))[فصلت:54]، وقال تعالى: ((وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا))[النساء:126]" إذاً: ورد في القرآن أن الله سبحانه وتعالى محيط بكل شيء، وفي السنة وردت أحاديث تثبت ذلك تقدم ذكرها في الرسالة العرشية، وسوف نأخذ -إن شاء الله- مقتطفات من كلام ابن القيم رحمه الله، يؤكد فيها ما جاء في الرسالة العرشية من جهةٍ، ويذكر معاني جديدة قيمة من جهة أخرى.
وهذا الكلام الموجود هنا من عند قوله: "وليس المراد من إحاطته بخلقه أنه كالفلك ... " إلى آخر ما وقفنا عليه، هو مقرر بحروفه في الرسالة العرشية .
فيقول المصنف رحمه الله: "وليس المراد من إحاطته بخلقه أنه كالفلك، وأن المخلوقات داخل ذاته المقدسة" وهذا خيال الفلاسفة الذين لم يكونوا يؤمنون بدين، ومن كان منهم منتسباً إلى الإسلام لم يكن مؤمناً بالوحي، وإذا كان مؤمناً به أنه وحي منزل فإنه لا يدين به، ولا يعتقد ما فيه، بل يرى أنه خطاب جمهوري، أي: من أساليب الخطاب للجماهير الذين لم يتعمقوا في فهم البراهين العقلية، أما أمثالهم من أصحاب العقول الكبيرة -في زعمهم- فيأخذون دينهم من البراهين والقواعد الجدلية، لا من البراهين الخطابية.
  1. خطر التأويلات الفاسدة

    يقول: "-تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- وإنما المراد إحاطة عظمة وسعةٍ وعلم وقدرة، وأنها بالنسبة إلى عظمته كالخردلة"، الإحاطة صفة حقيقية من جهتين: من جهة عظمة ذاته سبحانه وتعالى بالنسبة إلى خلقه، ومن جهة إحاطة علمه بالنسبة إلى كل المخلوقات.
    ونقف هنا قليلاً عند التعليق الذي ذكره المعلق، ولا أظنه الشيخ ناصر، فقد يكون الشيخ زهير الشاويش، أو غيره؛ فأياً كان قائله فنحن نقرؤه ونبين ما فيه من خطأ، يقول المعلق: "في الأصل إحاطة عظمة وسعة وعلم وقدرة، وكلا العبارتين حسن، وهو من التأويل الذي ينقمه الشارح مع أنه لابد منه أحياناً" ومعنى (ينقمه) أي: ينكره "مع أنه لابد منه"، أي: أن قول المصنف رحمه الله: "إحاطة عظمة وسعة وعلمٍ وقدرة، أو إحاطة عظمته ... إلخ" فكلتا العبارتين تصح، وهو من التأويل الحسن، وإن كان مما لا يؤمن به المصنف، بل ينقمه وينكره، لكن لابد منه أحياناً.
    وهذا مثل قول القائل: نحن أهل السنة والجماعة لا نؤول إلا عند الضرورة، حيث لا مفر منه.
    فنقول: من أين جاءت هذه الضرورة؟ وهل ذلك لابد منه عقلاً أم نقلاً؟ فقولك: (لابد منه) ليس دليلاً ولا قاعدة، وإنما هي حالة ذاتية، فقد يقول قائل: لابد من تأويل اليد، ويقول آخر: نثبت اليد لكن لابد من تأويل النزول، ويأتي آخر يقول: نثبت النزول، لكن لابد من تأويل الإحاطة. فإذاً: ما لابد من تأويله أمر لا ينضبط، وليس له قاعدة محددة، ويعود السؤال.
    فإن قال: لابد من تأويله شرعاً وديناً.
    قلنا: في أي كتاب وفي أية سنة أمرنا أن نؤول؟
    وإن قال: لابد من تأويله عقلاً.
    قلنا: هذا هو أصل الضلال وأساسه، وبسببه أوَّل من أوَّل من الفرق الضالة، ومطيتهم: (لابد من التأويل ولا نؤول كل شيء) كما هي تأويلات الباطنية فهم لا يؤولون الحج بخلاف الصيام فهم يقولون: لابد من تأويل الصيام، ومعناه عندهم: حفظ أسرار الأئمة، وأيضاً الرافضة -وهم في الحقيقة باطنية - يقولون: هناك أشياء لابد من تأويلها، فكل ما ورد في القرآن من المواضع الدالة على فضل علي، والرد على أعدائه وإن كان العامة لا يفهمون، -ويعنون بالعامة أهل السنة- كقوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً))[البقرة:67] لابد أن تؤول البقرة بـعائشة رضي الله عنها، بحجة أن هناك مواضع لابد من التأويل فيها، أما ما يتعلق بالجنة والنار والميزان، والصراط والآخرة فقد يؤولونه وقد لا يؤولونه، ومثل تأويل الباطنية الذين هم أكثر الفرق تأويلاً، وتأويلهم مخرج من الملة، ومنهم النصيرية ؛ والدروز وأمثالهم، فهم يؤولون الصلاة والصيام والزكاة والحج، وصفات الله تعالى، ويلعبون بكتاب الله كما يشاءون، ويقولون: إن التأويل له تأويل باطن، والتأويل الباطن له تأويل باطن آخر.. إلى سبعمائة تأويل باطن، ولذا يقولون: لابد من وجود إمام معصوم يُرجع إليه؛ لأنه لا يوجد من يفهم هذه الأسرار، ومن هنا يُجمِّعون الغوغاء، وجهلة الناس، ويُعبِّدونهم للإمام الذي يتبعونه، وهؤلاء المؤولون من باطنية ورافضة يرون أنه لا بد من التأويل.
    ثم أهل التأويل والضلال والبدعة في صفات الله تعالى كتأويلات المعتزلة في بعض المواضع، والأشاعرة والماتريدية والجهمية، كلهم يقولون: نحن نؤول، لكن لا نؤول إلاَّ ما لابد من تأويله.
    وكمثال واقعي على ذلك:
    ألف أبو حامد الغزالي كتاباً مشهوراً معروفاً في الرد على الباطنية هو فضائح الباطنية، ومن الأشياء التي يكفرهم ويفضحهم بها: أنهم يؤولون ما في الكتاب والسنة ويؤولون الأحكام الظاهرة، وهذا كفر؛ لأن هذه النصوص والأحكام ظاهرة لا تحتاج إلى تأمل واستنباط، فالصلاة كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يؤدونها عملياً في المسجد خمس مرات في اليوم والليلة، وتناقل ذلك التابعون وأتباعهم، حتى امتد الإسلام من المشرق إلى المغرب. فإذا جاء رجل باطني في القرن الرابع وقال: ليست الصلاة بهذا المعنى، وإنما معنى الصلوات الخمس علي والحسن والحسين وفاطمة و...؛ فقد جاء بشيء لم يعهده المسلمون، والغزالي وأمثاله من الأشعرية يكفرون الباطنية بهذا التأويل في الأحكام الظاهرة، لكنهم قالوا -كما قال الغزالي في كتاب قواعد العقائد من الإحياء- لابد من أن نؤول في الصفات، ثم قال: "ومعرفة ما يؤول مما لا يؤول لا يُعلم إلا بطريق الكشف" فجاء بمصيبة أخرى، والغزالي باعتبار أنه إنما كتب الإحياء في مرحلة التصوف، يبين متى نؤول ومتى لا نؤول، فأوضح أنه لا يكون إلا بالكشف!! وهذا يعتبر ضياعاً للدين تماماً؛ لأنه متى سأكاشف أنا -لو كان الكشف حقيقة-؟! وبأي شيء أكاشف؟! فقد يأتي من يقول: كوشفت أن النزول حق، لكن ما كوشفت باليد، ويأتي الثاني يقول: كوشفت باليد وما كوشفت بالنزول.
    إذاً: لن يبقى لديننا قرار، ولا للإيمان قاعدة استقرار ولا ثبات، وهذا لا يمكن أن يكون هو الدين الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم، فنحن إذا أقررنا مثل هذه العبارات، فإننا نلزم بمثل هذه الإلزامات، ولابد أن يحاجنا وأن يغلبنا المؤولون ابتداء من الباطنية، كما حاجت الباطنية منكري الصفات، وردوا عليهم بأنكم تكفروننا بتأويلنا للأحكام، وأنتم تؤولون الصفات، والصفات بابها أعظم؛ لأنها تدخل في التوحيد، أما الأحكام فهي تدخل في الأعمال، فنحن أوّلنا ما كان من الأمور العملية فجعلتمونا كفاراً، وأنتم تؤولون ما يتعلق بأمور الاعتقاد وهي الأصل ولا تكفرون، وهذا من العجب، وليس من الإنصاف في شيء! لأنه لابد من أحد شيئين: إما أن يؤول الكل بلا قاعدة، ويؤول كل من شاء كما يشاء، وإما أن يقال: لا تأويل مطلقاً، أو أن يقال: أولوا البعض واتركوا البعض بناء على كلام الإمام المعصوم، أو بناء على الكشف، أو بناءً على العقل، أو ما لابد منه، أو الضرورة، أو غير ذلك.
    وهذه كلها لا تنضبط.. بل هي مفتاح لأن يلزم الإنسان بنقيض ما هو مقرّ به، فعليه أن يسلم بتأويل الكل أو ينكره في الكل ولابد من ذلك.
    وعليه فالتعليق -الذي أشرنا أنه في حاشية النسخة التي عليها تعليقات للشيخ الألباني - غير صحيح وأن التأويل إما كفر وإما بدعة أو خطأ، وأما أهل السنة فلا يؤولون، ومن أراد الزيادة فليراجع ما كتبه شيخ الإسلام رحمه الله في رسالته الإكليل، وما كتبه ابن القيم في مختصر الصواعق، فقد رد فيه على المؤولين ردوداً عظيمة جداً، وألزمهم بإلزامات عظيمة.
    إذاً: الإحاطة تتضمن إحاطة عظمته سبحانه وتعالى بخلقه؛ لأنه عز وجل أكبر وأعظم من كل شيء، والمخلوقات في قبضته كالخردلة أو كالحمصة في يد أحدنا، كما ورد، وقد سبق في شرح الرسالة العرشية، وتأتي إشارة إليه هنا.
  2. بيان أن معنى الإحاطة يتضمن العلم

    والمعنى الآخر للإحاطة أو ما تتضمنه الإحاطة هو إحاطة العلم، وهو أنه سبحانه وتعالى ((وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا))[طه:98]، وعلمه محيط بكل شيء، فلا تخفى عليه خافية.. ((يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ))[غافر:19] : ((يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى))[طه:7].
    وكلام المصنف رحمه الله هل هو تأويل؟ أم ينفي الإحاطة؟
    قال رحمه الله: "ليس المراد من إحاطته لخلقه أنه كالفلك... وإنما المراد: إحاطة عظمة وسعة علم وقدرة.." فهو لم ينف الإحاطة.
    ومعنى كلامه: ليست الإحاطة إحاطة فلك كما فهمها البعض، وإنما هي إحاطة عظمة وإحاطة علم، وهذا إيضاح، لكن لا يسميه تأويلاً كي لا يلتبس، وإنما هو بين معنى الإحاطة.
    ولذلك فأقول: الإحاطة معناها ومضمونها واضح ونقول فيها ما نقول في الاستواء.
    فنقول: الاستواء معلوم والإحاطة معلومة من كلام العرب لكن كيفيتها في حق الله تعالى غير معقولة.
    وما سنوضحه هو عن معناها، أما الكيفية فكغيرها من الصفات (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))[الشورى:11] فالمصنف رحمه الله لم يؤول أبداً وإنما وضح المعنى وبينه، ولم يقل: إن الإحاطة هي التدوير أو التطويق، لأن الإحاطة أجلى وأوضح، كما قال الإمام مالك: [[الاستواء معلوم، والكيف غير معقول..]].
    مع أن من السلف من فسر الاستواء بمعنى ارتفع وعلا، أما الإمام مالك فاكتفى بقوله: (الاستواء معلوم) وهذا فيه إحالة منه رحمه الله للمعنى اللغوي المعروف عند العرب الذي أنزل الكتاب بلغتهم.
    وتفسير بعض السلف للاستواء بالعلو والارتفاع جاء من باب الرد على المبتدعة الذين أنكروا الاستواء.
    وهكذا قول المصنف هنا ليس تأويلاً للإحاطة وإنما بيان لمعناها ورد على المبتدعة الذين أنكروا هذه الصفة أو جعلوها إحاطة كإحاطة الفلك. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
    قال: "إحاطة عظمة وسعة وعلم وقدرة، وأنها بالنسبة إلى عظمته كالخردلة، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: [[ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلاَّ كخردلة في يد أحدكم]] ومن المعلوم -ولله المثل الأعلى- أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة، إن شاء قبضها وأحاطت قبضته بها، وإن شاء جعلها تحته، وهو في الحالين مباين لها، عالٍ عليها، فوقها من جميع الوجوه، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف" وهذا الكلام -تقريباً- منقول بحروفه من الرسالة العرشية، "فلو شاء لقبض السماوات والأرض اليوم، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة، فإنه لا يتجدد له إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن" أي: أن الله تعالى قادر على أن يقبضها في أي وقت؛ لأنه على كل شيء قدير.
    والمقصود بالمباينة عندما نقول: الشيء مباين للشيء، أي: غير داخل فيه، بل منفصل عنه.
    يقول: "فكيف يستبعد العقل مع ذلك أنه يدنو سبحانه من بعض أجزاء العالم وهو على عرشه فوق سماواته، أو يدني إليه من شاء من خلقه، فمن نفى ذلك لم يقدّره حق قدره".
  3. أدلة ثبوت الإحاطة

    وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أدلة ثبوت الإحاطة:
    فقال: "الإحاطة ثابتة عقلاً ونقلاً وفطرةً" وهذه قاعدة عظيمة، وسيأتي الحديث الذي رواه مسلم في قوله تعالى: ((هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ))[الحديد:3] وأنه صلى الله عليه وسلم فسر ذلك فقال: {اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء} وهذا مما يدل على معنى الإحاطة؛ لأن كل صفات الله تعالى يصدق بعضها بعضاً، والأدلة يصدق بعضها بعضاً.
    وكمثال على ذلك ما تقدم في الرسالة العرشية لـشيخ الإسلام وذكره. ابن القيم وهو ما رواه الترمذي من حديث الحسن البصري عن أبي هريرة رضي الله عنه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {فو الذي نفسي بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبطتم على الله} قال ابن القيم -وهذا بعض كلامه-: وقد اختلف الناس في هذا الحديث في سنده ومعناه فطائفة قبلته؛ لأن إسناده ثابت إلى الحسن "لكن بقيت علة سماع الحسن من أبي هريرة، قال الترمذي: "... وقد صح عن الحسن في غير هذا الحديث أنه قال: حدثنا أبو هريرة، ولا ريب أنه عاصره"، وإثبات الحديث قول بعض أهل السنة .
    والطائفة الأخرى ردوا الحديث وقالوا: إن الحديث منقطع؛ لأن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، وذكروا له علة أخرى، وهي: أن عبد الرزاق في تفسيره رواه عن معمر عن قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، ففيه أيضاً علة الإرسال، فردوا هذا الحديث ولكنهم لم ينفوا الإحاطة؛ لأن هذا الحديث هو غاية ما يمكن أن يتمسك به الذين ينفون إحاطة الله عز وجل، بحجة أن هذا الحديث يلزم منه لوازم ومعاني باطلة، بينما نحن ننظر إلى الحديث من ناحية ثبوته، فإن اتفق السلف على رده رددناه، وإن اتفقوا على ثبوته أثبتناه، أما ما داموا اختلفوا، فما هو قول من أثبته؟ وما هو المعنى للحديث لديهم حتى لا يقول أهل البدع بلوازم باطلة؟!
    قال ابن القيم : "والذين قبلوا الحديث اختلفوا في معناه، فحكى الترمذي عن بعض أهل العلم أن المعنى: يهبط على علم الله وقدرته وسلطانه، ومراده على معلوم الله ومقدوره وملكه، أي: انتهى علمه وقدرته وسلطانه إلى تحت التحت، فلا يعزب عنه شيء" وهذا المعنى رده الترمذي، ويرده كل عاقل؛ لأن علم الله في كل مكان، والدنيا ملك الله وسلطانه، فهذا التفسير خطأ، ومن يثبت الحديث يجب أن يأتي بمعنى صحيح له.
    يقول ابن القيم : " وقالت طائفة أخرى: بل هذا معنى اسمه (المحيط) واسمه (الباطن ). فإنه سبحانه محيط بالعالم كله، وإن العالم العلوي والسفلي في قبضته كما قال تعالى: (( وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ))[البروج:20] فإذا كان محيطاً بالعالم فهو فوقه بالذات، عالٍ عليه من كل وجه وبكل معنى، فالإحاطة تتضمن العلو والسعة والعظمة فإذا كانت السماوات السبع والأرضون السبع في قبضته فلو وقعت حصاة أو دلي بحبل لسقط في قبضته سبحانه". إذاً: الحديث لا إشكال فيه لو ثبت لأن السموات والأرض في قبضته سبحانه وتعالى.
    يقول ابن القيم : "والحديث لم يقل فيه: إنه يهبط على جميع ذاته"، فلا يمكن أن نثبت له السفل، تعالى الله عن ذلك.
    وقد روي عن الجهم وابن أبي دؤاد وبشر أنه كان يقول: سبحان ربي الأسفل تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
    وهذا فهم عجيب! هل في الحديث أنه يهبط على جميع ذاته، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
    يقول: "فهذا لا يقوله ولا يفهمه عاقل، ولا هو مذهب أحد من أهل الأرض ألبتة" لا الحلولية ولا الاتحادية، ولا الفرعونية، ولا القائلون: بأنه في كل مكان بذاته، وطوائف بني آدم كلهم متفقون على أن الله تعالى ليس تحت العالم. فقوله: {لو دليتم بحبل لهبط على الله} إذا هبط في قبضته المحيطة بالعالم فقد هبط عليه، والعالم في قبضته، وهو فوق عرشه، ولو أن أحدنا أمسك بيده أو برجله كرة قبضتها يده من جميع جوانبها، ثم وقعت حصاة من أعلى الكرة إلى أسفلها لوقعت في يده، وهبطت عليه، ولم يلزم من ذلك أن تكون الكرة والحصاة فوقه وهو تحتها، ولله المثل الأعلى" فكيف بالذي لا تدركه الأبصار سبحانه وتعالى، وليس كمثله شيء؟!
    يقول: "وإنما يؤتى الرجل من سوء فهمه، أو من سوء قصده، أو من كليهما، فإذا هما اجتمعا كمل نصيبه من الضلال.
    وأما تأويل الترمذي وغيره له بالعلم، فقال شيخنا "-يعني ابن تيمية رحمه الله-": هو ظاهر الفساد من جنس تأويلات الجهمية، بل بتقدير ثبوته فإنما يدل على الإحاطة، والإحاطة ثابتة عقلاً ونقلاً وفطرة كما تقدم" هذا الكلام بنصه في الرسالة العرشية، وقد تقدم.
    يقول: "وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه، ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكاً، ولكن عن يساره أو تحت رجله}" إلى أن قال رحمه الله: "فقد ظهر أنه على كل تقدير لا يجوز التوجه إلى الله تعالى إلا من جهة العلو، وأن ذلك لا ينافي إحاطته بالعالم، وكونه في قبضته، وأنه الباطن الذي ليس دونه شيء، كما أنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وأن أحد الأمرين لا ينفي الآخر، وأن إحاطته بخلقه لا تنفي مباينته لهم ولا علوه على مخلوقاته، بل هو فوق خلقه محيط بهم، مباين لهم." فالإحاطة إذاً لا تنافي المباينة، بل الإحاطة تتضمن العلو والسعة والعظمة.
    "وإنما تنشأ الشبهة الفاسدة من اعتقادين فاسدين:
    أحدهما: أن يظن أنه إذا كان العرش كرياً والله فوقه، لزم أن يكون الله كرياً" أي كروياً أو كالفلك كما يقوله أولئك المبطلون.
    "الاعتقاد الثاني: أنه إذا كان كرياً صح التوجه إليه من جميع الجهات وهذان الاعتقادان خطأ وضلال". وقد سبق إيضاح هذا، والرد عليه، وبيان بطلانه، في الرسالة العرشية .
    والمقصود هنا هو أن الإحاطة حقيقة نثبتها لله سبحانه عز وجل أعظم وأكبر من كل المخلوقات، كما تعني هذه الصفة إحاطة العلم ولا إشكال في هذا المعنى الأخير، بل من أولوا الأحاديث إنما لجئوا إليها وهو أنه سبحانه وتعالى محيط بكل شيء علماً، يعلم كل شيء وأن دق وخفي على غيره عز وجل.