زيادة عما نقلناه عن المرجئة في الفصول السابقة على سبيل التمثيل نذكر هنا نقولاً عن أئمتهم ومتكلميهم تدل على ما استقر عليه مذهبهم في عصور متعاقبة من حكم ترك العمل وفصله عن الإيمان.
ورغبة في الاختصار اقتصرت على ما يتعلق بدخول شهادة أن لا إله إلا الله في الإيمان -التي هي رأس كل عمل- فإن تصريحهم بنفي ذلك -أو مجرد اختلافهم في النطق- يغني عن ذكر شذوذهم في نفي العمل؛ لأن خروج العمل عن الماهية أولى بلا ريب، ولأن أخرج الركن الأول من أركان الإسلام أو أجاز خروجه فهو لما بعده أضيع.
  1. أقوال المخالفين لمنهج السلف في حكم ترك العمل

    1- يقول أبو منصور البغدادي:
    ''الطاعات عندنا أقسام: أعلاها يصير بها المطيع عند الله مؤمناً، ويكون عاقبته لأجلها الجنة إن مات عليه، وهي: معرفة أصول الدين في العدل والتوحيد والوعد والوعيد والنبوات والكرامات، ومعرفة أركان شريعة الإسلام، وبهذه المعرفة يخرج عن الكفر.
    والقسم الثاني: إظهار ما ذكرناه باللسان مرة واحدة، وبه يسلم من الجزية والقتال والسبي والاسترقاق، وبه تحل المناكحة، واستحلال الذبيحة، والموارثة، والدفن في مقابر المسلمين , والصلاة عليه وخلفه.
    والقسم الثالث: إقامة الفرائض واجتناب الكبائر، وبه يسلم من دخول النار ويصير مقبول الشهادة.
    والقسم الرابع منها: زيادة النوافل، وبها يكون له الزيادة في الكرامة والولاية '' .
    قال: '' والمعاصي أيضاً قسمان:
    قسم منها: كفر محض؛ كعقد القلب على ما يضاد القسم الأول من أقسام الطاعات، أو الشك فيها أو في بعضها، ومن مات على ذلك كان مخلداً في النار.
    والقسم الثاني منها: ركوب الكبائر، أو ترك الفرائض من غير عذر، وذلك فسق تسقط به الشهادة، وفيه ما يوجب الحد أو القتل أو التعزير، وهو مع ذلك مؤمن إن صح له القسم الأول من الطاعات '' .
    فالطاعات عنده على ثلاث مراتب:
    1- المعرفة.
    2- الإقرار.
    3- العمل.
    والمعاصي مرتبتان:
    1- ترك المعرفة.
    2- ترك العمل.
    ولم يذكر ترك الإقرار؛ لأنه مجرد علامة لإجراء الأحكام الدنيوية كما بين في كلامه، ولذلك كان إظهاره مرة واحدة كافياً.
    فحقيقة الإيمان عنده هي المعرفة بأصول الدين معرفة قلبية، وحقيقة الكفر هي اعتقاد ضد تلك المعرفة بالقلب أيضاً.
    وأما الإقرار وهو قول كلمة الشهادة، والعمل الذي هو فعل المأمورات وترك المنهيات، فليسا من الإيمان ولا يكون تاركهما كافراً؛ فإن كان تاركاً للإقرار كان مؤمناً عند الله فحسب، وإن كان تاركاً للعمل كان مؤمناً عند الله وفي أحكام الدنيا أيضاً، هذه خلاصة كلامه.
    وهذا ظاهر الموافقة لمذهب جهم وبشر مع شيء من التفصيل، لكن ليس هذا هو العجيب فإن اتباعهم لمذهب جهم مشهور معلوم، ولكن العجيب أن كلامه فيه موافقة لمذهب الخوارج -شعر أو لم يشعر- وذلك في قوله: ''إن من اعتقد ما يضاد القسم الأول من أقسام الطاعات عنده - وهو [ معرفة أصول الدين في العدل والتوحيد والوعد والوعيد والنبوات والكرامات ومعرفة أركان شريعة الإسلام] - كافر! ''
    والذي أوقعه في ذلك هو القسمة العقلية التي لا مستند لها من النصوص، فهل يعتقد البغدادي أن من خالف الأشعرية في شيء من هذه العقائد أو جهلها كافر؟ الواقع أن الخلاف عندهم في تكفير أهل البدع قائم، وهم مضطربون في ذلك بما لا متسع لتفصيله.
    والأكثر مخالفة لمذهب السلف هو اعتقاد تكفير من جهل شيئاً من أركان الشريعة بإطلاق؛ فإن الإنسان قد يجهل حكماً هو عند غيره معلوم قطعي ويكون مع ذلك معذوراً - على تفصيل ليس هذا موضعه.
    فـالبغدادي -لا ريب- قد جنح في مسألة المعرفة إلى الغلو، لكنه سرعان ما تناقض فجنح في مسألة العمل إلى التفريط.
    فمع حكمه بأن من فاتته معرفة أحكام الشريعة كافر -بلا تفصيل- تجده يحكم بأن من لم يعمل شيئاً منها من غير عذر مؤمن إن كان صحيح المعرفة -كما قال- ومن هنا نفهم أن تلك المعرفة المشروطة إنما هي إدراك مجرد، فلا تستلزم لذاتها امتثالاً ولا عملاً.
    والمهم أن هذه التوفيقية الواضحة التي انتهجها البغدادي بما فيها من تناقض وتذبذب ظلت هي منهج القوم المتبع ولا تزال -لا سيما في موضوع ترك العمل- والنصوص الآتية هنا توضح ذلك:
    2- يقول التفتازاني:
    ضمن كلام معقد طويل عن مسألة النطق بالشهادة وحكمها :
    '' إن هاهنا مطلبين:
    الأول: أن الإقرار ليس جزءاً من الإيمان.
    والثاني: أنه -أي: الإيمان- التصديق لا غير.
    أما الأول: فلدلالة النصوص على أن محل الإيمان هو القلب، فلا يكون الإقرار الذي هو فعل اللسان داخلاً فيه.
    أما الثاني: وهو أنه التصديق، لا سائر ما في القلب من المعرفة والقدرة والعفة والشجاعة...!! فلوجوه:
    الأول: اتفاق الفريقين على أنه ليس سوى التصديق.
    الثاني: أن الإيمان في اللغة التصديق ولم يعين في الشرع لمعنى آخر.
    الثالث: أن النقل خلاف الأصل؛ فلا يصار إليه بلا دليل '' .
    والتفتازاني يقول هذا ترجيحاً للقول بأن النطق إنما هو شرط لإجراء الأحكام الظاهرة الدنيوية، وليس جزءاً من الإيمان ولا شطراً له -كما كان عليه مذهب الحنفية - ويستدل لذلك بحديث: { يخرج من النار من كان في قلبه ذرة من الإيمان } وهو من النصوص التي أساءوا فهمها، واستدلوا بها في غير موضعها، وأخذوا ببعض مدلولاتها وتركوا البعض الآخر، على ما سيأتي تفصيله.
    وهو ينقل عن شرح المواقف ''أن السجود للصنم بالاختيار يدل بظاهره على أنه ليس بمصدق، ونحن نحكم بالظاهر؛ فلذلك حكمنا بعدم إيمانه، حتى لو علم أنه لم يسجد له على سبيل التعظيم واعتقاد الألوهية، بل سجد له وقلبه مطمئن بالإيمان، لم يحكم بكفره فيما بينه وبين الله تعالى إن أجري عليه حكم الكافر في الظاهر'' .
    3- وقال السنوسي:
    '' وأما الكافر فذكره لهذه الكلمة -أي: كلمة الشهادة- واجب شرط في صحة إيمانه القلبي مع القدرة، وإن عجز عنها بعد حصول إيمانه القلبي لمفاجأة الموت ونحو ذلك سقط عنه الوجوب، وكان مؤمناً.
    هذا هو المشهور من مذاهب علماء أهل السنة .
    وقيل: لا يصح الإيمان بدونها مطلقاً، ولا فرق في ذلك بين المختار والعاجز، وقيل: يصح الإيمان بدونها مطلقاً، وإن كان التارك لها اختياراً عاصياً، كما في حق المؤمن بالأصالة إذا نطق بها ولم ينو الوجوب!!
    ومنشأ هذه الأقوال الثلاثة: الخلاف في هذه الكلمة؛ هل هي شرط في صحة الإيمان، أو جزء منه، أو ليست بشرط فيه ولا جزء منه، والأول هو المختار ''.
    وهنا قال شارح كلامه الدسوقي : ''حاصل ما ذكره الشارح أن الأقوال فيه ثلاثة:
    فقيل: إن النطق بالشهادتين شرط في صحته خارج عن ماهيته.
    وقيل: إنه شطر -أي: جزء من حقيقة الإيمان- فالإيمان مجموع التصديق القلبي والنطق بالشهادتين.
    وقيل: ليس شرطاً في صحته ولا جزءاً من مفهومه، بل هو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية، وهو المعتمد!
    وعليه فمن صدق بقلبه ولم ينطق بالشهادتين سواء كان قادراً على النطق أو عاجزاً عنه فهو مؤمن عند الله يدخل الجنة، وإن كانت لا تجري عليه الأحكام الدنيوية من غسل وصلاة عليه ودفن في مقابر المسلمين ولا ترثه ورثته المسلمون، فقول الشارح هذا هو المشهور -أي: وجوب النطق وأنه شرط- غير مسلم، بل هذا ضعيف'' .
    ''...قوله: وقيل: لا يصح الإيمان بدونها مطلقاً؛ أي: سواء كان قادراً على النطق أو كان عاجزاً.
    وهذا القول منكر!! وليس مبنياً على القول بأن النطق شطر من الإيمان؛ لأن من قال بذلك شرط القدرة.
    وأما العاجز عن النطق لخرس ونحوه فيكفيه في صحة إيمانه عند الله التصديق القلبي '' .
    4- ويقول صاحب المسايرة على المسامرة في ذكر الخلاف في الإيمان:
    '' وأقوال الناس:
    1- القول بأن مسمى الإيمان هو التصديق فقط، هو المختار عند جمهور الأشاعرة، وبه قال الماتريدي.
    2- أن مسمى الإيمان: تصديق القلب والإقرار باللسان وعمل سائر الجوارح، فماهيته على هذا مركبة من أمور ثلاثة: إقرار باللسان , وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان، فمن أخل بشيء منها فهو كافر، وهذا هو قول الخوارج، ولذا كفروا بالذنب لانتفاء جزء الماهية .
    3- أن الإيمان: التصديق باللسان فقط، أي: الإقرار بحقية ما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يأتي بكلمتي الشهادة، وهذا هو قول الكرامية، قالوا: فإن طابق تصديق اللسان تصديق القلب فهو مؤمن ناج، وإلا فهو مؤمن مخلد في النار.
    4- أن الإيمان: تصديق بالقلب واللسان...، وهو منقول عن أبي حنيفة ومشهور عن أصحابه وعن بعض المحققين من الأشاعرة.
    وذكر أنهم فرقوا بين التصديق والإقرار بأن التصديق ركن لا يحتمل السقوط أصلاً، والإقرار قد يحتمل - وذلك في حق العاجز عن النطق والمكره '' .
    ثم ذكر لهم دليلين:
    ''أ- أن هذا: هو الاحتياط بالنسبة إلى جعله شرطاً خارجاً عن حقيقة الإيمان.
    ب- أن النصوص الدالة عليه من نحو قوله عليه الصلاة والسلام.
    {أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقها وحسابه على الله} ''أخرجه الشيخان.
    قال: ''ويجاب من طرف جمهور الأشاعرة عن الحديث بأن معناه أن قول: لا إله إلا الله شرط لإجراء أحكام الإسلام، حيث رتب فيه على القول الكف عن الدم والمال، لا النجاة في الآخرة الذي هو محل النزاع'' .
    قال: ''على أن مِن محققي الحنفية من وافق الأشاعرة كما نبه عليه المصنف بقوله: [ إلا أن قول صاحب العمدة ] هو كما مر أبو البركات عبد الله بن محمد بن محمود النسفي، [ منهم ] أي: من الحنفية: [ الإيمان: التصديق، فمن صدق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما جاء به ] عن الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى، والإقرار شرط إجراء الأحكام، [ هو ] أي: قول صاحب العمدة: [ بعينه القول المختار عند الأشاعرة ] تبع فيه صاحب العمدة أبا منصور الماتريدي '' .
    أي: فالحنفية المرجئة الفقهاء فريقان:
    فريق وافق الأشاعرة؛ وهم الماتريدي الذي ينتسب إليه من جاء بعده منهم.
    فريق ظل على المذهب القديم -ولو شكلاً- حيث أوله بعضهم بما يوافق مذهب الأشاعرة.
    ومذهب الفريق الأول هو الذي ساد أخيراً.
    5- ويجمع الشعراني أقوال كثير منهم في موضع واحد:
    حيث ينقل في كتابه اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر '' أن السبكي أورد سؤالاً وهو: أنه هل التلفظ بالإيمان الذي هو الشهادة شرط للإيمان أو شطر منه؟ فيه تردد للعلماء '' .
    قال الشعراني: ''قال الجلال المحلي: وكلام الغزالي يقتضي أنه ليس بشرط ولا شطر، وإنما هو واجب من واجباته'' .
    قال الكمال في حاشية جمع الجوامع: "وإيضاح ذلك أن يقال في التلفظ: هل هو شرط لإجراء أحكام المؤمنين في الدنيا من التوارث والمناكحة وغيرهما، فيكون غير داخل في مسمى الإيمان، أو شطر منه أو جزء من مسماه؟
    قال: والذي عليه جمهور المحققين الأول، وعليه فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه مع تمكنه من الإقرار كان مؤمناً عند الله تعالى.
    قال: وهذا أوفق باللغة والعرف!!
    وذهب شمس الأئمة السرخسي وفخر الإسلام البزدوي من الحنفية، وكثير من الفقهاء إلى الثاني.
    وألزمهم القائلون بالأول بأن من صدّق بقلبه فاخترمته المنية قبل اتساع وقت الإقرار كان كافراً وهو خلاف الإجماع - على ما نقله الإمام الرازي وغيره" .
    6- وقال البيجوري في شرح الجوهرة شرحاً لقوله: '' وفسر الإيمـان بالتصـديقِ            والنطق فيه الخلف بالتحقيقِ
    فقيل شرط كالعمل وقيل بل            شطر والإسلام اشرحن بالعمل
    قوله: والنطق فيه الخلف: أي: والنطق بالشهادتين للمتمكن منه، وخرج بالمتمكن -الذي هو القادر- الأخرس، فلا يطالب بالنطق، كمن اخترمته المنية قبل النطق من غير تراخٍ، فهو مؤمن عند الله، حتى على القول بأن النطق شرط صحة أو شطر، بخلاف من تمكن وفرط.
    وموضوع هذا الخلاف كافر أصلي يريد الدخول في الإسلام، وأما أولاد المسلمين فمؤمنون قطعاً، وتجري عليهم الأحكام الدنيوية، ولو لم ينطقوا بالشهادتين طول عمرهم''.
    قال: ''وقوله: شرط: أي: خارج عن ماهيته، وهذا القول لمحققي الأشاعرة والماتريدية ولغيرهم.
    وقد فهم الجمهور أن مرادهم أنه شرط لإجراء أحكام المؤمنين عليهم من التوارث، والتناكح، والصلاة خلفه وعليه، والدفن في مقابر المسلمين، ومطالبته بالصلوات والزكوات وغير ذلك؛ لأن التصديق القلبي -وإن كان إيماناً- إلا أنه باطن خفي، فلا بد له من علامة ظاهرة تدل عليه لتناط- أي: تعلق- به تلك الأحكام، فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه لا لعذر منعه ولا لإباء، بل اتفق له ذلك، فهو مؤمن عند الله غير مؤمن في الأحكام الدنيوية''.
    ''ومحل كونه مؤمناً في الأحكام الدنيوية ما لم يطلع على كفره بعلامة كالسجود لصنم، وإلا جرت عليه أحكام الكفر'' .
    قال: ''وفهم الأقل أن مرادهم أنه شرط لصحة الإيمان، وهذا القول كالشطرية في الحكم، وإنما الخلاف بينهما في العبارة، والقول الأول هو الراجح، والنصوص بحسب المتبادر منها مقوية للقول بالشرطية دون الشطرية.... ''.
    قال: ''قوله: وقيل بل شطر: أي وقال قوم محققون كالإمام أبي حنيفة وجماعة من الأشاعرة: ليس الإقرار بالشهادتين شرطاً بل هو شطر، فيكون الإيمان عند هؤلاء اسماً لعملي القلب واللسان جميعاً؛ وهما التصديق والإقرار.
    واعترض على هذا القول بأن الإيمان يوجد في المعذور كالأخرس، والشيء لا يوجد بدون شطره.
    وأجيب عن ذلك: بأنه ركن يحتمل السقوط كما فيمن ذكر، وأما التصديق فإنه ركن لا يحتمل السقوط.
    وعلى هذا القول -كالقول بأنه شرط صحة- فمن صدق بقلبه ولم يتفق له الإقرار في عمره لا مرة ولا أكثر من مرة، مع القدرة على ذلك، لا يكون مؤمناً عندنا ولا عند الله تعالى '' .
    قال: ''وكل من القولين المذكورين ضعيف، والمعتمد أنه شرط لإجراء الأحكام الدنيوية فقط، وإلا فهو مؤمن عند الله كما مر '' .
    ويقول ملا علي القاري الحنفي: ''الإقرار شرط إجراء الأحكام وهو مختار الأشاعرة'' .
    ثم قال: ''وذهب جمهور المحققين إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب، وإنما الإقرار شرط لإجراء الأحكام في الدنيا؛ لما أن تصديق القلب أمر باطني لا بد له من علامة، فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو مؤمن عند الله تعالى - وإن لم يكن مؤمناً في أحكام الدنيا. ومن أقر بلسانه ولم يصدق بقلبه كالمنافق، فهو بالعكس، وهذا اختيار الشيخ أبي منصور الماتريدي رحمه الله'' .
    7- ويقول اللقاني الشارح: ''وفسر الإيمان -أي حده- جمهور الأشاعرة والماتريدية وغيرهم بالتصديق المعهود شرعاً، وهو تصديق نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل ما علم مجيئه به من الدين بالضرورة؛ أي فيما اشتهر بين أهل الإسلام وصار العلم به يشابه العلم الحاصل بالضرورة، بحيث يعلمه العامة من غير افتقار إلى نظر واستدلال .
    فلو لم يصدق بوجوب الصلاة ونحوها عند السؤال عنه يكون كافراً.
    والمراد من تصديقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبول ما جاء به مع الرضا، بترك التكبر والعناد وبناء الأعمال عليه، لا مجرد وقوع نسبة الصدق إليه في القلب من غير إذعان وقبول له، حتى يلزم الحكم بإيمان كثير من الكفار الذين كانوا عالمين بحقيقة نبوته -عليه الصلاة والسلام- وما جاء به، لأنهم لم يكونوا أذعنوا لذلك ولا قبلوه ولا بنوا الأعمال الصالحة عليه...''.
    قال: ''ولما اختلف العلماء في جهة مدخلية النطق بالشهادتين في حقيقة الإيمان أشار له بقوله:
    [ والنطق ] بالشهادتين للمتمكن منه القادر، بأن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله...وقولنا: للمتمكن منه القادر يخرج به الأخرس، فلا يطالب بالنطق، كمن اخترمته المنية قبل النطق به من غير تراخٍ'' .
    '' (فيه) أي: في جهة اعتبار مدخليته في الإيمان، (الخلف) أي: الاختلاف ملتبساً، (بالتحقيق) أي: بالأدلة القائمة على دعوى كل من الفريقين''.
    وفصل الخلاف بقوله: '' (فقيل) أي: فقال محققو الأشاعرة والماتريدية وغيرهم: النطق من القادر (شرط) في إجراء أحكام المؤمنين الدنيوية عليه؛ لأن التصديق القلبي، وإن كان إيماناً، إلا أنه باطن خفي، فلا بد من علامة ظاهرة تدل عليه لتناط به تلك الأحكام، هذا فهم الجمهور.
    وعليه فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه لا لعذر منعه ولا لإباء بل اتفق له ذلك، فهو مؤمن عند الله غير مؤمن في أحكام الشرع الدنيوية.
    ومن أقر بلسانه ولم يصدق بقلبه -كالمنافق- فبالعكس حتى نطلع على باطنه فنحكم بكفره.
    أما الآبي فكافر في الدارين، والمعذور مؤمن فيهما.
    وقيل: إنه شرط في صحة الإيمان وهو فهم الأقل، والنصوص معاضدة لهذا المذهب، كقوله تعالى: (( أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَان ))[المجادلة:22]وقوله عليه الصلاة والسلام: {اللهم ثبت قلبي على دينك} ''.
    ثم استمر في الشرح قائلاً:
    ''وقوله: [ كالعمل ] تشبيه في مطلق الشرطية، يعني أن المختار عند أهل السنة . في الأعمال الصالحة أنها شرط كمال للإيمان، فالتارك لها أو لبعضها من غير استحلال ولا عناد ولا شك في مشروعيتها مؤمن فوت على نفسه الكمال، والآتي بها ممتثلاً محصل لأكمل الخصال ''.
    ثم استدل الشارح على ذلك بوجوه فقال:
    '' 1- لأن الإيمان هو التصديق فقط، ولا دليل على نقله.
    2- وللنصوص الدالة على الأوامر والنواهي بعد إثبات الإيمان؛ كقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ))[البقرة:183] وعلى أن الإيمان والأعمال يتفارقان؛ كقوله تعالى: (( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ))[البقرة:25] وعلى أن الإيمان والمعاصي قد يجتمعان؛ كقوله تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ))[الأنعام:82].
    3- وللإجماع على أن الإيمان شرط للعبادات، والشرط مغاير للمشروط '' .
    ثم شرع في شرح القول الثاني:
    '' (وقيل) أي: وقال قوم محققون كالإمام أبي حنيفة وجماعة من الأشاعرة: ليس الإقرار شرطاً خارجاً عن حقيقة الإيمان، [ بل ] هو [ شطر ] أي: جزء منها وركن داخل فيها دون سائر الأعمال الصالحة فالإيمان عندهم اسم لعملي القلب واللسان جميعاً؛ وهما الإقرار والتصديق الجازم الذي ليس معه احتمال نقيض بالفعل ''.
    ''وعلى هذا فمن صدق بقلبه ولم يتفق له الإقرار في عمره ولا مرة -مع القدرة على ذلك- لا يكون مؤمناً ...ولا عند الله تعالى، ولا يستحق دخول الجنة ولا النجاة من الخلود في النار، بخلافه على القول الأول ''.
    قال: '' فعلم من النظم قولان:
    أحدهما: أن الإيمان هو التصديق، والنطق شرط لإجراء الأحكام الدنيوية على صاحبه، أو لصحته.
    والثاني: أن الإيمان هو التصديق والنطق، فالنطق شطر.
    وعلى هذين القولين العمل غير النطق شرط كمال.
    ومقابله يجعل مجموع العمل الصالح والنطق هو الإيمان '' .
    وزاد ذلك إيضاحاً حين شرح قول الناظم: '' [ والإسلام اشرحن بالعمل ]، فقال: والإسلام اشرحن حقيقته بالعمل الصالح، أعني: امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، والمراد الإذعان لتلك الأحكام وعدم ردها، سواء عملها أو لم يعملها!! .
    وشرح قوله في أركان الإسلام:
    مثال هذا الحج والصـلاة            كذا الصيام فادر والزكـاة
    والمراد إذعان المذكورات وتسليمها، وعدم مقابلتها بالرد والاستكبار '' .
  2. أقوال المعاصرين في حكم ترك العمل

    وبهذا يظهر للقارئ في كلامه وجوه من التناقض يطول شرحها وتفصيلها.
    وإن مما يظهر هذا التناقض وينفي احتمال الخطأ في فهم كلامه ما شرحه به المحقق محمد محيي الدين عبد الحميد، وها هي ذي نصوص منه:
    قال في بداية كلامه، بعد أن ذكر المذاهب في الإيمان ومنها مذهب السلف:
    '' والذي تطمئن إليه النفس من هذه المذاهب: أن الإيمان هو التصديق وحده، كما ذهب إليه محققو الأشاعرة والماتريدية، ويؤيد هذا المذهب وجوه:
    أحدها: وقد أشار إليه الشارع - أن استعمال القرآن الكريم في عدة آيات واستعمال الحديث أيضاً، جرياً على أن محل الإيمان هو القلب.
    قال الله تعالى: ((أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ))[المجادلة:22].
    وقال سبحانه: (( وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ))[الحجرات:14].
    وقال جل ذكره: ((إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ))[النحل:106].
    وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اللهم ثبت قلبي على دينك} فدلت هذه النصوص ونظائرها على أن الإيمان فعل القلب، وليس فعل القلب إلا التصديق.
    ولا يجوز لقائل أن يقول: إن المراد في هذه النصوص بالإيمان هو الإيمان اللغوي، ويسلم أن الإيمان اللغوي هو التصديق وحده ومحله القلب، فلا ينافي أن الإيمان الشرعي يشتمل على الإقرار أو غيره على أنه جزء من حقيقته؛ لأنا نقول: إن الإيمان من الألفاظ التي نقلت في عرف الشرع إلى معنى، فيجب أن يحمل لفظه على هذا المعنى في خطاب الشرع.
    * الوجه الثاني: أنه سبحانه جعل الإيمان شرطاً لصحة الأعمال في نحو قوله جل ذكره: ((وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ))[طه:112].
    ونحن نقطع أن الشرط شيء غير المشروط، وهذا يصلح للرد على من جعل الإيمان هو الطاعات وحدها أو مع التصديق والإقرار.
    * الوجه الثالث: أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أثبت الإيمان لمن ترك بعض الأعمال، في نحو قوله سبحانه:
    ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا...))[الحجرات:9] الآية.
    ولو كانت الأعمال جزءاً من حقيقة الإيمان لانتفت الحقيقة بانتفاء جزء منها.
    * الوجه الرابع: أنه سبحانه قد عطف الأعمال على الإيمان في كثير من الآيات، منها قوله تعالى:
    ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً))[الكهف:107].
    ولا شك أن الأصل أن يكون المعطوف غير المعطوف عليه، فلا يعطف أحد المتساويين على الآخر، ولا يعطف جزء الشيء على كله؟! ''
    قال: '' وقد أورد القائلون بأن الطاعات من الإيمان وجوهاً استدلوا بها، نرى أن نذكرها لك أيضاً ونبين ما في الاستدلال بها من خلل لتكون على بصيرة تامة في هذه المسألة.
    قالوا: لو كان الإيمان عبارة عن التصديق الذي هو الإذعان والقبول والاعتراف لما اختلف في بعض المكلفين عنه في بعضهم الآخر، مع أنا نعتقد أن إيمان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس مثله إيمان أحد من العامة، بل ولا من الخاصة.
    ويجاب عن هذا بأحد جوابين:
    * الأول: أن ندعي أنه لا اختلاف بين إيمان أحد وأحد، وليس لنا إلا إيمان أو كفر، فإن بلغ ما عند المكلف إلى حد الجزم الذي لا يعتريه شك ولا تردد فهو مؤمن، وإن نقص عن ذلك فهو كافر.
    * والثاني: أن نسلم الاختلاف بين إيمان بعض المكلفين وبعضهم الآخر، لكن لا نسلم أن هذا الاختلاف بسبب أن أعمال بعض المكلفين أكثر أو أشد إخلاصاً أو نحو ذلك، بل سبب الاختلاف راجع إلى التصديق لا باعتبار ذاته، بل باعتبار متعلقه؛ فقد يعلم بعض المكلفين تفصيل شيء مما يجب الإيمان به أكثر مما يعلمه آخر، أو سبب الاختلاف هو أن بعض المكلفين تعتريه الغفلة أحياناً وبعضهم لا تعتريه الغفلة أصلاً، أو غير ذلك من الأسباب '' .
    وقال في شرح الوجوه التي استدل بها الشارح وهي:
    1- أن الإيمان هو التصديق فقط، ولا دليل على نقله.
    2- وللنصوص الدالة على الأوامر والنواهي بعد إثبات.
    قال:
    '' 1- محصله -أي: الوجوه- أن الإيمان هو التصديق القلبي، بدليل أن نصوص القرآن والحديث قد جعلت محله القلب، وليس لنا أن ندعي أنه نقل من هذا المعنى إلى مجموع التصديق والعمل -كما يقول المحدثون وجمهور المعتزلة- فإنه لا دليل على هذا النقل، وأيضاً ليس لنا أن ندعي أن الإيمان في هذه النصوص لا يراد به الإيمان عند الشرع وإنما يراد به الإيمان اللغوي؛ لأن لفظ الإيمان قد نقلته الشريعة من مطلق التصديق إلى التصديق بكل ما علم مجيء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به؛ إذ يجب في نصوص الشريعة أن تحمل الألفاظ على معانيها الشرعية التي نقلت إليها، ومتى علم كل هذا كان الإيمان الوارد في النصوص دالاً على معنى شرعي، وهذا المعنى هو التصديق المخصوص دون شيء زائد عليه ''
    ''2- محصل هذا الوجه من الاستدلال على أن العمل ليس جزءاً من الإيمان - أن الله تعالى جعلهم مؤمنين قبل أن يكتب عليهم الصيام، فلو كان العمل جزءاً من حقيقة الإيمان، والصيام بعض العمل، لما كانوا مؤمنين إلا بعد القيام بكل الأعمال التي منها الصوم.
    وقد قيل من طرف المخالفين: إنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سماهم مؤمنين بالنظر إلى الأعمال التي شرعت قبل الصوم، وهو كلام غير مقبول؛ لأن الأعمال المأخوذة في مفهوم الإيمان عندهم هي كل الأعمال التي شرعها الله تعالى، فإذا خرج واحد منها خرج كلها؛ إذ لا فرق بين عمل وعمل'' .
    هذا الكلام الذي قرره المعلق هنا والذي سيأتي نقضه جملة -بإذن الله- هو ما ظل يقرره ويدرسه لطلاب كلية أصول الدين بالأزهر سنوات طويلة!!
    وننتقل من محمد محيي الدين عبد الحميد إلى داعية ومؤلف معاصر، سار على الخط نفسه مع زيادة في الغموض والاضطراب.
    يقول بعنوان: مفهوم الإيمان والإسلام شرعاً:
    ''يهمنا أن ندرك معنى الإيمان والإسلام والارتباط بينهما، فالإيمان هو: التصديق الجازم بكل ما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وثبت ثبوتاً قطعياً، وعُلم مجيئه من الدين بالضرورة؛ كالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر خيره وشره.
    وكالإيمان بفرضية الصلاة والزكاة والصيام والحج، والإيمان بتحريم القتل ظلماً للنفس المعصومة، وتحريم الزنا والربا وغيرها.
    والإيمان بهذا المعنى محله القلب، والإسلام بالمعنى الآتي لازم له.
    أما الإسلام فمعناه الإذعان والخضوع النفسي والاطمئنان القلبي، والشعور بالرضا بالنسبة لكل ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من دين، وعلم مجيئه عنه بالضرورة؛ أي بدون احتياج إلى سؤال أو كشف وبحث لشهرته بين المسلمين، ويلاحظ أن الإسلام بالمعنى المذكور هو حالة نفسية وقلبية مثل الإيمان، والفرق بينهما أن الإيمان تصديق جازم بما سبق، وأن الإسلام رضاء قلبي، وعدم اعتراض على أي تشريع شرعه الله تعالى وعلم بالضرورة.
    وأنت قد تصدق بوجود شيء ولا ترضاه، وكم سمعنا من يقول: أنا أؤمن بأن الإسلام فرض الصلاة والزكاة، ولكني غير مقتنع بهما ولا بالحكم المترتبة عليهما.
    فهذا الاعتراض يجعله غير مسلم؛ لأن عنصر الخضوع والإذعان غير متوفر، وهذا يجعلنا نشك في إيمانه، لأنه لو صدق بالله وبحكمته وعلمه ورحمته لأسلم نفسه ورضي كل ما ارتضاه الله؛ لذلك قلنا: إن الإيمان الصادق يلزم منه الإسلام بالمعنى السابق ''.
    '' ...بقي العمل بالتشريعات الإسلامية، مثل: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وجميع الفرائض، والبعد عما حرم الله ونهى عنه.
    هل لا بد من تنفيذ الفرائض الإسلامية وترك المحرمات مع الإذعان السابق ليصير المرء مسلماً، أم يكفي الإذعان في إطلاق اسم الإسلام على الإنسان؟
    هما رأيان للعلماء: فالجمهور على أن تنفيذ أوامر الإسلام، والعمل بما جاء به ليس شرطاً ولا ركناً في جواز إطلاق اسم الإسلام على الإنسان، وبعض العلماء يرى: أن العمل وتنفيذ أوامر الإسلام وأركانه شرط في صحة الإسلام، أو ركن من أركانه، فمن أسلم وأذعن بقلبه ولم يعمل الأعمال الإسلامية مثل الصلاة وغيرها فليس بمسلم.
    وعلى الرأي القائل بأن من أذعن بقلبه ولم يعمل أعمال الإسلام فهو مسلم -وهو رأي الجمهور- فإن هذا الإنسان عند القائلين بهذا الرأي يعتبر فاسقاً وعاصياً، فيطلقون عليه اسم: المسلم الفاسق، والمسلم العاصي، والمسلم المذنب، وتقام عليه حدود الإسلام التي شرعها زجراً وتأديباً لمن ترك فرضاً أو فعل منكراً، فافهم ذلك جيداً.
    وهذا المسلم الفاسق أمره إلى الله في الآخرة؛ إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه بجريمته، ولكن مآله الجنة، إن كان قد مات على الإيمان والإسلام، وهذا هو رأي أهل السنة، قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ))[النساء:48].
    والإسلام بهذا المعنى محله ظاهر الإنسان وباطنه؛ لأن الإذعان بالدين والرضا به أمر باطني، والخضوع لأحكامه أمر ظاهري، وعلى هذا فالإسلام أعم من الإيمان، والإيمان أخص من الإسلام، والإيمان باطني فقط، والإسلام ظاهري وباطني.
    ونحن نحكم على الناس بالإسلام حين يكونون مذعنين ظاهراً لأحكام الله، غير رافضين لها، بمعنى أن أعمالهم وأقوالهم وتصرفاتهم لا تدل على رفضها وعدم الإذعان لها، أما بواطنهم فلا يعلمها إلا الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية، ولذلك فضح الله تعالى أناساً أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر في قوله تعالى: ((قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ))[الحجرات:14] '' .
    ثم قال ملخصاً:
    '' وحسبما فهمت من معنى الإيمان والإسلام ندرك أن بين الإيمان والإسلام -حسب الحقيقة الشرعية المنجية- تلازماً، مقتضاه: أن كل مؤمن مسلم، وكل مسلم مؤمن؛ لأن المصدق التصديق المذكور للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا بد من أن يكون خاضعاً لما جاء به عليه السلام، والخاضع هذا الخضوع لا بد من أن يكون مصدقاً هذا التصديق ''
    '' ولذلك ذكر الإيمان والإسلام في القرآن بمعنى واحد في قوله تعالى:
    (( فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ))[الذاريات:35-36] . ''
    ثم قال المؤلف بعنوان:
    '' حكم النطق بالشهادتين:
    الشهادتان هما: [ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ]، والنطق بهما شرط لإجراء الأحكام الدنيوية على المسلم؛ مثل تزويجه المسلمة، والصلاة خلفه، والصلاة عليه إذا مات، ودفنه في مقابر المسلمين، فإذا لم ينطق لعذر كالخرس، أو لم يتمكن من النطق بهما بأن مات عقب إيمانه بقلبه - فهو ناج عند الله تعالى.
    أما إذا استطاع النطق ووجد وقتاً كافياً ولم ينطق بالشهادتين؛ فإن كان عدم النطق عناداً فهو كفر، ولا عبرة بالتصديق القلبي، أما إذا كان عدم النطق لخوفه من الهلاك فالإيمان صحيح، لقوله تعالى:
    ((إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ))[النحل:106].
    أما من لم ينطق بالشهادتين لغير سبب من الأسباب، ولكنه مصدق بقلبه ومطمئن إلى دين الله وأحكامه، فالقول الراجح أنه ناج عند الله، وإن كان لا يعامل معاملة المسلمين لعدم العلم بإيمانه، وعدم الدليل عليه، وهذا كله فيمن يريد الدخول في الإسلام، أما أولاد المؤمنين فهم مؤمنون، وإن لم يحصل منهم نطق بالشهادتين إلا إذا ظهر منهم ما يتنافى مع الإيمان '' .
    ويقول مؤلف معاصر آخر:
    '' فالإسلام إذن: استسلام بالكيان الظاهري للإنسان، يتوقف عليه جريان أحكام الإسلام في الدنيا؛ من إحراز للدم وحل للمناكحة وشرعية التوارث.
    أما الإيمان: فهو التصديق القلبي بكل ذلك، بحيث لا يبقى أي شك في النفس يتعلق بشيء مما ذكرناه من حقائق الإسلام، ويتوقف عليه النجاة يوم القيامة بين يدي الله عز وجل.
    ويتضح من ذلك أن الإنسان لا تجري عليه أحكام الإسلام في كل من الدنيا والآخرة معاً إلا إذا اتصف بكل من الإسلام والإيمان، وذلك بأن يذعن بقلبه ويعترف بلسانه.
    ومهما نطق الإنسان بالشهادتين فإن ذلك لا يغنيه في الحقيقة شيئاً ما لم يصدق ويذعن بذلك في قرارة قلبه، وإنما تجري أحكام الدنيا على الظاهر فقط لعدم إمكان اطلاعنا على الباطن، وحملاً للسان على محمل الصدق في الكلام.
    إلا أنه قد وقع الخلاف بين الأمة فيما إذا كان الرجل مؤمناً بقلبه فقط، هل ينجيه ذلك يوم القيامة أم لا يكتفى منه بذلك حتى يقر ويعترف بلسانه أيضاً؟
    نقل النووي عن جمع من العلماء أن اليقين القلبي وحده لا يكفي للنجاة يوم القيامة إذا كان بالإمكان الإقرار والتلفظ باللسان.
    ورجح ابن حجر في شرحه على الأربعين النووية ما ذهب إليه جمهور الأشاعرة وبعض محققي الحنفية من أن الإقرار باللسان إنما هو شرط لإجراء أحكام الدنيا فقط، أما يوم القيامة فيكفيه اليقين القلبي!! ''
    وهكذا يتفق قدماء القوم ومعاصروهم على هذا الأصل الخطير الذي سوف نوضح مخالفته التامة للحق في الباب الآتي.