إن الدارس لتاريخ الفكر الإسلامي عامة يجد أن أكبر ظاهرة غريبة وفدت عليه وامتزجت به وتركت فيه أبلغ الأثر -شكلاً ومضموناً- هي ظاهرة الغزو الفلسفي الإغريقي!! حقاً إن أكبر حرب نفسية وفكرية أثيرت على الإسلام هي الغزو الفكري الحديث، الذي وفد مع الحملات الصليبية الأخيرة المسماة الاستعمار. غير أن هذا الغزو الأخير -وإن كان لا مبرر لقبوله على الإطلاق- له تفسير معقول؛ وهو التفاوت الكبير في مستوى التقدم الحضاري بين الأمتين المتصارعتين. فأمة تعاني من ضعف مزمن في كل مجالات الحياة ليس غريباً أن تخضع لغزو أمة قوية قاهرة حققت -وفق سنة الله الكونية- من الكشوفات والصناعات ما لم يكن الخيال البشري يحلم به من قبل. أما الظاهرة المستعصية على العقل، الغريبة في تاريخ الإنسانية، فهي أن تتقبل أمة حية قوية تملك مصدراً مستقلاً للمعرفة والثقافة - غزواً فكرياً من أمة بائدة. ويكون الأمر أكثر استعصاءً وغرابةً إذا كانت الأمة المتقبلة للغزو هي أمة الوحي النقي والتوحيد الخالص، اللذين فتحت بهما قلوب الأمم، وحطمت طواغيت العالم، وبلغت من الاستعلاء بالحق ما لم تبلغه أمة قط ومع ذلك تتقبل الغزو من تراث مندثر لأمة مشركة منقرضة!!
  1. أسباب تقبل الغزو الكلامي

    ولست في معرض الحديث عن أسباب تقبل هذا الغزو المدمر، لكني لا أرى بداً من التعرض لذكر سببين رئيسيين له. إن لم يكونا السببين الرئيسين! وهما:
    1- التخطيط التآمري لأعداء الإسلام:
    الذي انتهج أمكر الأساليب، ومنها: الغزو من الداخل، وما ظاهرة الزندقة إلا رأس من رءوس أفاعي الظلام، التي أكل الحقد قلوبها فقذفته سموماً من الآراء والبدع والفلسفات الهدامة.
    والمتأمل لرءوس الضلالة يجد طائفة منهم تنتمي للأديان والفلسفات التي سحقها الإسلام وحرر منها العباد مثل:
    بشر المريسي ((يهودي) عبد الله بن المقفع (مجوسي)، إبراهيم النظام (برهمي) عبدك الصوفي (ثيوصوفي)) .
    وقد عرف الهدامون كيف يدخلون من أوسع الأبواب بالتدسس إلى السلطة الحاكمة والتأثير فيها لكي تتقبل هذه الأفكار، والناس من بعد لهم تبع.
    وهكذا وقع لـخالد بن يزيد الأموي والمأمون العباسي -وإن كان الأول أقل- وغيرهما ممن أغرته هذه الفلسفات، على أن هذا السبب يظل أقل السببين شأناً، فإن الأمة الإسلامية متى كانت مستقيمة على الإيمان لم يضرها كيد كائد ولا عداوة حاقد ((وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا)) [آل عمران:120].
    2- المنهج التوفيقي:
    إن الإيمان بالله ورسوله يحتم على الأمة الإسلامية أن تتمسك بمصدر الحق المعصوم الذي مَنَّ الله به عليها دون سائر الأمم، وألا تتلقى من غيره فيما كفاها مؤنته، بل تحكمه في كل ما تأخذ وما تذر، وهذا أصل قطعي كلي تضافرت للدلالة عليه الآيات والأحاديث.
    ومنها: عن جابر بن عبد الله {أن عمر بن الخطاب أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب، فقرأه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فغضب فقال: أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو باطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني }
    فهذا الموقف يرسم منهج التعامل مع الوحي المنسوخ، فكيف بالفكر البشري المحض الذي سماه الله تعالى: [ هوى وظناً وخرصاً وإفكاً...]، وهي كلها أسماء يدخل في مسماها دخولاً أولياً ما يسمى (الفلسفة الميتافيزيقية) وما تفرع عنها.
    وحسبك أن الله تعالى قال:
    ((مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً))[الكهف:51].
    فهذه الآية نسفت كل النظريات والفلسفات المخالفة للوحي -الكوني منها والإنساني- ووسمت أصحابها باسم [المضلين] وما كانوا دائماً إلا كذلك!
    وعلى هذا المنهج سار عمر بن الخطاب -نفسه- '' فإنه لما فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتباً كثيرة، كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذن في شأنها وتنقيلها للمسلمين، فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء، فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه، وإن يكن ضلالاً فقد كفانا الله! فطرحوها في الماء أو في النار '' .
    وعليه -كذلك- كان موقف أئمة الإسلام وعلماء الملة؛ كالأئمة الأربعة ووكيع وابن المبارك والسفيانين والفضيل...وغيرهم ممن سبقهم أو لحقهم.
    وعلى هذا ثبتت الطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة في كل العصور، فقد تعرضت كتب الفلسفة والمنطق للحرق والمصادرة في عصور متعاقبة، ولاحقها علماء الإسلام بالفتاوى المدمرة، حتى إن كتب الفقه سطرت أن الوقف إذا وقف على طلبة العلم لا يدخل فيه أصحاب الكلام.
    وقد تجلى هذا الموقف الأصيل أعظم ما تجلى في موقف إمام السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، الذي حقق أعظم انتصار في التاريخ الفكري في الإسلام وهو سجين أعزل، ما ذلك إلا لأنه يمثل منهج الوحي في مقابل الخرص والهوى والخرافة.
    ولكن المنهج التوفيقي وهو منهج ابتليت به الأمة الإسلامية قديماً وحديثاً -عكّر على هذا المنهج الحازم الحاسم مواقفه وأفسد كثيراً- في حين أراد إصلاحاً وتوفيقاً!
    هذا المنهج -الذي انتهجه الأشاعرة والماتريدية- يرى إمكان الجمع بين الوحي والفلسفة؛ بين منهج القرآن ومنهج اليونان، والخروج بموقف أو رأي وسط بينهما أو مركب منهما!!
    ويظهر ذلك بوضوح في تعامله مع نصوص الوحي كتاباً وسنة، فهو يقرر جزماً وجوب الأخذ ببعض الآيات والأحاديث على ظاهرها المجمع عليه المعروف عند السلف، في حين يقرر أيضاً -على الدرجة نفسها من الجزم والإيجاب- تأويل بعضها الآخر بما لم ينقل عن السلف، بل قام إجماعهم على خلافه، ولا يتحرج أصحابه من ذكر الإجماع ومستنده النصي، ثم التصريح بمخالفته بقول يعلمون أنه منقول عن اليونان!!
    وهذا المنهج -فوق أنه محكوم عليه شرعاً بالخطل والضلال- هو خطأ بيّن بالفطرة العلمية المحضة؛ لأنه يقوم على غير معيار موضوعي متميز، وحسبك إقرار أصحابه قاطبة بأن التأويل ظني، ولهذا يختلفون فيه اختلافاً شديداً حتى لا يكاد يجمعهم أحياناً إلا مخالفة دلالة النص التي يسمونها ظاهراً، وإن كان نصاً لا يقبل الاحتمال، وهذا ينطبق على نصوص الإيمان والقدر كنصوص الصفات سواء.
    ولهذا شهد الخط البياني لهذا المنهج تذبذباً شديداً، ثم انحيازاً تاماً في النهاية إلى جانب الفلسفة!
    كما أن هذا المنهج -بحسب أفراده- يشهد تنقلات وتطورات عجيبة تلفت نظر كل دارس لأعلامه وأئمته، فالواحد منهم يبتدئ معتزلياً، وينتهي سنياً صرفاً، أو فلسفياً صرفاً، يتردد بينهما فيناقض في كتاب ما قاله في الآخر، وخيرهم من يرجع إلى مذهب السلف عند الاحتضار أو قبيله!!
    ولهذا كانت أصولهم -المتفق عليها بينهم- عرضة لتفسيرات مختلفة (مثل: معاني الصفات، والكلام النفسي، والكسب...) .
    ولا شك أن لهذا تفسيره كظاهرة نفسية عامة تبرز في الاختلافات العقائدية والسياسية وغيرها، وأياً كان هذا التفسير فإن حلول الوسط في خلاف بين حق محض صراح، وباطل محض صراح هي بالبداهة ترجيح للباطل وهضم للحق.
    بل مجرد الخروج عن مصدر المعرفة المعصوم (الوحي) هو الضلال بعينه أياً كان المصدر الآخر.
    وعلى أي حال أصبح هذا المنهج حقيقة واقعة بعد أن كانت الأمة قبله فريقين متنافرين:
    1- أهل السنة والجماعة ومعهم كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصريح العقل، مجمعين على الدعوة إلى المنهج الناصع المستقيم.
    2- رءوس الضلالة من الجهمية والقدرية والزنادقة والمتفلسفة، وهؤلاء معهم فلسفات وجدليات وتنطعات ترجموها عن أمم الشرك والضلال، وضربوا لأجلها كتاب الله بعضه ببعض حين خلطوها بتحريف للمحكم وفهم سقيم للمتشابه .
  2. ظهور الفكر التوفيقي ونتائجه

    في غمرة العداء الصارم والمعترك الصاخب ظهر الفكر التوفيقي وبزغ قرنه، فدعا أصحابه إلى التوسط بين هذا وذاك، فاتهموا أهل السنة بأنهم متمسكون بالظواهر النقلية معادون للدلائل العقلية، واتهموا الآخرين -بحق- بأنهم معادون للنقل مقدسون للعقل، ورأوا -هم- أن الصحيح هو وجوب الأخذ ببعض أصول أهل السنة مع وجوب تأويل بعضها الآخر -لمخالفة صريح العقل بزعمهم!! وكذلك وجوب تأويل بعضها الآخر- لمخالفة صريح العقل بزعمهم!! وكذلك وجوب الأخذ ببعض ما يدعو إليه الآخرون من العقليات ورد البعض الآخر!!
    وهكذا جعلوا -وهم لا يشعرون- فلسفة اليونان، وآراء الصابئين والبراهمة، وخرافات المجوس والنصارى تقف موقف النِّد المنافس لما أنزل الله من الوحي المحفوظ المعصوم!!
    وبعثوا تلك الرمم الفكرية البالية لتشاطر هدى الله عقول المسلمين وتقاسمه قلوبهم.
    وليس هذا فحسب، بل إن من أخطر نتائج هذا المنهج أنه حطم وحدة التجمع الضخم الذي كان أهل السنة والجماعة يحظون به دون سائر الفرق؛ حيث كانت الفرق الأخرى -كـالشيعة والمعتزلة- لا تمثل إلا مستنقعات جانبية على ضفتي تيار السنة الكبير.
    ولكن هذا المنهج جنى على ذلك جناية كبرى -لا سيما وكثير من رءوسه ينتسبون للسنة ونصرتها- فانقسم الرأي وتفسخ الموقف، واستصغرت الأمة خطر ما يدعو إليه هؤلاء، استكبارها له نفسه حين كان دعاته هم أعداء السنّة الصرحاء.
    حتى جماهير الأمة وعامتها اختلط عليهم الأمر وانقسم الولاء فما كان لهم من قبل أن يقارنوا بين الكتاب والسنة وبين زندقة الفرس والهنود والصابئين، ولا أن يعتقدوا كون ابن أبي دؤاد وبشر وجهم وغيلان والنظام أعلم بدين الله وأتبع للحق وأهدى سبيلاً من مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة والحسن وسفيان والفضيل.
    فلما ظهر هؤلاء المتمسحون بالسنة المعظمون ظاهراً لأولئك السلف، مؤيدين لأولئك المبتدعة في كثير من أصولهم فتر العداء أو اضمحل، وتشتت الولاء وهاج الرأي بين التجمع السني نفسه!!
    وهذا الموقف تجلى بوضوح في المسألة المهمة لنا هنا؛ وهي مسألة الإيمان - وبخاصة العمل.
    فقد ظهر أصحاب المنهج التوفيقي والخلاف في المسألة دائر بين فريقين:
    1- الأول: الأمة كلها -تقريباً- غير أنها كانت على مذهبين:
    أ- الغالبية العظمى: وهم متمسكون بما أجمعت عليه القرون المفضلة، وصرحت به نصوص الوحي القطعية من أن الإيمان قول وعمل -على ما سبق شرحه-.
    ب- طائفة معدودة من الفقهاء تتفق مع الأولى في أهمية العمل ووجوبه، فضلاً عن اتفاقها معها في أن من لم يقر بالإيمان بلسانه أو لم يقم بقلبه شيء من أعماله (كالرضا واليقين والصدق والإخلاص) كافر لا إيمان له، ولكن انقدحت لديهم شبهة في كون الأعمال -أعمال الجوارح- تدخل في مسمى الإيمان، وفهموا -خطأ- أن القول بزيادته ونقصانه موافق لقول الخوارج، ولهم على ذلك تأويلات وتعللات.. وهؤلاء هم المسمون مرجئة أهل السنة أو مرجئة الفقهاء.
    2- الفريق الآخر: غلاة المرجئة، وهم الجهمية -حينئذ- ومن شابههم، ولهم في الإيمان قول اتفقت الأمة على شذوذه وعدم الاعتداد به، وعدم اعتباره في الخلاف بل أخرجهم أئمة الإسلام الكبار من فرق الأمة الاثنتين والسبعين الضالة، وعدوهم أكفر من اليهود والنصارى والمجوس لمسائل ذهبوا إليها، منها هذه المسألة.
    فقد كان مذهبهم في الإيمان أنه مجرد المعرفة بالقلب؛ فكل من عرف الله بقلبه فهو عندهم مؤمن تام الإيمان أي: وإن لم يعمل، فلما ظهر دعاة المنهج التوفيقي التوسطي وطبقوا منهجهم في التوفيق بين هذه المذاهب، أخذوا من الجهمية أن الإيمان محله القلب وحده وأنه يقع كاملاً فيه، وأن النطق بالشهادة فضلاً عن سائر الأركان غير داخل فيه وإنما هو شرط ظاهري فقط، أي: شرط لإجراء أحكام الإسلام الظاهرة على قائله!!
    وأخذوا من أهل السنة الحديث عن أحكام المرتدين وتاركي الدين كله أو بعض أركانه أو بعض واجباته، وتعرض فاعل ذلك للوعيد ونحو ذلك...، حتى إن الواحد من أصحاب هذا المنهج ربما يكتب بما يوافق الجهمية -باعتباره متكلماً- فإذا كتب باعتباره فقيهاً ذكر كلام علماء السنة ونقل أقوالهم كأي فقيه منهم!!
    على أن هذا الحكم لم يخرجوا به نتيجة توسطهم في هذه المسألة بمفردها، بل هو مقرون ومرتبط بتوسطهم في مسألة أكثر شهرة في التاريخ، وهي مسألة خلق القرآن.
    وبيان ذلك: أن مسألة خلق القرآن كانت أشهر المسائل الخلافية وأعظمها وبها امتحنت الأمة كلها وتعرض علماؤها شرقاً وغرباً للأذى والسجن والقتل، وشغلت أذهان الناس وأوقاتهم وعلومهم وكتبهم...، وكان الخلاف فيها حاسماً واضحاً بين فريقين:
    1- علماء الأمة قاطبة؛ وهم مجمعون على ما كانت عليه الأمة قبل هذه البدعة من اعتقاد أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق.
    2- الفرقة الكلامية الشاذة ومعها السلطة الغاشمة؛ ورأيها أن القرآن مخلوق.
    ورغماً عما نزل من البلاء والزلزلة والفتنة ثبتت الأمة وانتصرت في النهاية تبعاً لثبات الإمام أحمد-رضي الله عنه- وانتصر منهج الوحي انتصاراً حاسماً، واندحرت أفاعي الابتداع، وكمنت شياطين المكر بذلة.
    ولكن المنهج التوفيقي لم يدع فرحة الأمة بالنصر تتم وتماسكها على الحق يكمل، فقد نبغ دعاته -وعلى رأسهم عبد الله بن سعيد بن كلاب برأي توفيقي مبتدع؛ لم يقل به أحد من الفريقين المتخاصمين وهو أن كلام الله نوعان:
    أ- نفسي: وهو صفة أزلية قديمة قائمة بالنفس، وهذا غير مخلوق -موافقةً لـأهل السنة- .
    ب- لفظي: وهو الكلام المسطور في المصحف، وهذا مخلوق (موافقة منهم للمبتدعة) .
    فعاد الاضطراب إلى الأمة وظهر التشويش، وانقمست وحدة عامة المسلمين التي كانت متماسكة صفاً واحداً مع علماء السنة، ومال بعض أهل الكلام والمشتغلين بالعلم إلى هذا الرأي الجديد، ثم شاع حتى كاد يغلب على أكثر معاهد العلم في العصور الأخيرة.
    وهكذا أصبح القول بالكلام النفسي من أعظم أصول المذهب التوفيقي، تبعاً لضخامة المعركة الدائرة حينئذٍ في هذه المسألة الكبرى، وكان طبيعياً أن يظهر أثره في الأصول الأخرى -ومنها الإيمان- فقد دخل أصحابه في مخاضة فلسفية في موضوع الكلام، أهو ما يقوله اللسان أم ما يدور في النفس فقط؟ وما العلاقة بينهما حينئذٍ؟ والمتكلم أهو من فعل الكلام؟ أم من قام به الكلام؟...إلى آخر هذا التفلسف.
    فلما جاءوا لمبحث الإيمان وتفسيره، أهو الإقرار باللسان، أم الإقرار بالقلب وحده، أم بهما معاً، أم بهما مع ضم غيرهما؟ استصحبوا ذلك الأصل وطبقوه وردوا هذا له، فكان من أوليات ذلك إسقاط كون العمل من الإيمان، وتطبيق مذهبهم في التأويل على ما ورد في ذلك من نصوص!!
    يقول أبو المعالي الجويني في باب الأسماء والأحكام - بعد أن أطال النفس في تقرير صحة مذهبهم في الكلام النفسي: ''اعلموا أن غرضنا في هذا الفصل يستدعي تقديم ذكر حقيقة الإيمان، وهذا مما اختلفت فيه مذاهب الإسلاميين:
    1- فذهبت الخوارج إلى أن الإيمان هو الطاعة، ومال إلى ذلك كثير من المعتزلة...
    2- وصار أصحاب الحديث إلى أن الإيمان معرفة بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان.
    3- وذهب بعض القدماء إلى أن الإيمان هو المعرفة في القلب والإقرار بها.
    4- وذهبت الكرامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فحسب... .
    والمرضي: عندنا أن حقيقة الإيمان: التصديق بالله تعالى؛ فالمؤمن بالله من صدّقه، ثم التصديق على التحقيق كلام النفس، ولكن لا يثبت إلا مع العلم، فإنا أوضحنا أن كلام النفس يثبت على حسب الاعتقاد '' .
    ثم قال: ''وقد يشهد لما ذكرناه إجماع العلماء على افتقار الصلوات ونحوها من العبادات إلى تقديم الإيمان، فلو كانت أجزاء من الإيمان لامتنع إطلاق ذلك.
    فإن استدل من سمى الطاعات إيماناً بقوله تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ))[البقرة:143].
    قالوا: المراد بذلك -أي الإيمان- الصلوات المؤداة إلى بيت المقدس
    وربما يستدلون بما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الإيمان بضع وتسعون خصلة، أولها شهادة أن لا إله إلا الله، وآخرها إماطة الأذى عن الطريق} .
    قلنا: أما الإيمان في الآية التي استروحتم إليها فهو محمول على التصديق، والمراد: وما كان الله ليضيع تصديقكم نبيكم فيما بلغكم من الصلاة إلى القبلتين!! وأما الحديث فهو من الآحاد، ثم هو مؤول، والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا دل عليه أو كان منه بسبب '' .
    ويقول الكمال بن الهمام -من أئمة الحنفية المتأخرين- في كتابه الذي ألفه على منوال الرسالة القدسية للغزالي: اختلفوا في التصديق بالقلب الذي هو جزء مفهوم الإيمان أو تمامه أهو من باب العلوم والمعارف، أو من باب الكلام النفسي؟ فقيل بالأول، ودفع بالقطع بكفر كثير من أهل الكتاب مع علمهم بحقية رسالته عليه الصلاة والسلام وما جاء به، كما أخبر عنهم تعالى بقوله: ((الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ))[البقرة:146].
    وبأن الإيمان مكلف به، والتكليف إنما يتعلق بالأفعال الاختيارية، والعلم مما يثبت بلا اختيار، كمن وقعت مشاهدته على من ادعى النبوة وأظهر المعجزة فلزم نفسه عند ذلك العلم بصدقه.
    وذهب إمام الحرمين وغيره إلى أنه من قبيل الكلام النفسي.
    قال صاحب الغنية: '' اختلف جواب أبي الحسن -أي: الأشعري- في معنى التصديق؛ فقال مرة: هو المعرفة بوجوده وإلهيته وقدمه، وقال مرة: التصديق قول في النفس غير أنه يتضمن المعرفة ولا يصح دونها، وارتضاه القاضي -أي: الباقلاني- فإن التصديق والتكذيب والصدق والكذب بالأقوال أجدر، ثم يعبر عن تصديق القلب باللسان..'' انتهى
    قال: ''وظاهر عبارة الشيخ أبي الحسن أنه كلام النفس مشروط بالمعرفة، ويحتمل أنه المجموع من المعرفة وذلك الكلام النفسي.
    فلا بد في تحقيق الإيمان من المعرفة -أعني: إدراك مطابقة دعوى النبي للواقع- ومن أمر آخر هو الاستسلام والانقياد لقبول الأوامر والنواهي المستلزم للإجلال وعدم الاستخفاف - لما ذكرنا من ثبوت مجرد تلك المعرفة مع قيام الكفر'' .
    قال: ''ثم جعل بعض أهل العلم الاستسلام والانقياد الذي هو معنى الإسلام داخلاً في معنى التصديق، وأطلق بعضهم اسم المترادف على الإسلام والإيمان.
    والأظهر أنهما متلازما المفهوم، فلا يكون إيمان في الخارج شرعاً بلا إسلام، ولا إسلام بلا إيمان.
    وأن التصديق قول للنفس غير المعرفة؛ لأن المفهوم منه لغة نسبة الصدق إلى القائل، وهو فعل، والمعرفة من قبيل الكيف المقابل لمقولة الفعل.
    قال: فلزم خروج كل من الانقياد -الذي هو الإسلام- والمعرفة عن مفهوم التصديق وثبوت اعتبارهما شرعاً في الإيمان؛ إما على أنهما جزءان لمفهومه شرعاً أو شرطان لاعتباره شرعاً، وهو الأوجه '' .
    وقد علق صاحب الحاشية قاسم بن قطلوبغا المتوفى 878هـ عليه قائلاً: ''قلت: لم يتكلم المصنف على قول الشيخ أبي الحسن: إن التصديق هو المعرفة بوجوده وإلهيته وقدمه.
    والظاهر أن الشيخ أبا الحسن أراد المعرفة النفسية المكتسبة بالاختيار؛ لأنها هي التي تكون تصديقاً، لا المعرفة التي ذهب إليها جهم وبعض القدرية؛ لأن أبا حنيفة رحمه الله أبطل أن تكون إيماناً، كما نقله عنه الأئمة من أصحابنا، وأنه قد أطبق العلماء على بطلانه ''.
    وذكر أيضاً أنه لم يظهر له دخول الاستسلام والانقياد في القول النفسي، وقال: '' والظاهر من قول أبي الحسن: (التصديق قول في النفس غير أنه يتضمن المعرفة) أنه التركيب الخبري النفساني المتضمن للإذعان للنسبة الواقعة في الخبر.
    وقوله: ولا يصح بدونها، أي: لا يكون تصديق بدون الإذعان والقبول لتلك النسبة.
    والحاصل أن الشيخ أبا الحسن فسر مرة بما هو من مقول الكيف ومرة بما هو من مقول الفعل، والثاني مرتضى القاضي وصاحب الغنية '' .
    هذا غيض من فيض من كلامهم في حقيقة الإيمان وتفسيرها تفسيراً موافقاً لقولهم في الكلام النفسي عامة، ومتمشياً مع المقولات الفلسفية مع الإعراض عن النصوص الواردة فيه، فكان طبيعياً ألا يدخلوا العمل فيه بمرة، وهذا هو المطلوب.
    وقد سبق قريباً التنبيه إلى معنى الإذعان والانقياد عندهم، فإن بعض الناس قد يفهم أنهم يريدون به العمل والامتثال، ولكن كلامهم واضح في عدم قصد ذلك، وأنهم إنما يريدون به الإيمان بوجوب الفرائض لا فعلها.
    وليس هذا فهمنا فحسب، بل هو ما شرحه به شارح كلام ابن الهمام نفسه حين قال: '' الإيمان هو التصديق بالقلب فقط: أي قبول القلب وإذعانه لما علم بالضرورة أنه من دين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بحيث تعلمه العامة من غير افتقار إلى نظر ولا استدلال؛ كالوحدانية والنبوة والجزاء ووجوب الصلاة والزكاة وحرمة الخمر ونحوها '' .
    بل قال المؤلف نفسه في مبحث قال: ''متعلق الإيمان ما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيجب التصديق بكل ما جاء به من اعتقادي وعملي؛ أعني: اعتقاد أحقية العملي'' .
    قال شارحه: '' أعني بالتصديق الثاني اعتقاد حقية العملي أي: اعتقاد أنه حق وصدق كما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!! '' .
    وكذلك يقول شارح الجوهرة: '' (والاسلام اشرحنَّ) حقيقته (بالعمل) الصالح؛ أي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات؛ والمراد الإذعان لتلك الأحكام وعدم ردها سواء عملها أو لم يعملها!!
    وقال: والمراد إذعان المذكورات الصلاة والصيام... وتسليمها وعدم مقابلتها بالرد الاستكبار '' .
    فالإذعان عندهم هو جزء من الفعل النفسي أو الكيف النفسي أو متعلق من متعلقاتهما لا غير، فهو ضد التكذيب، أو ضد جحد الوجوب على أحسن الأحوال، ومن الواضح أن إذعاناً كهذا الذي وصفوه ليس هو الإذعان المطلوب شرعاً، وإن كان لا بد منه في الإذعان الشرعي الذي هو الامتثال بفعل المأمور وترك المحظور على ما جاء في النصوص الكثيرة، ومنها ما في حديث جبريل حين سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم، وقال: فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: نعم }
    وعلى هذا قال الإمام أحمد رحمه الله: "من قال: إنه يكون مؤمناً أو مسلماً مع عدم العمل فقد عاند الحديث!! وسيأتي في الباب الخامس -بإذن الله- كشف هذه الشبهات كاملاً، وإنما المراد هنا تبيين الأثر الكلامي في هذه العقيدة المخالفة للكتاب والسنة وإجماع السلف" .