ليست الفتنة الثانية -أي: ما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما- إلا امتداداً طبيعياً للفتنة الأولى، وإنما تتميز بأن وجهات النظر المختلفة التي أنتجتها الفتنة الأولى أصبحت منذ هذه الفتنة عقائد متميزة ومناهج متفرقة.
ويمكن اعتبار واقعة صفين المنطلق التاريخي لهذه الفتنة، بل إن حادثة التحكيم خاصة هي الشرارة التي فجرت بركانها.
لقد أنتجت هذه الحادثة وذيولها فرقتين كبيرتين، أو بتعبير أصح منهجين كبيرين يحوي كل منهما فرقاً كثيرة، كانت- وما تزال- لها وجودها الملموس وخطها المتميز وانحرافها البعيد.
هذان المنهجان هما التشيع والخروج، وكلاهما ناشئ عن علة واحدة هي الغلو, ولكنه غلو متضاد.
ولسنا بالطبع بصدد الحديث عن هذين المنهجين تفصيلاً، ولكن لا بد من الحديث عنهما فيما له أثر في نشأة الإرجاء وتطوره.
وذلك أن نمو الأفكار والعقائد أشبه شيء بنمو الكائنات الحية ذات الأطوار المتعددة، بل هي أعقد من ذلك بما يعتريها من التداخل والتركيب والامتزاج، ويقارنها من ردود الفعل والتأثرات النفسية والتقلبات الفكرية، فالتفاعل الفكري أعظم- في كثير من الأحيان- من التفاعل المادي.
وإذ كانت الفتنة الأولى هي المستنقع الذي وجدت فيه جرثومة الإرجاء الأولى، فإن الأحداث التالية قد ولدت جراثيم أخرى, ومع الزمن ظهرت كائنات جديدة تنتمي لتلك الأصول، ولكنها تختلف عنها كثيراً في الشكل والحقيقة.
وخفاء العلاقة بين أصول هذه الكائنات الفكرية وبين مراحلها المكتملة يبين أحد أسباب الخلاف بين المؤرخين والباحثين في تصنيفها ونشوئها وتطورها، وهو ما يستدعي تحقيق الأمر وتمحيصه.
وإن من أعظم المطالب العقدية ومن أهم أصول المنهج التاريخي السليم -معاً- أن نعرف الأسباب الحقيقية لتفرق الأمة الإسلامية وخط السير الواقعي لنمو هذه الفرق وتشعبها، وهو ما سوف نحاول إيضاحه بقدر ما يسمح المقام.
إن معركة صفين نشبت والأمة على منهج اعتقادي واحد يدين به كلا المعسكرين المتحاربين، وهو منهج أهل السنة والجماعة، أي ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الذين ثبتوا جميعاً على الهدى وما بدلوا تبديلاً، وإنما كانت النخالة فيمن بعدهم.
ولكنها انتهت بظهور معسكر ثالث ذي بدعة اعتقادية ضالة، وهو معسكر المارقة الخوارج، وفي الوقت نفسه كان مثيرو الفتنة الأولى قد أحكموا الخطة لتأسيس دين جديد يكون بمثابة حصان طروادة لهدم الإسلام، وهو دين التشيع الذي أسهم ظهور الخوارج في تبرير خروجه وانتشاره، حيث كان غلو إحدى الطائفتين مبرراً لغلو الأخرى في الاتجاه المعاكس.
وإذ أصبحت المعسكرات المتحاربة ثلاثة: أهل العراق، أهل الشام، الخوارج؛ فقد أصبحت المناهج الاعتقادية ثلاثة: السنة -وعليها المعسكران المتحاربان- الخروج، التشيع.
وهذا التفرق وما صحبه من صراع أدى إلى نمو بذرة الإرجاء، التي تكونت في الفتنة الأولى لتصبح منهجاً رابعاً فيما بعد.
وقبل الحديث عن هذين المنهجين الخروج والتشيع وأثرهما في نشأة الإرجاء وتطوره لا بد من التنبيه إلى قضيتين كبريين:
الأولى: أن بعض كتب الفرق وما اقتفاها من كتب المستشرقين والمحدَثين قد وقعت في خطأ بالغ حين جعلت ما جرى يوم السقيفة هو أصل الانشقاقات والتفرق، وهولت من هذه الواقعة العادية العابرة، واستجازت تبعاً لذلك أن تـنسب التشيع والإرجاء والخروج إلى الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، وهذا عين الافتراء ومحض الاختلاف، وإن قال به من قد يكون حسن النية -كما سبق بعض الحديث عن هذا- .
إن تصوير المسألة على هذا النحو لا يهدر المنزلة السامية للصحابة فحسب، بل ينسف غاية الدين ومهمة الإسلام من أساسها، إذ يتفق مع الرأي الاستشراقي القائل بأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما هو إلا زعيم عبقري وحد قبائل العرب المتناحرة، فلما توفي سرعان ما عاد الخلاف القبلي بين أحياء قريش وغيرها متستراً بالصبغة الدينية!!
وإذا كان هذا الرسول لم يستطع تزكية نفوس الخاصة من أصحابه ويرفعها عن مستوى الإحن والأحقاد الشخصية والصراع السياسي، فما فعل إذن؟! ومن ربى؟!
كما أنه يغفل أصلاً عظيماً من أصول الشريعة وهو الفقه السياسي الإسلامي وأصول الحكم والشورى، التي تتبوأ مركزاً مهماً في الشريعة الكاملة الخالدة.
فإذا كانت هذه الشريعة لم تأتِ من ذلك بما تسير عليه، وتعرفه الصفوة من الصحابة ووارثو منصب القيادة بعد رسول الأمة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما الذي جاءت به إذن في هذا المجال؟!
وإليك- من بين عشرات الأمثلة- هذا المثال مما كتبه أحد أساتذة التاريخ في عصرنا، الذي يشغل أستاذ التاريخ ونائب رئيس جامعة القاهرة:
فهذا الأستاذ يتحدث عما جرى يوم السقيفة وكأنه سلسلة ضخمة من الصراع السياسي، على النمط الذي تشهده الحكومات المعاصرة، بل هو أعمق وأعظم، لأنه حسب تصوره أنتج فرقاً تمتد على طول التاريخ الإسلامي!!
وهو لا يكتفي بأن يعتبر تلك الحادثة المشكلة الخطيرة الكبرى التي واجهت الأمة الإسلامية الفتية، بل يرجع إليها أصل نشأة الفرق حين يقول: '' ويبدأ التاريخ السياسي للشيعة بذلك النفر من كبار الصحابة، الذي رأى عند اجتماع سقيفة بني ساعدة وبعدها أن علي بن أبي طالب أحق الناس بالخلافة بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقرابته من بيت النبوة... واشتهر من هذا النفر أبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي والعباس وبنوه. وإذ رأوا أن علياً يفضل كلاً من:أبي بكر وعمر في تولي منصب الخلافة '' .
وهذا الكلام يتعارض وبدهيات التاريخ وحقائقه الثابتة، سواء في بيعة الصديق أو في نشأة التشيع، اللهم إلا أن يكون مستقى من مصادر الشيعة، وكفى بها كذباً وبهتاً.
ومع ذلك فقد ورد في كتب بعض الباحثين!! وعلى رأسهم الأستاذ الكبير المتخصص علي سامي النشار.
الثانية: أن انقسام الأمة حينئذ إلى سنة وشيعة وخوارج- كما أسلفنا- لا يعني أبداً تكافؤ هذه المناهج والفرق، سواء من جهة الكم أو الكيف كما يريد المستشرقون وأشياعهم أن يصوروا.
فهذه القسمة النظرية شيء، والواقع شيء آخر، وذلك أن الخارجين عن السنة والجماعة لم يكونوا إلا شراذم شاذة، وأفراداً معدودين، لا سيما في أول الأمر، ولم يكن فيهم ذو فضل أو سابقة قط، بل كانوا كلهم من الأعراب وحديثي العهد بالإسلام، أو المنافقين من أبناء الأمم المفتوحة وأشباههم.
وعلى امتداد الثلاثة القرون المفضلة لم يكن أصحاب البدع إلا مستنقعات جانبية على ضفتي تيار الإسلام الضخم، ولم يكن فيها أحد من أئمة الإسلام المتبوعين ورجاله المعدودين قط.
بل إن البدع مهما نمت أو طفرت تظل كالشجرة الخبيثة، لا تكاد تهب عليها ريح السنة حتى تجتثها إلى قرار سحيق، ومن أعظم الأدلة على ذلك ما جرى في فتنة الإمام أحمد وبعدها، من تبدُّل تام في موقف الدولة والعلماء، حتى ذل المبتدعة واندحروا بعد الظهور والتمكين.
ومهما يكن من ظهور البدع في بعض العصور، فإن الحقيقة الثابتة هي أن نقاء المنهج السلفي في ذاته لم يتكدر قط، وأن الطائفة المنصورة القائمة عليه لم تزل وستظل إلى أن يأتي أمر الله.
والمقصود من هذا هو بيان ضلال المستشرقين ومن اتبعهم أو سبقهم من الحاقدين على الإسلام حين يحسبون أن الإسلام مرت به الحال نفسها التي مرت بـاليهودية والنصرانية في عصورهما الأولى، حيث صدعتهما الانشقاقات، واستعلت البدع والمحدثات حتى طغت وسادت إلى أن لم يبق للحق الخالص من يمثله إلا أفراد، لا يكاد يحس بهم أحد، كما صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إخباره أن الله نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم، فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وكما تشهد به التجربة الحية التي خاضها سلمان الفارسي رضي الله عنه بحثاً عن الحق. .
  1. الخوارج .. الظاهرة المضادة

    كلمة الخوارج علم مشهور على تلك الفرقة المعروفة التي وصفها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمروق من الدين، وتميزت عن سائر الفرق بالغلو والإفراط والشطط والتنطع، كما تميزت في منهجها الحركي بالاندفاع والتهور والثورية العمياء، والقابلية السريعة للتمزق والاشتعال.
    فالجلافة طبعهم، وضيق الأفق سمتهم، ما خيروا بين أمرين إلا اختاروا أعسرهما، وما رأوا طريقين إلا سلكوا أشقهما، وما صادفوا احتمالين إلا انحازوا لأبعدهما.
    وقد امتلأت صفحات تاريخهم بنماذج غريبة لعقيدتهم ومنهجهم، فهم يقيمون الدنيا ويقعدونها، ويثورون ويحجمون من أجل إثبات قضية، قد لا تكون ذات شأن، لكنهم يرون أن عدم إثباتها كفر وضلال، فإذا ما تحقق لهم ذلك نكصوا ونكسوا على رءوسهم، وقالوا: قد كنا مخطئين -بل كافرين- حين فعلنا ذلك، فيثورون ويشتطون أشد من الأول من أجل إبطال ما أثبتوه، والتراجع عما قرروه، ويرون ضد ذلك كفراً!!
    وليس هذا فحسب، بل جرى شأنهم أنه خلال هاتين الثورتين الجامحتين ينشق عنهم بعضهم، ويشتطون في التهجم على الطائفة الأصل، ويكفرونها بسبب التردد والتقلب، أو بسبب أحد الرأيين: إما السابق وإما الآخر، ويحدث عندئذ أن ترد عليهم تلك الطائفة بلا تورع ناسبة الكفر إليهم، بسبب مفارقة الجماعة أو بأي سبب تراه.
    ثم إنه غالباً ما ينشأ من حدة هذا الخلاف فرقة ثالثة تتوسط بين الطائفتين، وتتوقف عن كلا الرأيين، فما تلبث أن تعنف منهما، وتوصم بالكفر، لأن كلاً منهما يوجب عليها أن تكون معه، وإلا فهي كافرة.. وهكذا دواليك، سلسلة من تضخيم المواقف أو الاجتهادات والتكفير بها، يصاحبها سلسلة من الانشقاقات الجذرية والمفاصلات الكاملة.
    فقد ابتدأ أمرهم يوم صفين، حين قالوا لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه: عليك أن تقبل تحكيم كتاب الله، وإلا فأنت كافر.
    فلما وافقهم على التحكيم كارهاً مرغماً، قالوا: حكمت الرجال في دين الله، فأنت كافر، لأنه لا حكم إلا لله!!
    فلما قال لهم: ما حكمت مخلوقاً، إنما حكمت كتاب الله، والكتاب خط مسطور، وإنما ينطق به الرجال، وما فعلت ذلك إلا برأيكم، قالوا: قد كنا لما رضينا بالتحكيم كافرين، والآن نتوب من الكفر، فإن شهدت على نفسك بالكفر وتبت، عدنا إلى طاعتك، فقال: أبعد إيماني بالله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهجرتي وجهادي مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشهد على نفسي بالكفر؛ قد ضللت إذن وما أنا من المهتدين؟!
    وعندما كتبت وثيقة الصلح، وطلب أهل الشام منه أن يمحو كلمة أمير المؤمنين، محاها رضي الله عنه رغبة في الصلح وتصديقاً لما أخبره به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قبل.
    فقال الخوارج: قد محوت عن نفسك إمرة المؤمنين فأنت إذن أمير الكافرين! وعندما قيل لهم: عودوا إلى طاعة أمير المؤمنين ولا تشقوا العصا، قالوا: إذا جئتمونا بمثل عمر فعلنا ولما لم يأتهم أحد بمثل عمر اختاروا لإمرة المؤمنين عبد الله بن وهب الراسبي!! وهو أعرابي بوال على عقبيه، لا سابقة له ولا صحبة ولا فقه، ولا شهد الله له بخير قط. وتجرأ أشقاهم واغتال أمير المؤمنين، وهو أفضل من على وجه الأرض يومئذ، فما ندم ولا جزع، ولما قطع لسانه جزع لفوات ذكر الله عنه كما قال.
    ومر عليهم عبد الله بن خباب، فقالوا له: أنت ابن خباب صاحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم، قالوا: فحدثنا عن أبيك، فحدثهم بحديث: { يكون فتنة فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فكن } فقدموه فضربوا عنقه، ثم دعوا سريته وهي حبلى فبقروا عما في بطنها، وكانوا قد مروا على ساقته فأخذ واحد منهم تمرة، فوضعها في فيه فقالوا له: تمرة معاهد فيم استحللتها؟ فقال لهم عبد الله بن خباب: أنا أعظم حرمة من التمرة، فلم يبالوا بأن يقتلوه كما بالوا بحرمة تمرة النصراني!!
    ومن النماذج الكثيرة لذلك قصة طويلة، أصلها فتوى فقهية فرعية، لكن تشعب عنها من الآراء والفرق ما يدعو إلى العجب.
    وذلك أنه كان رجل من الإباضية يقال له إبراهيم أفتى بأن بيع الإماء من مخالفيهم جائز، فبرئ منه رجل يقال له: ميمون وممن استحل ذلك .
    ووقف قوم منهم فلم يقولوا بتحليل ولا بتحريم، وكتبوا يستفتون العلماء منهم في ذلك فأفتوا:
    أ- بأن بيعهن حلال وهبتهن حلال في دار التقية .
    ب- ويستتاب أهل الوقف من وقفتهم في ولاية إبراهيم ومن أجاز ذلك.
    ج- وأن يستتاب ميمون من قوله .
    د- وأن يبرءوا من امرأة كانت معهم وقفت فماتت قبل ورود الفتوى.
    هـ- وأن يستتاب إبراهيم من عذره لأهل الوقف في جحدهم الولاية عنه، وهو مسلم يظهر إسلامه.
    و- وأن يستتاب أهل الوقف من جحدهم البراءة عن ميمون، وهو كافر يظهر كفره.
    قال صاحب المقالات: ''فأما الذين وقفوا ولم يتوبوا من الوقف وثبتوا عليه، فسموا الواقفة، وبرئت الخوارج منهم، وثبت إبراهيم على رأيه في التحليل لبيع الإماء من المخالفين، وتاب ميمون '' .
    لكن الأمر لم يقف عند هذا، بل تشعب الخلاف وتطور فافترقت فرقة من الواقفة وهم [الضحاكية] فأجازوا أن يزوجوا المرأة المسلمة عندهم من كفار قومهم في دار التقية، كما يسع الرجل منهم أن يتزوج المرأة الكافرة من قومه في دار التقية، فأما في دار العلانية- وقد جاز حكمهم فيها- فإنهم لا يستحلون ذلك فيها.
    ''ومن الضحاكية هذه انشقت أيضاً فرقة وقفت فلم تبرأ ممن فعله- أي: التزوج والتزويج- وقالوا: لا نعطي هذه المرأة المتزوجة من كفار قومنا شيئاً من حقوق المسلمين، ولا نصلي عليها إن ماتت ونقف فيها، ومنهم من برئ منها '' .
    '' وهكذا صارت الواقفة من [الضحاكية] فرقتين: فرقة تولوا الناكحة، وفرقة ينسبون إلى عبد الجبار بن سليمان، وهم الذين يتبرءون من المرأة الناكحة من كفار قومهم '' .
    ولم يقف الأمر أيضاً عند هذا، بل حدث داخل فرقة عبد الجبار انشقاق آخر جعلها تتفرق فرقاً, وأشعل قضية مشكلة تفرقت الخوارج فيها, وطال خلافهم وهي قضية -حكم الأطفال- أطفال المسلمين وأطفال المشركين في الدنيا وفي الآخرة؛ في دار التقية ودار العلانية!!
    '' وذلك أن عبد الجبار خطب إلى أحد أصحابه -ويدعى ثعلبة- ابنته, فسأله ثعلبة أن يمهرها أربعة آلاف درهم, فأرسل -أي: عبد الجبار- الخاطب إلى أم الجارية مع امرأة يقال لها أم سعيد يسأل هل بلغت ابنتهم أم لا؟ وقال: إن كانت بلغت وأقرت بالإسلام لم أبال ما أمهرتها.
    فلما بلغتها أم سعيد ذلك قالت: ابنتي مسلمة بلغت أم لم تبلغ، ولا تحتاج أن تدعى إذا بلغت، فرد مرة أخرى ذلك عليها, ودخل ثعلبة على تلك الحال, فسمع بتنازعهما فنهاهما عنه, ثم دخل عبد الكريم بن عجرد وهما على تلك الحال، فأخبره ثعلبة الخبر, فزعم عبد الكريم أنه يجب دعاؤها إذا بلغت, وتجب البراءة منها حتى تدعى إلى الإسلام, فرد عليه ثعلبة ذلك، وقال: لا. بل نثبت على ولايتها.... فبرئ بعضهم من بعض على ذلك '' .
    '' ومع انشقاق الضحاكية في مسألة المرأة , وما بني عليها من الفتوى انشقت أيضاً فرقة تدعى البيهسية '' وقد كان رأيها:
    '' أ- أن ميموناً كفر حين حرم بيع المملوكة في دار كفار قومنا, وحين برئ ممن استحل ذلك.
    ب- وكفر أهل الثبت حين لم يعرفوا كفر ميمون وصواب إبراهيم، وأهل الثبت: الواقفة.
    ج- وكفر إبراهيم حين لم يتبرأ من أهل الوقف لوقفهم في أمرهم, وجحدهم الولاية عنه, وجحدهم الولاية من ميمون. ''
    هكذا آل أمرهم في هذه المسألة, والمسائل مثلها كثير, وهو ما يعطي الحقيقة الواضحة عن منهج القوم الفكري وجبلتهم النفسية، وهو المطلوب هنا، ولنا عودة إلى هذا التشقق ونتائجه.
  2. الخروج بين الحدث التاريخي والظاهرة العقدية

    إن القضية المهمة في دراسة مذهب الخوارج وتحليله, هي معرفة الحقيقة في كون الخوارج فرقة تاريخية ظهرت في عصر من العصور, متأثرة بعوامل بيئية وخارجية, أم ظاهرة عقدية وفكرية تتجدد -أو يمكن أن تتجدد- على مر العصور, وهي تحمل دائماً سمات معينة وملامح محددة.
    والبحث في هذه الحقيقة يقودنا إلى أصل نشأة الخوارج؛ لأنه يفسر لنا الواقعة التاريخية الأولى من جهة, ويعين على تحديد السمات والملامح من جهة أخرى.
    والباحثون العصريون والمحدثون, هم الذين أفاضوا في تحليل قضية الخروج, ولكن بمعايير عصرية وبمنهج مستورد -غالباً- فجاءوا بآراء لا بد من مناقشتها, وأهم هذه الآراء شيوعاً -حسبما رأيت- هو الرأي القائل بأن أصل الخروج هو موضوع الخلافة، وأن التعصب القبلي ومنافسة قريش على هذا المنصب هو السبب الذي يفسر خروج الخوارج, ومن توابع هذا الرأي: القول بأن ظلم بني أمية والعباس وجورهم هو السبب.
    والحق أن القائلين بهذا الرأي -رغم اعتمادهم على بعض المأثورات التاريخية- متأثرون بواقع العصر وروحه أكثر من تأثرهم بالحقائق التاريخية المجردة.
    فإن موضوع الخلافة لا يبدو للباحث المنصف المتعمق إلا مسألة جزئية أو تطبيقية عند أكثر الفرق, وليس هو أصل نشأة جميع الفرق كما يصور هؤلاء؛ بل إن الشيعة -وهي الفرقة التي تجعل الخلافة ركناً من أركان الدين- لم يكن أصل نشأتها هي قضية الخلافة نفسها كما سنرى.
    وكون التعصب القبلي سبب ذلك مردود بالحقيقة التاريخية, التي تبين أن أغلب الخوارج هم من بني تميم؛ أي من مضر لا من ربيعة ولا من اليمن, وهذا يستلزم أن يكون تعصبهم لقريش لا لمناوئيها؛ فإن قريشاً مضرية كما هو متواتر عند أهل النسب, بل ثابت بالأحاديث الصحيحة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. .
    وأما اعتماد مؤلفي ضحى الإسلام ومن تابعهم كالشيخ أبي زهرة, على قول المأمون: '' وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبيه من مضر, وما خرج اثنان إلا كان أحدهما شارياً '' فليس في محله؛ لأن العبارة إن صحت فهي تتحدث عن خصوص قبيلة ربيعة, لا عن الخوارج عامة, وقد نظرت في أسماء قادة الخوارج وزعمائهم بـالنهروان فلم أجد فيها ربعياً.
    أما قبيلة بني تميم في الجملة، فالمشهور عنها الفخر بكون النبوة والخلافة في مضر, وقد كان الفرزدق وجرير -وهما أشهر شعراء ذلك العصر- يفتخران بذلك وكلاهما من تميم، ويعيران الأخطل -كل منهما من جهته- بأن قبيلته ربيعة محرومة من هذا الشرف.
    وفي نونية جرير المشهورة:
    إن الذي حرم المكـارم تغلباً             جعل النبوة والخلافة فينا
    وهذا ما يتفق وعبارة المأمون.
    ولا يضير هذه الحقيقة أن يكون دافع الردة بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو التعصب القبلي- أومن دوافعها- وأن يشترك المرتدون والخوارج أحياناً في النسب؛ فإن أي باحث منصف لا يمكن أن يصنف القراء المتعمقين والمرتدين في صنف واحد , بجامع العصبية القبلية ضد قريش.
    إذ يستحيل تصور اللقاء بين فكر متشدد في الدين متعمق فيه إلى حد اعتبار الخطأ أو المعصية كفراً, وبين دعوة تجاهر بادعاء النبوة وإسقاط بعض الفرائض.
    والحق أن الذي جعل دافع الفريقين وغرضهما واحداً, مستدلاً باشتراكهما في النسب, قد جازف مجازفة يمنعها العدل والإنصاف, حتى لو كان حرقوص بن زهير هو حرقوص بن مسيلمة, ولكن أنَّى لهؤلاء الباحثين أن ينصفوا وهم مقلدون للمستشرقين بلا بصيرة.
    ومن الآراء العصرية غير ذلك ما ذهب إليه نفر من الماركسيين والبعثيين, والمتأثرين عموماً بالنظرة المادية الغربية, أو الناقلين نصاً عن المستشرقين, من أن علة ظهور الخوارج هي بيئتهم الصحراوية المجدبة, وواقعهم المادي المسحوق بالمميزات الطبقية التي كان الخلفاء ومن لف لفهم يتنعمون بها، وليس الرد على هذا بأن الخوارج كانوا أزهد الناس في دنيا معروضة عليهم مبذولة لهم فحسب؛ بل إن الحديث الصحيح في نشأة فكرهم ينقضه ويرده.
    فقد روى الإمام البخاري عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: { بينا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم, جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه, قال: دعه؛ فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاته, وصيامه مع صيامه, يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية, ينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء, ثم ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء, ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء, ثم إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء, قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل إحدى يديه-أو قال: ثدييه- مثل ثدي المرأة -أو قال: مثل البضعة تدردر- يخرجون على حين فرقة من الناس .
    قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأشهد أن علياً قتلهم وأنا معه, جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
    }.
    فهذا ما وقع قبل أن يوجد الظلم وجور الحكام بالفعل, فليس الجور هو أصل النشأة, وإن كان مما يعزز الفكرة ويسوغها, ولكنها المثالية المجنحة التي لا تقيم للمصالح والملابسات أي اعتبار, وإنما تنطلق محلقة في الفضاء, لكن سرعان ما يهوي بها الواقع في قرار سحيق.
    مثالية تنتقد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فما ظنها بما حدث زمن عثمان, فما ظنها بما جرى زمن حكام بني أمية والعباس؟!
    صحيح أن رفض انحصار الخلافة في قريش ورفض جور بني أمية والعباس أصبحا من مميزات الخوارج فكراً وحركة, ولكن هذا ناشئ عن التطور الطبيعي للفكرة والحركة؛ وذلك أن أول أمرهم كان المطالبة بمثل عمر في سيرته وعدله, ولم يكن المطالبة بأن الخليفة منهم, ولكنهم لما رأوا إنكار الأمة عليهم ما فعلوه من اختيار أمير للمؤمنين من أعراب بني تميم, دافعوا عما صنعوا دفاعاً قادهم إلى القول بأن الخلافة جائزة لكل مسلم صالح لها قرشياً أو غير قرشي.
    فالفكرة فلسفة تبريرية لما وقع, وليست أساساً اعتقادياً بني عليه الواقع.
    والعلة الحقيقية لظهور الخوارج هي علة نفسية جبلية, وهي أن النفوس البشرية لا تنضبط دائماً على المنهج العدل الوسط, بل تجنح عنه ذات اليمين أو ذات الشمال؛ إما الإيغال المهلك, وإما التفريط المسرف, وقد وقعت الخوارج في الأول كما وقعت المرجئة في الآخر.
    وإنما تنضبط النفوس بالتزكية المستمرة والتقويم الدائب كما حصل للجيل الأول ولهذا تمثلت فيه حقيقة الأمة الوسط في كل شيء .
    وقد تجلت فطرية هذا الدين وكماله وتوازنه في معالجة كلا الانحرافين:
    فإنه لما كان الغلو بطبيعته لا تطيقه إلا نفوس قلائل تنطلق من تصور فاسد, وكثيراً ما تحظى بالإعجاب والإكبار لما تلزم به أنفسها، فيظن الرائي أنها تمثل حقيقة الدين وسموه, جاءت الأحاديث الصحيحة تبين صفات هذه النفوس وشبهات ذلك التصور, فكان التحذير من الخوارج واضحاً باعتبارها فرقة مارقة ذات منهج عقدي متميز.
    ولما كان التفريط بطبعه غالباً على أكثر النفوس؛ جاء التحذير منه متمثلاً في الأوامر والنواهي عامة, والتذكير بها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وضرورة التـناصح بين الأمة, والوعيد للمفرطين.
    والمقصود بيان خطأ النظرة إلى الخوارج باعتبارها حدثاً تاريخياً له تفسيراته المحلية المحدودة, وضرورة النظر إليها على أنها فكرة عقائدية يمكن أن تتكرر في كل زمان ومكان؛ أي: أنها ظاهرة تدين توجد في كل دين وفي كل عصر, وهذا الذي يستشفه المرء من النصوص الواردة فيهم, ومن تبويب كتب السنة والفقه لأحكامهم استقلالاً.
    فالغلو في دائرته الواسعة ظاهرة كبرى في تاريخ الديانات قبلنا, حتى لقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { إنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين }
    وما تأليه المسيح -أو عزير- ورهبانية النصارى إلا مثال لذلك.
    أما هذه الملة فقد ظهر الخوارج في أولها ووسطها وآخرها, وما يزال خروجهم في المستقبل وارداً .
    ومن هنا كان لا بد من معرفتهم ودراسة فكرهم ومنهجهم؛ ليحذر ويجتنب أولاً, ولضمان عدم نشوء رد الفعل المقابل وهو الإرجاء ثانياً.
    وهذه الحقائق النصية والمصالح الشرعية, تضيع منا إذا استسلمنا لمنهج أكثر الباحثين المعاصرين والمحدثين في دراسة الفرق الإسلامية ونشأتها.
    وإذا أحسنا الظن بهؤلاء، وغضضنا الطرف عما لديهم من التقليد الأعمى أو التحريف المتعمد, فإننا نقول: إن مصدر الخطأ في منهجهم هو تطبيق واقع العصر الحاضر ومفاهيمه على العصور السابقة، مع أن لكل عصر مميزاته الواضحة التي يسمونها روح العصر!
    فلأننا في عصر تغلب عليه الصراعات السياسية والتكتلات الحزبية المجردة, والأغراض النفعية الخالصة؛ قام هؤلاء بتطبيق هذا الواقع على ذلك العصر, الذي كانت العقيدة والمبدأ هي المنطلق والأساس لتصرفات الطوائف والفرق, وإن ما قدمته الفرق المنحرفة من تضحيات ضخمة, وجهود هائلة -تتجرد عن أي غرض مصلحي- لهـو أحد الأدلة على ذلك.
    ومن هنا اصطبغت الكتابة التاريخية المعاصرة -إلا ما قل- بالمنهج الغربي, الذي هو بطبيعة الحال ابن بيئته التي تتمرغ في أوحال المادة, وتعاني مرارة الصراع النفعي, ولا تؤمن بما يسمى القيم المجردة, ثم هي بعد ذلك وقبله غارقة حتى الثمالة في النظرة العصبية الحاقدة على الإسلام.
    ويستوي في ذلك من تبنى المنهج الاستشراقي بصراحة؛ مثل أحمد أمين وزميليه، ومن سلك مسلك اليساريين مثل: شاكر مصطفى وزاهية قدورة , ومن نقل بلا روية وتفكر مثل أبي زهرة والنشار.
    وإذا كان أكثر الكتاب المعاصرين يعتبرون ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم خلافاً دنيوياً سياسياً؛ فلا عجب أن يجعلوا علة ظهور الخوارج والمرجئة دوافع عصبية أو نفعية .
    وحسبنا أن نورد مصطلحاً واحداً من مصطلحات العصر, لنرى كيف كانت نتيجة تطبيقه على تاريخ الفرق ونشأتها، ألا وهو مصطلح السياسة؛ وذلك لارتباطه الواضح بـالعلمانية الفكرية التي يعتقدها هؤلاء.
    فالناظر في كتابات هؤلاء لا يكتم عجبه من التضاد المفتعل بين مفهومي الدين والسياسة، ذلك التضاد الذي أربك آراءهم, وذبذب نظراتهم حول نشأة الفرق الإسلامية, حين يتجادلون ويتساءلون: أكان الخوارج حزباً دينياً أو سياسياً, وكذلك المرجئة والشيعة؟
    فالذين اعتبروا الخوارج فرقة سياسية جعلوا التعصب القبلي وما أسموه الديكتاتورية في الخلافة هو السبب في وجودها والدافع لحركتها, وحاولوا دحض كل ما يخالف ذلك من الآراء.
    أما الذين عدّوها فرقة دينية؛ فقد جعلوا الحماس الديني والزهد المتطرف هو العلة الحقيقية وتنكروا لما عدا ذلك.
    ونسي هؤلاء وهؤلاء أن السياسة -باعتبارها جانباً أساسياً مهماً من جوانب الإسلام- لا يمكن فصلها كلية عن أي اتجاه عقائدي داخل الحياة الإسلامية, وغاية ما في الأمر أن بعض الطوائف يبرز لديها هذا الجانب أو ذاك وأكثر ما يظهر ذلك من المسار الحركي والتطبيقي, لا في الأصول النظرية التي الأصل فيها هو العقيدة والمبدأ.
    ومع أنه لا مانع من استخدام هذه المصطلحات للتقسيم الفني, أو الوصف التغليبي؛ فإنه يجب أن يحذر من اتخاذ ذلك ذريعة إلى الفصل الاعتباطي بين الدين والسياسة, وأن ينبه إلى خلط التطبيق التعسفي لمعايير العصر ومقاييسه على الإسلام وتاريخه المتميز.
    وبخصوص موضوع الخوارج يستطيع الإنسان أن ينقض كلا طرفي الرأي بسهولة, بأن يقال: إن المصادر التاريخية مطبقة على أن الخوارج منذ خروجهم يوم صفين قد اعتقدوا كفر علي رضي الله عنه, لأنه حكم الرجال في دين الله -بزعمهم- ثم تجمعوا وأمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي, وسموه أمير المؤمنين.
    فعلى الذين يرونها فرقة سياسية مجردة؛ أن يفسروا: كيف قامت هذه الفرقة على مبدأ التكفير بالمعصية وتحت أي فصل من فصول السياسة -كما يفهمونها عصرياً- نجعل قضية التكفير بالمعصية وعلى الذين يرونها فرقة دينية أن يفسروا: لماذا اجتمع هؤلاء في ثورة مسلحة, وبايعوا رجلاً منهم أميراً للمؤمنين, في حين أنها فرقة دينية حسب مفهومهم العصري للدين وتحت أي طقس من طقوس الدين -حسب تصورهم- نضع هذا التصرف الذي نشأ مع الحركة منذ ولادتها.
  3. الخوارج ونشأة الإرجاء

    بعد اتضاح أن الخروج ظاهرة وليس حادثة، وبمعرفة السبب الحقيقي لها، نستطيع أن نصل إلى معرفة الظاهرة المضادة التي سلكت منهج الغلو في التفريط، مقابل غلو تلك في الإفراط.
    وعقدة القضية: أن الظاهرة المضادة إنما انبثـقت في الأصل من الظاهرة الأولى نفسها، أي أنهما لم يكونا منذ النشأة منهجين متعاديين، اشتط أحدهما ذات اليمين والآخر ذات الشمال، وإنما هما منهج واحد في الأصل: الخروج، لكن بعضه أشد غلواً من بعض، وتطور الخلاف بين أصحابه في الجانب التطبيقي، ليصبح موضوعه مرتكب الكبيرة الحقيقي من الأمة، بعد أن كان عثمان وعلياً وسائر الصحابة زمن الفتنة.
    وبهذا التطور الذي لم يدرك أبعاده أكثر الباحثين، آل الأمر إلى منهجين متضادين على الحقيقة، وتجاوز الخلاف بينهما حدود الوقائع التاريخية حين النشأة، ليصبح خلافاً نظرياً عاماً مؤصلاً.
    وقد استوقفتني هذه الحقيقة كثيراً -أعني: حقيقة أن أصل المرجئة هم الخوارج لا بطريق التضاد في الغلو بل ذاتاً وحقيقة- وليس سبب ذلك عدم ثبوتها، ولكنه عدم وضوح تعليلها الذي تبين بعد بالتتبع الدقيق لفرق الخوارج.
    ومن هنا ظهرت ضرورة التوسع في دراسة إحدى الظاهرتين، لمعرفة حقيقة الأخرى.
    وإذا ما أردنا الوصول إلى الحقيقة، فإن علينا أن نعرف تلك الظاهرة البارزة في تاريخ الخوارج، وهي الاختلاف والتشقق إلى أكثر من رأي عادة وفي كل قضية تقريباً، وهو ما أنتج بمجموعه ثلاثة اتجاهات كبرى في مواقف فرق الخوارج، منذ حادثة التحكيم إلى بروز منهج الإرجاء قائماً بنفسه وهي:
    1- الاتجاه الغالي المطرد في غلوه.
    2- الاتجاه المتراجع إلى حد التساهل (نسبياً).
    3- الاتجاه التوسطي أو المحايد (التوقف والتبين).
    والقصة التي سبق إيرادها شاهد على هذه الاتجاهات الثلاثة في المواقف، وفي تاريخ الخوارج أمثلة أخرى، يهمنا منها بالأساس قضية حكم مرتكب الكبيرة عندهم، والدار التي يعيش فيها!!
    لقد اشتطت الخوارج، وغلت في النظرة لمرتكب الكبيرة وتشعب بها الخلاف في أحكامه، حتى كفّر بعض فرقها بعضاً.
    لكن ليس هذا فحسب، وإنما الرزية كل الرزية أن مرتكب الكبيرة عندهم ليس هو الزاني أو السارق أو الكاذب ونحوهم من عصاة الأمة، وإنما هو علي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعائشة، وأبو موسى، وعمرو بن العاص، ومعاوية، وأمثالهم من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    فالحكم على هؤلاء بالكفر هو أصل عقيدة الخوارج، وحادثة التحكيم هي التي أثارت ذلك كما سبق.
    وهذه هي البداية المهمة في تاريخهم، وفي تاريخ نشأة الإرجاء وانبثاقه من أصولهم، كما ألمحنا.
    فمنذ أن خرجت المحكمة الأولى على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وهي تجاهر بتكفيره، وظل الإجماع بينهم منعقداً على ذلك، وانطلاقاً منه تم الاتفاق على اغتيال رؤساء المختلفين في الفتنة، وهو ما فعله ابن ملجم وأخفق فيه صاحباه.
    لكن هذه البدعة الشنيعة ترعرعت وتطورت، واتخذت فيما بعد مجالاً تطبيقياً وتفصيلياً أوسع من مجرد اعتقاد كفر الصحابة المختلفين، ومن هنا كان طبيعياً أن يظهر الخلاف بينهم تبعاً لمنهجهم السابق إيضاحه.
    وكان من أعظم أسباب تطور الفكرة واتساع مجالها، نجاحهم في حكم بعض الأقاليم في زمن الخلاف بين ابن الزبير والأمويين، حيث أسسوا لهم دار إسلام وهجرة -بزعمهم- ومن هنا ظهرت دواعي الأحكام الفرعية والتطبيقية التي تتخذ عندهم -كما أسلفنا- منزلة الأصول والعقائد.
    ولهذا فسوف نتتبع تطور العقائد والخلافات، من خلال العرض التاريخي للأحداث المسببة لها، وبذلك نصل إلى معرفة أشمل وأعمق، لا سيما عن الاتجاهات الثلاثة، وخاصة الاتجاه التوسطي.
    و يبدأ تاريخ الخلاف بينهم بما أحدثه نافع بن الأزرق الحنفي، زعيم الخوارج الأزارقة حول الحكم على الدار وعلى معاملات أهلها، وهي القضية التي أصبحت أصلاً من أصول الخوارج المنهجية قديماً وحديثاً، إذ سائر الأحكام عندهم مترتبة عليها.
    وكان سبب الاختلاف الذي أحدثه نافع، أن امرأة من الخوارج عربية تزوجت أحد الخوارج من الموالي، فأنكر أهلها عليها ذلك، فأخبرت زوجها، وخيرته بين اللحاق بمعسكر نافع للدخول في دار الإسلام، أو الاختفاء، أو الطلاق، فخلى سبيلها، وأخذها أهلها فزوجوها ابن عم لها لم يكن على رأيها.
    فاختلف الخوارج في حكمها، فعذرها بعضهم بأنها مجبرة وأن الدار بالنسبة لها دار تقية، إذ لا تستطيع إظهار دينها، وترفض الزواج بالمشرك!!
    و لكن نافعاً وحزبه لم يعذروها هي وزوجها، وقالوا: ''كان ينبغي لهما أن يلحقا بنا، لأنا اليوم بمنزلة المهاجرين بـالمدينة، ولا يسع أحداً من المسلمين التخلف عنا، كما لم يسع التخلف عنهم، وبرئوا من القائلين بالتقية ''.
    ثم تطورت المسألة حتى كفَّروا كل من لم يهاجر إليهم، وإن كان على رأيهم، ولم يعذروه، وإن كانت إقامته تقية، وقالوا: إن كل من لم يظهر موافقتهم كافر، لا تحل ذبيحته ولا مناكحته، بل لم يقتصروا على الكبار البالغين وإنما صرحوا بأن حكم الأطفال حكم آبائهم.
    وقالوا: لا بد من امتحان من قصد دارنا، حتى نعلم صحة إسلامه.
    وهكذا برزت قضية الدار، وأصبح من أصول الأزارقة المميزة لهم: '' أن كل كبيرة كفر، وأن الدار دار كفر -يعنون دار مخالفيهم- وأن كل مرتكب كبيرة ففي النار خالداً مخلداً، وأن من أقام في دار الكفر فكافر لا يسعه الخروج ''
    ولم يقفوا عند هذا، بل طبقوا ذلك على أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعلوا من أصولهم تكفير علي بسبب التحكيم، وتكفير الحكمين أبي موسى وعمرو
    وبالأولى يكفرون معاوية وأهل الشام رضي الله عن الصحابة أجمعين .
    وهذه الآراء جعلت نجدة بن عامر الحنفي يستقل عن نافع، وينشئ دار إسلام خاصة به وأصحابه، ومال إلى التخفيف من حدة هذا الغلو، فقرر: أن الجاهل في غير الأصول معذور، حتى تقوم عليه الحجة، وأن المجتهد المخطئ معذور، وأن من خاف العذاب على المجتهد المخطئ قبل قيام الحجة عليه فهو كافر!!
    وأطلق على من لم يهاجر إلى دارهم اسم النفاق -ولم يقل الكفر كـنافع- وقال: إن أصحاب الحدود والجنايات- ممن هو على دينهم- لا يستوجب البراءة بل نتولاه، وأن الله يخلده في النار.
    ومما أحدثه نجدة وأصّله مسألة الإصرار، فقال: إن المصر على أي ذنب صغيرة أو كبيرة كافر وقد تحولت هذه المسألة إلى أصل منهجي من أصول أكثر الخوارج قديماً وحديثاً.
    وكالعادة تفجر الخلاف داخل أصحاب نجدة، فانقسموا ثلاث فرق: النجدية، والعطوية، والفديكية.
    والعطوية: منسوبة إلى عطية بن الأسود الحنفي، الذي فارق نافعاً ونجدة، منتقلاً إلى سجستان بأرض فارس، وهناك انتشر الخوارج وحكموا فترات متقطعة، وتفرقوا أيضاً فرقاً شتى، حيث خرج من العطوية رجل يدعى عبد الكريم بن عجرد، فانبثقت من آرائه خمس عشرة فرقة، يطلق عليها جميعاً اسم العجاردة.
    - فمنهم فرقة قالوا: ''إنه يجب أن يدعى الطفل إذا بلغ، وتجب البراءة منه قبل ذلك حتى يدعى إلى الإسلام ويصفه هو '' وتميزت بذلك.
    - وفرقة أخرى أعادت النظر في مسألة الدار وأهلها، فقالوا: '' إن الواجب هو قتال السلطان خاصة، ومن رضي بحكمه، فأما من أنكره فلا يرون قتله إلا إذا أعان عليهم، أو طعن في دينهم أو صار عوناً للسلطان أو دليلاً له! ''
    - وفرقة ثالثة تفردت بالقول بالتوقف في الأطفال عامة فقالوا: '' ليس لأطفال الكافرين ولا لأطفال المؤمنين ولاية ولا عدواة ولا براءة، حتى يبلغوا فيدعوا إلى الإسلام، فيقروا به أو ينكروه ''.
    - وفرقة أخرى عممت التوقف فهم: ''يتوقفون عن جميع من في دار التقية، من منتحلي الإسلام وأهل القبلة، إلا من قد عرفوا منه إيماناً فيتولونه عليه، أو كفراً فيتبرءون منه '' .
    وإذا تركنا سجستان وخوارجها، وعدنا إلى اليمامة والعراق، فسنجد أن رجلين من مخالفي نجدة ونافع أسسا فرقتين كبيرتين من الخوارج، وكل فرقة منهما تشعبت كالعادة إلى فرق أخرى.
    - هاتان الفرقتان هما: الصفرية أتباع زياد بن الأصفر، والإباضية أتباع عبد الله بن إباض.
    - وفي الوقت نفسه -على ما يبدو- خرجت طائفة لم يسمها الأشعري، لكن قولها مهم وهو ''أن ما كان من الأعمال عليه حد واقع، فلا يتعدى بأهله الاسم الذي لزمهم به الحد، وليس يكفر بشيء ليس أهله به كافراً، كالزنا والقذف وهم قذفة زناة.
    وما كان من الأعمال ليس عليه حد كترك الصلاة والصيام فهو كافر, وأزالوا اسم الإيمان في الوجهين جميعاً '' .
    وهذه الفرقة ينطبق عليها اسم الإرجاء، من حيث إنها لا تقول بإسلام ولا كفر، فيما كان دون الشرك والكفر، فهي إحدى فرق ما يسمى مرجئة الخوارج والله أعلم.
    * أما الإباضية: فقد مالت إلى مذهب قريب من هذا التوقف أو الإرجاء، وابتعدت عن غلو نافع أكثر مما ابتعد نجدة، وذلك أن جمهور الإباضية يزعمون أن مخالفيهم من أهل الصلاة كفار وليسوا بمشركين حلال مناكحتهم، وموارثتهم حلال، وغنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب، وحرام ما وراء ذلك، وحرام قتلهم وسبيهم في السر إلا من دعا إلى الشرك في دار التقية ودان به.
    '' وزعموا أن الدار -يعنون دار مخالفيهم- دار توحيد، إلا عسكر السلطان فإنه دار كفر...
    وقالوا: إن مرتكبي الكبائر موحدون وليسوا بمؤمنين ''.
    وقالوا: ''إن جميع ما افترض الله سبحانه على خلقه إيمان، وإن كل كبيرة فهي كفر نعمة لا كفر شرك، وإن مرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون فيها '' .
    وأما مسألة الأطفال فقد توقفت الإباضية -أو أكثرهم- فيها، وقالوا: يجوز أن يعذبهم الله، ويجوز ألا يعذبهم على تفصيل فيه.
    وتطورت فكرة التوقف والإرجاء عند الإباضية، بعد حدوث الواقعة التي سبق ذكرها بشأن الإماء والنساء من مخالفيهم، حيث ظهر فيهم فرقة سميت: الواقفة كما سبق.
    وهؤلاء الواقفة -إضافة إلى ما نقلناه من افتراق الضحاكية عنهم، ثم انشقاق الضحاكية- لم يتفقوا على رأي محدد، بل ''اختلفوا في أصحاب الحدود، فمنهم من برئ منهم، ومنهم من تولاهم، ومنهم من توقف، كما اختلفوا في أهل دار الكفر عندهم، فمنهم من قال: هم عندنا كفار إلا من عرفنا إيمانه بعينه، ومنهم من قال: هم أهل دار خلط فلا نتولى إلا من عرفنا فيه إسلاماً، ونقف فيمن لم نعرف إسلامه'' .
    وقد ظهر للواقفة عدو منافس هم فرقة البيهسية أصحاب أبي بيهس، الذي كفر الواقفة بسبب المسألة المذكورة كما سبق، وعلل ذلك بالتفريق بين التوقف في الحكم نفسه، والتوقف في حق من ارتكبه قائلاً: ''إن الوقف لا يسع على الأبدان، ولكن يسع على الحكم بعينه ما لم يواقعه أحد من المسلمين، فإذا واقعه أحد من المسلمين، لم يسع من حضر ذلك ألا يعرف من أظهر الحق ودان به، ومن أظهر الباطل ودان به '' .
    أي: أن الإنسان قد يتوقف عن حكم ما لا يدري أهو كفر أم إيمان، فإذا فعله فاعل وحضر ذلك، فلا بد أن يعرف أهو محق أو مبطل في فعله، ويحكم عليه بالكفر أو الإيمان، بحسب الاجتهاد والعذر ونحو ذلك.
    وعابت البيهسية مخالفيهم في ذلك، وأسمتهم الواقفة.
    ثم إنه انشقت عن البيهسية فرقة يقال لها العوفية وهي في الحقيقة فرقتان: فرقة تقول: "من رجع من دار هجرتهم ومن الجهاد إلى حال القعود، نبرأ منهم '' وفرقة تقول: '' لا نبرأ منهم، لأنهم رجعوا إلى أمر كان حلالاً لهم ''
    وكلا الفريقين من العوفية يقولون: ''إذا كفر الإمام فقد كفرت الرعية، الغائب منهم والشاهد ''.
    وهم بهذا الرأي الأخير يعودون إلى ما قالته المحكِّمة ونافع من قبل، وإن كان الكفر عندهم يختلف عن الكفر عند أولئك، ولكن غلو هذه الفكرة واضح، حتى في حق من ارتكب الكفر الحقيقي.
    ولا أدري ما الفرق بين هذه الفرقة وبين الفرقة الأخرى من البيهسية، التي قال عنها أبو الحسن: ''وقالت طائفة من البيهسية: إذا كفر الإمام كفرت الرعية، وقالت: الدار دار شرك وأهلها جميعاً مشركون، وتَركت الصلاة إلا خلف من تعرف، وذهبت إلى قتل أهل القبلة وأخذ الأموال واستحلت القتل والسبي على كل حال '' .
    إلا أن يكون ما زاده في هذه لم تذهب إليه تلك، فالله أعلم.
    ثم ينقل عن فرقة أخرى من البيهسية أنهم قالوا: ''من ارتكب كبيرة لم نشهد عليه بالكفر، حتى يرفع إلى الإمام أو الوالي ويحد، فوافقهم على ذلك طائفة من الصفرية إلا أنهم قالوا: نقف فيهم ولا نسميهم مؤمنين ولا كافرين ''.
    وإذا انتقلنا للحديث عن الصفرية نجد هذا الاتجاه -أعني التوقف والإرجاء- لدى فرقة أخرى منهم غير هذه، وهي الفرقة المسماة الحسينية.
    وهم: ''يرون الدار دار حرب وأنه لا يجوز الإقدام على من فيها إلا بعد المحنة، ويقولون: بالإرجاء في موافقيهم خاصة كما حكي عن نجدة ''.
    وما عداه فليس للصفرية قول متميز ذو شأن، إلا إذا صحت نسبة صالح بن مسرج إليهم .
    وصالح هذا كان من زعمائهم، حكم ببعض أحكام في الغنائم وغيرها، فاختلف عليه الخوارج في ذلك، فبرئت منه فرقة فسميت الراجعة، وصوب أكثر الخوارج رأي صالح، ووقف شبيب في صالح والراجعة وقال: لا ندري ما حكم به صالح حقاً كان أو باطلاً.
    ويقال: ''إن أكثر الراجعة عادوا إلى قول صالح.. فأما بعض الإباضية فيذهب إلى أن الذين برئوا من صالح كفروا، وأن من وقف في كفرهم كفر ''.
    وأما شبيب فقد انتسب إليه فرقة تسمى الشبيبية، وذلك أن شبيباً وقف في صالح وفي الراجعة فقالوا: ''لا ندري أحق ما حكم به صالح أم جور. وحق ما شهدت به الراجعة أم جور. فبرئت الخوارج منهم وسموهم: مرجئة الخوارج ''.