مضى الحديث عن الجيل الأول الذي رباه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذلك الجيل الذي كانت حياته الواقعية حقيقة حية للإيمان كما فهموه وتربوا عليه، وهذا ما جعلهم أبعد شيء عن النظريات المجردة في أي مجال، فما بالك ببعدهم عنها في دينهم وإيمانهم الذي يعيشون حقيقته ويتحركون به وله؟!
حتى العلم الشرعي نفسه لم يكونوا يتلقونه معلومات تراكمية كما صنعت الأجيال من بعد، بل كانوا كما قال بعضهم: { كنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن غلمان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن فازددنا به إيماناً}.
هذا الإيمان الذي تلقوه لم يكن- على الإطلاق- درساً يسمى درس العقيدة يقال فيه: إن الإيمان قول وعمل، وإن الطاعات كلها داخلة في الإيمان- كما يصنع أكثر متأخري أهل السنة الذين أهملوا كثيراً من حقائق الإيمان واحتفظوا برسمه ولفظه- فضلاً عن أن يكون درساً كلامياً أو فلسفياً يقال فيه: الإيمان هو التصديق، والتصديق اعتقاد نسبة الصدق إلى المخبر بدلالة المعجزة، والمعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي... إلخ كما هو الحال في دروس العقيدة في أكثر العالم الإسلامي اليوم، وفي القرون الأخيرة الماضية.
إن معايشة الجيل الأول للوحي وصاحبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مع ما آتاهم الله من سلامة الفطرة وصحة الفهم وحضور البديهة- جعلتهم أصدق الناس نظراً، وأقلهم تكلفاً، وأحسنهم هدياً.
فإن سئلوا عن أمر كان جوابهم أوجز بيان وأشفاه وأبينه، إن لم يكن من ذات نور الوحي فهـو قبس من مشكاته.
وإن في مسألة الإيمان- تلك المسألة التي تشعبت فيها الآراء، وتنافرت فيها الفرق، وتـقاتـلت عليها الأمة- لأصدق دليل على هذا.
فقد ذهبت الفرق الضالة كل مذهب لتأتي بتعريف للإيمان كما تريد، فمنهم من صرف نظره عن نصوص الوحي كلها، ومنهم من أخذ بعضها وغلا فيه، وتعسف في تأويل الباقي أو إنكاره، ومنهم من ظل حائراً متناقضاً لا يستـقـر له قرار.
أما الجماعة- الذين هم الصحابة والتابعون لهم بإحسان- فما حادوا عن منهجهم المأمون قط، فكانوا إذا سئلوا عن الإيمان أجابوا بالوحي لا بالهوى، جواباً يراعى فيه حال السائل ومقام السؤال كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل.
فمرة يجيبون السائل بآية جامعة من كتاب الله تعالى، مثل جواب بعضهم بقوله تعالى: ((لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) [البقرة:177]
ومرة يجيـبون بحديث كما أجاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل أو وفد عبد القيس.

ومرة يعرفونه بفهم فهموه من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال بعضهم: ''الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله'' ونحو ذلك.
ومن الواضح أنه ليس في شيء من هذا تحديد مجرد للإيمان على المنهج المنطقي المتكلف.
وعندما اتسع الخلاف بين الفرق وانتقلت الأمة من البحث في أعمال الإيمان وفرائضه ليحققوه بكماله إلى البحث في ماهيته المجردة وحده المنطقي- ليتجادلوا فيها- ظهرت الحاجة إلى قول فصل وأصل جامع، يعرف به الناس هذا المفهوم في كتاب ربهم وسنة نبيهم، فتواردت أذهان علماء الجماعة وتواطأت أقوالهم وتواترت أخبارهم- الحجازي منهم والعراقي والشامي والخراساني والمصري والمغربي، ومن كان وراء النهر أو بـالأندلس- على معنى موجز شاف كاف ليس في التعريفات أوضح ولا أيسر منه، مقتبس من الكتاب والسنة، وموافق للعقل والفطرة، ومترجم لواقع الجيل الأول، وهو: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
وأكثرهم لم يزد عن هذه العبارة ولم ينقص، ومنهم من اختلفت عبارته قليلاً أو أضاف إليها قيداً إيضاحياً، لكن المعنى الذي أرادوه جميعاً واحد؛ فلم يكن اختلافهم في بعض الألفاظ إلا كما يختلف الصادقون عادة في التعبير عن أمر واحد محسوس ظاهر.
وهذا وحده دليل كاف لمن كانت له بصيرة على أن هؤلاء هم الجماعة حقاً، وأن من عداهم فرق زيغ وضلالة، من اقتفاها فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، فولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً.
وهذا الإجماع نقله كثير من المؤلفين الثقات؛ وها هي ذي نماذج منهم:
1- يقول الإمام الحجة أمير المؤمنين في الحديث أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى: '' لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم؛ أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر، لقيتهم كرات قرناً بعد قرن ثم قرناً بعد قرن أدركتهم وهم متوافرون أكثر من ست وأربعين سنة، أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين، والبصرة أربع مرات في سنين ذوي عدد، وبـالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد، مع محدثي أهل خراسان، منهم: المكي بن إبراهيم، ويحيى بن يحيى، وعلي بن الحسن بن شقيق، وقتيبة بن سعيد، وشهاب بن معمر.
وبـالشام: محمد بن يوسف الفريابي، وأبا مسهر عبدالأعلى بن مسهر، وأبا المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، وأبا اليمان الحكم بن نافع ومن بعدهم عدة كثيرة.
وبـمصر: يحيى بن كثير، وأبا صالح -كاتب الليث بن سعد- وسعيد بن أبي مريم، وأصبغ بن الفرج، ونعيم بن حماد.
وبـمكة : عبد الله بن يزيد المقري، والحميدي، وسليمان بن حرب -قاضي مكة- وأحمد بن محمد الأزرقي.
وبـالمدينة: إسماعيل بن أبي أويس، ومطرِّف بن عبد الله، وعبد الله بن نافع الزبيري، وأحمد بن أبي بكر أبا مصعب الزهري، وإبراهيم بن حمزة الزبيري، وإبراهيم بن المنذر الحزامي.
وبـالبصرة : أبا عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني، وأبا الوليد هشام بن عبد الملك، والحجاج بن المنهال، وعلي بن عبد الله بن جعفر المديني.
وبـالكوفة : أبا نعيم الفضل بن دكين، وعبيد بن موسى، وأحمد بن يونس، وقبيصة بن عقبة، وابن نمير، وعبد الله وعثمان ابني أبي شيبة.
و بـبغداد : أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبا معمر، وأبا خيثمة، وأبا عبيد القاسم بن سلام.
ومن أهل الجزيرة: عمرو بن خالد الحراني.
وبـواسط : عمرو بن عون، وعاصم بن علي بن عاصم.
وبـمرو : صدقة بن الفضل، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي.
واكتفينا بتسمية هؤلاء كي يكون مختصراً وألا يطول ذلك، فما رأيت واحداً منهم يختلف في هذه الأشياء:
أن الدين قول وعمل، وذلك لقول الله:
((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ))[البينة:5]... ''
ثم ذكر عقيدة قيمة جاء فيها -أيضاً- مما يتعلق بموضوعنا: '' لم يكونوا يكفرون أحداً من أهل القبلة بالذنب، لقوله: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ))[النساء:48] '' .
2- وقال الإمامان الجليلان الثقتان أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، فيما رواه عنهما الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: '' سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار- حجازاً وعراقاً وشاماً ويمناً- فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ''.
ثم ذكر عقيدة عظيمة -أيضاً- جاء فيها: '' وأهل الكبائر في مشيئة الله عز وجل، ولا نكفر أهل القبلة بذنوبهم، ونكل أسرارهم إلى الله عز وجل، والناس مؤمنون في أحكامهم ومواريثهم، ولا ندري ما هم عند الله عز وجل، فمن قال: إنه مؤمن حقا فهو مبتدع، ومن قال: هو مؤمن عند الله فهو من الكاذبين، ومن قال: هو مؤمن بالله حقاً فهو مصيب والمرجئة المبتدعة ضلال.
وعلامة المرجئة : تسميتهم أهل السنة مخالفة ونقصانية '' .
3- وروى أبو عمرو الطلمنكي بإسناده المعروف عن موسى بن هارون الحمال قال: '' أملى علينا إسحاق بن راهويه: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، لا شك أن ذلك كما وصفنا.
وإنما عقلنا هذا بالروايات الصحيحة والآثار العامة المحكمة، وآحاد أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعين وهلّم جرا على ذلك، وكذلك بعد التابعين من أهل العلم على شيء واحد لا يختلفون فيه، وكذلك في عهد الأوزاعي بـالشام، وسفيان الثوري بـالعراق، ومالك بن أنس بـالحجاز، ومعمر بـاليمن على ما فسرنا وبينا أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص...''
قال إسحاق: ''واتبعهم على ما وصفنا من بعدهم من عصرنا هذا أهل العلم إلا من باين الجماعة واتبع الأهواء المختلفة، فأولئك قوم لا يعبأ الله بهم لما باينوا الجماعة''
4- قال أبو عبيد القاسم بن سلام الإمام -وله كتاب مصنف في الإيمان- قال: هذه تسمية من كان يقول: (الإيمان قول وعمل يزيد وينقص).
من أهل مكة: عبيد بن عمير الليثي، عطاء بن أبي رباح، مجاهد بن جبر، ابن أبي مليكة، عمرو بن دينار، ابن أبي نجيح، عبيد الله بن عمر، عبد الله بن عمرو بن عثمان، عبد الملك بن جريج، نافع بن جبير، داود بن عبد الرحمن العطار، عبد الله بن رجاء.
ومن أهل المدينة : محمد بن شهاب الزهري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، أبو حازم الأعرج، سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، يحيى بن سعيد الأنصاري، هشام بن عروة بن الزبير، عبد الله بن عمر العمري، مالك بن أنس، محمد بن أبي ذئب، سليمان بن بلال، عبد العزيز بن عبد الله -يعني: الماجشونعبد العزيز بن أبي حازم..
ومن أهل اليمن: طاوس اليماني، وهب بن منبه، معمر بن راشد، عبد الرزاق بن همام .
ومن أهل مصر والشام: مكحول، الأوزاعي، سعيد بن عبد العزيز، الوليد بن مسلم، يونس بن يزيد الأيلي، يزيد بن أبي حبيب، يزيد بن شريح، سعيد بن أبي أيوب، الليث بن سعد، عبد الله بن أبي جعفر، معاوية بن صالح، حيوة بن شريح، عبد الله بن وهب.
وممن سكن العواصم وغيرها من الجزيرة: ميمون بن مهران، يحيى بن عبد الكريم، معقل بن عبيد الله ،عبيد الله بن عمرو الرقي، عبد الملك بن مالك ، المعافى بن عمران، محمد بن سلمة الحراني، أبو إسحاق الفزاري، مخلد بن الحسين، علي بن بكار، يوسف بن أسباط، عطاء بن مسلم، محمد بن كثير، الهيثم بن جميل.
ومن أهل الكوفة : علقمة، الأسود بن يزيد، أبو وائل، سعيد بن جبير، والربيع بن خثيم، عامر الشعبي، إبراهيم النخعي، الحكم بن عتبة، طلحة بن مصرف، منصور بن المعتمر، سلمة بن كهيل، مغيرة الضبي، عطاء بن السائب، إسماعيل بن أبي خالد، أبو حيان يحيى بن سعيد، سليمان بن مهران الأعمش، يزيد بن أبي زياد، سفيان بن سعيد الثوري، سفيان بن عيينة، الفضيل بن عياض، أبو المقدام، ثابت بن العجلان، ابن شبرمة، ابن أبي ليلى، زهير، شريك بن عبد الله، الحسن بن صالح، حفص بن غياث، أبو بكر بن عياش، أبو الأحوص، وكيع بن الجراح، عبد الله بن نمير، أبو أسامة، عبد الله بن إدريس، زيد بن الحباب، الحسين بن علي الجعفي، محمد بن بشر العبدي، يحيى بن آدم، ومحمد ويعلى وعمرو بنو عبيد.
ومن أهل البصرة : الحسن بن أبي الحسن، محمد بن سيرين، قتادة بن دعامة، بكر بن عبد الله المزني، أيوب السختياني، يونس بن عبيد، عبيد الله بن عون، سليمان التيمي، هشام بن حسان الدستوائي، شعبة بن الحجاج، حماد بن سلمة، حماد بن زيد، أبو الأشهب، يزيد بن إبراهيم، أبو عوانة، وهيب بن خالد، عبد الوارث بن سعيد، معتمر بن سليمان التيمي، يحيى بن سعيد القطان، عبد الرحمن بن مهدي، بشر بن المفضل، يزيد بن زريع، المؤمل بن إسماعيل، خالد بن الحارث، معاذ بن معاذ، أبو عبد الرحمن المقري.
ومن أهل واسط : هشيم بن بشير، خالد بن عبد الله، علي بن عاصم، يزيد بن هارون، صالح بن عمر، عاصم بن علي.
ومن أهل المشرق: الضحاك بن مزاحم، أبو جمرة نصر بن عمران، عبد الله بن المبارك، النضر بن شميل، جرير بن عبد الحميد الضبي.
قال أبو عبيد: ''هؤلاء جميعاً يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص؛ وهو قول أهل السنة المعمول به عندنا''.
5- ويقول الإمام البغوي في شرح السنة: ''اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان؛ لقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ))[لأنفال:2] إلى قوله: ((الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ))[الأنفال:3].
فجعل الأعمال كلها إيمانا، وكما نطق به حديث أبي هريرة -يعني حديث: { الإيمان بضع وسبعون شعبة }، ثم قال: وقالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقيدة، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية على ما نطق به القرآن في الزيادة، وجاء في الحديث بالنقصان في وصف النساء [يعني: ناقصات عقل ودين]
ثم قال: واتفقوا على تفاضل أهل الإيمان في الإيمان وتباينهم في درجاته''.
6- ويقول الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر: '' أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان".
ثم ذكر خلاف أبي حنيفة وأصحابه في هذا، وقال: ''وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بـالحجاز والعراق والشام ومصر، منهم: مالك بن أنس، والليث بن سعد، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلّام، وداود بن علي الظاهري، وأبو جعفر البصري، ومن سلك سبيلهم، فقالوا: الإيمان قول وعمل؛ قول باللسان وهو الإقرار، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة، قالوا: وكل ما يطاع الله عز وجل به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان، والإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وأهل الذنوب عندهم مؤمنون غير مستكملي الإيمان من أجل ذنوبهم...''.
7- ويذكر الإمام الحافظ ابن كثير: ''أن الإيمان إذا استعمل مطلقاً فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً وعملاً، وهكذا ذهب أكثر الأئمة، بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وغير واحد إجماعاً أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص''.
8- ويقول الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي: ''والمشهور عن السلف وأهل الحديث: أن الإيمان قول وعمل ونية، وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان، وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم، وأنكر السلف على من أخرج الأعمال عن الإيمان إنكاراً شديداً.
وممن أنكر ذلك على قائله وجعله قولاً محدثاً: سعيد بن جبير، وميمون بن مهران، وقتادة، وأيوب السختياني، وإبراهيم النخعي، والزهري، ويحيى بن أبي كثير، وغيرهم .
وقال الثوري: هو رأي محدث أدركنا الناس على غيره.
وقال الأوزاعي: وكان من مَضى من السلف لا يفرقون بين العمل والإيمان...''.
9- وما ذكره الحافظان ابن كثير وابن رجب عن الشافعي -رحمه الله- أن الإجماع على ذلك نقله شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، فقال: ''وقد ذكرنا عن الشافعي رضي الله عنه ما ذكره من الإجماع على ذلك قوله في الأم :
وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون: إن الإيمان قول وعمل ونية، ولا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر''.
10- ويقول الإمام محمد بن جرير الطبري شيخ المفسرين: ''والصواب لدينا من القول: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وبه الخبر عن جماعة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعليه مضى أهل الدين والفضل''.
11- وقد روى الإمام أحمد في الإيمان، وابنه عبد الله بن أحمد في السنة، عن جماعة كثيرة من أهل العلم الذين ذهبوا إلى ما ذكر وذموا الإرجاء وعابوه، نذكر منهم:
مجاهد، سعيد بن جبير، الحسن البصري، أبو وائل، إبراهيم النخعي، علقمة، عطاء بن أبي رباح، قتادة، ابن أبي مليكة، هشام بن عروة، عمر بن عبد العزيز، سفيان الثوري، سفيان بن عيينة، وكيع، الفضيل بن عياض، مالك، الشافعي، حماد بن زيد، حماد بن سلمة، الأوزاعي، شريك، أبو بكر بن عياش، أبو البختري، ميسرة، أبو صالح، ضحاك المشرقي، بكير الطائي، يحيى بن سعيد، عبد العزيز بن أبي سلمة، منصور بن المعتمر، عمير بن حبيب، جرير بن عبد الحميد، عبد الملك بن جريج، يحيى بن سليم، أبو إسحاق الفزاري، عبد الله بن المبارك، الخليل بن أحمد الفراهيدي، ميمون بن مهران، خالد بن الحارث، محمد بن مسلم الطائفي، معمر بن راشد، القاسم بن مخيمرة، صدقة المروزي، محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، سعيد بن عبد العزيز، عبد الكريم الجزري، خصيف بن عبد الرحمن .
12- وروى أبو بكر النقاش بإسناده عن عبد الرزاق قال: ''لقيت اثنين وسبعين شيخاً (وذكر جملة من كبار الأئمة) كلهم يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص".
وبعض هؤلاء الأعلام صرح بأن قول أهل الإرجاء بدعة محدثة، وأنهم يهود أهل القبلة أو صابئة هذه الأمة، وأن من أدركوه من أهل العلم- صحابة وتابعين- كانوا على ما عليه أهل السنة، ونحو ذلك من النقول الدالة على الإجماع، تصريحاً أو لزوماً واقتضاءً، ولولا خشية التطويل لنقلنا ذلك تفصيلاً .
ومعلوم أن أي إجماع لا بد له من مستند نصي، وهذا الإجماع يستند إلى نصوص كثيرة جداً، بل ربما كانت هذه القضية أعظم مسائل الخلاف بين الأمة إجماعاً من الصدر الأول، من حيث تواتر النصوص وتواتر نقل الأقوال فيها.
ونظراً للاختصار رأيت الاكتفاء بنصين مفصلين من كلام أئمة السنة مذكور فيهما مستند الإجماع:
1- كلام الإمام هشام بن عمار [مقرئ الشام ومحدثها في عصره] المتوفى 245 هـ:
قال رحمه الله: ''ومما يبين لأهل العقل أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأحاديث: {أن الحياء شعبة من الإيمان}.
و{أن حسن العهد من الإيمان}.
وأن الإيمان عرى، و{أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله}.
وأن للإيمان أركاناً ودعائم، وذروة وحقيقة ومحضاً، وصريحاً وصدقاً وبراً، وحلاوةً وزينةً ولباساً وشطراً''.
ثم فصل هذا فقال: '' فمن أركانه: التسليم لأمر الله [الشرعي]، والرضا بقدر الله [الكوني]، والتفويض إلى الله والتوكل على الله.
ومن دعائمه: الصبر واليقين والعدل والجهاد.
وصريح الإيمان: أن يصل من قطعه، ويعطي من حرمه، ويعفو عمن ظلمه، ويغفر لمن شتمه، ويحسن إلى من أساء إليه.
وذروته: أن يكون الفقر أحب إليه من الغنى، والتواضع أحب إليه من الشرف، وأن يكون ذامه وحامده في الحق عنده سواء.
وحقيقته: ما روي من: {ثلاث من كن فيه فقد استوجب حقيقة الإيمان: حب الرجل المرء في الله...} الحديث .
أما استكماله: فما روي: {لا يستكمل عبد الإيمان كله حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}، {وحتى يقدم الصلاة في اليوم الدجن}، {وحتى يجتنب الكذب في مزاحه}، وما روي: {لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يخزن لسانه}.
وأما طعم الإيمان: فأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ولا يقول: لولا، ولو أن، ويدع المراء وهو محقٌ، ويدع الكذب في المزاح، روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وأما محض الإيمان: فما روي أنهم قالوا: {يا رسول الله! إن أحدنا ليحدث نفسه بالشيء ما يحب أن يتكلم به، قال: ذلك محض الإيمان}.
وأما صدق الإيمان وبره: فما روي عن عبيد بن عمير قال: [[من صدق الإيمان وبره إسباغ الوضوء في المكاره، ومن صدق الإيمان وبره أن يخلو الرجل بالمرأة الحسناء فيدعها لا يدعها إلا لله]].
وأما لباسه: فالتقوى، روي ذلك عن وهب بن منبه.
وأما حلاوته: فروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب العبد لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار}.
وأما شطر الإيمان: فما روي عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {الطهور شطر الإيمان -وفي رواية: إسباغ الوضوء شطر الإيمان- والحمد لله تملأ الميزان، والتكبير والتسبيح يملأ السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها}.
وأما نصف الإيمان: فروي عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله اهـ. ''
أقول: ما ذكره من الأحاديث والآثار ليس على درجة واحدة من الصحة والقبول، ولكن الشاهد من مجموعها -وهو الاستدلال على صحة مفهوم الإيمان عند أهل السنة والجماعة- متحقق، والمطلع على السنة وأقوال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم يمكن أن يزيد على ما ذكر أشياء كثيرة.
وهذه التي ذكرها بعضها أعمال، وبعضها أقوال، وبعضها أقوال القلب وأعماله، وبعضها أقوال لسان وأعمال جوارح، وبعضها فرائض وواجبات، وبعضها نوافل وكمالات.
ومن تدَّبرها وتدبر أمثالها في النصوص الأخرى، ثم قابل ذلك بقول المرجئة -الذي عليه أكثر كتب العقيدة في العالم الإسلامي اليوم، وهو أن الإيمان هو التصديق القلبي المجرد من سائر أفعال القلوب والجوارح، على الخلاف في النطق بالشهادتين- عرف شذوذ هذا القول وسقوطه، وأنه بدعة لا يجوز اعتقادها.
2- كلام الفضيل بن عياض مع تعليق الإمام أحمد: .
قال عبد الله بن أحمد في كتاب السنة: ''وجدت في كتاب أبي: أخبرت أن الفضيل بن عياض قرأ أول الأنفال حتى بلغ: ((أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ))[الأنفال:4]
قال حين فرغ: إن هذه الآية تخبرك أن الإيمان قول وعمل، وأن المؤمن إذا كان مؤمناً حقاً فهو من أهل الجنة، فمن لم يشهد أن المؤمن حقاً من أهل الجنة فهو شاك في كتاب الله مكذب، أو جاهل لا يعلم، فمن كان على هذه الصفة فهو مؤمن حقاً مستكمل الإيمان، ولا يستكمل الإيمان إلا بالعمل، ولا يستكمل عبد الإيمان ولا يكون مؤمناً حقاً حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه.
يا سفيه ما أجهلك! لا ترضى أن تقول: أنا مؤمن حتى تقول: أنا مؤمن حقاً مستكمل الإيمان، والله لا تكون مؤمناً حقاً مستكمل الإيمان، حتى تؤدي ما افترض الله عليك، وتجتـنب ما حرم الله عليك، وترضى بما قسم الله لك، ثم تخاف مع هذا ألا يقبل الله منك، ووصف فضيل الإيمان بأنه قول وعمل. وقرأ:
((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ))[البينة:5]
فقد سمى الله ديناً قيمةً بالقول والعمل، فالقول: الإقرار بالتوحيد والشهادة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبلاغ، والعمل: أداء الفرائض واجتناب المحارم .
وقرأ: ((وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً))[مريم:54-55].
وقال: ((شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ))[الشورى:13].
فالدين: التصديق بالعمل كما وصفه الله، وكما أمر أنبياءه ورسله بإقامته، والتفرق فيه: ترك العمل والتفريق بين القول والعمل.
قال الله عز وجل: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ))[التوبة:11].
فالتوبة من الشرك جعلها الله قولاً وعملاً بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
وقال أصحاب الرأي: ليس الصلاة ولا الزكاة ولا شيء من الفرائض من الإيمان، افتراءً على الله وخلافاً لكتابه وسنة نبيه، ولو كان القول كما يقولون لم يقاتل أبو بكر أهل الردة.
وقال فضيل: يقول أهل البدع: الإيمان الإقرار بلا عمل، والإيمان واحد، وإنما يتفاضل الناس بالأعمال، ولا يتفاضلون بالإيمان، فمن قال ذلك فقد خالف الأثر وردَّ على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله؛ لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان}.
وتفسير من يقول: الإيمان لا يتفاضل، يقول: إن فرائض الله ليست من الإيمان، فميز أهل البدع العمل من الإيمان، وقالوا: إن فرائض الله ليست من الإيمان، ومن قال ذلك فقد أعظم الفرية، أخاف أن يكون جاحداً للفرائض راداً على الله أمره.
ويقول أهل السنة: إن الله قرن العمل بالإيمان، وأن فرائض الله من الإيمان، قالوا: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ))[البقرة:82] موصول العمل بالإيمان، ويقول أهل الإرجاء: لا، ولكنه مقطوع غير موصول.
وقال أهل السنة: (( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ))[النساء:124] فهذا موصول، وأهل الإرجاء يقولون: بل هو مقطوع .
وقال أهل السنة: (( وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ))[الإسراء:19] فهذا موصول.
وكل شيء في القرآن من أشباه هذا فـأهل السنة يقولون: هو موصول مجتمع .
وأهل الإرجاء يقولون: بل هو مقطوع متفرق، ولو كان الأمر كما يقولون، لكان من عصى وارتكب المعاصي والمحارم لم يكن عليه سبيل، فكان إقراره يكفيه من العمل، فما أسوأ هذا من قول وأقبحه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
(فيه دليل على أن هذا لازم قولهم لا أنه قولهم، فليبحث عن دليل آخر).
وقال فضيل: أصل الإيمان عندنا وفرعه- بعد الشهادة والتوحيد، والشهادة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبلاغ، وبعد أداء الفرائض -صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وترك الخيانة، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، والنصيحة لجميع المسلمين، والرحمة للناس عامة.
قيل له -يعني فضيلاً-: هذا من رأيك تقوله أو سمعته؟ قال: بل سمعناه وتعلمناه، ولو لم آخذه من أهل الفـقه والفضل لم أتكلم به.
وقال فضيل: يقول أهل الإرجاء: الإيمان قول بلا عمل، ويقول الجهمية: الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل، ويقول أهل السنة: الإيمان المعرفة والقول والعمل، فمن قال: الإيمان قول وعمل، فقد أخذ بالوثيقة، ومن قال: الإيمان قول بلا عمل؛ فقد خاطر، لأنه لا يدري أيقبل إقراره أو يرد عليه بذنوبه.
وقال -يعني: فضيلاً- قد بينت لك، إلا أن تكون أعمى.
وقال فضيل: لو قال رجل: مؤمن أنت؟ ما كلمته ما عشت! وقال: إذا قلت: آمنت بالله، فهو يجزيك من أن تقول: أنا مؤمن، وإذا قلت: أنا مؤمن لا يجزيك من أن تقول: آمنت بالله؛ لأن آمنت بالله أمر، قال الله: ((قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ))[البقرة:136] الآية، وقولك: أنا مؤمن تكلف لا يضرك ألا تقوله، ولا بأس إن قلته على وجه الإقرار، وأكرهه على وجه التزكية.
وقال فضيل: سمعت سفيان الثوري يقول: من صلى إلى هذه القبلة فهو عندنا مؤمن، والناس عندنا مؤمنون بالإقرار والمواريث والمناكحة والحدود والذبائح والنسك، ولهم ذنوب وخطايا، الله حسيبهم، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، ولا ندري ما لهم عند الله.
قال فضيل: سمعت المغيرة الضبي يقول: من شك في دينه فهو كافر، وأنا مؤمن إن شاء الله. قال فضيل: الاستثناء ليس بشك.
وقال فضيل: المرجئة كلما سمعوا حديثاً فيه تخويف، قالوا: هذا تهديد، وإن المؤمن يخاف تهديد الله وتحذيره وتخويفه ووعيده، ويرجو وعده، وإن المنافق لا يخاف تهديد الله ولا تحذيره ولا تخويفه ولا وعيده ولا يرجو وعده.
وقال فضيل: الأعمال تحبط الأعمال، والأعمال تحول دون الأعمال '' .
و يتعلق بهذا مباحث مهمة:
  1. ما في ظاهر ألفاظ بعض السلف من اختلاف عما نقلنا وجوابه

    المبحث الأول :-
    ما في ظاهر ألفاظ بعض السلف من اختلاف عما نقلنا وجوابه :-
    سبقت الإشارة إلى أن بعض السلف عبروا عن المعنى الواحد المجمع عليه بينهم بعبارات مختلفة، ولما كان ظاهر بعض هذه العبارات قد يفهم منه مخالفته للعبارة المختارة المنقولة عن الأكثر، وهي: قول وعمل يزيد وينقص، فإنه يحسن بنا إيضاح المسألة ورفع هذا الاحتمال، فنقول:
    قد نقلت كتب السنة -المذكور أكثرها قريباً- مثل: كتاب الخلال، والسنة لعبد الله بن أحمد، واللالكائي، والآجري، وابن بطة، والطبري -أقوالاً من هذا القبيل عن بعض السلف- كـسفيان، والفضيل، والأوزاعي ونحوهم، وبعضها عن المتقدمين من الصحابة والتابعين.
    ومدار هذه الأقوال على وجوه:
    1- من عرّف الإيمان ببعض خصاله، كمن قال: الإيمان هو الصبر واليقين. أو الإيمان هو الصبر والشكر ونحوها، ومعلوم أن هؤلاء لم يقصدوا حقيقة التعريف الاصطلاحي، وإنما قصدوا بيان أهمية هذه الخصلة، وقد ورد نحو ذلك في أحاديث مرفوعة يأتي بعضها في مبحث أعمال القلوب.
    2- من زاد في التعريف زيادة قد يحسبها الناظر ركناً أو قيداً لا يتم التعريف إلا به، وأكثر ما ورد من ذلك زيادة بعضهم لفظ (النية) فقالوا: هو قول وعمل ونية، ومنهم من زاد عليها: موافقة السنة، ومن الواضح أن هذه الزيادات لم يقصد بها أن الكلمة المتواتر نقلها: قول وعمل ناقصة، فاستدركوا على قائليها بهذه الزيادة، وإنما قصدوا التنبيه على صحة النية وموافقة السنة، مع دخولها في أعمال القلب والجوارح التي تشملها جميعاً كلمة قول وعمل على ما سيأتي تفصيله في المبحث التالي.
    وإنما لم يذكرها الأكثرون؛ لأنها شرط لصحة كل عمل شرعي بلا استثناء، فلا حاجة لذكرها في كل تعريف، وأيضاً فإن العبارة هي أشبه بالحد العقلي، والحدود لا تذكر فيها الشروط، وإنما تذكر الأركان، ومما يوضح ذلك: أن الإمام أحمد رحمه الله قال هو أيضاً: ''الإيمان قول وعمل ونية صادقة'' لكن لما سأله بعض تلاميذه: هل لا بد من النية -وهو سؤال يشعر بأن من لم يذكرها قد أخل بالمراد- قال الإمام: النية متقدمة أي: فمن لم يذكرها فلبداهتها، ومن ذكرها فلأهميتها، ففي كلام الإمام هذا إشارة لسبب ترك أكثر السلف لها، وهو أيضاً في أكثر كلامه.
    3- من عبّر بألفاظ أخرى قد يفهم منها أنها تخالف تلك الكلمة أو استدراك عليها، وأشهر هذه الألفاظ قول من قال منهم: هو اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان، وهذه العبارة شاعت عند المتأخرين من أهل السنة، والظاهر أنهم اختاروها احترازاً من الفهم الخطأ الذي فهمه المبتدعة -وغيرهم- من قول السلف: قول وعمل، حيث فهموا أن القول خاص باللسان، والعمل خاص بالجوارح، فكأن السلف غفلوا عن الإيمان القلبي، وهذا من أسوأ الفهم، ولهذا اقتضى الأمر تبيين معنى كلام السلف على النحو الآتي في المبحث الثاني.
    يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: ''... ومن هذا الباب أقوال السلف وأئمة السنة في تفسير الإيمان، فتارة يقولون: هو قول وعمل ونية، وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية واتباع سنة، وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح.
    قال: وكل هذا صحيح، فإذا قالوا: قول وعمل، فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان جميعاً، وهذا هو المفهوم من لفظ القول والكلام ونحو ذلك إذا أطلق...''
    وذكر اختلاف الأقوال في مسمى الكلام، ثم قال: '' والمقصود هنا أن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل، أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح.
    ومن أراد الاعتقاد، رأى أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب.
    ومن قال: قول وعمل ونية، قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأمّا العمل فقد لا يفهم منه النيّة فزاد ذلك.
    ومن زاد اتباع السنة، فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السنة.
    وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال والأعمال، ولكن كان مقصودهم الرد على المرجئة الذين جعلوه قولاً فقط، فقالوا: بل هو قول وعمل.
    والذين جعلوه أربعة أقسام فسروا مراده، كما سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو؟ فقال: قول وعمل ونية وسنة، لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة ''
    4- من وضع بدل كلمة: قول كلمة: إقرار أو تصديق وعمل، أو نحو ذلك، وهذا أيضاً مما أساء المرجئة فهمه وتأولوه على مذهبهم، مع أن السلف لم يقصدوا المغايرة بين القول والإقرار، أو القول والتصديق، كما أن معنى الإقرار والتصديق عندهم يختلف عما قررته المرجئة وعلى ما يأتي تفصيله في المبحث الثاني، وما أكثر ما ضل المبتدعة بسبب عدم أخذ معاني اصطلاحات السلف من مصادرهم وكلامهم .
  2. معنى قول السلف: الإيمان قول وعمل

    المبحث الثاني معنى قول السلف: (الإيمان قول وعمل):-
    من الواضح لكل ذي عقل سليم أن معنى قول السلف: الإيمان قول وعمل هو: أنه التزام وتـنفيذ وإقرار واعتقاد وطاعة -بالقلب واللسان والجوارح- ولكن المرجئة باستخدامهم المتكلف لمنطق اليونان والفلسفة الأعجمية العجماء- فهموا أن هذه العبارة حد منطقي غير جامع ولا مانع، إذ لم يفهموا إلا أن القول هو ألفاظ اللسان والعمل حركات الجوارح، فاعترضوا على قول السلف -من هذا الوجه- بأنهم أهملوا إيمان القلب! وتبعهم في هذا بعض المتأخرين ممن تأثر بمنطق هؤلاء ومنهجهم في التفكير .
    وبعضهم ذهب به الخبث إلى التحايل على العبارة نفسها، فقالوا: صحيح أن الإيمان قول وعمل، ولكن من قال بلسانه: لا إله إلا الله- فقد عمل أما عمل الجوارح فليس من الإيمان فأخرجوا عبارة السلف عن معناها البدهي الفطري إلى هذا المعنى السقيم الساقط.
    ولهذا اقتضى الأمر إيضاح معنى كلام السلف بشيء من التفصيل، فنقول:
    إن الإيمان عند السلف حقيقة شرعية في غاية الوضوح، فهي ترادف وتساوي كلمة الدين، حتى إن كثيراً منهم كان نص عبارته: الدين قول وعمل، وليس في معنى الدين خفاء يحتاج معه أي مسلم إلى تكلفات منطقية وسفسطة كلامية، بل لم يكن هنالك حاجة إلى تعريفه أو بيان معناه أصلاً، وكيف يعرفون أمراً يعيشونه ويعملونه ويقرءون حقائقه كل حين.
    فلما ابتدعت المرجئة قولها: إن الإيمان قول فقط -متأثرة بالمنطق الغريب عن الإسلام والفطرة واللغة- أكذبَهم السلف وردوا دعواهم قائلين: بل هو قول وعمل، فمن ها هنا نشأت العبارة. فلا المرجئة الذين ابتدعوا ذلك -أول مرة- أرادوا ألفاظ اللسان المجردة عن إيمان القلب، ولا السلف الذين ردوا عليهم أرادوا ألفاظ اللسان وحركات الجوارح مجردة عن عمل إيمان القلب أيضاً.
    ولكن المعركة الجدلية المستمرة ودافع الهوى والشبهة وترك منطق الفطرة والبديهة إلى منطق اليونان؛ كل ذلك جعل المرجئة يتحايلون على الألفاظ، ويماحكون في المعاني لتصحيح نظريتهم.
    والحاصل: أن أعمال القلوب لم تكن موضع نزاع بين السلف وأصناف المرجئة المتقدمين، إلا فرقة شاذة هي فرقة الجهم بن صفوان ومن وافقه كـالصالحي، وهي فرقة كفرها السلف بهذا، وبمقالاتها الأخرى في الصفات والقدر , كما سنفصل الحديث عنها ضمن فرق المرجئة.
    وإنما أصبحت أعمال القلوب محل نزاع كبير بعد أن تبنى الأشاعرة مذهب جهم في الإيمان، وحصروه في عمل قلبي واحد وهو التصديق، ومال إليهم الماتريدية الذين كان أصل مذهبهم على إرجاء المتقدمين الحنفية، فحينئذٍ بعدت الشقة وعظمت الظاهرة حتى آل الأمر إلى أن تصبح عقيدة الإرجاء الجهمي هي عقيدة عامة الأمة في القرون الأخرى، وهذا ما سيأتي بسط الحديث عنه -بإذن الله- في الباب الخاص بالظاهرة وانتشارها.
    وهذا ما استدعى علماء السنة في عصر انتشار الظاهرة إلى إيضاح معنى قول السلف وبسط القول في أعمال القلوب وأهميتها، وهذا ما نفعله هنا نقلاً عنهم وإيضاحاً لكلامهم:
    يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: ''أجمع السلف أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ومعنى ذلك: أنه قول القلب وعمل القلب، ثم قول اللسان وعمل الجوارح.
    فأما قول القلب: فهو التصديق الجازم بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ويدخل فيه الإيمان بكل ما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    ثم الناس في هذا على أقسام:
    أ- منهم من صدق به جملةً ولم يعرف التفصيل.
    ب- ومنهم من صدق جملةً وتفصيلاً.
    ثم منهم من يدوم استحضاره وذكره لهذا التصديق -مجملاً أو مفصلاً- ومنهم من يغفل عنه ويذهل، ومنهم من استبصر فيه بما قذف الله في قلبه من النور والإيمان، ومنهم من جزم به لدليل قد تعترض فيه شبهة, أو تقليد جازم.
    قال: وهذا التصديق يتبعه عمل القلب، وهو حب الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعظيم الله ورسوله وتعزير الله ورسوله وتوقيره، وخشية الله والإنابة إليه والإخلاص له والتوكل عليه، إلى غير ذلك من الأحوال.
    فهذه الأعمال القلبية كلها من الإيمان، وهي مما يوجبها التصديق والاعتقاد إيجاب العلة المعلول.
    ويتبع الاعتقاد قول اللسان، ويتبع عمل القلب عمل الجوارح من الصلاة والزكاة والصوم والحج ونحو ذلك''.
    وقال بعد أن نقل عبارات السلف المذكورة في الفصل السابق: ''وليس بين هذه العبارات اختلاف معنوي، ولكن القول المطلق والعمل المطلق في كلام السلف يتناول قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، فقول اللسان بدون اعتقاد القلب هو قول المنافقين، وهذا لا يسمى قولاً إلا بالتقييد، كقوله تعالى: (( يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)) [الفتح:11] .
    وكذلك عمل الجوارح بدون أعمال القلوب هي من أعمال المنافقين التي لا يتقبلها الله.
    فقول السلف يتضمن القول والعمل الباطن والظاهر''.
    قال: ''وكذلك قول من قال: اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، جعل القول والعمل اسماً لما يظهر، فاحتاج أن يضم إلى ذلك اعتقاد القلب، ولا بد أن يدخل في قوله: اعتقاد القلب أعمال القلب المقارنة لتصديقه، مثل: حب الله وخشية الله، والتوكل على الله ونحو ذلك.
    فإن دخول أعمال القلب في الإيمان أولى من دخول أعمال الجوارح باتفاق الطوائف كلها''.
    وقد سبق ضمن كلامه الشبيه بهذا -في الفصل السابق- قوله: ''إن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل، أراد قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح''.
    وقوله: '' فإذا قالوا: قول وعمل، فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان جميعاً '' وعند هذه العبارة علق المحقق بقوله: وعلى هامش النسخة الهندية: وقول القلب هو إقراره ومعرفته وتصديقه، وعمله هو انقياده لما صدق به.
    ويقول الإمام ابن القيم: ''إن الإيمان قول وعمل، والقول قول القلب واللسان, والعمل عمل القلب والجوارح، وبيان ذلك أن من عرف الله بقلبه ولم يقر بلسانه لم يكن مؤمناً كما قال عن قوم فرعون: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ))[النمل:14].
    وكما قال عن قوم عاد وقوم صالح: ((وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ))[العنكبوت:38].
    وقال موسى لفرعون: ((قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ))[الإسراء:102].
    فهؤلاء حصلوا قول القلب -وهو المعرفة والعلم- ولم يكونوا بذلك مؤمنين، وكذلك من قال بلسانه ما ليس في قلبه لم يكن بذلك مؤمناً، بل كان من المنافقين.
    وكذلك: من عرف بقلبه وأقر بلسانه لم يكن بمجرد ذلك مؤمناً حتى يأتي بعمل القلب من الحب والبغض والموالاة والمعاداة، فيحب الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويوالي أولياء الله ويعادي أعداءه، ويستسلم بقلبه لله وحده، وينقاد لمتابعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطاعته والتزام شريعته ظاهراً وباطناً. وإذا فعل ذلك لم يكف في كمال إيمانه حتى يفعل ما أمر به، فهذه الأركان الأربعة هي أركان الإيمان التي قام عليها بناؤه''
    والحاصل أن السلف وعلماء أهل السنة والجماعة في كل عصر إنما يستخدمون في منهج التفكير المنطق الفطري البدهي الذي ينقسم عمل الإنسان بحسبه قسمين: ظاهر وباطن .
    فالباطن: قول القلب وعمله، والظاهر: قول اللسان وعمل الجوارح.
    فعلى هذا قالوا: الإيمان قول وعمل، أي: شامل للظاهر والباطن، لا سيما إذا ضممنا إلى ذلك ما هو معروف -بداهةً وفطرةً- من أن حقيقة الإنسان قسمان: قلب وأعضاء، وأعماله قسمان: أقوال وأفعال، فيكون أشمل عبارة أن يقال: قول وعمل بالقلب والأعضاء، وهذا هو مراد السلف قطعاً، وإنما اكتفوا عن آخر الجملة بأولها؛ لأن منهجهم الفطري في التفكير ومنهجهم البليغ في التعبير هو القصد إلى المطلوب بإيجاز دون العروج على ما هو معلوم بداهة.
    وبهذا يظهر أن عبارة قول وعمل على إيجازها جامعة مانعة، لا من جهة أنها حد منطقي -أي تعريف للماهية- ولكن من جهة أنها كشف عن الحقيقة وبيان لها.
    ولذلك فإنني -بعد طول تأمل- أختار هذه العبارة وأفضلها على عبارة: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان ونحوها، على أن تشرح بما أوضحنا آنفاً، ومن أسباب الاختيار:
    أنها المنقولة عن متقدمي السلف، مع إيجازها وشمولها.
    أن العبارة الأخرى لا تسلم أيضاً من الفهم الخطأ.
    فإن فهم بعض الناس -المرجئة وغيرهم- أن: (قول وعمل) تعني قول اللسان وعمل الجوارح دون قول القلب وعمله أمر تنكره البديهة وترده، ولكن العبارة الأخرى توقع في لبس قلَّ من يفطن له ولا يستطيع كل أحد رده، وهو أن هذه الثلاثة- أي الاعتقاد والقول والعمل- منفصلة بعضها عن بعض، بمعنى أن الطاعات -التي هي فروع الإيمان وشعبه- على ثلاثة أقسام: قسم قلبي، وقسم لساني، وقسم عملي وعلى هذا قد يفهم أنه يمكن أن يتحقق في الإنسان ركنان من ثلاثة بأن يتحقق لديه الاعتقاد والقول مع عدم العمل بالكلية، وهذا الذي جزم السلف باستحالة وقوعه.
    وبيان ذلك يتضح من خلال تأمل كلام أحد علماء السنة المحققين- وهو الحافظ ابن حجر -رحمه الله- وهو من هو علماً وفهماً وإحاطة بأقوال السلف، فانظر إليه حين يقول- شرحاً لترجمة البخاري، وهو قول وفعل يزيد وينقص: فأما القول فالمراد به النطق بالشهادتين، وأما العمل فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح ليدخل الاعتقادات والعبادات. ومراد من أدخل ذلك في تعريف الإيمان ومن نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى.
    فـالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان، وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله، ومن هنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقص كما سيأتي .
    والمرجئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط .
    والكرامية قالوا: هو نطق فقط .
    والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد، والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته، والسلف جعلوها شرطاً في كماله .
    وهذا كله كما قلنا بالنظر إلى ما عند الله تعالى، أما بالنظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم بكفره إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم.. الخ
    فقارئ كلامه يفهم منه التناقض بين تعريفي السلف في موضوع العمل، فإنه في التعريف الأول: قول وعمل يعتبر ركناً، في حين أنه حسب التعريف الأخير: اعتقاد وقول وعمل ليس إلا شرط كمال فقط.
    ويفهم منه -كذلك- أن الفرق بين المرجئة والسلف، أن السلف: زادوا على تعريف المرجئة العمل وجعلوه شرط كمال، وعليه فمن ترك العمل بالكلية فهو عند المرجئة مؤمن كامل الإيمان، وعند السلف مؤمن تارك لشرط الكمال فحسب.
    ويمكن أن نفهم منه أيضاً أن تعريف المرجئة والمعتزلة أوجه من تعريف السلف، لأن المرجئة عرفوه بركنين والمعتزلة بثلاثة والسلف عرفوه -حسب فهمه- بركنين وشرط كمال، والتعريفات إنما تذكر الأركان لا الشروط , فضلاً عن شروط الكمال.
    والأهم من هذا ما سبقت الإشارة إليه من توهم انفصال هذه الأجزاء الثلاثة، بحيث يتحقق الركنان: القول والاعتقاد مع انتفاء العمل بالكلية ولا يزيد صاحبه عن كونه ناقص الإيمان، مع أن السلف نصوا على أن تارك العمل بالكلية تارك لركن الإيمان، لأن انتفاء عمل الجوارح بالكلية لا يكون إلا مع انتفاء عمل القلب أيضاً، فلا يصح أن نقول: إنه حقق اعتقاد القلب وترك عمل الجوارح.
    وسيأتي إيضاح لهذا في باب: الحقيقة المركبة الآتي آخر الرسالة، والمقصود هنا تفضيل العبارة المذكورة، وبيان ما في الأخرى من إيهام لم يقصده قائلوها من السلف قطعاً، ولكن وقوعه لبعض المتأخرين يجعل عبارة الأكثرين هي الأولى بالأخذ والاتباع.
  3. معنى الإقرار والتصديق في كلام السلف

    ورد عن بعض السلف تفسير الإيمان بالتصديق، أو وصف الإيمان بأنه تصديق وعمل، أو إقرار وتصديق، ونحو ذلك ولما كانت المرجئة -وخاصة الأشاعرة- يفسرون الإيمان بأنه التصديق القلبي- على ما سنوضحه في بابه- وهم يعنون به مجرد التصديق الخبري الذهني، الذي هو نسبة الصدق إلى المخبر أو الخبر من غير إذعان ولا قبول، كما تقول لمن أخبرك: إن وراء البحر قارة تسمى أمريكا: صدقت، أو من قال: إن مساحة المربع = طول الضلع مضروباً في نفسه : صدقت، لما كانوا يرون ذلك ويعتقدونه، سرهم أن وجدوا في ظواهر بعض كلام السلف مثل تلك الألفاظ وأنزلوها على مذهبهم.
    ومن هنا وجب إيضاح معنى هذين اللفظين في استعمال السلف، فنقول: إن السلف الذين استعملوا هذين اللفظين لم يخرجوا عما ورد به الكتاب والسنة من معنى.
    1- فإن التصديق في الكتاب والسنة -بل وفي لغة العرب- ليس محصوراً في التصديق الخبري، وإنما ورد كذلك في التصديق العملي، أي: تصديق الخبر بالامتثال والدعوى بالعمل، فهو بمعنى التحقيق ومنه قوله تعالى: ((وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا))[الصافات:104-105].
    أي: قد امتثلت الأمر وحقيقته بإضجاعك ولدك وهمك بذبحه باستسلام وانقياد، فكأنه قد ذبحه فعلاً لأن المقصود هو عمل القلب وإسلام الوجه لله، وإلا فالله غني عن ذلك، قال تعالى: (( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ))[الحج: 37]
    وقريب من ذلك قوله تعالى: (( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ))[الزمر:32-33].
    فإن أحد معانيها- وهو الأظهر- أن الصدق هو شهادة أن لا إله إلا الله -أي: الإيمان- فهي التي كذب بها الكفار، ومن جاء بها من المؤمنين مصدقاً بها -أو مصدقاً بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهـو المتقي.
    كما فسّر مجاهد الصدق بأنه: القرآن، والذي صدّق به: المؤمنون، قال: [[أصحاب القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة، فيقولون: هذا ما أعطيتمونا، فعملنا بما أمرتمونا]].
    قال ابن كثير: ''وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين، فإن المؤمن يقول الحق ويعمل به''
    ومنه قوله تعالى: ((إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ))[الذاريات:5] أي: متحقق لا محالة، ومنه التحقيق: ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ))[الأحزاب:23] أي: وفوا به وحققوه عملاً.
    ومن ذلك آية: (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ))[البقرة:177] التي ورد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسّر الإيمان بها كما سبق، حيث قال تعالى في آخرها: (( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا )).
    قال ابن جرير في تفسيرها: '' يعني تعالى ذكره بقوله: (( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا )) من آمن بالله واليوم الآخر، ونعتهم النعت الذي نعتهم به في هذه الآية, يقول: فمن فعل هذه الأشياء، فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم وحققوا قولهم بأفعالهم'' ثم روى عن الربيع بن أنس أنه قال: [[أولئك الذين صدقوا فتكلموا بكلام الإيمان، فكانت حقيقته: العمل، صدقوا الله]].
    قال: "وكان الحسن يقول: هذا كلام الإيمان، وحقيقته العمل، فإن لم يكن مع القول عمل فلا شيء" .
    وقال ابن كثير: ''أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم، لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال فهؤلاء هم الذين صدقوا'' .
    وأما السنة: فقد صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} ودلالته على المراد ظاهرة.
    وأما كلام العرب فكثير, ومنه قول كثير عزة- وهو ممن يحتج بكلامه- يمدح أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز:
    وقلت فصدقت الذي قلت بالذي            عملت فأضحى راضياً كل مسلم
    وبهذا يتضح أن من قال من السلف: إن الإيمان تصديق وعمل فإنه يقصد التصديق الخبري المستلزم للإذعان والانقياد، فهي كعبارة: قول وعمل سواء.
    ومثل ذلك قول من قال: إقرار وعمل.
    ومن قال منهم: الإيمان هو التصديق، فمراده التصديق العملي المتضمن للتصديق الخبري العلمي، وهو احتراز ممن يكذب بعمله ما يدعيه بلسانه.
    فمن الخطأ أن يظن ظان أن مرادهم هو مجرد نسبة الصدق إلى المخبر أو ما أشبهه كالمعرفة المجردة أو العلم المجرد.
    وأما الإقرار فكذلك، حيث ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ))[آل عمران:81].
    وقد سبق القول بأن من أسباب ضلال المرجئة -وسائر الفرق- أنهم يرجعون في تفسير الحقائق الشرعية إلى كلام الناس -المحتج بهم وغيرهم- كاستدلالهم على أن الإيمان هو التصديق بأن الناس يقولون: فلان مؤمن بالبعث -أي: يصدق-.
    وكذلك قولهم في الإقرار -حيث حسبوا أن المراد به في كلام المتقدمين- هو المعروف في كتب الفقه في أبواب الإقرار والخصومات، والذي يعني الاعتراف أو تصديق دعوى الخصم.
    ولو أنهم رجعوا إلى الكتاب والسنة لوجدوا الأمر بخلاف ذلك، فإن لفظ الإقرار في هذه الآية يعني إنشاء الالتزام والإذعان، ولهذا ذكر شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية أن الإقرار على وجهين:
    أحدهما: الإخبار: وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق والشهادة ونحوها, وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار.
    والثاني: إنشاء الالتـزام: كما في قوله تعالى: (( أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ )) [آل عمران:81] وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد فإنه سبحانه قال: (( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي )) [آل عمران:81] فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...
    فالإقرار بالمعنى الأول يقابل الإنكار والجحود، وبالثاني يقابل الإباء والامتناع، كما أن الكفر منه كفر إنكار وجحود وكفر إباء وامتناع ككفر إبليس.
    وبهذا يظهر ضلال المرجئة في فهم ألفاظ النصوص ومصطلحات السلف، وإلا فلو رجعوا للكتاب والسنة، وعرفوا معنى الإقرار والتصديق فيهما، ثم فسروا الإيمان بهما على الوجه الصحيح، لما كان الخلاف بينهم وبين أهل السنة إلا لفظياً واختلاف الألفاظ وقع بين السلف كما سبق، ولكن ألفاظ المرجئة -في الحقيقة- إنما هي نتيجة لمنهجهم البدعي في التفكير والاستنباط والاستدلال.