إن من ميزات هذا الدين الكبرى أنه نزل بالحق والعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض: ((أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ))[الفرقان:6] وكلما ازداد البشر نظراً في الآيات الآفاقية والنفسية والقرآنية أبصروا من شواهد التطابق العجيب والتوافق الدقيق ما ينطق بأن هذا الدين هو الحق, وأن فاطر النظام الكوني ومنزل الوحي الديني واحد لا شريك له.
فالنظر السليم لا يرى في خلق الرحمن من تفاوت ولا يرى في وحي الرحمن من اختلاف , لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا, ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً.
والنفس الإنسانية هي موضوع الوحي كتاباً وسنة والمخاطب به، فما نزلت الكتب وأرسلت الرسل إلا لهذا الإنسان -الذي لم يكن شيئاً مذكوراً- بياناً لغاية خلقه وحكمة وجـوده وتزكية لنفسه, وهداية إلى طريق الحق والصلاح، وتحـذيراً من سبل الضلال والفساد, وتعريفاً له بصفات معبوده تعالى -الذي معرفته أشرف أنواع العلوم والمعارف وأعظمها أثراً في صلاح الإنسان- وإخباراً له بمصيره إن أطاع أو عصى.
فالدين دين الله والنفس خلق الله, والله تعالى أحكم الحاكمين وهو الغني الحميد , فلهذا لم يشرع لها من الدين إلا ما يتفق وطبعها ويتناسق وحقيقتها، ويملأ كل جوانبها، ويشبع كل رغباتها, لكن في حدود مقدرة وضوابط مقررة تحفظ لهذا الإنسان سعادته وتكفل صلاحه, ولا يعود ضرر تجاوزها إلا عليه وحده, قال تعالى: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ))[الروم:30].
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما من مولود إلا ويولد على الفطرة, فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه}.
ولهذا كانت معرفة النفس الإنسانية كما هي في القرآن والسنة من أجلى الأدلة كشفاً عن حقيقة الإيمان الشرعية، ومما يؤكد ذلك أنه يتفق مع منهج الوحي في الاستدلال والمناظرة , ذلك المنهج الفطري الذي يخاطب البديهة بوضوح وتيسير بعيداً عن الخوض في القضايا الذهنية المعقدة.
فمعرفة الحقيقة النفسية لا تحتاج إلى عناء في الاستدلال والفهم, بل تقوم على بدهيات مسلمة يحسها كل إنسان من نفسه -مؤمناً أو كافراً- ولا ينكرها إلا مكابر مغالط, ومن هنا كثر الاستدلال على التوحيد بما في حقيقة الإنسان من صفات كالعجز والجهل والضعف والافتقار, وهي من أقوى طرق الاسـتدلال وأجلاها لكل ذي لب.
ويتبع ذلك الاستدلال على ضرورة الاستقامة على دين الله واتباع شرعه بما في النفس البشرية من صفات: كالظلم، والجهل، والطمع، والشح، والهلع، والكبر، وحب الخصام , والإقرار وقت الشدة بما تنكره حال الرخاء!!
وانطلاقاً من حقيقة مسلمة في التصور الإسلامي عامة، وهي: أن الوحي إنما نزل لتزكية النفس الإنسانية وتقويم عملها؛ ابتداءً من إصلاح الخواطر والإرادات, وانتهاءً بإصلاح الأعمال والحركات, رأيت أن أعرض حقيقة هذه النفس وطبيعة عملها توصلاً بذلك إلى تحويل حقيقة الإيمان الشرعية من مسألة جدلية إلى قضية مسلمة بدهية كتلك؛ أي: إنني سأحاول -ما أقدرني الله عليه- إيضاح العلاقة التطابقية بين الحقيقة البدهية للنفس البشرية وبين المفهوم الصحيح للعبادة؛ ليظهر أي التصورين الصادق المصيب؛ التصور السلفي أم التصور الإرجائي؟
إن الناظر لحقيقة النفس الإنسانية وطبيعة عملها في الكتاب والسنة وأقوال العلماء الربانيين المستمدة منهما , يجد أن ذلك يقوم على قضايا بدهية يأخذ بعضها برقاب بعض:
*والقضية الأولى: أن كل إنسان عامل.
يقول تعالى: (( يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ))[الإنشقاق:6].
أي: يا أيها الإنسان إنك عامل إلى ربك عملاً فملاقيه به , خيراً كان عملك ذلك أو شراً , يقول: فليكن عملك مما ينجيك من سخطه ويوجب لك رضاه , ولا يكن مما يسخطه عليك فتهلك.
قال قتادة: ''إن كدحك يابن آدم لضعيف , فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل ولا قوة إلا بالله'' ويدل لذلك قوله تعالى: ((لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ))[البلد:4].
على المعنى الظاهر المختار في تفسيرها وعلى هذا جاء الحديث الصحيح: { كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها } والحديث الصحيح: {أصدق الأسماء حارث وهمام}.
فالغدو وبيع النفس عمل مشترك لكل حي، وإنما الفارق أن المطيع يعتق والعاصي يوبق.
وكل إنسان لا يخلو من الحرث والهم , أي: العمل والإرادة، فالتسمية بحارث وهمام وصف للطبيعة البشرية على ما هي عليه دون اقتضاء مدح أو ذم للمسمى، ولهذا كانا أصدق الأسماء.
و بدهي أن العمل هو أثر النية والإرادة، فكلُّ يعمل وفق ما يعتقد ويرى؛ قال تعالى:
((قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً))[الإسراء:84]
فهذا إخبار بأن كل إنسان يعمل على شاكلته قال ابن عباس: [[على ناحيته]] .
وقال مجاهد: [[على حدته وطبيعته]].
وقال قتادة: [[على نيته]].
وقال ابن زيد: [[على دينه]] ومؤدى هذه الأقوال واحد.
والمقصود أن الصلة بين الإيمان وبين العمل كالصلة بين العمل والحياة، فالإنسان بمقتضى كونه حياً حساساً هو كادح مكابد؛ أي: عامل دائب العمل , وأساس العمل هو الفكر والإرادة , ومعلوم أن الإنسان لا يخلو قط من الفكر والإرادة، وأنه لا بد لها من متعلق ما وأثر ما في القلب والجوارح , وليست حقيقة العمل إلا هذا.
فإن لم يكن للفكر والهم والإرادة أثر يوافقها، أو نتيجة تطابقها، أو مظهر يصدقها لم تكن فكرة ولا إرادة على الحقيقة , وإنما هي عارض من عوارض الخاطر وعليه لا يصح أن تسمى إيماناً أو اعتقاداً.
وعلى قدر صدق الفكرة وقوة الإرادة يكون تحقق العمل في الخارج إن خيراً وإن شراً , فما يظهر على الجوارح هو الجزء الخارجي من الحقيقة الإنسانية المركبة، ومن عملي القلب والجوارح تركيباً مزجياً عضوياً, كالسفينة التي أسفلها تحت سطح الماء وأعلاها فوقه، وهذا ما يطابق تماماً الحقيقة المركبة للإيمان الشرعي.
يصدق هذا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} فهذا مع دلالته على الارتباط العضوي بين الإرادة والعمل يؤكد مهمة الدين التي هي إصلاح الأصل ليصلح الفرع والأثر .
وهذه العبارة النبوية أبلغ من العبارة التي قالها أبو هريرة رضي الله عنه وهي: [[ القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده! ]] لأن العلاقة بين القلب والأعضاء أقوى منها بين الملك والجنود، لا سيما والكلام في مورد الحديث عن الإيمان, وأصل محل الإيمان القلب, ويسري في الجوارح بحسب قوته في الأصل كالطاقة في الآلة، والملك قد يفسد وبعض جنده صالح وبالعكس بخلاف القلب؛ فإن الجسد تابع له لا يخرج عن إرادته ولا يتحرك بدونه.
فكلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كشف لعين الحقيقة , وكلام الصحابي رضي الله عنه تقريب وتمثيل.
هذا وقد أنزل الله تعالى الكتب وأرسل الرسل لتدعو هذا الإنسان الكادح بطبعه العامل -بمقتضى حياته- أن يكون كدحه -أي: عمل قلبه وجوارحه- على ما شرع له الله، أي وفق الغاية التي خلقه لأجلها: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ))[الذاريات:56].
فإن لم يجب داعي الله ويؤمن برسالاته فإن عمله ينصرف قطعا إلى ضد ذلك , أي: أنه إن لم يكن عابداً لله فإنه عابد للشيطان لا محالة: ((أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ))[يس:60-61].
وهذا هو مفترق الطريق بين شطري الجماعة الإنسانية "المؤمنين والكافرين".
وذلك أن حكمة الله تعالى في خلق الإنسان اقتضت أن يكون أمام الإنسان طريقان مختلفان: طريق الكفر وطريق الإيمان, وأن يسير في أيهما شاء ابتلاءً له وامتحاناً: ((وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ))[الكهف:29].
وكان مقتضى ذلك أن جعل للنفس البشرية في حركتها الجبلِّية الدائبة مصدرين متنافرين يمدانها بالطاقة والحركة بين حين وآخر- هما:
1- ذكر الله بالمعنى الشامل له, ومنه تدبر القرآن والتفكر في المخلوقات والآلاء والعلم النافع، وكل ما من شأنه أن يزكيها ويوقظها ويصلح خلجاتها وخواطرها، وما يقذفه الملك فيها من تصديق بالحق وإيعاد بالخير.
2- وسوسة الشيطان الذي يعبث بها ويغرها ويلهيها ويزين لها ويمكر بها، ويقذف فيها التكذيب بالحق والإيعاد بالشر.
فللملك لمة وللشيطان لمة. والنفس كالرحى الدائرة؛ إما أن تستمد وقودها وطحينها من هذا أو من هذا ولا تقف عن العمل قط.
وهذه القضية وما يترتب عليها من قضايا تحدث عنها علماء الإسلام الربانيون , متخذينها منطلقا لإيضاح حقائق كبرى في معاملات القلوب مع الله تعالى وأسلوب تزكيتها.
يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله إيضاحاً لحديث ابن مسعود: '' {إن للملك لمة وللشيطان لمة..} هذا الكلام الذي قاله ابن مسعود هو محفوظ عنه , وربما رفعه بعضهم إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وهو كلام جامع لأصول ما يكون من العبد من علم وعمل، من شعور وإرادة.
وذلك أن العبد له قوة الشعور والإحساس والإدراك وقوة الإرادة والحركة , وإحداهما أصل الثانية مستلزمة لها , والثانية مستلزمة للأولى ومكملة لها , فهو بالأولى يصدق بالحق ويكذب بالباطل , وبالثانية يحب النافع الملائم له ويبغض الضار المنافي له، والله سبحانه خلق عباده على الفطرة التي فيها معرفة الحق والتصديق به ومعرفة الباطل والتكذيب به، ومعرفة النافع الملائم والمحبة له، ومعرفة الضار المنافي والبغض له بالفطرة.
فما كان حقاً موجوداً صدقت به الفطرة -يعني: من العلوم- وما كان حقاً نافعاً عرفته الفطرة واطمأنت إليه وذلك هو المعروف, وما كان باطلاً معدوماً كذبت به الفطرة فأبغضته فأنكرته, قال تعالى: ((يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ))[الأعراف:157].
والإنسان كما سماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: {أصدق الأسماء حارث وهمام} فهو دائماً يهمُّ ويعمل, لكنه لا يعمل إلا ما يرجو نفعه أو دفع مضرته, ولكن قد يكون ذلك الرجاء مبنياً على اعتقاد باطل, إما في نفس المقصود فلا يكون نافعاً ولا ضاراً, وإما في الوسيلة فلا تكون طريقاً إليه وهذا جهل، وقد يعلم أن هذا الشيء يضره ويفعله, ويعلم أنه ينفعه ويتركه؛ لأن ذلك العلم عارضه ما في نفسه من طلب لذة أخرى أو دفع ألم آخر جاهلاً ظالماً حيث قدم هذا على ذاك.
و إذا كان الإنسان لا يتحرك إلا راجياً , فالرجاء لا يكون إلا بما يلقى في نفسه من الإيعاد بالخير الذي هو طلب المحبوب أو فوات المكروه، فكل بني آدم له اعتقاد؛ فيه تصديق بشيء وتكذيب بشيء , وله قصد وإرادة لما يرجوه مما هو عنده محبوب ممكن الوصول إليه , أو لوجود المحبوب عنده , أو لدفع المكروه عنه.
والله خلق العبد يقصد الخير فيرجوه بعمله, فإذا كذَّب بالحق فلم يصدق به, ولم يرج الخير فيقصده ويعمل له كان خاسراً بترك تصديق الحق وطلب الخير, فكيف إذا كذب بالحق وكره إرادة الخير؟
فكيف إذا صدق بالباطل وأراد الشر؟
فذكر عبد الله بن مسعود أن لقلب ابن آدم لمة من الملك ولمة من الشيطان, فلمة الملك تصديق بالحق وهو ما كان من جنس من غير جنس الاعتقاد الفاسد, ولمة الشيطان هو تكذيب بالحق وإيعاد بالشر, وهو ما كان من جنس إرادة الشر وظن وجوده: إما مع رجائه إن كان مع هوى نفس, وإما مع خوفه إن كان غير محبوب لها -وكل من الرجاء والخوف مستلزم للآخر.
فمبدأ العلم الحق والإرادة الصالحة من لمة الملك, ومبدأ الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة من لمة الشيطان ''
وعن هذه أو تلك تصدر الأعمال -خيرها وشرها- التي لا يخلو منها بشر قط.
ومن جليل الاستنباط أن شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وتلميذه شَيْخ الإِسْلامِ ابن القيم استخرجا هذه الحقيقة من سورة الفاتحة , وكررا ذلك في كثير من تآليفهما النافعة فكشفا بذلك عن طرف من سر الحكمة الربانية في قراءة هذه السورة في كل ركعة , فكل مسلم لا بد أن يتلوها سبع عشرة مرة في اليوم على الأقل .
يقول ابن القيم رحمه الله: ''لما كان في القلب قوتان: قوة العلم والتمييز, وقوة الإرادة والحب, كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بصلاحه وسعادته، فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل, وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل, فمن لم يعرف الحق فهو ضال, ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه، ومن عرفه واتبعه فهو منعم عليه.
وقد أمرنا الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، ولهذا كان النصارى أخص بالضلال لأنهم أمة جهل, واليهود أخص بالغضب لأنهم أمة عناد, وهذه الأمة هم المنعم عليهم, ولهذا قال سفيان بن عيينة: من فسد من عبّادنا ففيه شبه من النصارى, ومن فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود '' .
ثم ذكر بعض الشواهد النقلية وقال: وهذا المعنى في القرآن في مواضع كثيرة؛ يخبر سبحانه أن أهل السعادة هم الذين عرفوا الحق واتبعوه, وأن أهل الشقاوة هم الذين جهلوا الحق وضلوا عنه أو علموه وخالفوه واتبعوا غيره، ويختم الموضوع قائلا: ''وينبغي أن تعرف أن هاتين القوتين لا تتعطلان في القلب, بل إن استعمل قوته العلمية في معرفة الحق وإدراكه وإلا استعملها في معرفة ما يليق به ويناسبه من الباطل.
وإن استعمل قوته الإرادية العملية في العمل به وإلا استعملها في ضده , فالإنسان حارث همام بالطبع كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أصدق الأسماء حارث وهمام}.
فالحارث: الكاسب العامل, والهمام: المريد, فإن النفس متحركة بالإرادة, وحركتها الإرادية لها من لوازم ذاتها, والإرادة تستلزم مراداً يكون متصوراً لها متميزاً عندها, فإن لم تتصور الحق وتطلبه وتريده تصورت الباطل وطلبته وأرادته ولا بد....'' .
فإذا تبين لنا هذا الجانب عن النفس الإنسانية وأنها في حركة لاهثة مستمرة ما بقيت حية , فمن الضروري معرفة شيء من تفصيل حركتها وعلاقة ذلك بالمظهر الخارجي للحركة "العمل", وبمصدر الطاقة المستمر "الملك أو الشيطان", وبالدافع والغرض للحركة "تحصيل النافع الملائم ودفع الضار المنافر".
وكل هذا جاء مفصلاً في كلام شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله مستنبطاً من نصوص الوحي .
ونظل مع ابن القيم في تقرير هذه الحقيقة -ولا نقول النظرية- ثم نعود لشيخه الذي عرضها مراراً من خلال التقرير الأهم, وهو تقرير شمول العبودية وضرورتها لكل حي, والربط بين هاتين الحقيقتين الكبريين:
1- حقيقة الحركة الدائمة للنفس الإنسانية.
2- حقيقة شمول العبودية لكل خاطرة وهم وعزم وهمس وفعل من تلك الحركة.
يقول ابن القيم: ''مبدأ كل علم نظري، وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار؛ فإنها توجب التصورات, والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة.
واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر، فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر، فيأخذها التذكر فيؤديها إلى الإرادة؛ فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة، فردها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها.
ومعلوم أنه لم يعط الإنسان إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها فإنها تهجم عليه هجوم النفس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له، وعلى رفع أقبحها وكراهته له ونفرته منه , كما قال الصحابة: { يا رسول الله! إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة أحب إليه من أن يتكلم به؟ فقال: أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان } ''.
وفي لفظ: { الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة } .
وقد خلق الله النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه، فإن وضع فيها حب طحنته, وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته؛ فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى, ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط بل لابد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حبا يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره. وأكثرهم يطحن رملاً وحصىً وتبناً ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينه.
واعتماداً على ما تقرر يصف ابن القيم ما ينبغي للمؤمن إزاء هذا فيقول: ''فإذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده، وإن قبلته صار فكراً جوالاً...''
'' ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار , وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات , وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد.
فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك، فالفكر فيما لا يعني باب كل شر.
ومن فكَّر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه , واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه.
فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه من نفسك، فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب من إلهك ومعبودك الذي لا سعادة لك إلا في قربه ورضاه عنك، وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك.
ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئاً خسيساً لم يكن في سائر أمره إلا كذلك.
وإياك أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك، فإنه يفسدها عليك فساداً يصعب تداركه, ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة, ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك، فمثالك معه مثال صاحب رحى يطحن فيها جيد الحبوب, فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونته، فإن طرده ولم يمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه , وإن مكنه في إلقاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب وخرج الطحين كله فاسداً.
والذي يلقيه الشيطان في النفس لا يخرج عن الفكر فيما كان ودخل في الوجود لو كان على خلاف ذلك.
وفيما لم يكن لو كان كيف كان يكون.
أو فيما يهلك الفكر فيه من أنواع الفواحش والحرام.
أو في خيالات وهمية لا حقيقة لها.
وإما في باطل أو فيما لا سبيل إلى إدراكه من أنواع ما طوي عنه علمه؛ فيلقيه في تلك الخواطر التي لا يبلغ منها غاية, ولا يفق منها على نهاية فيجعل ذلك مجال فكره ومسرح وهمه.
وجماع إصلاح ذلك أن تشغل فكرك في باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه، وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة والنار، وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها , وفي باب الإرادات والعزوم أن تشغل نفسك بإرادة ما ينفعك إرادته، وطرح ما يضرك إرادته '' .
وتبياناً لأهمية الإرادة والفكر وكونها مبدأ عمل القلب وعمل الجوارح، ننتقل إلى موضع آخر من كلامه توسع فيه في بيان حقيقة مهمة يمكن أن توجز في أن: كل إنسان مفكر وكل مفكر عامل، بياناً لتضاد الأفكار وتعاقبها بما يخرج الإنسان عن أن يكون تمثالاً تُحفر فيه الكلمة فتبقى ما بقي.
ثم يعود السياق فينتظم بقية كلامه هنا , يقول: '' أصل الخير والشر من قبل التفكير، فإن الفكر مبدأ الإرادة والطلب في الرغبة والترك والحب والبغض.
وأنفع الفكر: الفكر في مصالح المعاد وفي طرق اجتلابها، وفي دفع مفاسد المعاد وفي طرق اجتنابها.
فهذه أربعة أفكار هي أجلُّ الأفكار، ويليها أربعة:
فكر في مصالح الدنيا وطرق تحصيلها , وفكر في مفاسد الدنيا وطرق الاحتراز منها.
فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء.
ورأس القسم الأول: الفكر في آلاء الله ونعمه وأمره ونهيه، وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسنة نبيه وما والاهما.
وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة , فإذا فكَّر في الآخرة وشرفها ودوامها وفي الدنيا وخستها وفنائها، أثمر له ذلك الرغبة في الجد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام الوقت.
وهذه الأفكار تعلي همته وتحييها بعد موتها وسفولها وتجعله في واد والناس في واد.
و بإزاء هذه الأفكار: الأفكار الرديئة التي تجول في قلوب أكثر هذا الخلق؛ كالفكر فيما لا يكلف الفكر فيه ولا أعطي الإحاطة به من فضول العلم الذي لا ينفع, كالفكر في كيفية ذات الرب وصفاته مما لا سبيل للعقول إلى إدراكه.
ومنها: الفكر في الصناعات الدقيقة التي لا تنفع بل تضر؛ كالفكر في الشطرنج والموسيقى وأنواع الأشكال والتصاوير.
ومنها: الفكر في العلوم التي لو كانت صحيحة لم يعط الفكر فيها النفس كمالاً ولا شرفاً , كالفكر في دقائق المنطق , والعلم الرياضي والطبيعي , وآكده علوم الفلاسفة التي لو بلغ الإنسان غايتها لم يكمل بذلك ولم يزك نفسه.
ومنها: الفكر في الشهوات واللذات وطرق تحصيلها , وهذا وإن كان للنفس فيه لذة لا عاقبة له , ومضرته في عاقبة الدنيا قبل الآخرة أضعاف مسرته.
ومنها: الفكر فيما لم يكن لو كان كيف كان , كالفكر فيما إذا صار ملكاً أو وجد كنزاً أو ملك ضيعة ماذا يصنع وكيف يتصرف، ويأخذ ويعطي وينتقم ونحو ذلك من أفكار السفّّل .
ومنها: الفكر في جزئيات أحوال الناس ومداخلهم ومخارجهم , وتوابع ذلك من فكر النفوس المبطلة الفارغة من الله ورسوله والدار الآخرة.
ومنها: الفكر في دقائق الحيل والمكر التي يتوسط بها إلى أغراضه وهواه مباحة كانت أو محرمة.
ومنها: الفكر في أنواع الشعر وصروفه وأفانينه في المدح والهجاء والغزل والمراثي ونحوها، فإنه يشغل الإنسان عن الفكر فيما فيه سعادته وحياته الدائمة.
ومنها: الفكر في المقدرات الذهنية التي لا وجود لها في الخارج ولا بالناس حاجة إليها ألبتة، وذلك موجود في كل علم حتى في علم الفقه والأصول والطب.
فكل هذه الأفكار مضرتها أرجح من منفعتها , ويكفي في مضرتها شغلها عن الفكر فيما هو أدنى به وأعود عليه بالنفع عاجلاً أو آجلاً '' .
وبعد هذه اللفتات التزكوية القيمة نعود لاستكمال الحديث عن تلك الحقيقة الكبرى:
''وبالجملة فالقلب لا يخلو قط من الفكر، إما في واجب آخرته ومصالحها، وإما في مصالح دنياه ومعاشه، وإما في الوساوس والأماني الباطلة والمقدرات المفروضة، وقد تقدم أن النفس مثلها كمثل الرحى تدور بما يلقى فيها، فإن ألقيت فيها حباً دارت به، وإن ألقيت فيها زجاجاً وحصى وبعراً دارت به، والله سبحانه هو قيم تلك الرحى ومالكها ومتصرفها, وقد أقام لها ملكاً يلقي فيها ما ينفعها فتدور به، وشيطاناً يلقي فيها ما يضرها فتدور به، فالملك يُلم بها مرةً والشيطان يلم بها مرةً، فالحب الذي يلقيه الملك إيعاد بالخير وتصديق بالوعد, والحب الذي يلقيه الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالوعد، والطحين على قدر الحب، وصاحب الحب المضر لا يتمكن من إلقائه إلا إذا وجد الرحى فارغة من الحب النافع...'' .
وعن القضية نفسها ومن الزاوية التي أشرنا إليها يتحدث شيخه شَيْخ الإِسْلامِ، فيقول: ''كل من استكبر عن عبادة الله لابد أن يعبد غيره'' .
وهذا أصل عظيم من أصول التصور السلفي يشرحه مرتبطاً بحقيقة النفس الإنسانية قائلاً: ''فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة, وقد ثبت في الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {أصدق الأسماء حارث وهمام}.
فالحارث الكاسب الفاعل، والهمام فعال، من الهم، والهم أول الإرادة، فالإنسان له إرادة دائماً, وكل إرادة فلابد لها من مراد تنتهي إليه، فلابد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته.
فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته، بل استكبر عن ذلك فلابد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله، فيكون عبداً لذلك المراد المحبوب؛ إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتخذه إلهاً من دون الله, كالشمس والقمر والكواكب والأوثان وقبور الأنبياء والصالحين، أو من الملائكة والأنبياء الذين يتخذهم أرباباً أو غير ذلك مما عبد من دون الله'' .
وكما أن أحداً لا يخلو من كفر أو إيمان، فكذلك الحال في تفصيلات الإيمان وشعبه، فإن الله شرع للنفس من التعبد ما يستغرق كل حركاتها وإراداتها، فما لم تتعبد بشيء منها وقعت لا محالة في ضده من البدعة أو المعصية، وأقل ما تقع فيه ترك الأولى واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير والغفلة عن الذكر.
'' وهكذا أهل البدع لا تجد أحداً ترك بعض السنة التي يجب التصديق بها والعمل إلا وقع في بدعة، ولا تجد صاحب بدعة إلا ترك شيئاً من السنة, كما جاء في الحديث: {ما ابتدع قوم بدعة إلا تركوا من السنة مثلها} رواه الإمام أحمد.
وقد قال تعالى: ((فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ))[المائدة:14].
فلما تركوا حظاً مما ذكروا به اعتاضوا بغيره فوقعت بينهم العداوة والبغضاء.
وقال تعالى: ((فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى))[طه:123-124].
وقال: (( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ))[الأعراف:3].
فأمر باتباع ما أنزل ونهى عما يضاد ذلك وهو اتباع أولياء من دونه, فمن لم يتبع أحدها اتبع الآخر، ولهذا قال: ((وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ))[النساء:115].
قال العلماء: من لم يكن متبعاً سبيلهم كان متبعاً غير سبيلهم. فاستدلوا بذلك على أن اتباع سبيلهم واجب، فليس لأحد أن يخرج عما أجمعوا عليه.
وكذلك من لم يفعل المأمور فعل المحظور, ومن فعل المحظور لم يفعل جميع الأمور، فلا يمكن الإنسان أن يفعل جميع ما أمر به مع فعله لبعض ما حظر, ولا يمكنه ترك كل ما حظر مع تركه لبعض ما أمر، فإن ترك ما حظر عليه من جملة ما أمر به فهو مأمور ومن المحظور ترك المأمور، فكل ما شغله عن الواجب فهو محرم, وكل ما لا يمكن فعل الواجب إلا به فعليه فعله '' .
وكالشرح لهذا الكلام يتحدث الإمام ابن القيم بأسلوبه الأدبي فيقول: '' قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات.
فإذا كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقاداً ومحبةً لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع. كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه إلا إذا فرغ لسانه من النطق بالباطل.
وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة، لم يكن يشغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها.
وكذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشوق إليه والأنس به , لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه إلا بتفريغه من تعلقه بغيره , ولا حركة اللسان بذكره والجوارح بخدمته إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته، فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق والعلوم التي لا تنفع , لم يبق فيها موضع للشغل بالله ومعرفة أسمائه وصفاته وأحكامه، وسر ذلك أن إصغاء القلب كإصغاء الأذن؛ فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه إصغاء ولا فهم لحديثه، كما إذا مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميل إلى محبته.
فإذا نطق القلب بغير ذكره لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان.
ولهذا في الحديث الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً} فبين أن الجوف يمتلئ بالشعر، فكذلك يمتلئ بالشبه والشكوك والخيالات والتقديرات التي لا وجود لها والعلوم التي لا تنفع والمفاكهات والحكايات ونحوها.
وإذا امتلأ القلب بذلك جاءته حقائق القرآن والعلم الذي به كماله وسعادته، فلم تجد فيه فراغاً ولا قبولاً، فتعدته وجاوزته إلى محل سواه....'' .
وليس تعليل هذا مما يشكل، بل هو واضح لمن تأمله، وبه يظهر خطر البدع -التي هي وضع غير إلهي لطريق العبودية- أي: صرف للحرث والهمِّ عما شرعه الله إلى ما شرعه غيره.
على أن الذي يهمنا هنا هو أن وقوع البدع الذي لم يخلُ منه دين قط هو في ذاته دليل على عدم انفكاك العبودية عن الإنسان؛ فإنه إن لم يتعبد متبعاً تعبد مبتدعاً.
ومما يبين ذلك أن ''الشرائع هي غذاء القلوب وقوتها كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ويروى مرفوعا: [[إن كل آدب يجب أن تؤتى مأدبته، وإن مأدبة الله هي القرآن]].
ومن شأن الجسد إذا كان جائعاً فأخذ من طعام حاجته استغنى عن طعام آخر حتى لا يأكله -إن أكل منه- إلا بكراهة وتجشم، وربما ضره أكله أو لم ينتفع به، ولم يكن هو المغذي الذي يقيم بدنه.
فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته، قلت رغبته في المشروع وانتفاعه به بقدر ما اعتاض من غيره، بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع فإنه تعظم محبته له ومنفعته به ويتم دينه ويكمل إسلامه.
ولهذا تجد مَنْ أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن حتى ربما يكرهه، ومن أكثر السفر إلى زيارة المشاهد ونحوها لا يبقى لحج البيت المحرم في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة، ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع، ومن أدمن على قصص الملوك وسيرهم لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام. ونظائر هذه كثيرة.
ولهذا جاء في الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها} رواه الإمام أحمد.
وهذا أمر يجده في نفسه من نظر في حاله من العلماء والعباد والأمراء والعامة وغيرهم.
ولهذا عظَّمت الشريعة النكير على من أحدث البدع وحذرت منها؛ لأن البدع لو خرج الرجل منها كفافاً -لا عليه ولا له- لكان الأمر خفيفاً، بل لابد أن توجب له فساداً في قلبه ودينه ينشأ من نقص منفعة الشريعة في حقه؛ إذ القلب لا يتسع للعوض والمعوض عنه....'' .
وعند مثل هذا الموضوع يلتقي مفهوم العبادة الشامل مع مفهوم زيادة الإيمان ونقصانه، وهما أصلان من أصول التصور السلفي المنسجم تماماً مع حقيقة النفس الإنسانية كما تقرر.
ونستطيع الآن -مع وضوح هذه الحقائق- أن نضيف إلى القضية السابقة- وهي: كل إنسان مفكر , وكل مفكر عامل -عنصراً ثالثاً تكتمل به القضية وهو: وكل عامل عابد.
لنخلص إلى المفهوم السلفي الواضح عن ارتباط الحقيقة البشرية المتمثلة في طبيعة النفس الإنسانية كما خلقها الله، بالحقيقة الشرعية المتمثلة في خضوع الإنسان بكل جوانبه النفسية والعملية لعبودية الله وحده.
وكون كل عامل عابداً- أي: كل إنسان عابدٍ -مع بداهتها- ليست موضع تسليم من التصور الإرجائي الذي لا يخلو من جهل بالحق أو إعراض عنه...
بل هي قضية غريبة، وأكثر ما تبدو غرابتها في عصرنا الحاضر- عصر الإلحاد والتمرد على الأديان بالجملة والتفلت من العبوديات كلها -كما يتوهمه أكثر أهله- فهناك دول كثيرة تنص دساتيرها بصراحة أنها دول لا دينية, وبعضها ألغى خانة الدين من البطاقة الشخصية لمواطنيها، وأكثر هؤلاء المواطنين- لا سيما في أوروبا وأمريكا فضلاً عن الدول الشيوعية- لو سألت أياً منهم ماذا تعبد؟ لأجابك بداهة أنه لا يعبد شيئاً لأنه إنسان لا ديني!
هذا التيار العالمي الكبير أضاف إلى التصور الإرجائي الشائع أصلاً بين المسلمين قوةً وتعميماً حتى غدا وكأنما هو من المسلمات الواضحة.
وهو التصور الذي يفترض أن الناس قسمان: عابد، وغير عابد.
والأول: العابد, يشمل المنتمين إلى الأديان ولا سيما الإسلام.
والآخر: يشمل الدول -أو الأفراد- اللادينية.
ثم إن العابدين -حسب هذا التصور- ينقسمون قسمين:
1- مؤمن بقلبه عامل بجوارحه.
2- مؤمن بقلبه غير عامل بجوارحه.
وهذا التقسيم منطقي مع حقيقة الإيمان -كما يتخيلونها- وهي أنه مادة جامدة معزولة في ضمير صاحبها لا تزيد ولا تنقص ولا تقتضي أثراً ولا تستدعي متعلقاً.
فهذا الإيمان المتوهم مفقود عند كثير من الناس وهم الصنف غير العابد، وموجود عند الصنف العابد في الحالتين: حالة العمل، وحالة عدمه.
واستكمالاً للحقيقة الكلية السابقة, ورداً على هذا الزعم الخطأ -أعني زعم وجود إنسان غير عابد- نلقي مزيداً من الضوء على حقيقة النفس الإنسانية من جهة الدوافع التي تحركها للعمل والتي لا تخلو منها نفس قط، وكيف أن لهذه الحركة بالضرورة غاية تسعى إليها، وأن الطريق إلى هذه الغاية لا يكون إلى على قنطرة أعمال القلوب من الخوف والرجاء والحب والكره ونحوها مما يجعله في محصلته النهائية والحقيقية عبادة مهما كابر بعض بني آدم فيها, فهم عابدون حقيقة وجوهراً وإن أنكروا العبودية لفظاً ومصطلحاً.
ثم نبين -بإذن الله- علاقة العمل الخارجي بما في النفس من الدوافع والغايات مما يظهر به استحالة الشطر الثاني من الفرض الذهني الذي تخيله المرجئة؛ وهو وجود مؤمن غير عامل.
إن قضية الدوافع -ولازمها الفطري وهو الضوابط- لتعود إلى خاصية أخرى من خصائص النفس البشرية -عدا ما سبق تقريره من خاصية: "الحركة الدائمة حرثاً وهماً"- وهذه الخاصية الأخرى هي: الافتقار الذاتي إلى تحصيل النافع والملائم ودفع الضار والمنافر. وبيان ذلك أن كل إنسان -بل كل كائن حي- إنما يصرف عمله وإرادته حرثه وهمه من أجل الحصول على ما يراه نافعاً لذيذاً، والابتعاد عما يراه ضاراً مؤلماً، وليس في تصرفات العقلاء ما يصح أن يخرج عن هذا , بل ليس في الكائنات ما يقصد إلى خلاف ذلك.
فالنبات -مع دنو درجته في سلم الأحياء- يضرب بجذوره في الأرض متجهاً إلى الجهة التي فيها الماء، ويضرب بفروعه صاعداً إلى الزاوية التي يكون فيها الضوء.
والحيوان السارح في الغابة يختار من الغذاء- بهداية الله عز وجل له- ما ينفعه ويلائمه ويتجنب ما يضره وينافره، نعم قد يخطئ فيقتات ما يضر , ولكنه لا يقصد بأكله مضرة نفسه، وإنما آثره للذةٍ وجدها فيه مع جهله بعاقبته.
والإنسان الذي اختصه الله تعالى بالتكريم والتفضيل على سائر الأحياء في الأرض تظهر فيه هذه النزعة بما يتناسب مع خصائصه الفذة؛ فهو يبني الحضارات المتعاقبة ويتطور في ألوان الاستمتاع ومظاهر الانتفاع، كل ذلك والدافع لا يفتر والمحرك لا يتوقف والتشوق إلى المزيد لا يضعف. وهو حتى حين يرتكب أكثر الأفعال إيلاماً لنفسه -وهو أن يقتلها عامداً- إنما يبتغي بذلك راحتها وخلاصها بزعمه.
والحاصل أن '' مقصود الحياة -عند الحيوان عامة- هو حصول ما ينتفع به الحيّ ويستلذ به، والحي لابد له من لذة أو ألم، فإذا لم تحصل له اللذة لم يحصل له مقصود الحياة'' .
فالسعي لتحقيق اللذة والمنفعة هو وقود الكدح الإنساني على الأرض , ولما كان ذلك فطريا في كل نفس , لم يكن من شأن المنهج الرباني الذي نزل متسقاً مع الفطرة أن يقتلعه ويخمده، وإنما شأنه أن يوجهه ويقومه، فالطاقة المحركة لا يعيبها أنها طاقة وإنما العيب أن يساء استعمالها فتتخذ طاقة للشر والخسران .
إذا تقرر هذا أمكن الوصول إلى النتيجة من خلال الإجابة عن سؤال لابد منه وهو: هل يستطيع الإنسان -مستقلاً منفرداً- معرفة النافع المستلذ وتمييزه عن الضار المكروه في الحال والعاقبة؟
وإذا عرف شيئاً من ذلك، فهل يستطيع الحصول عليه ودفع العوارض الحائلة دونه بمجرد تشوفه إليه وإرادته الحصول عليه؟
إن تركيب الإنسان النفسي والعضوي, وواقعه المشهود على مدار التاريخ, وطبيعة الحياة كما خلقها الله تعالى، والكبد الذي خُلق الإنسان فيه والكدح الذي لا ينفك عن بشر لتجيب جميعها بلا.
فالإنسان مع حرصه الفطري العنيد ومع السعي الدائم والحركة اللاهثة المستمرة يشتمل في تركيبه الذاتي على موانع كثيرة تحول بينه وبين استقلاله بذلك، منها على سبيل التمثيل: الضعف, الجهل، الظلم، العجلة، النسيان.
((إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً))الأحزاب:72]
((وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً))[النساء:28]
((خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَل))[الأنبياء:37]
((وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ))[طه:115] والله تعالى هو وحده الذي يريد الشيء فيكون: ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ))[يس:82].
أما الإنسان فالمسألة بين إرادته الشيء وتحققه له قد تكون من الطول بحيث تستنفد كل العمر، وتستهلك كل الكدح، وتبلغ به الغاية من الكبد، بل قد لا يتحقق له مراده أصلاً مهما كدح وكابد.
وهذه المسافة هي معترك الخواطر والإرادات والانفعالات كما هي معترك العمل والنصب والجهد.
فالبواعث لا تفتر والمطامع لا تقف عند حد, ومع ذلك فالعوارض الباغتة والحوائل المانعة كالسهام المشرعة, حتى إن حصول المراد ليس إلا بداية لمخاوف كثيرة من احتمال فواته أو فوات العمر قبل الاستمتاع به, فالكبد والهم لاستدامته لا يقل عنهما للحصول عليه.
وهكذا يكون القلب البشري كجناح الطائر لا يكاد يقف حتى يرف، ويظل -العمر كله- ميداناً لمتعارضات تتعاوده ومتضادات تنتابه من خوف ورجاء, وحب، وكره, واستكبار وانكسار, وغفلة وتذكر, وشك ويقين, وفرح وترح.
وهذه هي أعمال القلوب التي لا ينفك منها قلب بشري قط.
ومنشأ عدم الانفكاك أن الافتقار الذاتي ملازم للوجود الإنساني شامل للحياة كلها؛ طولاً: من لحظة الميلاد -بل من قبله- إلى لحظة الممات , وعرضاً: مهما اتسعت الإرادات والمطامع والأعمال.
ولما كانت أعمال القلوب هي الأصل في حركة الإنسان وسعيه، كانت هي موضع التعبد الأصلي , ومحط نظر المعبود من العباد: {التقوى هاهنا وأشار إلى صدره ثلاث مرات}.
{ إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم}.
فإذا تذكرنا ما سبق تقريره من أن الله عز وجل -بلطفه وحكمته- أنزل الدين متسقاً مع حقيقة النفس الإنسانية مساوياً لفطرتها السوية علمنا أنه لا شيء من أعمال القلوب يقع خارج مجال التعبد بحال من الأحوال.
ومن ثم انقسم الناس من حيث الأصل فريقين:
1- مؤمن يعبد الله وحده .
2- مشرك يعبد غير الله معه أو من دونه.
وهذا -كذلك- هو السر في كون الإيمان درجات متفاوتة في قلوب الفريق الأول.
وهذا الإجمال يتضح بالفقرة التالية التي نريد بها العبور من الحقيقة النفسية إلى الحقيقة الشرعية.
إن ما سبق تقريره بشأن الافتقار الذاتي وتفرع أعمال القلوب عنه , هو وصف للحقيقة الإنسانية من حيث هي -مؤمنة أو كافرة- ولهذا نجده قدراً مشتركاً بين فريقي البشر يحسه كل إنساني في نفسه سواء أعرب عنه لسانه أم عجز.
ولكن نقطة الالتقاء الواحدة هذه يتفرع عنها طريقان مختلفان تمام الاختلاف، طريق الإيمان وطريق الكفر!
وهذا مثله كمثل عربتين تزودتا بوقود واحد وقادهما قائدان متماثلان في الخبرة والدراية، ولكن إحداهما انطلقت ذات اليمين والأخرى ذات الشمال.
ومن أبرز مظاهر الاختلاف بين المؤمن والكافر بالنظر إلى أن كلاً منهما حارث وهمام كادح ومكابد مفتقر إلى غيره:
1- اختلاف غاية كل منهما ومراده ومحبوبه.
2- اختلاف الأسباب والوسائط التي يتعلق بها القلب لتحقيق غاياته ومراداته.
3- الاختلاف في الإقرار بحقيقة الافتقار بين حال وحال.
وكل هذا جاء تفصيله في القرآن والسنة على أكمل الوجوه , وقد جمعتها سورة الفاتحة من كل أطرافها واستوعبت كل معانيها.
فلنشرح ذلك تفصيلاً.